جماليـــات

إضــــــاءات

حــوارات مقـــــــالات تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

 

 
 
 

ابحث في الموقـع

 

 

 

 

محمد منيـر (المغـرب)

حصير الحيــاة

قصة قصيرة

حصير الحياة

قصة قصيرة بقلم: محمد منير

 

 

ُمنذ متى بدأ يفكر في الهروب إلى العالم الآخر؟ لم يعد يذكر. كل ما هنالك أن المستقبل داخل الوطن أصبح مستعصيا إن لم نقل مستحيلا. لقد كان الوزاني مطيعا لوالديه اللذين لم يتوقفا يوما على حظه على المثابرة و الاجتهاد. لقد كانا يحفظان القرآن و بعض الأحاديث النبوية و لهذا كانا يجلان العلم و الدراسة و يقدمان له المثال تلو الآخر من نماذج بشرية تألقت في المجتمع بفضل الدراسة. كانا يطلبان منه ومن إخوانه أن يتناولوا كتبهم و كراساتهم أمامهم حتى وإن تظاهروا أنهم يراجعون الدروس. كل ما يهمهما هو أن يريا أبنائهما منهمكين في الدراسة و لو شكليا.

إن الوزاني لم يخامره شك يوما في قدسية هذا التشريف للعلم و للشهادات. غير أن رأيه تغير عندما حصل على الشهادات، عندما أُُُُغلقت أمامه أبواب الوظيفة كما أغلقت أمام أمثاله. شارك في عدة مباريات عله يغنم بعمل لائق إلا أن الحظ كان يعاكسه. شارك إلى جانب ذلك في اعتصامات كثيرة للعاطلين ذوي الشهادات تزامنت مع حكومات متتالية، إلا أن رغبات هؤلاء العاطلين لم تحظ وإلى الآن بأية استجابة. ما العمل إذن ؟ هنا جاءت فكرة "الحريك" و كأنها الملاذ الوحيد.

كانت تستحوذ على الوزاني أكثر من فكرة سوداء. كان يخيل إليه أنه لا محالة سيكون عرضة للأمواج و قد يصير بالتالي غذاء للحوت في عرض البحر. هذا البحر الذي يا ما تأمل في أمواجه كلما حل به للاصطياف بشواطئ شمال البلاد. كان يقف أمام خضم الماء و تنتابه فكرة عابرة يحاول تجسيدها. كان يرى نفسه طائرا يقلع من هذه الضفة و يحط في الأخرى. إن كبرياءه و كرامته فرضتا عليه اتخاذ هذا القرار: ركوب البحر و القيام بهذه المغامرة الخطرة، رغم أن نسبة نجاحها كانت تخيفه إذ لم يكن يراها سوى بصيص قد يكون لا اعتبار له. لم يعد يطيق وضعيته كمستهلك غير منتج داخل العائلة.

إن موضوع "الحريك" كان يأخذ منه كل وقته، كان يطارده حتى أثناء نومه ليلا. كان يجرب أن ينام..و لكن الوسن يأبى أن يزوره فيظل مسكونا بالأرق.. أما نهاره فكان يقضيه في تتبع أخبار الصحف و المحطات التلفزيونية التي عادة ما تقدم صورا مروعة، عن "الحراكين" الذين إما أن يُنتشلوا أمواتا من البحر، فيُستدعى الصحفيون لمعاينة الحادث؛ و إما أن يصل المرشحون إلى الهجرة السرية إلى الشاطئ الآخر ظنا منهم أنهم أدركوا شاطئ النجاة، و أنهم بلغوا "الإلدورادو"، جنة عدن، فيصدموا بالواقع عندما تعتقلهم السلطات الأجنبية و تقدمهم إلى أجهزة الإعلام. إن هذه الصور كانت تؤرقه و تجعله في دوامة مشحونة بالأمل و اليأس، كابوس يلاحقه و لا يدري كيف يتخلص منه.

ظل لأشهر يترقب ذلك اليوم الذي حسب أنه سيرسم فيه مصيره. و كانت أعضائه تشل و خفقان قلبه يتصاعد كلما استحضره.

دخل يوما إلى البيت وقد أضناه التجوال بالمدينة و هو يحاول طوال اليوم أن يتقصى أخبار الهجرة و يستخبر عن كل جديد يهم الحدود و مشاكل العبور بما في ذلك الأثمان. إن أثمان العبور كانت تخضع لظروف مناخية و سياسية و دبلوماسية معينة، فكانت هذه الأسعار ترتفع و تنخفض حسب هذه الظروف كما هو الأمر بالنسبة لأسعار البترول.

ذات يوم، جاء الوسيط المكلف بالمشروع؛ جاء بخبر عاجل يتضمن اقتراحا جديدا :

ـ إن العبور بالطريقة التقليدية أصبح صعب التحقيق نظرا للإجراءات الأمنية المتخذة. و لذا فإننا سنعبر إن شاء الله بواسطة السيارة. هذا سيكلف دراهم أكثر و لكن بدون خطر يذكر.

عندما كان الوسيط يشرح "كيفية الحصير"، بدا بريق من السعادة على وجه الأب الذي جحظت عيناه و سار يطالب بالمزيد من التفاصيل عن الاقتراح الجديد. إلا أن تدخل الأخ الأكبر الذي يعمل بالخارج، أتى ليضع حدا لجميع المخاوف عندما رشح نفسه للمشاركة في الرحلة ثم أضاف :

ـ ليهنأ بالك يا أبي، فسأكون مع الوزاني حتى يستقر في بلاد المهجر.عندما كنت ضد الهجرة بواسطة القوارب، كنت أخاف على حياته فظننتم أني لا أريده أن يذهب إلى الخارج. كل ما يهمنا الآن هو الوصول إلى الضفة الأخرى، فهناك سأتكفل به حتى يحصل على "الأوراق" عن طريق الزواج بفرنسية سوداء، أو بفرنسية بيضاء قد تكون أكبر منه سنا، أعني "شاربة عقلها".

كانت خمس مائة كيلومتر تفصل مدينته عن مدينة العبور و كان هذا يتطلب يوما كاملا من السفر، و لهذا السبب لم يكن من الضروري أن يُلف الوزاني داخل الحصيرـ كما اتفق في الخطة ـ تجنبا لكل إرهاق قد يلحقه. لذلك سافر الوزاني مع الآخرين داخل السيارة. لم يكن يِشعر بأي ضيق أو خجل من نفسه. وكيف يضيق و هو الوحيد ـ من بين جميع المسافرين ـ الذي يحمل الشهادات الجامعية و التي يفتخر بها رغم عجزها عن تحقيق ما كان يصبو إليه؟ شهادات لم تستطع أن تأتي ب"فيزا". إن امتياز الآخرين يكمن في هذه التأشيرة التي بمجرد عبور البحر سيبهت بريقها و وقتها ينعم الوزاني مثل الجميع بالعيش الرغيد في بلاد "الأورو".

كان الظلام بدأ يجن عندما لم تبق سوى كيلومترات قليلة للوصول إلى مدينة البوغاز. دخل السائق زهاء نصف كيلومتر وسط غابة صغيرة و أوقف السيارة ثم نزل هو و أخ الوزاني. طلبا من هذا الأخير أن يتبعهم. أخذه أخوه من يده و طلب منه أن يتشجع ثم حاول أن يشرح له أن ليس هناك ما يثير القلق فيما خُطََّط. تناول السائق الحصير و بسطها على الأرض بكل طلاقة و كأنه يقوم بعمل تعوّد عليه منذ أمد بعيد. لاحظ ارتباك الوزاني فحاول أن يطمئنه :

ـ لا تخف يا بني، فلست لا أنت الأول ولا أنت الأخير. و لنحمد الله كثيرا لأن الجو ربيعي و ليس هناك مطر يعرقل عملنا.

كان الوزاني يرتدي بدلة رياضية و ينتعل أحذية مطاطية خفيفة قد تساعده على تحمل مشقة السفر داخل الحصير. ناوله أنبوبا بلاستيكيا و قال :

ـ أمْسكْ بهذا الأنبوب، حافظ عليه حتى إشعار منا و حاول بواسطته أن تمتص الهواء كلما كنت في حاجة إليه.

قام السائق و أخ الوزاني بلف الشاب داخل الحصير بكل رقة و كأنهما يقومان بقمط طفل رضيع لم يتجاوز بعد الشهر من عمره. ثم قاما بعقد الحصير و حزمه فوق سطح السيارة إلى جانب أمتعة تقليدية تعوّد العمال المغاربة اقتناءها من بلادهم.

انطلقت السيارة صوب ميناء مدينة البوغاز و قد أصبح واضحا للعيان أن عدد ركابها ثلاثة و لا يمكن لأحد أن يتنبأ بوجود إنسان رابع على سطحها.

الامتحان الأول حدث عندما وقف الجميع أمام مركز الجمارك داخل الميناء:

ـ ماذا تحملون على سطح السيارة، قال ضابط الجمارك.

أجابه السائق بكل رباطة جأش :

ـ إنها بعض اللوازم نحتاج إليها في الخارج و نغتنم عطلتنا لنقتنيها من المغرب كما ترى.

أعاد إليهم ضابط الجمارك جوازات السفر وقال مغتاظا :

لسوف ترحمون يوما أنفسكم من مشقة حمل هذه "الخردة" إلى الخارج..إنكم تلوثون بلاد الناس..

أشار الجمركي إلى السائق بالاتجاه نحو الباخرة، فتنفس الجميع الصعداء. انطلقت السيارة متوجهة داخل الباخرة لتأخذ مكانها مع باقي السيارات و الحافلات.

لم يمض على مراسيم الإبحار سوى ثلاث ساعات حتى كانت السيارة المرقمة بباريز تمر بشوارع "الجزيرة الخضراء" التي كانت أنوارها تخطف الأبصار بتلألئها وهي توشي برفاهية و ازدهار ما وراء البحر. دلفت السيارة إلى إحدى الطرق الإسبانية العريضة و قد أصبح عدد الركاب داخلها أربعة. أضحى الجو منشرحا يطبعه الزهو و الفرح بعد أن كان متوترا يشوبه الخوف و الترقب . و قد ساعد على الانفراج إجراءات الجمارك عند جيراننا التي لم تتطلب كثيرا من الوقت. استمرت هذه البهجة و الأكل و الشراب حتى الحدود الفرنسية ليقف المسافرون أمام الامتحان الثاني.

كان الجمركي الفرنسي متسمرا يحدق في أرقام السيارة لمدة ثم انحنى ليرى وجوه الركاب. سأل:

ـ توس ماروكان ؟

أجاب السائق بكل ثقة :

ـ نعم، كلنا مغاربة.

رفع الجمركي يده و هو يحيي الجميع ثم أشار إليهم بالمرور.

مكناس2004 مَحمد منير

 

 

 

أرشيـف الموقـع

 

 

محمد منيـر

 

mounir_mhammed@yahoo.fr

 

 

جماليـــات

إضــــــاءات

حــوارات مقـــــــالات تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

 

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.