جماليـــات

إضــــــاءات

حــوارات مقـــــــالات تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

 

 
 
 

ابحث في الموقـع

 

 

 

 

 

محمد الشايب (المغـرب)

حين هطلت برشلونـة

قصة قصيرة

 

حين هطلت برشلونة

قصة قصيرة بقلم: محمد الشايب

nizariana@yahoo.fr

 
 
 

استوقفني صاحبي أمام مطعم، وأشار بسبابته، رفعت عيني فرأيتها، هي كما عرفتها، تتحرك كشجرة وارفة الظلال، لم تنل منها الأيام كثيرا، فقط أن نحالتها صارت سمنة زائدة كانت تلبي طلبات الزبائن، هل تركت الشعر والشعراء وأصبحت ناذلة ؟! دنونا من واجهة المطعم، بدوت مترددا في الدخول، فجرني "عزيز"، ودخلت، اخترنا مائدة فارغة، وجلسنا، لم ترنا "عائشة" في البداية، فنادى عليها عزيز، لمحتني بجانبي ألبس غربتي، فخيمت على وجهها سحب الدهشة، ثم انطلقت نحونا تهطل بسيل من البسمات، سلمت علي بحرارة ورحبت، ثم استأذنت وهي تقول "سأصفي بعض حسابات العمل، وأعود رفقة زوجي، لا تنسوا أن العشاء سيكون على حسابي ..." .
كنت قد التقيت " عزيز " فجأة قبيل الغروب، فتعانقنا بحرارة استشقت فيه رائحة أيام بعيدة، وشاهد في وجهي قصصا رائعة، خاطبته وأنا أضمه إلى صدري :
- ماهذه المفاجأة الرائعة التي وشحتني بها برشلونة ؟
أجاب وقد سرنا الهوينا وسط شارع " الرامبلا " المكتظ بالسياح.
- المفاجآة الأروع لم ترها بعد !
- الأروع ؟!
ظلت الأسئلة تتسابق من أفواهنا، كلانا كان يريد أن يعرف كل شيء دفعة واحدة عن الآخر. أن يطل على كل ما جد في حياته، أن يقرأ صفحات البين سطرا سطرا، مشينا طويلا وظلت الأسئلة تلبس حرارتها، عرفت ان عزيز جاء إلى برشلونة قبل أربع سنوات ومازال في وضعية غير قانونية، وعرف أني دخلت متاهات كثيرة، عرفت أن أمنيته الأولى هي أن يحصل على أوراق الإقامة، ويعود إلى الوطن، رأيت الشوق يلمع في عينيه ويسيل من كلامه ويتدفق من أهاته، بدا كانه طفل اشتاق إلى حضن امه. ظللنا نسير في شارع " الرامبلا " حتى طويناه طيا، لم نهتم كثيرا بما يعرضه هذا الشارع في البداية، كنا نرفرف بعيدا :
- أربع سنوات من التيه !
- لم تقل لي كيف وصلت إلى هنا.
- وصلت داخل محرك سيارة !
- سيارة من ! ؟
- سيارة مهاجر شرعي، أخذني داخل محرك سيارته مقابل ثلاثة ملايين !
- لقد كان سفرا فريدا لا شك ( وضحكت ).
- وصلت إلى الجزيرة الخضراء كقطعة فحم !
ضربت على كتفه أحاول أن أعيده إلى ضفة الهزل أن أبعده مؤقتا عن حزن رأيته يلمع في عينيه وهو يحكي تفاصيل هروبه من الوطن.
- فعلا إنها مفاجأة رائعة وشحتني بها برشلونة هذا المساء .
- قلت لك المفاجأة الأروع لم ترها بعد !
- ماذا تقصد ؟ !
- عائشة أيضا هنا.
- عائشة ؟ !
- نعم وصلت قبل سنة وهي الآن متزوجة من إسباني يكبرها بعشرين عاما، وتشتغل معه في مطعم في هذا الشارع.
- حقا إنها مفاجأة لكن ليست الأروع !
هطلت بهما برشلونة معا
في عز الحر
رأيتهماعلى صهوة جرح غائر
بلا بوصلات
بلا زاد
تكر بهما أفراس المجهول.
وصلنا إلى نهاية الشارع، ووقفنا قليلا أمام تمثال كريستوف كولمبوس، وهو يشبر بيده إلى العالم الجديد ثم عبرنا الطريق نحو الميناء، سرنا أمتارا قليلة، فجلسنا على كرسي حديدي أمام الأمواج الهادئة.
كان الليل يتسلل بطيئا إلى برشلونة، وكانت أضواؤها تشتعل في كل اتجاه، وكانت حركتها تزداد تدفقا، والسفن راسية، تستريح لتبدأ أسفارا جديدة، وكان الإقبال على الحياة كبيرا كبيرا ...
كلهم هنا في برشلونة، العرب، وغير العرب، العجم، وغير العجم ...، كلهم هنا من كل حدب وصوب جاؤوا على عاصمة الكتلان، المدينة التي ظل يعاقبها فرانكو، لكن فرانكو مات وبرشلونة ظلت حية، كل يوم تحيا أكثر .
كلهم هنا.
الباحثون عن الخبز جاؤوا من بلاد العرب، ومن أمريكا اللاتينية ومن شرق أوروبا ومن إفريقيا وآسيا، والباحثون عن المتعة جاؤوا من فرنسا وألمانيا وإنجلترا ... كلهم هنا.
ولكل حاجة جاء يقضيها في برشلونة !
عزيز وعائشة أيضا لاذا بهذه المدينة، هي تزوجت برجل في سن أبيها وهو يبحث عن امرأة في سن أمه يتزوجها، جاءا معا إلى برشلونة! كانا من ضفتين مختلفتين هو من ضفة السياسة وهي من ضفة الشعر، هو كان زعيم تظاهرات الطلاب، وهي كانت لا تحيد عن الشعر، هو كان سياسيا ويحترم الشعر وهي كانت شاعرة وتسخر من السياسيين. هو من ضفة وهي من ضفة لكنهما معا كانا يركبان موج الشغب، لكن شغبها كان أكبر من شغبه، عزيز كانت له ظلال يستظل تحت فيئ يقينها ، أما عائشة فلم يكن لها من يقين سوى الشعر، ظلت تركب امواجه، وتردد :" منذ البدء كان الشعر ومن لم يقم علاقة مع الشعر فهو ليس إنسانا! " ظلت وفية لهذا القلق، ومتمسكة بسخرية عنيدة كانت تسخر من الطلبة وهم يرددون الشعارات بحماس زائد، كما تسخر من البوليس السري الذي كان يتتبع خطواتهم في المقاهي والشوراع ومحطات السفر، تسخر من العادات ومن علاقات الذكور بالإناث، تسخر من أبيها ومن امها ومن نفسها أيضا كانت تسخر من الجميع، العالم كله عندها مثير للسخرية. ظلت تسخر وتقدم الهزل عن الجد، أشياء كثيرة لم تكن تبالي بها، الشعر وحده كان يكملها، كان يستولي عليها، إنه يقينها الذي يغرقها في عباب القلق.
نهضت وعزيز كان الليل قد غطى برشلونة، وبدأت الملاهي تهيج بالرقص والعناق والقبلات، مشينا قليلا بين هذا الصخب الذي يجاور الميناء، ثم عرجنا عائدين إلى شارع "الرامبلا "، طوينا مسافة وسط هذا التدفق البشري وبين حلقات المهرجين والمغنين والبهلوانيين وبين الأكشاك والمطاعم المكتظة، ظللنا نسير وسط هذا الليل الساحر، تركنا الشارع، وتوغلنا في "بلاصا ريال " ساحة تكتظ بالسياح، ينتشرون على كراسي الإسمنت وعلى الطوار يرقصون ويغنون، ويشربون الخمر، ويدخنون الحشيش والسجائر، تركنا هذا المكان بسرعة لأن عزيز انزعج لتواجد البوليس المكلف بتفتيش أوراق الهوية عدنا إلى " الرامبلا " ومضينا من جديد في تضاريس هذا الفضاء العجيب : مهرجون، بهلوانيون، مغنون، رسامون، عاهرات، شواذ، بوليس متنكر، لصوص، عشاق، رسم، عناق وقبلات ..
منذ أن حللت ببرشلونة ضيفا على بعض الأقارب وانا في قبضتهم، اذهب حيث يذهبون، وأفعل ما يفعلون، وأخيرا قررت أن أنسل منهم، وأمتطي الميترو، وأذهب بعيدا ثم أتيه في هذه المدينة بلا بوصلات، هكذا فعلت وكنت أظن أني سأمضي اليوم كله وحيدا بين عباب التيه لكن عزيز الملعون انتصب أمامي فجأة كتمثال هرم يفوح براوئح قديمة أو بالأحرى اعترض سبيلي، وأخذ يصفعني بالأخبار... !
كنت أنتظر كل شيء إلا أن أصادفه مرة أخرى بجنونه وبحيرته، وفي هذه المدينة التي لا تصحو من جنونها ... ! خرجنا جميعا من الكلية، وتفرقت بنا السبل، كل أخذته مطية امتطاها مرغما، وضاعت الوجوه والأخبار في زحمة السنين، وتقلصت مسافات اليقين، حاك القلق جلابيب لبسناها، انطلقنا في عباب الشك نبحر، وأدرنا ظهورنا لكل يقين، وتوقفت رياح الأخبار عن الهبوب، وجفت الرسائل، بل كادت " بصراحة لم أكن أنوي الكتابة إليك، لكن ثمالة وعناء وضعيتي في هذا الفخ لا أكتب إليك لأني لا أريد أن أطلعك على حياتي الجديدة، لا أريد أن تعرف أني فشلت في الحب والحياة، وجلست أدمن الخمر وأكتب شعرا يفوح بالصراخ والإحباط، وأتركك الآن وإلى ثمالة أخرى. غريمك عزيز. "
جاءت عائشة وزوجها، قدمتني له فرحب بي، وسلم على عزيز الذي تعرف عليه من قبل، اقترحا علينا النهوض والانتقال إلى مائدة حجزاها في واجهة المطعم، تبعناهما، وجلسنا جميعا في الهواء الطلق لصق الشارع الذي لم يعرف تدفقه أي فتور. بدأت المائدة تمتلئ بالصحون والكؤوس. قال الزوج " إن عائشة طلبت نيابة عنكما لانها كما قالت تعرفكما جيدا، وتعرف ماذا تفضلان أكله وشرابه. وتابعت عائشة : " ولأنهما أيضا بدو غير مستأنسين بلوائح الطلبات ".
ضحكنا، وتابعنا الحديث، بدا الزوج متعاطفا مع المهاجرين، وبدت عائشة أقل شغبا، سألتها عن سر هذا التبدل، فأجابت أن الوقت يكسر الحديد، وكادت تتوغل في صمت حزين لولا أن زوجها أعادها إلى الكلام.
- قولي لنا شيئا يا عائشة، أو بالأحرى حدثينا عن صديقك الضيف.
- إنه مثل عزيز وآخرين كانوا يملأون ساحة الجامعة، ويرددون شعارات عن التضحية والفداء لكن حين يقبل البوليس يفرون ( وضحكنا جميعا ).
ورد عزيز :
- لأن المناضل آخر من يٍٍِِِّعتقل ( وضحكنا أيضا ).
كنا نأكل ونشرب ونتحدث، مضينا في الحديث طويلا حتى نسينا وجود أجنبي معنا، بدا معزولا بيننا لأنه لم يعد يفهم لغتنا، تخلينا عن اللغة التي بدأنا بها، وأخذنا نتحدث لغة أخرى عن الماضي والحاضر، كنا نغرق كلاما ونضحك، وكثرة الهم تُضحك.
- عِنْدَاكْ تكونِِِِْ حَتَّى أَََنْتَ احْركْتِ .
- لاَ كُونِي هَانْيَة
- لَحْركْتْ أَنًا وْعَزيزْ بَرَاكَ
- أنتِ ادْزوجْتِ مَاحْرَكْتِيشْ
- لاَّ احْرَكْتْ
تدخل الزوج وهو يخفي انزعاجه بابتسامة صغيرة.
- تكلموا لغة نفهمها جميعا.
فعدنا إلى لغته، وسألتها مازحا :
- كيف وجدت الإسبان ؟
- يحبون المرأة كثيرا .
بدا الانشراح على زوجها، فأحاطها بذراعه، وقبلها قبلة حارة.
- يحبون المرأة كالعرب تماما.
- وهل العرب يحبون المرأة ؟
- انظري إلى شعرهم.
- وهل من يحب المرأة يئدها، أو يضربها، أو يتزوج عليها ؟
ذهبنا في دروب الكلام بعيدا، جُبْنَا حارات الماضي والحاضر فاختلطت الآهات بالضحكات، وتعانق الحزن والفرح على الوجوه. وفجأة هبت ريح من جهة البحر، وتلاها مطر مفاجئ، فاجأني أنا فقط ، لأن الآخرين معتادون على ان برشلونة تجود بالمطر حتى في عز الصيف، تحركت الأغصان، أو رقصت على إيقاع الريح والمطر، نهضنا والمائدة أمامنا يبللهاالمطر، دخلنا داخل المطعم، وبقينا واقفين، اقترح عزيز أن يتركنا لأنه على موعد مع العمل، يعمل سويعات كل ليلة، في السر، أنا أيضا فضلت أن أترك عائشة وزوجها، تواعدنا جميعا على اللقاء في الليلة المقبلة، افترقنا، ومضيت وحيدا تحت المطر، لا أذكر أين مضيت ! تخلخل الشارع، احتمى الناس بالواجهات هاربين من الزخات، كل لاذ بملاذ معين، استطاعت هذه الزخات الصيفية أن تنهي عدة مشاهد في الشارع، أو تعيد تأثيثها على إيقاع آخر في فضاء مختلف، تهت وسط هذه الفوضى الرائعة، هكذا بدت لي ، لكنني لا أدري أين مضيت ! هل ظللت تحت المطر أقرأ قصائده على الإسفلت ؟ هل توغلت في الدروب الضيقة التي تتفرع عن " الرامبلا " بحثا عن المجهول ؟ هل ولجت مقهى ؟ هل صادفت مفاجأة أخرى، وركبت صهوتها ؟ هل أخذت الأطوبيس، وقصدت الدار التي تستضفيني ؟ هل أوقفني البوليس وطالبوني بجواز السفر ؟ هل دخلت قاعة سينمائية، وتهت في سراديب الصورة ؟ هل وهل وهل ؟ لا أدري تماما ماذا فعلت !
لأفترض، أفترض فقط، أني ولجت مقهى وانا أمسح حبات المطر عن رأسي، فطلبت شرابا، وجلست أكتب هذه القصة.
محمد الشايب

 
 

 

 
 

أرشيـف الموقـع

 

 

محمد الشايب

chaib762@hotmail.com

 

 

 

جماليـــات

إضــــــاءات

حــوارات مقـــــــالات تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

 

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.