جماليـــات

إضــــــاءات

حــوارات مقـــــــالات تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

 

 
 
 

ابحث في الموقـع

 

 

 

 

 

محمد بنعزيزي (المغـرب)

عامان على تأسيس نادي القصة

إشكاليات تجدّد النخبة الثقافية بالمغرب

دراسـة

عامان على تأسيس نادي القصة
إشكالات تجدّد النخبة الثقافية بالمغرب

bnzz@hotmail

 


يشهد المغرب حاليا تشبيبا قويا لنخبته الثقافية على مستوى القاعدة، في حين مازالت الكثير من الأسماء القديمة ممسكة بزمام الشأن الثقافي في الكثير من المواقع، وهذا الوضع، هو الذي يفسر السجال الحاد الذي يقوده الكتاب والشعراء الشباب في إطار إشكالات الواقع الراهن للثقافة المغربية.
يمثل هذا السجال جزءا من الأسئلة المقلقة التي يطرحها الكتاب الشباب على أنفسهم في ظل التحولات الجارية في هذه المرحلة الإنتقالية من تاريخ المغرب، على المستويين السياسي والثقاقي، وعلى مستوى وضع الكاتب والكتاب والكتابة.
على المستوى السياسي العام، عرف المغرب غداة الإستقلال، سيطرة نخبة ثقافية ذات شرعية سياسية خاصة وأغلب مثقفي تلك الفترة قد تلقوا تكوينهم في رحم الحركة الوطنية التي شاركوا في نضالها السياسي من أجل الإستقلال. وهي نخبة منحت الاسبقية للسياسي على الثقافي(1)، بعد ذلك، تصدرت الساحة نخبة أخرى، ذات شرعية سياسية أيضا، وهي نخبة مثقفي اليسار ـ بكل تلاوينها ـ التي تعرضت للتهميش في السبعينات ( حمودي، الخطيبي، اللعبي، بلكبير، الشاوي...).
في إطار هذه السيرورة، ظهر جيل جديد من الكتاب والشعراء أواخر القرن العشرين في إطار التجديد الدوري للنخبة الثقافية، والمعروف أن النقاش حول تجدد النخبة السياسية قد انطلق بعد 1999، نقاش لم يفتح إراديا، بل فتح بسبب حدث طبيعي تمثل في رحيل الملك الحسن الثاني(2).
بالنسبة للنقاش حول تجدد النخبة الثقافية فهو أكثر إرادية وأقل سرية، ومع ذلك يعرف هذا التجدد صعوبات مختلفة في سياق عالمي متغير شهد انهيار جدار برلين وهدم العراق وتكريس النكسة وفشل التقويم الهيكلي واندثار الطبقة الوسطى فهجمة الأصوليات (دينية وعرقية مما أدى إلى تعويض الصراع الطبقي بالصراع الإثني) وأخيرا سطوة العولمة التي تفترس الإقتصاديات الوطنية والخصوصيات الثقافية.
أما على الصعيد الوطني، فما زالت الثقافة واجهة مهمة وساحة أساسية لإدارة الصراع السياسي، وقد شكل هذا الوضع عامل تأثير قوي في المشهد الثقافي، من خلال تقسيم حاد خلق استقطابا شديدا ترتب عنه تبادل الإقصاء بين الإطراف المتصارعة، لأن كل طرف يريد ابتلاع الآخر أو محوه لغرض سياسي لاثقافي. وفي هذا السياق يقول الكاتب الألماني غونتر غراس "السياسة هي إحدى الحقائق التي لديها الرغبة في افتراس كل الحقائق الأخرى"(3). وقد كان هذا الإفتراس شديدا في الحقل الثقافي المغربي حتى أن تقييم الكتاب وترويج كتبهم قد نبع من مواقفهم وانتماءاتهم الحزبية لا من القيمة الجمالية لإبداعاتهم. ويتجلى ذلك في احتفاء كل حزب بمثقفيه، وهم من الصف الثاني غالبا، عبر فتح مساحات للنشر في الجرائد وتفويت نتائج المسابقات الثقافية(4)... ويمكن للقارئ أن يشحذ ذاكرته ليتذكر كم من اسم فاز بجائزة أدبية وطنية ولم يعثر له على أثر بعد حفل التتويج. وقد دفع هذا الوضع الكثير من الأسماء الوازنة إلى تفضيل التهميش على حمل الطبل والمزمار خلف زعيم الحزب (ليس صدفة ألا يحصل محمد زفزاف على أية جائزة!!).
إن هذا الوضع غير قابل للإستمرار، وهذا ما تشخصه مجموعة من التحركات ذات الطابع الإحتجاجي، في مجالات الإبداع والإعلام خاصة: في المجال الأول، تأسست إطارات ثقافية متعددة بدماء جديدة وحس مبادر. أما في المجال الثاني فقد برزت أقلام صحفية شابة وجريئة حركت بركة الإعلام المغربي في أفق دمقرطته...
إن ما يمكن استخلاصه من المخاض المرير للنخبة الثقافية بالمغرب، هو أن عجز الحركة الوطنية على بناء مغرب متقدم، حر وديموقراطي قد ترتب عنه فقدان النخبة السياسية لرصيدها وغدا مشروعها مجرد خطاب إنشائي لا فعل له في الواقع. وهذا ما أفقد النخبة الثقافية الشابة الثقة في شيوخ النخبة السياسية، خاصة وقد اتضح، بعد أربعين سنة من الصراع، أنه لاتغيير لاإصلاح، بل مسخ التغيير وأصبح ترقيعا هنا وهناك. النتيجة، هي حدوث انفصال، بل هوة، بين النخبتين الثقافية والسياسية بعد الإتصال الذي ميز مرحلة ما بعد الإستقلال.
قد تكون هذه النتيجة مبهجة لأصحاب المثل الشعبي "الوجه المشروك ما يتغسل"، إلا أن مضمون المثل غير صحيح في هذه الحالة، لأن الفعل السياسي والإجتماعي المنظم لايمكنه أن يستغني عن المثقفين، يقول غرامشي "الوعي الذاتي الناقد يعني، تاريخيا وسياسيا، خَلْقَ نخبة من المثقفين. فالكتلة البشرية لن تتميز وتستقل
"بفعل ذاتها" دون تنظيم (بالمعنى الشامل)، وليس هناك من تنظيم بلا مثقفين"(5).
ولكي يساهم المثقف في هذا التنظيم، لابد من توفر شروط معينة، سنحاول رصدها من خلال تحليل وضع الكاتب، مصاعب الكِتاب وهموم الكتابة في الحقل الثقافي المغربي.

انقراض المثقف العضوي؟
بلغت صورة المثقف الملتزم والمناضل، الفاعل في التاريخ أوجها في القرن العشرين:
روزا لوكسمبورغ تدفع حياتها ثمنا لمناهضة الحرب، أنطونيو غرامشي يموت في سجون موسوليني، إرنست همنغواي يقف ضد فرانكو وفي صف كاسترو، برتولد بريخت يحدد مهام المثقفين تجاه الثورة، جورج أورويل يحارب في صفوف الحمر بإسبانيا ويفضح الأنظمة الكِليانية التي تتجسس على كل مواطنيها في روايته "1984"، أندري مالرو يندد بالإستعمار، جون بول سارتر يقف في صف الثورة الكوبية، يوسف إدريس يتطوع طبيبا في صفوف ثوار الجزائر، بابلو نيرودا يناضل مع أليندي ضد الفاشية العسكرية، عبد اللطيف اللعبي في المعتقل يقلب العالم على رأس النظام المغربي، أوكتافيو باث يستقيل من منصبه كسفير بالهند لأن الحكومة المكسيكية تقمع الطلبة في بلاده، عمر بنجلون يدفع حياته ثمنا لفكرة، أحمد فؤاد نجم يترهل في سجون مصر، عبد الرحمن منيف يتشرد في العالم بسبب فضحه لتشوهات الإنتقال من مجتمع البداوة إلى مجتمع النفط...
فعلا، لقد كان المثقفون خلال الثلاثة أرباع الأولى من القرن العشرين في وضع رائع، يعتقدون أن لهم مهاما جسيمة تجاه شعوبهم، وقد كان هذا الإعتقاد عاما، وإلى حدود بداية الثمانينات، صدّرت مجلة "الجسور" مواضيعها بتحديد بريختي لمهام المثقفين "أن يفككوا أيديولوجية البرجوازية، أن يدرسوا الأيديولوجية التي تحرك العالم وأن يعملوا على تطوير النظرية [الثورية] وأن يحددوا مواقعهم ومواقفهم من داخل طبقتهم"(6). وقد نفذ المثقفون المغاربة الكثير من هذه المهام بحماس، غير أن ميولهم المتبرجزة كانت تنتصر على خياراتهم.
الآن، قليلون هم أولئك الذين يتبنون وينفذون هذه المهام، مثقف العقد الأخير من القرن العشرين ليست لديه الجرأة ليدعي ذلك، وها هو اللعبي يقول بتواضع يناسب المرحلة "الشاعر يَعْبُر فقط ، وقافلة الحضارة قد تخطو في إثره وقد تتبع طريقا آخر، من هو الشاعر الذي يمكن أن يدعي فيقول:أنا أقود القافلة؟" لا أحد الآن على الأقل!
هذا التراجع، ليس نشازا، إنه نتيجة حتمية لانتصار رأسمالية السوق التي لامشروع لديها غير الربح وقد أغوى هذا الإنتصار الكاسح فرانسيس فكوياما فأعلن نهاية لتاريخ. انتصار غَيّر موقع الأشياء وزاوية النظر إليها، يقول ريجيس دوبري محددا التغييرات الحاصلة في السلطة الفكرية في العقدين الأخيرين من القرن العشرين "حدث نوع من الإنهيار لما كان من استقلال في الجهاز الجامعي، تمركز في الوسائل الإعلامية، انحطاط فيما هو سياسي، تدني الدولة أمام السوق والذاكرة الوطنية أمام الذاكرة المسماة "عالمية"، وهي ذاكرة أمركية بشكل واسع"(7)، هذه الذاكرة الأمركية (نمط عيش معين) التي تروجها شركات كوكا كولا، ماكدونالد، مارلبورو، لفرض صورة مجتمع الرفاهية والإستهلاك على مجتمعات فقيرة ومنهوبة...
إن الخلاصة التي يمكن الخروج بها من هذا التحليل هي أن مثقف المرحلة لم يعد مثقفا عضويا!!
هذه الصورة العامة، تنطبق إلى حد كبير على الكتاب الشباب في مغرب اليوم، إنهم أكثر تواضعا وأقل تفاؤلا، تضغط عليهم المطالب اليومية (المعيشة) أكثر من الأحلام الكبيرة التي غلفت العقود السابقة. إضافة إلى هذا المنحى الخبزي، يتصف الكتاب الشباب ـ في رأيي ـ بخاصيتين، الأولى هي أنهم يعانون من فقر الرصيد الثقافي مقارنة بالأجيال السابقة، ويظهر ذلك في ضعف الإطلاع على تاريخ الأدب العالمي وإهمال القراءة باللغات الأجنبية، والدليل على هذا الضعف هو تلك الكتابات ذات الطابع الإنشائي والتي تتخفى خلف لغة شعرية بكائية دون أن تقول شيئا.
الخاصية الثانية أنهم أقل تسيسا مما كان الأمر في السبعينات، ففي تلك المرحلة "تحملت الشبيبة مسؤوليتها كاملة في الفصل الدراسي وفي الصحافة" وقد اهتمت بالأدب وأنتجت أدبا تميز "بنفس واثق بالشعب، مؤمن ومرتبط بقضاياه وهمومه"(8).
الكتاب الشباب حاليا، خلاف هذا، إذ لدى غالبيتهم عداء يكاد يكون فطريا تجاه السياسة السياسوية، بل يعتبرون الساسة سبب نكبتهم.
إحصائيا، تضاعف عدد الكتاب المغاربة خلال التسعينات، إذ ظهرت أسماء كثيرة، مما خلق طفرة أدبية على مستوى الكم على الأقل، بالأرقام، وحتى سنة 2001، صدرت في المغرب حوالي 260 مجموعة قصصية، ويزيد عدد المجموعات القصصية الصادرة بعد 1990 عن عدد تلك الصادرة قبلها(9). وقد استفاد أغلب هؤلاء الكتاب من التعليم الجامعي الذي توسع بقوة خلال الثمانينات مقارنة مع السبعينات، إلا أن ذلك التوسع لم يكن
ذا فائدة معيشية بالنسبة لفئات عريضة من الشباب، إذ تفشت البطالة بين الجامعيين، حتى غدونا نعثر على كاتب عاطل، مما يجعله عضوا في النخبة الثقافية فقط، في حين لا مكان له في النخبة الإقتصادية والإجتماعية، لذا تخصص في وشم نصوص حول العطالة!!
يفرز هذا الواقع تشوهات مريرة، من قبيل الهجرة السرية (رشيد نيني مثلا) أو التحزب دون قناعة فعلية مقابل الحصول على عمل في جريدة، وهذا ثمن باهظ، يولد الإحباط والتشاؤم ويجعل الكأس خير معين ومهدئ!
إن جل الكتاب الشباب الآن منحدرون من الطبقة المسحوقة، خلاف كتاب الستينات المترفين الذين يكتبون عن فاس العريقة، فاس اليانعة والمنازل العريقة والقصور الفسيحة والحور العين... يكتبون بلغة رومانسية بئيسة ومتخشبة عن الجمال الذي تشحذه قيم تقليدية(10).
يمكن توضيح هذا الإختلاف من خلال مقارنة بسيطة، فكتابنا الاوائل، درسوا في الخارج وكانوا وزراء وسفراء وبرمانيين وفي أسوء الاحوال عمداء للكليات أو مدراء لمؤسسات ثقافية، الآن كل المواقع مشغولة بالأقدمية والقبيلة والولاء والعائلة العريقة، لذا فإن كتابنا الحاليين عاطلون وفي أحسن الأحوال موظفون صغار في قطاع التعليم بالخصوص (هذا حال أغلب منخرطي اتحاد الكتاب ورابطة الأدباء ونادي القصة).
هذا التناقض الشديد في الوضع المادي، تترتب عنه فروق شديدة على مستوى طبيعة العمل الإبداعي، ذلك أن الشخص الذي يجلس على أريكة جلدية فاخرة في غرفة واسعة مكيفة ومفروشة بالزرابي وتأتيه الخادمة بعصير أناناص قبل أن يبدأ الكتابة، لا يعبر مثل ذلك الذي يكتب في غرفة صغيرة بمنطقة نائية، ثلاثة أرباعها مفروش بحصير بلاستيكي وربعها عاري، يُعد بنفسه نيسكافه دون حليب ويدخن "أولمبيك الزرقاء".
إن ما ينتجه الكاتب العاطل سيبدو لمعالي الوزير ولسيادة السفير ـ الذي تربى في وسط محترم وتلقى تربية "لائقة" ويأخذ معه وسادته حيثما ذهب ـ سيبدو لمعاليه قليل الذوق بل ساقطا، ركيك اللغة، بل سوقية، مبتذل المعاني، سطحية... ما لا يدركه معاليه، أن لاشيء هنا راقي لتقوله اللغة، وما بقي هو تشخيص الخراب، كما كتب الأستاذ محمد برادة (11) في تقديمه لمجموعة حسان بورقية "الدنيا هانية".
مع الأسف الخراب ليس جميلا والدنيا "ماهانية" لدى الكتاب الشباب، وهو ما يمكن أن يشخصه هذا المقطع الناري من "قصة رجل مجهول" لأنطوان تشيكوف: "لمَ أدركَنا البلى؟ لقد بدأنا مفعمين بالحرارة والشجاعة والشرف والإيمان، فلِم أفلسنا إفلاسا تاما في الثلاثين أو الخامسة والثلاثين؟ لمَ يذوي أحدنا بالسل، ويصوب الآخر رصاصة إلى رأسه، ويتلمس الثالث النسيان في الفودكا والورق، بينما يحاول الرابع [ممثل أغلبيتنا] أن يخنق رعبه وشقاءه بأن يدوس بقدميه ناقما تلك الصورة النقية، صورة شبابه الجميل؟ لمَ لانحاول إذا سقطنا مرة أن ننهض ثانية، وإذا فقدنا شيئا أن نبحث عن غيره؟ لم ذلك؟"(12).

رحلة الكتاب بين الطبع والترويج
"إن الأدب، مثل الفوسفور: يلمع أكثر في اللحظة التي يحاول أن يموت فيها" (13). يصدر في المغرب ألف كتاب سنويا، (14) نصفها يصدر على حساب المؤلفين بمعدل ثلاثة كتب في اليوم، ويبلغ معدل الطبع ألف نسخة من كل كتاب، وقد عرف مجال النشر تطورا كبيرا خلال التسعينات، إلا أن سوق الكتاب المغربي ليس بخير، إذ تباع النسخ المطبوعة من كل كتاب غالبا في ثلاث سنوات، كما أننا لانجد أبوابا ثابثة لعرض
الكتب في الجرائد الوطنية، وليس ثمة تقليد لمناقشة الكتب الصادرة وتوقيعها بسبب قلة فضاءات النقاش الحر... لذالك يجري الحديث عن الحاجة إلى الدعم باستمرار، وهو دعم تقدمه وزارة الثقافة أساسا، ويتمثل إما في شراء مائة نسخة من كل الكتاب أو في طبع "الكتاب الأول"، وهو مشروع يثير اعتراضات بسبب انتماء أولئك الذين استفادوا منه لحد الآن، وكل ما نرجوه هو أن يُعمم ويستمر خاصة بعد الزيادة في ميزانية الوزارة.
عدا ما هو منتظر من وزارة الثقافة، وفي زمن التغني بدور المقاولة في كل شيء، فإن أغلب المؤسسات المهتمة بالكتاب عبارة عن مطابع يديرها تجار لا يمتلكون أي تصور أو مشروع ثقافي، ولهذا الوضع نتائج كارثية منها أن مآت البحوث الجامعية القيمة قد تقادمت في رفوف الكليات دون أن ترى النور، وينطبق هذا الوضع أيضا على المخطوطات التي تتآكل في الخزانات العامة والشخصية.
أمام هذه الوضعية، يضطر أغلب الكتاب الشباب لطباعة أعمالهم على حسابهم ويضطرون ثانية "لتوزيع" "سلعتهم" بأنفسهم لأن شركة التوزيع تطلب نصف ثمن النسخة إذا بيعت وغالبا ما لاتباع، إذ مع نسبة الأمية المهولة، وعتبة الفقر التي تتسع بدل أن تتراجع، فإن نسبة الذين يقرأون باهتة، حتى أنه لا يطبع غير ألف نسخة كمعدل من كل كتاب تقريبا في بلد يبلغ عدد سكانه ثلاثين مليون نسمة.
النتيجة المنطقية لهذا الوضع، هي التي تفسر تشكيك الكثير من الكتاب (والشعراء) في جدوى الكتابة، حتى أن السؤال الطبيعي "لماذا التوقف عن الكتابة؟" قد انقلب إلى نقيضه لدى الكثيرين فأصبح "لماذا الإستمرار أصلا في الكتابة؟" ما دام النشر والجوائز خاضعة لمعايير الزبونية والحزبية والقبلية وحتى الخمرية، في حين غدا
النقد خاضعا "للغرامة"(15) كما في الأعراس (أكتب عني أكتب عنك، بالمقايضة).
مع كل هذا لازال الشباب يبدعون، وسيستمرون لأن لديهم القدرة على اختلاق الأعذار كي لا يتوقفوا عن الكتابة التي غدت هاجسا ذاتيا لاخلاص منه! تقول الكاتبة الشابة زكية حادوش، إن الكتابة تجعلك "تحس بالفخر حتى لو لم تكسب منها فلسا واحدا" (16)، فخر لامعنى له سوى إرضاء الذات... وأعتقد أن هذه الفخر يعود
إلى أن المثقفين "مثل البنات، يريدون من يكيل لهم المدائح"، كما يقول إسماعيل كاداريه (17).
بالنظر إلى هذا الواقع المزري الذي يعيشه الكاتِب والكتاب المغربي، لايسعني إلا تقديم مقترحات دونكشوطية لأزمة القراءة والنشر، وهي:
1 - الربط بين التعليم والثقافة، بحيث لايقتصر التعلم على حفظ الدروس لاجتياز الإختبارات ثم إهمال المطالعة تماما.
2 - تشجيع ودعم التجارب الأدبية الشابة.
3 - تشجيع الشراكة بين دور النشر والجمعيات والهيئات المختلفة الوطنية منها والدولية.
4 - تبني لامركزية ثقافية عن طريق خلق هيئات نشر محلية تساهم فيها الهيئات )نتساءل عن المجالس المنتخبة "ديموقراطيا" والتي لاتربطها مع الثقافة لا الخير ولا الإحسان(.
5 - خلق سلسلة إبداعية شهرية على شاكلة شراع ومنشورات الزمن خاصة بالشباب.
6 - إحداث مسابقات وجوائز متعددة خاصة بالمبدعين الشباب، ويستحسن أن تكون فيها مسابقات وجوائز محلية أيضا.
7 - خلق أبواب قارة في الصحف الوطنية لعرض الكتب ومناقشتها.
هذا دون إهمال البعد الإقتصادي لفعل القراءة، ذلك أنه مرتبط بالقوة الشرائية للمواطن، وهي ضعيفة، ولن يكون سوق الكتاب بخير طالما بقيت القوة الشرائية متدهورة، بل في تدهور مستمر... وإلى أن يتم القضاء على الأمية وتتحسن القدرة الشرائية للمواطن المغربي، أنصح كل كاتب شاب بالبحث عن حرفة أخرى
.

تلاوين الكتابة
" الفراغ هو عندما نكون في الخارج، عنما نثرثر في حفلات الكوكتيل، لكن الكتابة ليست الفراغ على الإطلاق، هي الإمتلاء، بل الكتابة هي الحياة" (18).
ليست الكتابة تمظهرا للعقل فقط، بل هي تمظهر للاشعور أيضا، وهنا تكمن القيمة الحدسية للأدب، باعتباره نبوءة تستشرف شكل المستقبل الذي نتجه نحوه. إن الكتابة هي تأمل العالم، هي نشر الذات على الورق، هي أطلاع الآخرين (القراء) على كثافة ذات شفافة، هي لذة لا يشاركك أحد فيها، وهي ممارسة حرفية أيضا، تتطلب العمل المنظم والإرادة القوية للإستمرار. غير أن هذا الطموح يصطدم بسؤال رئيسي حول جدوى ودلالة الكتابة في ظل مجتمع امي ووضع ثقافي صعب: هل الكتابة ترف أم مسؤولية؟
يطرح هذا السؤال في ظل تغييب متعمد لمفاهيم الإلتزام ومسؤولية الكاتب مع تراجع الأطروحة الإشتراكية (وكل المفاهيم المرتبطة بها) وتقدم أطروحات غريبة كبديل مثل نهاية التاريخ، ونهاية فعل وإرادة الإنسان الحر تبعا لذلك. لكن رغم هذا التراجع، لايمكن للكاتب الشاب، في عملة الإبداعي، أن يتغاضى عن الواقع الإقتصادي والسياسي والذي يطوقه والإندفاع نحو الخيال الخالص بدعاوي فنية.
"لانفلت من قبضة التاريخ حتى لو تجاهلناه" (19). الكاتب العمومي (كاتب العقود) وحده الذي يستطيع الزعم أنه مستقل تماما، أي لا علاقة له بالعقود التي يطبعها، أما الكاتب المبدع، فلا يمكنه التغاضي، بأي شكل من الأشكال، عن السياق السوسيو اقتصادي الذي يعيشه، لذا فإن الكاتب سياسي بشكل من الأشكال، الثقافة ليست
حلزونية، لاتلقح ذاتها، والوعي مسألة اجتماعية، ومن هذا المنطلق يجب على المثقف أن يكون مستقلا وليس محايدا، فالحياد تواطؤ، لذا فإن مهام المثقف مازالت ملحة في مجتمع أمي مازال للهراوة القول الفصل فيه، مجتمع لم تحسم فيها بعد قضايا التنمية والديموقراطية والحداثة، في ظل صعود مد الإسلام السياسي الذي ينتصر لفكر يتعالى عن الواقع.
رغم ضرورة هذه المهام، فإن الشعارات المضللة لما بعد الحداثة (وهي عدمية وظلامية أي لاعقلانية في جوهرها) قد أثرت على تصور الكُتاب لعملهم، فتحولت الكتابة لدى أغلبهم إلى هاجس ذاتي، بحيث ينطبق عليهم قول مهدي عامل "إن الكاتب عندما لا يحمل قضية تصبح كتاباته مجرد تمرين إنشائي" تمرين لالون ولاطعم له،
تمرين يتناول الأرق في الليل ويصف التدخين في المقهى... تمرين إنشائي يستخدم المناجاة، وهذا طبيعي بسبب ضعف الحوار العقلاني داخل المجتمع.
لقد أثر مجموع هذه المعطيات الإجتماعية والسياسية على كتاب الجيل الحالي، على مستوى التكوين الثقافي والرؤية الفنية والتوجه السياسي (أو اللاسياسي)، فتشكل جيل ضاقت لديه منافذ الحلم ولم يعد يتوقع الكثير من الحياة، جيل انتقل قسرا إلى القرن الجديد حاملا معه تركة القرن الماضي، مما جعل الكتابة تتحول مع الزمن من
هواية لذيذة إلى مسؤولية مشبعة بالخيبة، خاصة بالنسبة لجيلنا الذي يسيطر عليه القلق الفيزيقي لا الميتافيزيقي...
قلق تولد من الوضع الإجتماعي المحتقن بسبب الفوارق الطبقية والقهر المادي والنفسي الذي يولده الفقر والقمع. وقد كان لهذا كله أثر قوي في ممارستنا الأدبية، مهما اختلفت الأشكال التعبيرية المتبناة، شعرا ونثرا. ويظهر هذا الأثر في صياغة صوت أدبي جديد خلال تسعينيات القرن الماضي، صوت يعبر عن اتجاه أكثر منه مدرسة أدبية، صوت ماعاد يفهم الكلمات الكبيرة التي غدت خاوية من فرط استخدامها، صوت ماعاد يصدق
الوعود والمعجزات التي لن تأتي، صوت على حافة اليأس، لاحِظوا عناوين الكتب التالية، وهي بالمناسبة عناوين للكتاب الشباب: "وردة النار"، "ورم التيه"، "متاهات الشنق"، "البوم"، "لا أحد في النافذة"، "شاعر في بطن الحوت"، "الحب الحافي" وقد أشفق أحدهم على جيله فطلب له "هدنة ما". إنها نصوص الجيل الذي شهد
معجزة زوارق الموت الأزرق، جيل يقطع البوغاز سباحة من أجل كسرة خبز لامن اجل هداية الإسبان!
هذا الجيل، هو حساسية جديدة على المستوى الأدبي، حساسية مهمشة لأنها مستفِزة، لأنها تفضح قواعد البروتوكول التي تقادمت، لأنها تفضح التماثيل المنصوبة.
والدليل القاطع على وجود هذه الحساسية هو الخصائص المشتركة لنصوص كثيرة ذكرنا بعضها، نصوص يخصّصها:
1 - التقاط الهامشي وبلورته بوعي مقهور.
2 - التحويل الساخر للأحداث.
3 - تمثل العالم بكل الحواس، لأن العقل لم يعد يفهم تماما.
4 - - استخدام لغة هجينة يشغلها التواصل لاقواعد سيبويه!!
5 - كتابة أدب يسوده التشظي وروح الفجيعة، أدب مأساوي جديد، لأن المأساة هنا سببها البشر لا القدر ولا الآلهة!
6 - هيمنة ضمير المتكلم، بحيث يتم تضخيم الذات المفردة كبديل عن عالم لا يرحم.
إن المحصلة العامة لهذه الخصائص هي التي تجعل من نصوص الكتاب الشباب رثاء للذات قبل الأوان
.

ضرورة الأدب
رثاء الذات هذا، تقابله شماتة البعض، مثل فرانسيس فوكو ياما الذي أعلن أنه "في حقبة ما بعد التاريخ، لن يكون ثمة شعر ولا فلسفة، فقط الوصاية على متحف التاريخ"، (20) أي الوصاية على مجموع الحلم الإنساني في نهاية المطاف.
غير أني أعتقد، أنه رغم تحولات وضع الكاتب، رغم صعوبات طبع وترويج الكتاب، رغم تبدلات تلاوين الكتابة، سيستمر الأدب المغربي في التطور وسيستمر الكتاب الشباب في المعاناة والإنتاج دفعة واحدة، بل سيتابعون ممارستهم الأدبية وسيتمكنون من تعميق الرؤية الإبداعية وتملك الوسائل الفنية لإنتاج أدب راقي، لأن الأدب ضروري للحياة، يقول غابريل غارسسا ماركيز ردا على أمثال فوكو ياما "لقد فعل الأدب كثيرا في التاريخ، كما جعل العالم أقل اكتئابا. إذا اختفى الشعر والرواية والقصة، فلن تكون الحياة سوى زنزانة لا تطاق، تلك القاعة التي تدعى القرن الحادي والعشرين لا يمكن أن تكون مجللة بالستائر السوداء"(21).
لكي لاتكون الحياة مجللة بالستائر السوداء، أتبرأ من النصيحة السابقة، وأدعو الكتاب الشباب ـ بادئا بنفسي ـ للإستمرار في الإبداع، إذ رغم أنه لاشيء مطلقا يدعو لتفاؤل العقل، فإن الإرادة، على الأقل، يجب أن تكون متفائلة لتستمر الحياة، دون ستائر سوداء، في هذا الوطن
.
-------

هــــــــــوامش
(1) راجع انوال الثقافي العدد 149 بتاريخ 03-11-1984 وهو عبارة عن ندوة حول "الثقافة والسياسة"، بمشاركة عبد اللطيف اللعبي، محمد بنيس، عبد الحميد عقار، بنسالم حميش، عبد الصمد بلكبير ومحمد وقيدي.
(2) كنموذج ناضج لهذا النقاش، أذكر ملف "إشكالية انتقال الملك في المغرب" في مجلة "وجهة نظر" العدد 8/9 لسنة 2000.
(3) حوار مع غراس مجلة "نزوى" العُمانية عدد23 يوليو2000 ص87.
(4) يحدث أن تتم كتابة مائة مقال مكرور عن رواية واحدة، في حين تمر روايات أخرى في صمت، دون شتيمة حتى، وهذه مقالات خاضعة للعلاقات العامة غالبا. وتفسير ذلك أن الفساد نسق شمولي ومُعدي: فكما يوجد فساد إداري وفساد سياسي فلا مناص من وجود "فساد أدبي".
(5) ورد في "غرامشي حياته وأعماله" تأليف جون كاميت ترجمة عفيف الرزاز، المؤسسة
العربية للدراسات والنشر،ط1 بيروت 1984 ص267.
(6) مجلة الجسور المغربية، عدد خريف 1982.
(7) جريدة الإتحاد الإشتراكي عدد 6128 بتاريخ 12-05-2000ص4.
(8) "تاريخ النهايات" عيون المقالات عدد 6-7 1987 ص9. يحاول هذا المقال الرائع وضع خلاصة مركزة وشاملة لثلاثين سنة من الحركة الثقافية بالمغرب، ويخلص إلى أن الدولة ـ المخزن ـ انتصرت على المجتمع في المرحلة التي تلت الإستقلال، لكنه يبشر بشروط التحضير لجولة جديدة من الصراع.
(9) محمد قاسمي "ببليوغرافيا القصة القصية المغربية" دار الجسور ط1 وجدة 1999.
(10) كنموذج للكتاب المترفين، الذين يحلقون في الملكوت الرومانسي، أذكر عبد المجيد بنجلون ومحمد الصباغ.
(11) حسان بورقية "الدنيا هانية" قصص إفريقيا الشرق الدار البيضاء 2000. مقدمة محمد برادة ص5-8.
(12) أنطوان تشيكوف "قصة رجل مجهول" ترجمة محمد الشنطي دار ابن رشد ط2 بيروت 1979 ص89.
(13) رولان بارت "الدرجة الصفر للكتابة" ترجمة محمد برادة الشركة المغربية
للناشرين المتحدين ط3 الرباط ص56.
14- ADIL HAJJI "Malaise dans la culture marocaine" Le Monde diplomatique
septembre 2000.يصدر في المغرب ألف كتاب ثلثها تقريبا باللغة الفرنسية.
(15) محمد بنعزيز في البرنامج الإذاعي "حبر وقلم" إعداد أسمهان عمور، حلقة 11-06-2000.
(16) دردشة مع الكاتبة في جريدة الصباح.
(17) اسماعيل كاداريه "الوحش" ترجمة عفيف دمشقية، دار الآداب ط1 بيروت 1992، ص101.
(18) نتالي ساروت القدس ص 10. عدد 3268. 9-11-99.
(19) بيير بورديو "الرمز والسلطة" ترجمة عبد السلام بنعد العالي دار طوبقال الدار البيضاء ص48.
(20) راسل جاكوبي "نهاية اليوتوبيا، السياسة والثقافة في زمن اللامبالاة" ترجمة فاروق عبد القادر،
سلسة "عالم المعرفة" عدد 269 ماي 2001 ص21.
(21) حوار مع الكاتب الكولومبي "العلم الثقافي" بتاريخ 23-1-99 ص 11.
نشر المقال في مجلة أبحاث العدد 55 بتاريخ 2004.

 

 

 

أرشيـف الموقـع

 

 

 

محمد بنعزيزي

 

bnzz@hotmail

 

 

 

جماليـــات

إضــــــاءات

حــوارات مقـــــــالات تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

 

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.