جماليـــات

إضــــــاءات

حــوارات مقـــــــالات تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

 

 
 
 

ابحث في الموقـع

 

 

 

 

 

د. محمد المسعودي (المغرب)

شعرية التماهي بين الأنا والمدينة

 قراءة في ديوان"طنجالوجيا" لمحمد العسري·

دراسـة

 

شعرية التماهي بين الأنا والمدينة: قراءة في ديوان"طنجالوجيا" لمحمد العسري·

د. محمد المسعودي

 

عرفت الشاعر "الطنجاوي" محمد العسري أواسط الثمانينيات من القرن الماضي من خلال صديق مشترك،فاتصلت بيننا أواصر المودة والصداقة وجمعنا حب الإبداع والشعر.كان الشاعر قد طبع –حينئذ-ديوانه الأول باللغة الفرنسية:"Le Jardin aux Yeux Noirs"وهو ديوان صغير الحجم لكنه غني بالمعاني والدلالات الشعرية التي عانقت قضايا وطنية وإنسانية في لغة فرنسية شفيفة ودافئة،وكانت طنجة حاضرة بقوة في تفاصيل النصوص وفي عناوين الديوان.وبعد ديوانه الفرنسي اللغة تحول الشاعر نحو لغة الضاد الجميلة من خلال كتاب"لولاك يا طنجة لحلمت بك" وهو كتاب جمع بين الشعر والنثر والفوتوغرافيا ليعبر عن حب الشاعر لمدينة البوغاز وتولهه بها.ثم أقبل الديوان الشعري الأول للشاعر في اللغة العربية:ديوان"طنجالوجيا" الذي يأبى إلا أن يؤكد العشق الوحيد للشاعر:حب "العالية" "مدينة نوح أميرال الأنبياء" وليؤكد رسوخ قدم الشاعر في مملكة الشعر.فما هي خصوصية تصوير طنجة في الديوان؟وما حدود التماهي بين الذات والمدينة فيه؟

يمكن تناول هذين السؤالين الهامين انطلاقا من المحاور الآتية:

1/خصوصية الفضاء الطنجي.

2/أنسنة المدينة.

3/تماهي الذات الشاعرة بالمدينة.

* * *

1/ خصوصية الفضاء الطنجي.

استطاع الشاعر في ديوانه الموهوب لعشق مدينة طنجة تصوير خلجات هواه في دقة متناهية وتعبير شفيف رقيق يذكرنا بلغة الحالمين الكبار من شعراء الغزل العذري وشعراء التصوف الإلهي.هكذا تبدو طنجة-في الديوان-معشوقة نورانية سامية لا يمكن الإمساك ببهائها.ومن هنا تتكرر الإشارة إلى استحالة الإمساك بسحرها وفتونها ومن ثم تحديد معالمها ومواهبها الإلهية.فما هي العناصر التي ركز عليها الشاعر لتصوير هذا السحر الفاتن الفتان؟وهل تشكل هذه العناصر خصوصية فضاء المدينة؟

إن المتأمل في نصوص الديوان يجد المجال الذي ينفتح عليه خيال الشاعر رحبا فسيحا يجذر للمدينة أصولا ضاربة في أعماق الحضارة الإنسانية وفي الثقافة الإسلامية وفي أعراف البحر الأبيض المتوسط وطقوسه الحضارية.يقول الشاعر في قصيدة:"نقوش":

طنجة:

كمنجة

نصفها شرقي

والباقي..

موسيقى صامتة

من إبداع بنات المدينة

حين يكن،بعد الظهيرة،

يعبثن لاهيات..

على طول نهج باستور

جيئة وذهابا

كأنهن نفح الطيب

وهن يوشوشن،

فيما بينهن

تفاصيل أشياءهن

الصغيرة.(ص.48)

تعبر القصيدة عن الامتزاج الثقافي بين الشرق والغرب في المدينة عبر لقطة تسترعي نظر كل من زار المدينة أو عاش فيها.إنها لقطة الحوار الحضاري الذي تنسجه بنات طنجة بين الشرق والغرب في نهج باستور بوشوشاتهن وعبثهن وابتسامتهن.ويستدعي الشاعر عبر"نفح الطيب"ماضي الأندلس الزاهر بما له من دلالات وخصوصيات ثقافية وحضارية كان للمرأة فيه دور لا يستهان به.والشاعر يركز على البعد الإيجابي لحضور المرأة في حياة المدينة وما تمنحه للمكان من بهاء وجمال.فهي نفح الطيب من غصن طنجة الرطيب.وهي النصف الآخر من الموسيقى التي تبعث بها طنجة/المدينة ذاتها.وبهذا فإن طنجة في نصفيها معا الشرقي والغربي امرأة نالت من الأصالة حظها ومن المعاصرة نصيبها.

ويقول الشاعر في قصيدة أخرى:

يليق بالبحر الأبيض المتوسط..

صدى قهقهات النوارس

على طول ساحله

وطواف الناس

من حوله.

من طنجة الغريبة..

إلى الإسكندرية العجيبة

إلى بيروت الحبيبة

إلى مدينة المرايا،

البعيدة..

القريبة.(ص.54)

هكذا يتغنى الشاعر بالرابط القومي والحضاري بين المدينة ومدن متوسطية عربية أخرى.وبهذه الشاكلة يؤكد الشاعر أن طنجة المعشوقة ذات نسب عريق في تربة العروبة مهما هفا أبناؤها إلى الغرب وتاقوا إلى الارتباط به.ويصور أصالة المدينة وانتماءها الحضاري الإسلامي في نص دال وجميل يحمل عنوان:"انحناءة لطنجة":

ها هي

تتحسس مفاتيح

أبوابها السبعة

ها هي

تهل..

ها هي

تطل..

ها هي

تشهد أن لا إله إلا الله

وأن محمدا رسول الله

ها هي

تبتسم في وجه

المولهين بأسمائها

ها هي

تكرر حضورها الأسطوري

عبر عطرها البحري (ص.40/41)

إن الإشارة إلى الشهادتين يؤكد البعد الإسلامي للمدينة مهما هبت عليها رياح الغرب التي سعت إلى استئصال هويتها الحضارية الإسلامية.كما أن الإشارة إلى الأبواب السبعة تلمح إلى الشكل المعماري للمدينة العربية الإسلامية.وهذه الإشارات اللماحة في الديوان تبين رفض الشاعر للصورة المشوهة التي حاول بعض الأدباء تكريسها عن المدينة إعلاميا وثقافيا.فطنجة عند الشاعر ليست آثمة ولا متعهرة ولا متنصلة من أصولها الثقافية والحضارية.ومن هنا إصرار الشاعر على رصد جوانب من أبعادها الثقافية العربية الإسلامية،ومن عادات وتقاليد أهلها السليمة المتحضرة.

ولم يكتف الشاعر بهذه المعاني في تصوير طنجة،وإنما يدقق الصورة عن طريق الحديث عن أماكن وعناصر ثقافية تتصل بالإنسان والمكان لتجسد خصوصية المدينة.هكذا نجده يتحدث عن نخلة سيدي المخفي وعن مقهى الحافة وعن واد أحرضان والمآذن وعن البحر وطيور الزرزور واللقلق والحميرة والقبرة والحمام وغيرها من أنواع الطيور التي ارتبطت في مخيلة الطنجاوي بماضي المدينة الزاهر.

ولا ينسى الشاعر الالتفات إلى بعض خصوصيات المرأة وطقوسها الحميمة لتجلية صورة طنجة المعشوقة أو اقتناص أسرار أهلها كما نجد في"وردة البستان" وفي"نقوش" من إشارات إلى الحناء ولوازم الحمام والعطور وغيرها.وبهذه الكيفية يرسم الشاعر للمدينة أفقا تخييليا شاسعا يمتح من المحلي والجزئي في إطار ترسيخ صورة كلية شاملة عنها.

2/ أنسنة المدينة.

تحضر طنجة في الديوان بوصفها امرأة ذات بهاء وجمال أخاذين.إن منح المكان صفات الأنثى شكل الأفق التصويري الخيالي عند الشاعر بألوان لا تخلو بدورها من رشاقة في التعبير وقدرة على تلمس خصوصيات التفاصيل.يقول في قصيدة "مقهى الحافة":

في مقهى الحافة،

لكل أصيل اسمه الخاص.

لهذا السبب الحافل بالأسرار

تنهض طنجة..

من نومها كل صباح،

كما لو أنها بنت من بنات حواء

خرجت لتوها من الماء.

وتنام كل مساء،

في أبهى وأزهى ما لديها من زينة،

لأنها عروسة..

منذ أن كانت مدينة.(ص.26)

يقوم الخطاب في النص على سمة التشخيص الذي يستمد بنيته التخييلية من التجسيد الأنثوي للمدينة.هكذا تصبح طنجة امرأة/بنت من بنات حواء تستحم في الماء وتخلد إلى النوم في المساء وهي في أجمل زينة وأبهاها.أليست المدينة عروس الشمال ودرته؟!أليست سيدة الحسن والجمال الفاتنة التي تحل عقدة اللسان كلما التقت عينا العاشق الولهان بعينيها كما ورد في قصيدة"سيدة الحسن والجمال"؟!(ص.27)،أليست المدينة قطعة شوكولاتة على شاكلة امرأة طنجاوية تتأبط لوازم الحمَّام وتجادل عطارا بساحة(واد أحرضان)على ثمن الحناء؟!(ص.50)،وأليست طنجة مصطافة فائقة الرشاقة تكاد برهافة قدها أن توقظ الفتنة من نومها؟!(ص.49)

بهذه الكيفية يركز الشاعر على وصف ذات المعشوقة باعتبارها مثالا للجمال المطلق،ثم يركز على الأفعال والحركات كما نلمس في النص الأول.ويأبى الشاعر إلا أن يزيد من تعميق صورة الجمال بتفاصيل أخرى من خلال تصوير وجه طنجة/المرأة المعشوق الأخاذ:فهو تارة يبوح برغبة العشاق في تقبيل خد الحبيبة،ويعلن تارة أخرى عن أثر انحسار اللثام عن وجهها في قلوب الناظرين إليها،بحيث يصيبهم بالذهول والحيرة.(ص.30/وص.33)

ويعلن الشاعر عن غيرته على المدينة/المرأة التي يستبيحها الضباب في بعض الصباحات في صورة شعرية جميلة تجسد مدى ولهه بالمدينة وارتباطه بها.يقول:

في بعض الصباحات..

والناس في سبات

عميق،

كالأموات.

يحلو للضباب الكثيف

أن يلف بذراعه

على خصر طنجة

ينتابني خوف جم

مما قد ينجم

عن هذا الوضع الرجيم

فأقف في مكاني

جامدا

لا أحرك ساكنا

وأنا مغمض العينين

حتى أتمكن

من رؤية

ما لم أقدر

أن أراه

بالعين المجردة.(ص.51)

يرفض الشاعر أن يلف الضباب بذراعيه على خصر المعشوقة الرشيق الجميل.ولا يجد مفرا من التعبير عن هذا الرفض في صورة خيالية تستدعي تأمل القارئ وتحرك وجدانه؛والجميل فيها أن الشاعر باح بشعوره وعبر عن عشقه الفريد لطنجة.هذا العشق الذي يجعله يغار عليها غيرة شديدة من النسيم والضباب ويقدم أغلى ما يملك لها:

من أجل عينيك

يا عروسة البر والبحر

أهديك

أغلى ما عندي

مهرا

وإن شئت

أهديك عيني.(ص.38)

3/تماهي الذات الشاعرة بالمدينة.

إن شدة العشق ولواعج الهوى تجعل العاشق يتماهى بالمعشوق ويذوب فيه.ولهذا يقول الشاعر:

عندما أحب..

لا أكون وحدي

وعندما

لا أكون وحدي

أكون مع من أحببت.(ص.60)

يبوح هذا المقطع ويعلن عن التماهي والفناء في محبة المعشوق بدون مداورة أو مواربة.فالذات الشاعرة من شدة تولهها بالمعشوقة تجد نفسها حاضرة بين يدي من تحب.ومن تعشقه تجده أينما حلت وارتحلت لأنه ساكن غور الأعماق.وبهذه الشاكلة يصبح الحب صوفيا ينتهي إلى فكرة التوحد والانصهار بين المحب والمحبوب.

ويعبر الشاعر عن فكرة الفناء والموت فداء للمعشوقة/المدينة في نص آخر مبرزا وظيفة الشعر في البوح بالعشق ولواعج الحب:

لولا طائر الشعر

ذاك العابر الهائل

بأجنحة من قرنفل

لكان..

منذ مدة

قد انتهى أمري

جثة هامدة

..

ضحية حبي لطنجة(ص.22)

في ضوء كل ما سلف نلمس طبيعة العلاقة الفريدة التي ينسجها الشاعر محمد العسري بمدينة طنجة،كما نلمس تنوع التقنيات التصويرية التي استند إليها في تقريب أحاسيسه ومشاعره إلى المتلقي.والجميل في الديوان أن لغته من "السهل الممتنع"الذي لا يتمكن من استعماله إلا القلة من المبدعين،ومن ثم يمكن للقارئ أن يتفاعل مع نصوص الديوان بكل يسر وسهولة.

-------

 

· - محمد العسري، طنجالوجيا، مطبعة ألطوبريس، طنجة، الطبعة الأولى،2003.

**- شاركت بهذه القراءة في حفل توقيع الديوان الذي تم بثانوية الخوارزمي بطنجة يوم 8/5/2004.

 

 
 

أرشيـف الموقـع

 

 

 

د. محمد المسعودي

messoudimohamed@yahoo.fr

 

 

 

جماليـــات

إضــــــاءات

حــوارات مقـــــــالات تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

 

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.