السلام على السمراء ...
سيمفونية الوطن الضائع
حسن العاصي
--
باستثناء الكلام , يطبق السكون
على حياتنا , الأوطان أصبحت
كلام , والحق كلام , الفرح كلام
, الهزيمة كلام , وكلما كثر
الكلام تكبر الأوطان , وكلام
بعد كلام نحقق الازدهار وتتلاشى
الخيبة .
سكون , سكون مرعب , أباطرة
افترشوا الحرير ووسائد الريش ,
ورعية افترشت يأسها وشقاؤها
أسندت ظهرها إلى حجر ,رعية نزفت
نصف دمها ونصف عافيتها , أيقنت
بعد اكثر من نصف قرن من الحلم
والوهم أن ما جرى اكبر منها ,
وان ما يجري سوف يمر أمام
أعينها حتى لو كانت اكبر من
عمالقة الأساطير .
لاشيء يقطع هذا السكون سوى هدير
جنازير الدبابات في القرى
والمدن الفلسطينية والعراقية ,
سوى صراخ أمهاتنا وعويل أطفالنا
, سوى أصوات القهر وسواد
الأحلام في زنازين وأقبية
السجون العربية التي أضحت اكثر
من المدارس والحدائق , وسط مناخ
عربي قابل لكل شيء سوى العافية
.
سكون لا يقطعه سوى لحظة الهشاشة
الثابتة للوعة الفرد المحكوم
بحرية غالية الثمن , صوت
الإنسان الضاحك الحر , الصعلوك
الملكي في الزمن البائس ,زمن
تقارير أجهزة الأمن وأحذية
البوليس , وخنق عفوية الإنسان
,سكون يلونه إنسان عربي محتشد
بالخوف والضياع والرغبة
والاحتمالات , يقف في منتصف
الطريق بين ألم اللحظة وحلم
صغير لم يقبل بعد ,يحاول
استنبات زهرة لنفسه من ذاك
الخراب , يسقيها بالبراءة حينا
وبقليل من التمرد والأمل حينا .
سكون تهشمه دمعة صبية سمراء
سالت حزنا على حمامات السلام ,
وسمراء أخرى كانت تهوى جمع
البرتقال لكنها في زمن
الانتفاضة عشقت حجرا , سكون
يقتحمه صراخ أطفال يتعلقون
باللحم المشرح بعد أن صلبت أمهم
في رام الله , صورة طفل يقاوم
نيابة عن أمة , صوته مس شفاف
القلب , تمنى ورحل , أو صوت
أغنية لشاب عربي في مدينة عربية
حدق في عروبته مرة واحدة نحو
دائرة النور , فبصق على الرصيف
لعله يبصق أشلائه .
ربما سمراء هي فتاة جامعية من
الدار البيضاء , أو هي معلمة في
القاهرة , ممرضة في دمشق , أو
شهيدا في مخيم جنين , ربما هي
زيتونة في تونس ,أستاذ جامعي في
السودان , أو ربما هي نخلة في
البصرة , أو زهرة نبتت مكان
شظية في الجزائر .
زمن ليس لهم , هو زمن الخريف
يعلق على شجر الرصيف أشباحا
تطرز في عيون السمراء أسماء
المدن الجريحة التي هوت على
الجفون حطام , زمن واحد لا
يتغير إلا حين نضعه في جيوبنا
ثم نقبض عليه بأكفنا الراجفة
خوف أن ينزلق إلى قعر الذاكرة .
سمراء كان لها فوق هذا التراب
فراشتان , طفولة ملت السؤال ,
وحلم يابس جعلوه زنزانة بداخلها
جرح وعلى بابها فتات الخبز
,سمراء كانت تحلم بالندى ينعقد
بالونات شفافة على سيقان
النعناع البري في ضيعة عربية
جبلية .
هي الأرض المتفردة التي تأكل
لحمها كلما مر فجر جميل ,
طيورها تغرق أعشاشها بالضفادع
والحشرات , نساؤها مثل رمال
البحر لا يجدن الرغيف , الموت
فيها يتوضأ بالموت , جثث
أطفالها تفترش الشوارع , جندها
يجوبون الأزقة والميادين
ببنادقهم وهراواتهم , سماؤها
تقذف الشتائم , بحرها مقبرة لكن
موتاها بلا قبور .
سكون ينمو وينتشر مع أمة ابيض
شعرها واصبح كالثلج المنهار ,
ابيضت أعضاؤها وأصبحت كزهرة
متشحة ببياض الموت لم يبق منها
سوى بهجة الحمرة على الفم
,فقتلت أحلامها وجاءت الساعة
الصفراء فتبدد الوهم وكذبت
الأسطورة ولم يبق إلا الأ نقاض
والخراب .
هو سيد الوقت لم يصحو من غفوته
بعد , ربما يوقظ الحجر نوم
المسيح , ربما ينضر وجه الشمس
المخلوع بعد وقت أو يزيد .
لكن .. من ثقوب الذات هناك دوما
بقايا متماسكة , فالسمراء تعرف
الاتجاهات , كل المسافات جزء من
نبضها , قدرها رغم آلامها أن
تلد وجودها وتتلمسه , سمراء
تشبه صخرة انغرست كوردة حمراء
في السهل الواسع , هي جدار
للجرح عند اشتداد النزف , هي
لبنة الصمود الخلفي ,أكاد اجزم
أني اعرفها ,اعرف اسمها
وملامحها , عمرها واسم مدينتها
, اعرف جميع السمراوات على
امتداد الوطن العربي الكبير ,
اعرف أفراحهم القليلة وخيبا تهم
الكبيرة .
أيتها السمراء , أين انتصبت
وأين انكسرت , ماذا ابقوا لك
وماذا ابقوا فيك ,أيتها السمراء
... أية تفاحة أكلت لتحصدي كل
هذا الحرام .
........ حسن العاصي
كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في
الدنمرك |