جماليـــات

إضــــــاءات

حــوارات مقـــــــالات تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

 

 
 
 

ابحث في الموقـع

 

 

 

 

 

د. محمد الولي (المغـرب)

مفهوم الصداقة الفاضلة عند أرسطـو

دراسـة

 

مفهوم الصداقة الفاضلة عند أرسطـو

د. محمد الوالـي

 

د. محمد الولـي

 

1. ما الصــداقة؟

لقد خُصَّتْ الصداقة philia بمكانة رفيعة في الفكر اليوناني الأثيني. ومعناها عندهم أعم بكثير مما نلاحظه في مقابلها الحديث الصداقة أي amitié .

"فهذا إِمْبِيدُوكْلْ يعتبرها حاملة لقيمة كونية جوهرية، قوة بدئية كفيلة بالربط بين كل الأشياء في العالم، بحسب مبدإ انجذاب الشبيه نحو الشبيه […] وذلك بالتعارض مع المبدإ النقيض أي الكراهية، التي هي قوة فك وحل الروابط.

وإذا أردنا الاختصار في صيغة واضحة منظور إِمْبِيدُوكْلْ نقول: إن philia في نظره هي رابط، يجذب الشبيه ويجعل الأشياء كلها متآلفة"[1].

إلا أن نظرية الصداقة القائمة على التشابه تناولها سُقْرَاطْ بالنقد الساخر ذاهبا إلى أن "الشرير هو بالطبيعة عدو الشرير، وهي لا تنطبق إلا على أهل الفضيلة. إلا أننا إذا فكرنا جيداً أدركنا أن الشبيه مستغن عن الشبيه إذ لا يجني من ذلك أية فائدة لا يجنيها من ذاته نفسها، وأن الفاضل في غنى عن الفاضل، وهو مكتف بنفسه، إذ نشاهد أن المشابهة، بعيدا عن توليد الصداقة، تمنع ولادتها، إذ إنها عازلة، بدل من أن تقرب، بين الكائنات التي تنتظر شيئا من بعضها البعض"[2]

"إلا أن نظرية إِمْبِيدُوكْلْ لم تنج من الاعتراض فهذا هِيرَاكْلِيطْ يزعم أن النقيض هو صديق النقيض، لأن كل كائن يشتهي ما يعارضه بالطبيعة، وليس ما يشبهه.

هكذا فإن اليابس يشتهي النَّدِيَّ، والباردُ الساخنَ الخ. إلا أن هِيرَاكْلِيطْ لا يرى أيضاً أن كثيراً من المتناقضات، بعيداً عن أن يتمكنا من الصداقة والترابط يتنافيان، ويتمنعان، مثال ذلك، الصداقة والكراهية والعادل والظالم والخير والشرير. وهكذا فإن نظرية المتناقضات هي أيضا، بنقلها من الطبيعة الفيزيقية إلى الطبيعة الأخلاقية، خاطئة وغير قابلة للتطبيق على الصداقة شأنها شأن نظرية المتشابهات."[3]

هاتان مقاربتان للصداقة أساسيتان في الفكر اليوناني ما قبل الأرسطي. إلا أن الفيلسوف الإِسْتاجِيرِي، أب كل البدايات السعيدة، تناول هدا الموضوع وأعاد صياغة النظريات الموروثة في الموضوع في كتابه الذائع الخالد أخلاق إلى نيكوماك Ethique à Nicomaque. وهذا الكتاب يكاد يكرر محتويات كتاب آخر لأرسطو وهو أخلاق إلى أوديم Ethique à Eudème كما تكاد محتويات الكتابين تتكرران في كتاب الخطابة. إن الجزء الثاني منه يتعلق بمباحث الإِيتوُسْ والْباتُوسْ.ففي هدا الجزء نواجه موضوعات : الغضب، والوداعة والصداقة والكراهية والخوف والأمن والخجل والوقاحة والإحسان والشفقة والنقمة والحسد والمنافسة والازدراء[4].

وهده الموضوعات هي مادة النوازع les passions أو الهوى les moeurs أو الميل العاطفي les affections . هذه النوازع يعددها أرسطو في أخـلاق إلى نيـكومـاك ويحصرها في: "الرغبة والغضب والتخوف والجرأة والحسد والفرح والصداقة والكراهية والحسرة والغيرة والشفقة" [5].

وفي كل الأحوال وبغض النظر عن التشابه المثير بين اللائحتين المعروضتين في الكتابين للنوازع فإن الأمر يتعلق دوما باعتبار "النوازع إحساسات تبعث على الألم أو اللذة "[6].

إلا أن ما يستدعي التأمل هو مثول موضوعة الصداقة في اللائحتين واحتلالها حوالي 20 % من مجموع أخلاق إلى نيكوماك أي 75 صفحة من 400

2. الصداقة عند أرسطو

قد لا نتمكن من فهم تصور الصداقة عند أرسطو إذا لم ندرك الأهمية الحاسمة والجوهرية التي كان يتمتع بها المواطن الأثيني لتسيير أمور الحاضرة. هذه العلاقات الاجتماعية الإنسانية لم تكن قد انشطرت محولة جموع المواطنين إلى ذرات متناثرة وشظايا، تاركة أمور تدبير الحاضرة إلى النواب والممثلين والهيئات الوسيطة التي تميز الديمقراطيات الحديثة.

إلا أن الصداقة لا تبرر بالأحوال السياسية وحسب بل تبرر بالدواعي الإنسانية. "فإذا كنا نعرف الحياة، حينما يتعلق الأمر بالحيوان، بقدرة الإحساس فإن تعريفها حينما يتعلق الأمر بالإنسان، يتم بقدرة الإحساس والفكر.[…] والنتيجة هي أن الحياة ، بالمعنى الكامل للكلمة هو الإحساس والفكر. إلا أن هذا الإحساس والفكر يظل عند الناس محصوراً في الذات وهو عند الفاضل يتوجه إلى الصديق [ …] ينبغي أن نحس بأننا في جماعة، مع صديقنا، الناس يعيشون في جماعة وهم ليسوا كالبهائم التي لا تسعى إلا إلى الرعي في نفس المرعى"[7].

وهدا لا يميزه عن الحيوان فقط بل إنه يكتسب، بفضل الإحساس والفكر والنزوع إلى العيش في جماعة، صفة الكائن المدني. أي، حسب عبارة أرسطو " مصنوع بالطبيعة لكي يعيش حياة اجتماعية"[8]. ويوًكد: " ألا وجود عند الإنسان لما هو أكثر اشتهاء من الحياة الجماعية"[9]، وأن " الصداقة هي الحياة في جماعة"[10]

إلا أن هذه الحاجة إلى الصداقة التي تفرضها الحياة الاجتماعية ليست مندرجة في إطار مفهوم واحد للصداقة. فإذا كان هناك دافع الفضيلة vertu عند البعض للارتباط بعلاقة صداقة فإن البعض الآخر لا تدفعهم الفضيلة بل تدفعهم المنفعة التي يتطلعون إلى استفادتها تماما كما تدفع فئةً ثالثةً اللذةُ التي يسعون إلى جني ثمارها.

الصداقة ملمح إنساني مدني، إذ لا يتصور انعقاد الصداقة في مملكة الحيوان ولا بين الحيوان والإنسان ولا بين الإنسان والأشياء.

إن التعلق بالأشياء المادية لا يدعى صداقة، إذ لا تقوم على المشاركة والمطاوعة ولا يمكن أن نشتهي لها الخير؛ وليس ما قد يبدو كذلك إلا الحرص على الوضع الجيد للشيء بغرض الاستعمال أو الاستهلاك.

3. أنــواع الصـداقة

الصداقة ثلاثة أنـواع. إن الباعث على الصداقة هو إما الفائدة أو المتعة أو الخير.

أ _ الصداقة المفيدة: ليست هذه الصداقة مقصودة في ذاتها. بل الهدف والغاية هي الفائدة وكذلك الصداقة الممتعة لا تكون مقصودة في ذاتها، بل المتعة هي الغاية. ففي الحالتين لا نصادق الصديق في ذاته وجوهره ولكننا نصادقه بقدر إمتاعه وإفادته.

هذه الصداقات تتعرض للانهيار بمجرد نضوب معين المتعة والفائدة. إنها تنتهي بنهاية الأسباب الداعية إليها. صداقة المنفعة خاصة بالشيوخ من الناس، ففي هذه السن تضعف الحاجة إلى المتعة واللذة وتقوى الحاجة إلى المنفعة. أما صداقة اللذة والمتعة فهي خاصة بالشباب. وهي تتوقد وتنطفئ بسرعة.

ب_ الصداقة الفاضلة: أو الصداقة الكاملة هي صداقة الأفاضل من الناس، أي المتشابهين من جهة الفضيلة، إذ إنهم يشتهون، بنفس الطريقة، الخير لبعضهم باعتبارهم فضلاء.

إن أولئك الذين يشتهون الخير لأصدقائهم في ذاتهم هم أصدقاء إلى أقصى الحدود، إذ يفعلون ذلك لبعضهم في ذاتهم وليس لغرض عارض[11].

هذه الصداقة تمتاز بالدوام ما دام الصديقان فاضلين. هؤلاء الأصدقاء الأفاضل بالإطلاق وجالبو منافع لبعضهم البعض. وكذلك في ما يعود إلى المتعة. إن الأفاضل باعثو متعة أيضا. هذه الصداقة بين الأفاضل هي من حيث الطبيعة الأكثر دواماً لأنها تستقطب كل ما ينبغي توفره في الأصدقاء. نادرة هي صداقة الفضلاء لأن الفضلاء أنفسهم معدن نادر. إذا كان الحافز هو المنفعة والمتعة فإن حشداً من الناس يمكن أن يبعثوا التعاطف إذ إن الناس النافعين أو الممتعين هم عديدون.

في حين أن صديقا صداقة كاملة لعديد من الأشخاص أمر غير ممكن تماما كما أنه من المتعذر أن يكون المرء عاشقا لعديد من الأشخاص في الآن ذاته، إذ إن للحب نقطة أوجِيَّةً وهذه النقطة الأوجية أو الذروة تؤدي بالضرورة إلى شخص واحد.والواقع أن بعث عديد من الأشخاص تعاطفاً شديداً عند نفس الشخص لهو أمر غاية في الصعوبة، تماما كما أنه من الصعوبة بمكان أن يكون الكثير من الناس أخياراً[12]. هذه الصداقة تحتاج لقيامها الوقت والعادات المشتركة. إن بناء صداقات سريعة يعبر عن رغبة في الصداقة أكثر مما يعبر عن وجودها أو قيامها.

هذه الصداقة بين الأفاضل هي الصداقة الكاملة، لأنها تستقطب إلى جانب الفضيلة المنفعة والمتعة. هي هذه الصداقة الحقيقية، أما الصداقتان الأخريان فهما شبيهتان وحسب بالصداقة الحقيقية. وهي محصنة أمام عوادي الزمن والوشايات والأعراض. ومن علامات اكتمالها أنها لا تنعقد بين شريرين. إن هذين لا يتصادقان إلا لمنفعة أو متعة أو لذة.

ومع هذا وجب التنبيه على أن "الصداقة الممتعة شبيهة بالصداقة الحقيقية وذلك حينما يستفيد الطرفان نفس المتع في نفس الآن، ويتقاسمان الإحساس بنفس السرور أو يتمتعان بنفس الأشياء: تلك هي الصداقات بين الشباب إذ يتسمون بسخاء أكبر، وعلى العكس من ذلك الصداقة المبنية على المنفعة، إنها صداقة التجار"[13].

هده الصداقات السابقة تقوم على " المساواة" بين الطرفين. يستفيد كل واحد منهما من الآخر نفس الخيرات أو يتبادلان شيئا مقابل آخر مثل تبادل متعة بمنفعة. هذا الضرب الأخير أدنى رتبة وأقل دواماً.ونظرا لأنها تتشابه ولا تتشابه مع نفس الشيء يمكن التفكير بأنها صداقات وأنها ليست صداقات: إنها من حيث التشابه مع الصداقة الفاضلة، تبدوان صداقتين، "إذ إن إحداهما تحمل المتعة والأخرى المنفعة، وهذه الخصائص تنتمي أيضا إلى العلاقة القائمة على الفضيلة. وعلى العكس من ذلك فلكون الصداقة الفاضلة محصنة أمام عوادي الزمن تظل ثابتة، في حين أن العلاقتين الأخريين تتبدلان بسرعة وتختلفان عن الأولى على أكثر من صعيد. هذه الصداقات لا تبدو صداقات بسبب اختلافها عن الصداقة الحقيقية"[14].

4. الصـداقة المتبـاينة

الصداقة المتباينة تقوم بين طرفين: أدنى وأعلى. مثال ذلك الصداقة بين الأب والأبناء، والمسن واليافع، والزوج والزوجة، وصاحب جاه ونفوذ وغير ذي جاه أو نفوذ.

هده الصداقات تختلف فيما بينهما، إذ إن حب الأبوين للأبناء غير حب الأبناء للآباء وحب الزوج لزوجته غير حب الزوجة لزوجها. والواقع أن كل واحد من هؤلاء يحوز فضيلة ووظيفة مختلفتين. ومختلفة أيضا الأسباب التي تدعوها إلى الحب : يخلص من هذا تباين في الروابط والصداقات. ومن هنا ليس هناك تطابق في الامتيازات التي يستفيدها كل طرف من الطرف الآخر، ولا ينبغي له السعي إلى ذلك. إلا أن الأبناء حينما يؤدون لآبائهم ما ينبغي لمن كانوا سبب وجودهم، وحينما يؤدي الآباء لأبنائهم ما ينبغي لخلفهم، فإن الصداقة بين هؤلاء الأشخاص ستكون ثابتة ومتساوية. وفي كل الصداقات القائمة على علو يكون الارتباط فيها تناسبيا.فحينما يكون الحب تابعا لجدارة الطرفين فحينئذ يتولد نوع من المساواة، وهي المساواة التي تعتبر الخاصية المميزة للصداقة.

"يبدو واضحاً جداً حينما ينتج فرق كبير من حيث الفضيلة أو الرذيلة أو الممتلكات المادية أو أي شيء آخر لا يعود الطرفان صديقين لمدة طويلة، وهما لا يدعيان استمرارها […] يتضح هذا من خلال الملوك: ففي ما يعود إليهم لا يستطيع الناس في مراتب غير بالغة الدونية الطمع في صداقتهم كما لا يحلم الناس المجردون من كل جدارة بالارتباط مع الرجال الأكثر تميزا برفعتهم أو حكمتهم. […] ومع ذلك فإذا انفصل أحد الصديقين بفارق هام، كما هو الأمر مع الإله المبتعد عن الإنسان، لا يعود هناك مجال لصداقة ممكنة"[15].

"إن أولئك الذين يحبون شخصاً جديراً وبالتناسب مع هذه الجدارة هؤلاء هم أصدقاء بالدوام أي إن صداقتهم دائمة أو قابلة لذلك. وبهذه الكيفية، فإن الأشخاص غير النديين يمكن أن يكونوا أصدقاء: لأنهم بهذا يوضعون على قدم المساواة"[16].

المشابهة أو الندية هي الصداقة، وعلى الخصوص صداقة المتشابهين من حيث الفضيلة: إذ بثباتهم هم في ذاتهم يحتفظون بنفس الثبات في علاقاتهم المتبادلة ولا يقدمون ولا يطالبون خدمات متناقضة. ونستطيع أكثر من هذا أن نقول إنهم يمنعون ذلك: إذ خاصية الفضلاء هي تفادي الخطإ الصادر عنهم أم عن أصدقائهم.

إن الأشرار لا يتمتعون، عكس الفضلاء، بالثبات، إذ إنهم لا يظلون هم في ذاتهم ثابتين، بل لا يصيرون أصدقاء إلا لزمن قصير جدا وهم يستمتعون بشرهم المتبادل.

تبدو صداقة المنفعة قائمة على تعارض ما. مثال تعارض بين الفقير والغني بين الجاهل والعالم. فبما أننا نفتقر إلى شيء ما نشتهيه فإننا نكون مهيئين لأجل امتلاكه لنغطي شيئا آخر بالمقابل[17].

ويمكن أن ترتب في نفس الخانة العاشق والشيء المحبوب، الجميل والذميم الذين يرتبطان بعلاقة صداقة. وهذا ما يجعل العاشق يبدو أحيانا مضحكا، حينما يطمع في أن يكون محبوبا بقدر ما يحب، فحينئذ سيكون من حقهم التطلع إلى حقهم في الحب. ولكن حينما لا يحصل هدا التكافؤ فإنهم يغدون مضحكين[18].

5. الخصومة بين الأصدقاء

"لا تنشب الخصومة واللوم إلا في الصداقة القائمة على المنفعة [ …] أما الصداقة القائمة على الفضيلة فإن كل واحد من الصديقين الفاضلين يتطلع إلى إسداء الخير إلى الآخر، إذ إن إسداء الخير هو السمة المميزة للفضيلة وللصداقة. وهذه المنافسة الخيرة لا تسمح بنشوء اللوم ولا الخصومة: فلا أحد يغضب على من يحبه ويسدي إليه الخير، ولكن إذا كان الشخص رهيف الحس فإن رد الصاع يكون بإسداء الخير في المقابل. كذلك لا مجال للخصومة بين الأصدقاء الذين يتحابون لأجل المتعة: إن الطرفين يحصدان المتعة التي يسعيان إليها.

على العكس مما تقدم فإن الصدقة القائمة على المنفعة ميالة دوما إلى الشكوى: إن الأصدقاء من هذا الصنف، وهم يتعاشرون على المنفعة، يطلبون دائما المزيد، يتصورون أنهم ينالون أقل مما يستحقون وهم يلومون أصدقاءهم على قلة ما ينالون منهم وهو أقل مما يطلبون. ومن جهته فإن المحسن عاجز عن الاستجابة لكل طلبات الطالب[19].

الصداقة المنفعية نوعان: الأول قانوني légale .إنه يقوم على التزامات ثابتة. وهي بدورها تتفرع إلى صنفين. أحدهما تجاري صرف حيث التبادل يتم يداً بيدٍ، وثانيهما متحرر إلى حد ما حيث يسمح أحد الطرفين للآخر ببعض الوقت لأداء الثمن أو للتسليم. وإذا كان الثمن ثابتا والسلعة محددة فإن فسحة الوقت المتروكة للأداء تظل تابعة للصداقة. وعلى كل فإن الإخلالات قد تكون مبررة لمجرد القبول بالتعامل الاقتراضي.

الثاني هو الصداقة الأخلاقية. لا تعتمد هذه على التزامات ثابتة: كأننا نتعامل هنا مع صديق حينما نقدم له هبة أو أية خدمة أخرى. إلا أننا نتطلع إلى استرجاع نفس القدر مما نعطي أو أكثر، وكأننا لم نقدم في السابق عطية بل سُلْفةً. لا يتعلق الأمر بنفس الصداقة التي تضبط الشروط التي يتم فيه الدين وتلك التي تتم فيها التسوية أو الأداء: من هنا تنشأ شكوى المدينين ضد الدائنين. إن سبب هذا التغير في الموقف يعود إلى كون كل الناس أو أغلبهم يشتهون الجميل، إلا أنهم يختارون النافع. والحال أنه من الجميل فعل الخير دون التطلع إلى الجزاء، إلا أنه من المفيد تلقي هذا الخير من الآخرين.

ومن هنا ينبغي، حينما يتيسر ذلك، رد مقابل معادل لما تلقيناه، وذلك بطريقة تلقائية، إذ لا ينبغي اعتبار شخص صديقا رغما عنه. ينبغي التظاهر وكأننا قد أخطأنا التقدير في البداية وأننا قد تلقينا إحسانا من شخص لا ينبغي تلقيه منه، إذ إننا لم نتلقه من صديق، ولا من شخص يفعل ذلك لأجل جماله الخاص؛ تنبغي التسوية أو الأداء كما لو كنا، لحظة فعل الإحسان، بصدد تعاقد صريح.

وبالفعل ينبغي التأكيد، ما كنا لنتردد في رد نفس الخدمة لو كنا في حال تسمح بذلك، كما أننا مقتنعون بأننا لو كنا غير قادرين على رد الجميل، فإن ذلك الذي أقرضنا قد لا يتردد في الإحجام عن المطالبة بأداء الدين. إلا أننا نكرر: ينبغي الأداء مقابل ما تسلمناه. إلا أنه ينبغي في البداية تقدير الشخص الذي نتلقى منه الخدمات، وفي أي شروط يتم ذلك، وذلك بغاية الحسم فيما إذا كانت الشروط المطروحة تسمح بتقبل الخدمة أم أنها لا تسمح.

6. الخصومات في الصداقات المتباينة

تنشأ الخلافات أيضا في كنف الصداقات القائمة على الاستعلاء: إذ إن كل واحد من الصديقين يسعى إلى تلقي حصة اكبر من الآخر، إلا أن هذا الادعاء أو الطمع يؤدي، حينما يظهر، إلى انهيار الصداقة. إن الصديق الأكثر فضيلة يُقَدِّر أنه هو الجدير بالحصة الأكبر، إذ إن للرجل الفاضل تسند في العادة الحصة الأكبر. كذلك الأمر بالنسبة إلى ذلك الذي يقدم خدمات أكبر. إذ إن رجلا غير مفيد لا يتمتع بحق، حسب رأي هؤلاء، الاستفادة بحصة مماثلة. إن هؤلاء يذهبون إلى أن الصداقة ينبغي أن تكون مثل شركة رساميل حيث تكون الاستفادة متناسبة مع المساهمات.

إلا أنه من الجهة الأخرى، يلتزم الأصدقاء المحرومون أو الأدنون باستدلال مغاير بل معارض لما سبق، ففي رأيهم يتمثل دور الصديق الحق في مساعدة المحتاجين. فما جدوى أن يكون الشخص صديق إنسان خير أو ذي جاه، إذا لم نكن ننتظر منهم شيئا؟

يبدو أن كل واحد من الطرفين على حق؛ ومع ذلك ينبغي أن يجني كل واحد منهما الحصة الأقوى من الصداقة، إلا أنهما ليستا حصتين من نفس الشيء؛ إن الأعلى يجني مجداً أكثر، في حين أن الذي يعاني من الحاجة يجني الاستفادة، إذ إن المجد هو جزاء الفضيلة والإحسان bienfaisance والاستفادة هي المآزرة التي يخص بها المحتاج[20].

هذا ما يمكن أن نلحظه في إدارة الحواضر. لا يحظى بالمجد ذلك الذي لا يقدم أية خدمة للشعب. إن خير الشعب لا يقدم إلا لذلك الذي أهدى له خدمات. وهنا فإن خير الشعب هو المجد والاعتبار. لا تمكن الاستفادة والمجد في نفس الآن من الشأن الشعبي، لا أحد يستطيع تحمل الحرمان في كل شيء في نفس الآن: تبعاً لهذا فإن ذلك الذي لا يقبل المال يجازى بالمجد، وهو من هذه الناحية يعامل دوما معاملة أقل من الآخرين. ويعطي المال على العكس من ذلك، لذلك الذي يقبل مثل هذه الهدايا أن نعامل دوما كل أحد بالتناسب مع أهليته، ذلك هو ما يحقق النِّدِّية وينقذ الصداقة. هكذا ينبغي أن تكون العلاقة بين الناس غير المتكافئين: إن الذي يتلقى من صديقه امتيازاً مالياً أو فضيلياً ينبغي أن يرده بالمجد، أن يرده في الحدود المستطاعة، إذ إن ما تسعى إليه الصداقات، هو أن نرد بما تيسر لدينا، وليس رد ما يستحقه الصديق، ففي بعض الأحيان نصادف حالات حيث يتعذر ذلك، مثال ذلك حينما يتعلق الأمر برد التمجيد للآلهة أو للأبوين: لا أحد يستطيع أن يجازيهم بقدر ما يستحقون، ولكن نمجدهم بقدر الاستطاعة، تلك هي الفضيلة، الناس كلهم مجمعون على هذا.

هذا هو السبب الذي يفسر لماذا يعجز الابن عن التنكر لأبيه، في حين أن الأب قد يتنكر لابنه. إن الابن وهو مدين، ينبغي له أن يؤدي دينه، وهو مهما فعل فلن يفلح في الجزاء بقدر ما أُعْطِيَ بحيث يظل دائما مدينا. وعلى العكس من ذلك فإن الدائنين هم أحرار في تحرير مدينيهم، وهكذا فإن الأب يستطيع ذلك .

ومع ذلك فلا وجود لأب يرغب في الانفصال عن ابنه، إلا إذا كان هذا على قدر من الشذوذ المزمن، إذ علاوة على الصداقة الطبيعية التي يحتفظ بها الأب لابنه فمما لا يوجد في قلب إنسان إنكار دعم يمكن أن يوجه لنا. وفيما يعود إلى الإبن، فإذا كان شريراً فذلك عائد إلى تملصه من عِبْءِ العنايةِ بالأب أو أنه لا يقوم بذلك أحسن قيام. إن أغلب الناس متعلقون بشدة بتلقي الخير، إلا أن إسداء ذلك الخير للناس يبدو لهم أمراً غير قابل للتحمل إذ لا نفع فيه.

7. الخصومة في الصداقة المتنافرة أو غير المتشابهة

إن التناسب في التبادل في الصداقة المتنافرة هو الذي يسوي (أو يماثل) الصداقة ويؤمنها. إن هذا شبيه بما يحدث في التجمعات المدنية. هناك تبادل بحسب القيمة. مثلا تبادل الإسكافي للأحذية التي يصنعها والنساج للثوب الذي يصنعه. وكذلك الأمر بالنسبة إلى كل أعضاء الجمع المدني. هناك قياس مشترك هو العملة التي زكاها القانون. إننا نقيس بها كل شيء.

وبما أن لا شيء من هذا يمكن أن يحصل في مجال العلاقات العاطفية فإن ذلك الذي يشكو أحياناً أنه لا يلقى الاستجابة المستحقة مقابل عطفه الزائد، والمحبوب يشكو من جهته كثيراً من كون الآخر الذي عرض عليه في السابق كل أنواع الوعود، لم يلتزم بأية واحدة منها. كذلك يحدث هذا الخصام حينما يحب المحب المحبوب لأجل المتعة في حين أن المحبوب يحب المحب لأجل المنفعة وإن الثمار المرجوة لا تحصل لا في حالة ولا في أخرى. إن الصداقة القائمة على هذه الأسس تتعرض للقطيعة حينما لا يجني الصديقان الإشباعات التي كانت أساس قيام صداقتهما. لم يكن الشخص في ذاته هو المحبوب ولكن المنافع المرجوة، والتي لا تستقر على حال، وهذا هو ما يجعل مثل هذه الصداقات غير مستديمة.

إننا نعرف قصة لاعب الناي الذي وعده هاو بأجرة ترتفع بحسب جودة الأداء. وفي الصباح حينما طالب عازف الناي بتنفيذ الوعد، أجابه الطرف الآخر بأنه قد قدم المتعة مقابل المتعة[21].

يقول أرسطو في أخْلاق إلى أُودِيمْ : إذا كان أحد الصديقين يسعى إلى المتعة والآخر إلى المنفعة، فإن النتيجة هي أن المزايا أو الامتيازات المجنية من كليهما هي متباينة من حيث النوع.

8. العدل والصداقة

حيثما يوجد تشارك مصالح communauté d’intérêt توجد طريقة خاصة للعدل ويوجد أيضا شكل خاص من الصداقة؛ وما هو أكيد في كل حال هو أننا نطلق اسم "أصدقاء" على هؤلاء المرافقين للإبحار ورفاق السلاح وعلى كل من يشاطروننا في أجناس أخرى من التجمع.

بمعنى أن أي تجمع وأي تشارك، حتى ولو كان مؤقتا وعرضيا، ساعيا إلى مصلحة مشتركة، يؤدي إلى ولادة علاقات حق rapport de droit ولادة إحساسات الصداقة.

إن الصداقات التي تربط أعضاء مجموع بشري ما محكومة بهذا المجموع نفسه وتدوم بقدر دوامه بالضبط لا أقل ولا أكثر. إنها تترسم خطى الروابط التشريعية المحددة لحقوق كل أحد.

ومن جهة أخرى، فإن المثل " ما يملكه الأصدقاء هو مشترك" هو صحيح وصائب، إذ بوضع الأشياء موضع شركة تقوم الصداقة. إن الوضع المشترك ينصرف إلى الخيرات المادية أو الفكرية. فبقدر ما يكون تاماً هذا الوضع المشترك بقدر ما تكون الصداقة تامة. إنها تتحقق بين الإخوة وبين الزملاء، إلا أنها تتحقق بالأساس في الحاضرة التي تستوعب كل المصالح الخاصة. والأشكال الأخرى للصداقة، والأقل اكتمالاً والأكثر هشاشةً هي على سبيل المثال صداقة مرافقي الإبحار والسلاح: إنها لا تتقاسم إلا عدداً محدوداً من الأشياء، الصداقة المتقاسمة ressenti هي شديدة إن قليلا أو كثيرا، وهي تختلف بحسب عدد الأشياء الموضوعة في الشراكة وأهميتها.

يقوم بين الاخوة والأصحاب تشارك تام، إلا أنه بالنسبة للأصدقاء الآخرين لا تشمل الشراكة إلا بعض الأشياء المحددة، التي تتعدد إن قليلا أو كثيرا تبعا للحالات : إذ إن الصداقة تخضع لنفس التغيرات القليلة أو الكثيرة.

إن علاقات الحق تسمح هي أيضا باختلافات: إن حقوق الآباء والأطفال ليست هي نفسها حقوق الاخوة فيما بينهم. كما أن حقوق الأصحاب ليست هي نفسها حقوق المواطنين؛ وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأشكال الأخرى للصداقة. هناك، تبعا لهذا، اختلافات فيما يتعلق بالمظالم المقترفة في كل واحدة من الأصناف المختلفة للشركاء، ويكتسب الظلم حجما متزايدا حينما تنصرف بشكل أقوى إلى الأصدقاء : فعلى سبيل المثال من المنفر بشكل أقوى تجريد صاحب من ممتلكاته من تجريد مواطن. ومن المنفر بشكل أقوى رفض مساعدة أخ من مساعدة أجنبي، ومن المنفر أيضا ضرب الأب بشكل أقوى من ضرب شخص ما. فمن الطبيعي أيضا أن تنمو العدالة في نفس الوقت الذي تنمو فيه الصداقة، نظراً لأن هذه وتلك توجدان بين نفس الأشخاص ولهما نفس الامتداد.

إلا أن كل هذه التجمعات هي مجرد أجزاء من التجمع السياسي. يجتمع الناس مثلا لأجل السفر معا بغاية تأمين امتياز ما محدد، والحصول على بعض الأشياء الضرورية للحياة؛ وكذلك بغاية استفادة أعضاء المجموعة. فلنتذكر عموما بأن التجمع السياسي تَشَكَّلَ في الأصل وما يزال قائما.

هكذا فإن التجمعات الأخرى تلتمس مصلحتها الخاصة، مثال ذلك: البحارة وهم يبحرون مجتمعين، يضعون نصب أعينهم الحصول على المال أو ما يشبه ذلك. وبالنسبة إلى رفاق السلاح فإن المطلوب هو الغنيمة سواء أكانت ثروة أم انتصاراً أو سيطرة على المدينة[22]

إن التجمعات الخاصة هي مجرد أجزاء من التجمعات السياسية، إذ إن المصالح الشخصية والذاتية التي تدافع عنها مستوعبة من المصالح العامة التي هي غاية الحاضرة. إلا أن كل هذه التجمعات تبدو خاضعة للتجمع السياسي إذ إن غاية التجمع السياسي ليست هي المنفعة الحاضرة أو الآنية ولكن ما هو مفيد للحياة بأكملها. من الواضح أن كل التجمعات هي أجزاء من التجمعات السياسية، ويناسب كل نوع من التجمع صداقة من نفس النوع.

هناك ثلاثة أنواع من الدساتير السياسية وهناك نفس العدد من الانحرافات التي هي بشكل ما مقابلاتها الفاسدة.

الدساتير هي أولا الملكية والأرستقراطية والدستور الدخلي[23]. إلا أن أغلب الناس اعتادوا على تسميته النظام الدستوري. وأفضل نظام من بين هذه الثلاثة هو النظام الملكي وأسوأها هو النظام الدخلي.

بما أن أفضل نظام هو الملكية فإن فساده هو الطغيان وهو أسوأ نظام. كما أن فساد الأرستوقراطية يولد الأوليجارشية. وفساد النظام الدخلي يولد الديموقراطية.

ننتقل من الأرستوقراطية إلى الأوليجارشية بسبب فساد الحكام الذين يوزعون ما ينتسب إلى الحاضرة بدون مراعاة الأحقية ويستحوذون على كل الخيرات أو أغلبها، ويحتفظون بالهيئة القضائية في نفس الأشخاص، ولا يراعون في ذلك إلا الثروة، وبهذا تصبح الحكومة في أيدي عدد محدود من الرجال الفاسدين الذين ينفردون بها دون المقتدرين والأكفاء.

من النظام الدخلي ننتقل إلى الديموقراطية: إنهما متلازمان إذ إن الديموقراطية لها مثال هو سيادة الأغلبية، ويكون سواسية كل أولئك الذين يستجيبون لشرط الضمانة. الديموقراطية هي الأقل سوءاً من ببين الأنظمة الفاسدة. إذ إن الانحراف هنا ضعيف.

يوجد في الحكومة نفسها مشابهات لهذه الحكومات المختلفة وضروب من نماذجها، فإن اجتماع الأب وأولاده فيه شكل الملكية لأن الأب يعنى بأولاده. الملكية ترمي إلى أن تكون سلطة أبوية.

جماعة الزوج وزوجته تؤدي صورة حكومة أرستوقراطية. فإن كان الرجل يتمتع فيها بالسلطة فلأنه أهل لذلك، ولا يمارس السلطة إلا حيث يكون الرجل هو الذي ينبغي له ذلك، وكل ما يستجيب لكفاءات المرأة فإن الرجل يتخلى عنه لصالحها. ولكن متى ادعى الرجل أن له الكلمة العليا في كل شيء بدون استثناء فإن السلطة تنقلب إلى الأليجارشية.

جماعة الإخوة تمثل الحكومة التِّيمُوقْرَاطِيَّة، لأنهم متساوون إلا إذا كان هناك مع ذلك فرق في السن عظيم لا يسمح بأن توجد بينهم صداقة أخوية حقيقية.

أما الديموقراطية فإنها توجد على الخصوص في العائلات والبيوت التي ليست محكومة بسيد لأن الجميع يكونون حينئذ متساوين، وأيضاً في العائلات التي فيها الرئيس شديد الضعف بحيث يترك لكل واحد القدرة على أن يفعل ما يريد.

تتولد مع كل واحد من الدساتير السياسية صداقة تناسبها ويتولد معها بنفس القدر عدلٌ ما أو حقٌّ ما مناسبٌ[24].

ففي المقام الأول "إن الصداقة التي تجمع ملكاً مع رعاياه تقوم على كون الملك حريصاً على إسداء الخير لرعاياه أكثر مما يتلقى منهم؛ وهو يفعل ذلك لأجل إسعادهم تماماً كما يتعهد الراعي أغنامه […] وذلك هو أساس الصداقة الأبوية أيضاً إلا أن الأب يتفوق على الملك بعظمة أعماله الخيرة: إنه سبب وجود أولاده، وهو أعظم الخيرات كما يعترف الجميع بذلك كما يزوده بالغذاء والتربية.

وفي المقام الثاني، فإن الطبيعة نفسها التي تعطي حق ممارسة السلطة للأب على الأبناء وللأجداد على الخلف وللملك على رعاياه.

هذه الصداقات هي صداقات تتضمن علواً ما. كذلك نحن مدينون للآباء أكثر مما يمكن أن نرد لهم، بالشرف honneur . وكذلك فإن العدل ليس هو نفسه لهذا أو ذاك ولكن لكل واحد ما يستحق تماماً كما هو الأمر بالنسبة إلى الحب الذي يربطهما.

إن الصداقة التي تربط بين الزوج والزوجة هو نفسه الذي نجده في النظام الأرستوقراطي إذ إنه متناسب مع الامتياز الشخصي وإن الأفضل يعود إليه بقدر أكبر من الخيرات، كل واحد من الزوجين يتلقى ما هو خاص به، وكذلك ما يتعلق بعلامات العدل.

والصداقة التي تربط بين الإخوة تشبه الصداقة الموجودة بين أصدقاء الطفولة: إنهم متساوون من حيث الأعمار، وهذا يؤدي في الغالب إلى تطابق كيفيات الإحساس والحياة إلا أنها تشبه الصداقة الأخوية التي تربط بين المواطنين في النظام الدخلي لأن هذه الحكومة تقوم على مثال هو المساواة بين المواطنين والفضيلة إذ إن السلطة تعود إليهم على سبيل التناوب، وكل الناس يساهمون على قدم المساواة.

في الدساتير الفاسدة المنحرفة تختزل الصداقة والعدل إلى دور غير مهم. ففي النظام الطغياني حيث الصداقة منعدمة أو ضعيفة، وحيث لا شيء يجمع بين الحاكم لا تقوم الصداقة إطلاقاً، وذلك لأن العدل نفسه غير وجود: كأننا هنا أمام نفس علاقة الصانع مع أداته وعلاقة الروح مع الجسد والسيد مع العبد؛ كل هذه الأدوات يمكنها أن تكون بدون أدنى شك، موضوع عناية من جهة مستعمليها، ولكن لا يمكن أن تقوم الصداقة ولا العدل مع الأشياء غير الحية. ولكن لا تقوم أيضاً مع الحصان أو الثور أو العبد باعتباره عبداً، ففي هذه الحالة الأخيرة لا شيء يجمع بين الإثنين: العبد أداة حية تماماً كما أن الأداة عبد غير حي. وباعتباره عبداً لا يمكن أن نصادقه، وباعتباره إنساناً يمكن أن نصادقه، إذ كما يعلم الجميع هناك إمكانية لقيام علاقة عادلة بين أي إنسان وآخر يمكن أن يرتبطا بقانون أو عقد؛ وهناك إمكانية أيضاً نتيجة ذلك لقيام صداقة ما، في حدود كون هذا الطرف إنساناً. "وتبعاً لهذا ففي الوقت الذي لا تلعب فيه الصداقة أي دور في الأنظمة الطغيانية، فإنها تلعب على العكس من ذلك دوراً بالغ الأهمية في الأنظمة الديموقراطية: إن هناك الكثير من الأشياء المشتركة حيث يكون المواطنون كلهم سواسية" [25]

كل صداقة تتحقق إذن داخل كل تجمع communauté كما سبق أن ذكرنا. نستطيع مع ذلك أن نعزل جانباً عن الباقي: الصداقة بين الآباء وبين الأصحاب. إن الصداقة التي تربط بين أعضاء حاضرة ما أو قبيلة أو تلك التي تربط بين المبحرين وكل الترابطات الشبيهة تقوم على مجرد التجمع أو التعاقد، أكثر من أي شيء آخر. ويمكن أن ندرج في عداد هذه الصداقات القائمة على المصلحة المشتركة الصداقة مع الأجانب.

خلاقاً للتجمعات الطبيعية التي تستقطب مختلف التشابهات الصاحبية والتي تشكل صنفاً متميزاً، فإن التجمعات التي نتحدث عنها هنا تتسم بطابع اصطناعي، وذلك بسبب اعتمادها على تعاقد ما صريح أو ضمني، وهي تقام لغاية محددة[26].

9. الصداقة بين الأقارب

الصداقة بين الأقارب ذات أشكال عديدة، إلا أنها تبدو مرتبطة بالحب الأبوي. يحب الأبوان الإبن باعتباره منهما، والأبناء يحبون الأبوين باعتبارهم متولدين عنهما. إلا أن الأبوين أعلم من كون الأبناء من ذريتهم ومن إنجابهم.

هناك نمط خاص من العلاقة. إن الإبن ينتمي إلى الأب لأنه متولد عنه، والعكس ليس صحيحاً. وصداقة الأبناء للآباء أطول زمنياً بالمقارنة مع الأبناء الذين لايصادقون آباءهم إلا في فترة متأخرة حينما يكتسبون الذكاء أو الإدراك. هذه الاعتبارات هي التي تفسر كون حب الأمهات أقوى من حب الآباء. الآباء يحبون أبناءهم مثل حبهم لأنفسهم لأنهم منهم. (إن الكائنات المتولدة عنهم هم أنفسهم آخرون، "آخرون" لأنهم مفصولون عن الآب). والأبناء يحبون الآباء لأنهم متولدون عنهم، والإخوة يتحابون لأنهم متولدون من نفس الأبوين، لأن اتفاقهم في الأبوة يجعلهم متفقين فيما بينهم. والإخوة هم من هذه الزاوية نفس الشيء إلا أنهم متحققون في أفراد مختلفين. وما يجعل الصداقة قائمة بينهم هو التربية المشتركة وتقارب الأعمار: إن الشباب يستمتعون بأقرانهم والعادات المشتركة تبعث المصاحبة. ولذلك كانت الصداقة بين الإخوة تشبه الصداقة بين الأصحاب. والصداقة بين أبناء الأعمام تعود إلى نفس السبب، إنهم متولدون من نفس الأجداد والآباء. ويظل الإحساس بالألفة أو الغربة أحدهم عن الآخر، تابعاً للقرابة أو البعد عن الجد الأصلي.

إن حب الأبناء لآبائهم يشبه حب الرجال للآلهة أو حب من نشعر أنه كائن طيب ويكون في مرتبة سامية، إذ إن الآباء قد أعطوا أبناءهم أعظم الإحسان بإعطائهم الحياة، وبتعهدهم ليكبروا وبتأمين تربيتهم بمجرد ولادتهم. وهذا الحب بين الآباء والأبناء ممتع ونافع أكثر من حب الأجانب فيما بينهم وذلك متناسب مع العشرة.

إن الصداقة بين الزوج والزوجة تبدو متفقة مع الطبيعة، إذ إن الرجل كائن ميال بالطبيعة إلى تكوين زوجية أكثر من ميله إلى تكوين مجتمع سياسي، وذلك في حدود كون العائلة شيئاً سابقاً على الحاضرة وهي الأشد ضرورة منها، وإنجاب الأولاد هو شيء مشترك بين الكائنات الحية ومهما كان، فإن التجمع عند الحيوان لا يتخطى الإنجاب، في حين أن في الجنس الإنساني لا يقتصر التعايش بين الرجل والمرأة على الإنجاب ولكنه يمتد إلى كل حاجات الحياة: إن تقسيم المهام بين الرجل والمرأة قائم منذ البدء ووظائفهما ليست هي نفسها. هكذا يتفاوتان واضعين كفاءاتهما الخاصة في خدمة العمل المشترك. لهذه الأسباب تبدو المتعة والمنفعة متعايشتين في نفس الآن في الحب الزوجي. إلا أن الحب يمكن أن يرتكز على الفضيلة، حينما يكون الزوجان فاضلين؛ لأن للزوج وللزوجة طريقتيهما [27] الخاصة ليكونا فاضلين، وإنه لمما يبعث السرور في كل واحدة منهما، أن يلمس أحدهما

في الآخر الفضيلة التي تناسبه. ويبدو الأطفال أنهم يشكلون عامل ارتباط، ولذلك تجد الأزواج غير المنجبين يفترقون بشكل أسرع: إن الأطفال هم في الواقع خير، un bien مشترك بين الإثنين وما هو مشترك يدعم الارتباط.

غير أن البحث في كيف ينبغي أن يعيش الزوج مع زوجه على العموم الصديق مع صديقه إنما هو أشبه ما يكون بالبحث عن كيف ترعى بينهما حدود العدل. ومع ذلك بالبديهة ليست قواعد السلوك الواجب رعايتها بالنسبة للصديق أو بالنسبة للأجنبي أو بالنسبة إلى رفيق أو مجرد صاحب قربته منك المصادفة لوقت ما.

10 الصداقة والفضيلة

1 . الصديق هو ذلك الذي يتمنى الخير ويفعله لصديقه، لهذا الصديق نفسه.

2 . الصديق هو ذلك الذي يقضي أوقاته مع صديقه ويشتهي نفس الأشياء .

3 . الصديق هو الذي يتقاسم مع صديقه السراء والضراء وهذا لا يتحقق عند أي كان أفضل مما هو عند الأمهات.

بهذا الإحساس أو ذاك يحدد الفلاسفة الصداقة.

إلا أن كل واحدة من هذه الخصائص حاصلة أيضا في علاقة الرجل الفاضل بنفسه كما تحصل عند الرجال الآخرين باعتبارهم أنفسهم رجال فضيلة، إلا أنه من الواضح لدى الجميع، أن الفضيلة والإنسان الفاضل هما مقياس كل شيء.

وفي الحقيقة فإن الآراء هي عنده في توافق تام بينهما، وهو يسعى إلى نفس الأشياء مع روحه كلها. إنه يتمنى هو نفسه لذاته ما هو خير في الواقع ويبدو له كذلك وهو يفعل ذلك، إذ إن خاصية الإنسان الخير العمل الفعال لأجل الخير، وكل هذا لأجل ذاته إذ إنه يفعل مهتديا بالجزء العقلي القائم فيه والذي يبدو أنه يشكل الواقعة الحميمية لكل واحد منا. إنه يتمنى أيضا لذاته أن تحيى وتدوم وعلى الخصوص هذا الجزء الذي به يفكر.

إن الفكر intellect يشكل الوجود نفسه لكل إنسان أو جزئه الأساسي. ومن هنا، وبما أن كل واحدة من هذه الخصائص تنتمي إلى الإنسان الفاضل في علاقته مع نفسه وأنه يرتبط بعلاقة صداقة شبيهة بالعلاقة التي يعقدها مع نفسه، إذ إن الصديق هو ذات ثانية، فإنه ينتج عن ذلك أن الصداقة يبدو أنها تقوم هي نفسها في واحدة أو أخرى من هذه الخصائص، وأن الذين يكتسبونها يرتبطون بعلاقة صداقة. تثبت التجربة أن الملامح التي أتينا على ذكرها تنتمي هي أيضا إلى أغلب الناس، مهما بلغوا من الفساد. ألا نستطيع أن نقول إذن عن هؤلاء بأنهم بقدر ما يستمتعون بذواتهم ويعتقدون أنهم رجال خير أو فضلاء يتسمون حقا بهذه الخصائص؟ إذ إن أي إنسان تام الفساد لا يتوفر على هذه الصفات ولا يبعث الانطباع بأنه يتسم بها. إن هؤلاء غير متوافقين مع أنفسهم ، إنهم يشتهون شيئا ويريدون شيئا آخر: إنهم مثل القاصرين الذين يفضلون على ما هو جيد في نظرهم ما هو ممتع ومزعج، في حين أن الآخرين يتنكبون "لجبنهم أو خمولهم" عن فعل ما يجدونه أفيد لمصالحهم الخاصة. وأولئك الذين اقترفوا أعمالا رهيبة ويحظون بالكراهية بسبب فسادهم يصلون إلى غاية أن يقولوا وداعا للوجود ويدمرون أنفسهم [ … ] إن مثل هؤلاء يظلون غرباء عن مسراتهم الخاصة وعن آلامهم الخاصة، إذ إن روحهم متمزقة.

هكذا فمن الواضح أن الإنسان الفاسد لا يشعر أمام نفسه بالإحساسات العاطفية، إذ لا يتسم هو في ذاته بأي شيء محبوب. فإذا كان مثل هذا الوضع النفسي هو تمام البؤس الأخلاقي فإنه يجب علينا الفرار من الفساد بكل قوانا ومحاولة أن نكون أناسا أفاضل: هكذا نستطيع في نفس الآن أن نتصرف كصديق مع نفسنا وأن نصبح صديق الآخر.

11. الصداقة والحلم[28]

الحلم نوع من الإحساس العاطفي، وهو مع ذلك ليس بالصداقة. الحلم إحساس يمكن أن يتوجه إلى أشخاص نجهلهم ويمكن لهذا ألا يلاحظ. هذا ليس حال الصداقة. وليس الحلم أيضا النزوع إلى الحب بحصر المعنى؛ لأنه ليس موسوما لا بالشدة intensité ولا بالرغبة وهي الأعراض التي تصاحب عادة الحب. الأكثر من هذا فلكي نحب شخصا ينبغي أن نرتبط مع بعلاقات معتادة في حين أن الحلم يمكن أن يتولد فجأة.

مثال ذلك التعلق بالمصارعين؛ إن المتفرجين وهم يشاهدونهم وهم يصارعون يغدون حليمين إزاءهم ويؤازرونهم بأمانيهم دون أن يكونوا في وضع يسمح بمساعدتهم! إننا لا نكتشف بغتة حِلْمَنا إزاءهم وحسب، بل إننا إذا أحببناهم فإن ذلك يكون على مستوى السطح فقط.

والحلم هو مع ذلك بداية الصداقة، وبداية الحب، إنه الفرح نفسه الذي نشعر به ونحن نتأمل فتى وسيماً. فإذا لم نبدأ بالفرح بمشاهدة جماله، لا يمكن أن نصبح محبين، عن الاقتصار على الفرح بمشاهدته ليس حباً: إننا لا نكون محبين إلا مع غيابه حيث نأسى لذلك ونشتهي بقوة حضوره.

كذلك لا يغدو الشخص صديقاً دون أن يتقدم ذلك حِلْم أحدهما مع الآخر، في حين أن الأشخاص الحليمين ليسوا مع ذلك أصدقاء، إذ إنهم يقتصرون على تمني الخير لأولئك الذين هم موضوع حلمهم وقد لا يرغبون في مؤازرتهم في شيء كما يتحملون عبء مساعدتهم. إننا نستطيع القول ونحن نوسع معنى الصداقة، إن الحلم هو صداقة خاملة[29]، إلا أنها مع مرور الزمن ومع بلوغه درجة من الحميمية[30] يصبح صداقة، صداقة حقيقية وليس هذا النوع من الصداقة القائمة على المنفعة إذ إن الحلم لا ينشأ عن هذه الأسس.

والواقع أن من يتلقى معروفاً يرد، مقابل ذلك، الحِلم وهو لا يفعل هنا إلا ما هو عدل. إلا أن ذلك الذي يتمنى فوز شخص يراهن على الإثراء على حسابه، لا يعتبر إحساسه هذا حلماً أمام هذا الشخص، بل إنه سيتمنى بالأحرى ذلك لحسابه الشخصي تماماً كما أنه ليس صديقاً ذلك الذي يحيط شخصاً آخر بالعناية تطلعاً إلى المنافع التي سيجنيها من وراء ذلك.

باختصار. إن السبب الحقيقي للحِلم هو الفضيلة، هو الاستقامة وهو يتولد حينما ينكشف أمام عيوننا الجمال الأخلاقي والشجاعة أو واحدة منن السمات الأخلاقية تماماً كما قلنا بصدد الأبطال في الملاعب.

12. التـوافـق

ليس التوافق تطابقَ الآراء، لأن هذا يمكن أن يحصل لدى أشخاص لا يتعارفان. كما أنه ليس اتفاقاً في الآراء. فليس توافقاً مثلاً أن يكون لشخصين نفس الرؤى في علم الفلك، إذ ليس من قرائن الصداقة الاتفاق في مثل هذا الموضوع.

إننا، على العكس من ذلك، نتحدث عن التوافق داخل الحواضر حينما يحصل بين المواطنين توافق في الرؤى بصدد مصالحهم، حينما يتخذون نفس القرارات وينفذون متعاونين ما عالجوه. إن مواضيع التوافق هي مواضيع التوافق هي مواضيع الفعل، أو هي على الأقل المواضيع التي تكتسي بعض الأهمية والتي يمكن أن تنجز في سبيل إرضاء الطرفين أو لإرضاء كل الناس. فعلى سبيل المثال هناك، داخل الحواضر، توافق حينما يقرر المواطنون عقد اتفاق بالإجماع بأن الهيئة القضائية ستشكل بالانتقاء أو بأن يعقدوا حلفاً عسكرياً مع اللَّاسِيدِيمْيوسْ أو أن بِيتِاكُوسْ سيتحمل مسؤولية إدارة دفة الحكم خلال الآجال التي يريدها. والتوافق يكف متى كان هناك نزاع بشأن موضوع ما.فإذا كان التوافق صداقة فإنها باتفاق كل الناس، صداقة سياسية، وموضوعها هو المصالح وكل ما يسمح لنا بالحياة.

هذا التوافق لا يتحقق إلا بين الأخيار من الناس. هؤلاء متوافقون مع ذواتهم وفيما بينهم. والأماني التي يحملونها هي نفسها دائماً وليست آخذة في التقدم والتراجع وما يتمنونه هو الحقوق والمصالح الواقعية للناس، إلا أن هذه الحقوق وهذه المصالح لا نريدها لأنفسها ولكن للجماعة. أما الأشرار من الناس فإنهم لا يتوافقون فيما بينهم كما لا يمكن أن تقوم بينهم الصداقة إلا للحظات قصيرة، وهم يشتهون الحصول على أكثر مما يستحقون من الامتيازات، والمساهمة بأقل ما يمكن من الخدمات والتعب. وبما أن كل واحد منهم حريص على الامتيازات الشخصية فإنه حريص على ألا يتمتع جاره بهذه الامتيازات: وبما أن المصلحة العامة لا يلتفت إليها أحد فإنها سرعان ما تموت. وحينئذ يدخلون في نزاعات ويحاول كل طرف إرغام الطرف الآخر الالتزام بالعدل، بدون أن يلتزم أي طرف باحترامه.

13. حب المحسن للمستفيد

إن المحسنين يحبون المستفيدين أكثر من حب هؤلاء للمحسنين. يبدو هذا الأمر غريباً. إن المحسن بمثابة دائِنٍ والمستفيد بمثابة مدِينٍ. هكذا يرى الأمرَ عمومُ الناس. فكما أن المدين يتمنى موت الدائن فإن هذا حريص على حياة المدين. كذلك يتمنى الدائنون حياة طويلة للمستفيدين أملاً في تلقي علامات الاعتراف في حين أن هؤلاء لا يعبأون بالأداء. إلا أن السبب الحقيقي يكمن في طبيعتنا وهكذا فإن حال الدائنين لا يمكن اتخاذه مثالاً للتناسب بين المحسن والمستفيد. إذ لا يتعلق الأمر بالنسبة إليهم بحب المدينين: إنهم يتمنون أن يظلوا متمتعين بالصحة لأجل أن يتمكنوا من تسديد ديونهم. وعلى العكس من ذلك فإن المحسنين يحبون المستفيدين حتى وإن كان هؤلاء غير مفيدين لهم ولن يكونوا أبداً.

والحال أن هذا ما يحصل مع الفنانين أيضاً. إن الفنان يحب أثره الفني الخاص رغم أن هذا الأثر الفني لا يمكن أن يحب مبدعه لو دبت فيه الحياة. هو هذا حال الشعراء أكثر من غيرهم: إذ إنهم يحبون إلى حد الإفراط أشعارهم الخاصة إنهم يحبونها كما يُحَبُّ الأطفال. حال الفنانين هذا وحال المحسنين يتقاسمان كل الملامح. إن المستفيد هو منتوجهم أو أثرهم[31]. إنهم يحبونهم أكثر مما يحب الأثر صاحبه أو صانعه[32]. ما هو سبب هذه الإحساسات؟

إننا جميعاً نريد ونحب الوجود etre . إلا أن ما يجعلنا نوجد هو فعلنا، إذ إننا نوجد في حدود ونحيا وفي حدود ما نفعل. إن من يبدع أثراً، بفضل فعله، يتمتع بالوجود etreفي صيغة معينة. إنه يحب أثره لأنه يحب بدءاً الوجود. لا شيء هنا إلا ما هو طبيعي.

الأكثر من هذا أن المحسن ينظر إلى عمله من زاوية الجمال الأخلاقي، ولهذا يجد الفرح في ذلك الذي هو موضوع فعله. وبالنسبة للمستفيد لا يوجد في فعل المحسن أي جمال، ولكنه، عكس ما تقدم، لا يرى في ذلك إلا الفائدة. والحال أن المستفيد هو أقل إمتاعاً من الجميل وأقل من أن يحَبَّ.

ثلاثة أشياء تبعث المتعة: الفعل في الحاضر والأمل في المستقبل وتذكر الماضين إلا أن الأكثر بعثاً للمتعة من هذه الثلاثة هو المرتبط بالفعل، وكذلك الأمر بالنسبة لما هو محبوب. والحال أنه بالنسبة إلى الفاعل الذي أسدى خيراً فإن فعله أو منتوجه، يدوم إذ إن ما هو نبيل يدوم كثيراً في حين أن الذي استفاد من هذا الإحسان يجد المنفعة تمر بسرعة. وإن تذكر الأشياء النبيلة ممتع في حين أن تذكر الأشياء النافعة لم تعد كذلك أو إنها أصبحت أقل، في حين أن الانتظار يُحْدِث العكس. ومن جهة أخرى فأَنْ نحِبَّ شبيه بصيرورة الإنتاج وأن نُحَبَّ شبيه بالحالة الساكنة passivité؛ وتبعاً لذلك فإن الحب والإحساسات العاطفية تكون من نصيب أولئك الذين يساهمون بقدر أكبر في الفعل.

والأكثر من هذا فإن الإنسان يحب الأشياء التي حصلها بقوة العمل. وهكذا فإن الذين كسبوا مالاً بالعمل يتعلقون بحبه أكثر من أولئك الذين تلقوه وراثةً. والحال أن تلقي خير أو إحسان لا يبدو أنه يتطلب أي عمل شاق في حين أن فِعْلَ الإحسان لأجل الآخر يتطلب مجهوداً. لهذا كانت الأمهات أشد حباً لأبنائهن من الآباء.

14. الأنانية

إن الشرير لا يفعل إلا لأجل ذاته، وهذا يعظم بقدر كبر شره. والرجل الخير على العكس من ذلك، لا يفعل أو يتحرك إلا لأجل الخير، وبقدر ما هو خير بقدر ما يفعل للخير فقط ولأجل صديقه، ناسياً مصلحته الشخصية.

يؤكد البعض أننا يجب أن نحب من هو أفضل صديق، وأن أفضل صديق هو من يريد لنا بإخلاص الخير لصديقه هو نفسه، حتى دون أن يعلم أحد بذلك، والحال أن هذه هي حال موقف الإنسان من ذاته. إن الأمثال نفسها تؤكد ذلك، "روح واحدة"، و"بين الأصدقاء كل شيء مشترك" و"الصداقة هي المساواة" و"الركبة أقرب من الرِّجل"، إلا أن كل هذه العبارات تعبر، على وجه الخصوص، عن العلاقات بين الفرد وذاته. وهكذا فإن الفرد هو الصديق نفسه لذاته وهو الأقرب من أي فرد آخر وهو الذي ينبغي أن يكون موضوع حب. إن أفضل صديق هو الذات، ولهذا فإن من ينبغي أن نخصه بالحب هو الذات.

بدءاً؛ إن الذين يعتبرون "الأنانية" شتيمة يعتبرون الأنانيين يتحوزون بحصة الأسد لنفسهم من الثروات والأمجاد والمتع الجسدية، إذ إن هذا ما تشتهيه العامة وترغب فيه. ومن يسيرون على نفس الدرب يستسلمون لشهواتهم ورغباتهم، أي يستسلمون للجزء اللاعقلي من نفوسهم[33]. والحال أن هذه هي حال الناس. هكذا فإن المعنى المعتاد لكلمة أناني يصدر عن هذه الكتلة التي هي منحطة. من حقنا أن نستنكر، إذن، الأنانية بهذا المعنى.

إذا كان يوجد إنسان مهموم أكثر من أي شخص آخر، بفعل أفعال عادلة أو صادرة عن حكمة أو كل الأعمال الأخرى الفاضلة، إذا كان هذا الإنسان، يحتفظ دوماً لنفسه بالأعمال المنسجمة مع الجمال الأخلاقي، فإن أي أحد لن يتجرأ على تسميته أنانياً أو أن يقرِّعه. ولنضف: إذا كنا نقول عن شخص بأنه يتحكم في أهوائه أو لا يتحكم فيها، فلأن العقل intellect هو السيد أو غير السيد. أليس هذا معناه الاعتراف بأن العقل هو نفسنا تماماً؟. والأكثر فإن ما نفعله نحن أنفسنا وبمحض إرادتنا، هو ما ننجزه تحت مراقبة العقل. إن هذا هو بالتمام المبدأ المهيمن الذي يشكل بالأساس الفرد، وإن الإنسان الخير يفضله بالحب على أي شيء آخر. الأنانية النبيلة ترقى على الأنانية العامة، بقدر ما ترتقي الحياة بحسب العقل على الحياة بحسب الهوى، تماماً كما أن اشتهاء الخير يرتقي على اشتهاء ما يبدو نافعاً

استنتاج:

نستطيع أن نستنتج أن الفاضل ينبغي أن يكون أنانياً، إذ إنه إذا كان كذلك فإنه سيقدم خدمة لنفسه وهو ينجز أفعالاً حسنة، وهو سيكون نافعاً للآخرين، إلا أن الشرير لا ينبغي أن يكون إذ إذا كان فإنه سيزعج نفسه والآخرين بالتعلق بأهوائه الذميمة. بالنسبة إلى الشرير هناك إذن تنافر بين ما ينبغي أن يفعله وما يفعله، والإنسان الخير، على العكس من ذلك، ما ينبغي فعله يفله. إذ إن العقل يقرر دوماً فعل ما هو أفضل في ذاته والإنسان الخير يستجيب لعقله.

إن الفاضل ينبغي أن يقدم لصديقه كما لحاضرته، كل شيء وإذا اقتضى الأمر قدم حياته لأجلهما. إذ إنه سيتخلى بإرادته عن الثروة والأمجاد وكل الخيرات التي يتنازع حولها الناس، ولا يحتفظ لنفسه إلا بالجمال الأخلاقي. إذ في نظره فعل واحد جميل وكبير هو أفضل من كثير من الأعمال الصغيرة.

لقد قلنا إن الرجل الفاضل يفضِّل الجمال الأخلاقي على كل الخيرات. وأحياناً يترك لصديقه الأعمال الجميلة نفسها: فإذا كان هناك شيء أجمل من فعل شيء جميل فهو أن نجعل صديقنا يفعلها. والنتيجة هي أن من بين كل الأشياء الجديرة بالمدح، فإن الفاضل يطالب لنفسه بحصة الأسد من الجمال الأخلاقي. مثل هذا، نعم ينبغي للمرء أن يكون "أنانياً" ولكن بالمعنى العامي للأنانية . لا![34]

إلا أن كل هذه التجمعات تبدو خاضعة للتجمع السياسي إذ إن غاية التجمع السياسي ليست هي المنفعة الحاضرة أو الآنية ولكن ما هو مفيد للحياة بأكملها.

د. محمد الولـي - كلية الآداب سايس فاس (المغرب)

-------------------------------------

هوامـــش

[1] J.F. Balaudé, « Introduction » , in Aristote , Ethique à Nicomaque , trad. R.A. Gauthier, édition le Livre de poche, 1970. p. 10

[2] Emile Chambry , « Notice sur le lysis », in , Platon, Premiers dialogues tr. Notices et notes par Emile Chambry, édition G.F. flammarion, Paris, 1967 p. 307.

[3] Emile Chambry , « Notice sur le lysis » p. 307

[4] Michel Patillon, Eléments de Rhétorique classique, ed. Nathan, Paris; 1990, p.p.69_ 75.

[5] Paris, 1992 , p. 88 Aristote, Ethique à Nicomaque, trad. J. Barthélemy S. Hilare, éd. livre de poche,

[6] نفس الصفة.

[7] J.F. Balaudé, « Introduction » , in Aristote , Ethique à Nicomaque (livres 8 et 9), trad. R.A. Gauthier, édition le Livre de poche, 2001. p.p. 176_77.

[8] نفسه، ص. 176

[9] نفسه، ص. 182

[10] نفسه، ص. 182

[11] Ethique à Nicomaque (livres 8 et 9) , p. 113

[12] Ethique à Nicomaque (livres 8 et 9) , p . 120_121

[13] Aristote , Ethique à Nicomaque , trad. J. Tricot, édition Vrin, 1959, p.p. 398_99

[14] Ethique à Nicomaque , trad. J. Tricot , p.p. 400_01

[15] Aristote , Ethique à Nicomaque , trad. J. Tricot, p.

[16] Aristote , Ethique à Nicomaque , (Livres 8 et 9), édition Livre de poche p.127

[17] إن الفقير سيضاعف على سبيل المثال، من تقديم علامات التبجيل إزاء الغني لأجل الحصول على المال.

[18] Aristote , Ethique à Nicomaque , édition Vrin, p. 406

[19] Ethique à Nicomaque , édition Vrin, p.423

[20]Ethique à Nicomaque, trad. J. Barthélemy S. Hilare, éd. livre de poche, Paris, 1992, p. 355p.

[21] Ethique à Nicomaque , édition Vrin, p.p. 422_23

[22] Ethique à Nicomaque , édition Vrin, p. 409

[23] بالإسبانية censatarioبالفرنسيةcensitaire وهو نظام ينتخب فيه الحكام على أساس الدخل الضريبي. وهو الذي دعي بعد أرسطو ديمموقراطياً، على الرغم من أن النظام الديموقراطي عند أرسطو هو النظام الدخلي الفاسد.

[24] Ethique à Nicomaque , (livres 8 et 9), édition le Livre de poche, p. 134

[25] Ethique à Nicomaque , trad. J. Tricot, édition Vrin, p. 417.

[26] نفس الصفحة.

[27] في إتيك إلى أوديم: "إن الطريقة التي ينبغي أن تمارس بها الصداقة في كل أشكالها تعود في النهاية إلى مسألة العدالة، وذلك بفضل الترابط الذي طالما نوه به بين الصداقة والعدل." تنظر ترجة ج. تريكو، ص. 421 [28] Bienveillance

[29] Ethique à Nicomaque , (livres 8 et 9), édition le Livre de poche, p. 161

[30] الصداقة الخاملة: fainéante . الحميمية: intimité , communion

[31] منتوج أو أثر: oeuvre

[32] Ethique à Nicomaque , (livres 8 et 9), édition le Livre de poche, p. 165

صانع: auteur

[33] La partie irrationnelle de leur ame.

[34] Ethique à Nicomaque (livres 8 et 9) ed. Livre de poche, p. 172,

 

 
 

أرشيـف الموقـع

 

 

 

د. محمد الولـي

eloualimoh2000@yahoo.com

 

 

 

جماليـــات

إضــــــاءات

حــوارات مقـــــــالات تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

 

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.