جماليـــات

إضــــــاءات

حــوارات مقـــــــالات تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

 

 
 
 

ابحث في الموقـع

 

 

 

 

 

نسرين مغربي (فلسطيـن)

اثني علي بما علمتِ

دراسـة

اثني علي بما علمتِ

نسرين مغربي

 

في التيه متسع لاحصنة تشب من السفوح الى الاعالي, ومن السفوح تخر صوب القاع" - مأساة النرجس ملهاة الفضة, محمود درويش

تتطرق بعض اطروحات علم النفس الاجتماعي لما يسمى نظرية الهوية الاجتماعية, والتي تتناول - بين امور اخرى - منظومة العلاقات بين اطراف غير متكافئة كالعلاقات بين الاكثرية والاقلية. فالاقلية نظرا لوضعها الدون وقلة حيلتها امام الاكثرية السائدة ومعاييرها المهيمنة, تتبنى عادة بعض الاستراتيجيات لتفادي الشعور بتقدير النفس المتدني المترتب على وضعها المحرج, بل وقد تؤدي الدونية بافراد الاقلية الى التخلي عن مجموعتهم التي ينتمون اليها, ذات المكانة الادنى او عزل انفسهم عنها والسعي للالتحاق بمجموعة الاكثرية ذات المكانة الاجتماعية المرموقة. وهناك استراتيجية اخرى يمكن لافراد الاقلية تبنيها الا وهي البحث عن "تمايز ايجابي" لمجموعة الاقلية من خلال اعادة تعريف ابعاد المقارنة بين مجموعة الاقلية والمجموعة الخارجية. او قد يختار افراد مجموعة الاقلية, بسبب دونية وضعهم, خوض غمار المنافسة المباشرة مع المجموعة الخارجية (مجموعة الاكثرية). وهذا يتم اما من خلال الحركية الجماعية او اعلان الثورة على الوضع الراهن.

اما الاستراتيجية المحددة التي قد يتبناها افراد مجموعة الاقلية ذات المكانة الادنى فانها تعتمد - بين امور اخرى - على تصورهم لمدى ديمومة ومشروعية الوضع الراهن, وتصورهم لمدى قابلية اجتياز الحدود نحو مجموعة الاكثرية القوية. وتزداد احتمالات الحركية الفردية نحو المجموعة الارفع مكانة عندما يكون تجاوز الحدود امرا ممكنا. اما الحركية الجماعية بواسطة تحدي الوضع الراهن والثورة عليه فانها لا تصبح خيارا الا اذا كانت الحركية الفردية متعسرة, واذا تصور افراد الاقلية الفوارق في المكانة الاجتماعية غير ثابتة. اما اذا تصور افراد مجموعة الاقلية الوضع الراهن كوضع ثابت ودائم لا يمكن الخروج عليه فان رد فعلهم النفسي على دونية مكانتهم سيتسم عادة بتقدير النفس المتدني والكراهية للذات.

وبودي في هذه المقالة ان احاول تطبيق الاستبصارات الانفة على حالة الشاعر عنترة العبسي, وذلك في محاولة للدفاع عنه ضد تهمة الشعور بالنقص التي الصقها به البعض, منهم الناقد والاديب اللبناني مارون عبود والذي يعتبر من انصار هذه التهمة اذ يقول في معرض حديثه عن عنترة في كتابه "ادب العرب" وتحت عنوان مركب النقص: "كل ذي عاهة جبار, هذا ما قالته العرب قبل الوصول الى معرفة العقل الباطن في علم النفس, فكل فراغ عند الانسان لا بد له من ملء. فعندما يحس الرجل انه ينقصه شيء يسعى للحصول عليه من جهة اخرى". وتحت عنوان فخره يقول: "كان عنترة يفخر بنفسه ولا يخرج في شعره عن وصف ذاته وذلك بسبب مركب النقص والكبت. فاذا فتشنا عن شاعر عربي مغرم بذاته و"نرجسي" لم نجد له مثيلا ففخره يتناول جميع ما تفخر به العرب من شجاعة وفروسية ودفاع عن الحوض... عنترة والمتنبي لا يفتخران الا بشخصهما كقول المتنبي مثلا:

ما بقومي شرفت بل شرفوا بي - وبجدي سموت لا بجدودي"

وتحت عنوان تأثير سواده يقول: "كان عنترة في جهد جهيد من سواده, وهو لا يعرف كيف يتخلص من نكبته, فاذا باحساسه يجعله يشعر بان هذا السواد لا بد له من ماحٍ, فلجأ الى الصور الشعرية التي لم يوفق اليها اسود غيره, قال:

يعيبون لوني بالسواد جهالة - ولولا سواد الليل ما طلع الفجر

تعيرني العدا بسواد جلدي - وبيض فعالي تمحو سوادي"

ويختتم مارون عبود قوله في "هذا البطل": "سيان اكان هجينا ام غرابا مشقوق الشفة. وماذا تهمنا امه فلتكن زبيبة, او زيتونة او تفاحة. المهم خلق الرجل وشجاعته, وهذان لا يشك بهما احد ... ولا بأس علينا اذا كرمناه كما نكرم الجندي المجهول. هب انه شخص روائي مثل شخوص سرفانتس وموليير والجاحظ, افما صار هؤلاء كالاشخاص الاكابر الذين عاشوا على وجه الارض؟ فلينعم عنترة بالا".

واوقول بعد هذا الاقتباس الطويل: كيف سينعم عنترة بالا واتهامه بمركب النقص شائع على كل لسان؟ يقول عنترة في معلقته:

اثني علي بما علمتِ فانني - سمح مخالقتي اذا لم اظلم

فان ظلمت فان ظلمي باسل - مر مذاقته كطعم العلقم

وارى ان الصاق مركب النقص به هو اجحاف لا يعدله شيء, وبودي الدفاع عنه (من باب وصيته بالثناء عليه بما علمتُ!), لذلك اعود الى مفتتح المقالة والمقتطفات التي اوردتها من نظرية الهوية الاجتماعية واذكر انه كي يشعر الانسان بمركب النقص وكراهية الذات لا بد له من تصور وضعه الدون ثابتا ومشروعا بحيث لا يمكن تغييره او الخروج عليه, ففي هذه الحالة يذوّت الفرد القيم السلبية المبثوثه تجاهه من المحيط الخارجي ويتبناها ضد نفسه. واين عنترة من هذا كله؟ انه النقيض التام, بل وها هو مارون عبود يشهد له بالنرجسية والفخر ولا يضاهيه الا بالمتنبي افخر الشعراء العرب بنفسه. فكيف خصه دون المتنبي بالشعور بالنقص؟ ابسبب سواد لونه؟ (في هذا رأي مسبق مجحف من طرف مارون عبود!). لنراجع سيرة عنترة كما وردت في كتاب الاغاني, او اذا اردنا اقتباس المصطلحات العلمية الحديثة اقول: هيا نتتبع حركية عنترة الاجتماعية الفردية ومسار خروجه على وضعه الدون. يقول الاصفهاني:

"يقال له عنترة الفلحاء, وذلك لتشقق شفتيه, وامه أمة حبشية يقال لها زبيبة, وكان لها ولد عبيد من غير شداد وكانوا اخوته لامه. وقد كان شداد نفاه مرة ثم اعترف به فالحق بنسبه, وكانت العرب تفعل ذلك - تستعبد بني الاماء فاذا انجب اعترفت به والا بقي عبدا".

هنا يشرح لنا الاصفهاني السياق الاجتماعي الذي تواجد فيه عنترة, فهو اسود أي ينتمي للمجموعة الادنى مرتبة في المجتمع القبلي العربي. لكن هل انتماؤه ثابت وشرعي بناء على الايديولوجية السائدة عند مجموعة الاكثرية؟ وما هو تصور عنترة لمدى ثبات ومشروعية هذا الوضع؟ هل ثمة مجال مفتوح امامه للحركية الفردية واجتياز الحدود نحو المجموعة الاقوى؟ والاجابة متشعبة, فمن وجهة نظر الاكثرية (العرب الاحرارا) عبودية عنترة ثابتة وشرعية, اما عنترة فله رأي آخر, والدليل انه يستغل منفذا يمكّنه من تجاوز وضعه, وقد اشار الاصفهاني الى هذا المنفذ عبر الملاحظة التي ابداها بان العرب اعتادوا الاعتراف بالعبيد الهجناء اذا اثبتوا انهم (أي الهجناء) نجباء واصحاب كفاءات في مجالات حياتية حيوية. وهذا هو المنفذ الذي استغله عنترة لتحقيق حركيته الفردية في المجتمع الجاهلي. وهل هناك خير من الفروسية والبطولة في الحرب ليثبت فيها الذكر العربي كفاءته ونجابته في المجتمع القبلي؟ كي يشعر عنترة بمركب النقص وبتقدير الذات المتدني, ناهيكم عن كراهيته لنفسه, لا بد وان تسد في وجهه - بناء على نظرية الهوية الاجتماعية الانفة - ابواب الحركية الفردية, وان يحال بينه وبين تحسين وضعه, واخيرا: عليه ان يشعر بثبات وشرعية وضعه الراهن. وهذا كله (لسوء حظ اصحاب نظرية "مركب النقص" عند عنترة!) لا ينطبق على عنترة. اورد فيما يلي حيثيات المقابلة التي اجريت معه (بناء على كتاب الاغاني طبعا):

س: انت اشجع العرب واشدها؟

ج: لا.

س: فبماذا شاع لك هذا في الناس؟

ج. كنت اقدم اذا رأيت الاقدام عزما, واحجم اذا رأيت الاحجام حزما, ولا ادخل موضعا لا ارى لي منه مخرجا.

ما يهمني من كل هذا هو استراتيجية عنترة في اتخاذ القرارات. فهو يقدم ويحجم ولا يدخل الا حيث يعرف ان له مخرجا. بناء على استراتيجية الكر والفر هذه دعونا نعود الى مسار حركيته الفردية. يقول الاصفهاني:

" كان عنترة قبل ان يدعيه ابوه حرشت عليه امرأة ابيه وقالت انه يراودني عن نفسي, فغضب من ذلك غضبا شديدا وضربه ضربا مبرحا, وضربه بالسيف, فوقعت عليه امرأة ابيه وكفته عنه. فلما رأت ما به من جراح بكت وكان اسمها سمية فقال عنترة:

أمن سمية دمع العين مذروف - لو ان ذا فيك قبل اليوم معروف

تجللتني اذ اهوى العصا قبلي - كأنها صنم يعتاد معكوف

العبد عبدكم والمال مالكم - فهل عذابك عني اليوم مصروف"

في هذه المرحلة من حياته نرى عنترة يتبنى استراتيجية الاحجام حين يرى الاحجام حزما, فهو لا يثور ولا يطالب بالحركية الفردية, لكن هذا تكتيك مؤقت طبعا, حيث نراه يستسلم بخنوع: "العبد عبدكم والمال مالكم". اما الفرصة التي تحينها عنترة لتحقيق الحركية واجتياز الحدود الى المجموعة الاقوى فانها مشهورة, لكن لا بأس بالتذكير بها من باب تسلسل الاحداث. فقد اغار بعض العرب على بني عبس, واحتاجه قومه في الحرب لكنه رفض المساهمة, وجرت المساومة التالية بينه وبين ابيه:

الاب: كر يا عنترة.

عنترة: العبد لا يحسن الكر, انما يحسن الحلاب والصر.

الاب: كر وانت حر.

عبر هذه العبارة الانجازية "كر وانت حر" التي قالها الاب خطا عنترة اولى خطواته نحو الحركية الفردية, وقد تأتى له ذلك عبر العاملين الانفي الذكر, واعني هنا تصور عنترة وضعه الراهن بانه غير ثابت ونفي شرعيته, وثانيا وجود ثغرة اجتماعية تمكنه من النفاذ الى المجموعة الاقوى والانضمام اليها, وهي الاعتراف بالهجناء اذا اثبتوا كفاءتهم, والكفاءة معرّفة هنا من حيث الحاجة الاجتماعية لهم دون غيرهم في مجال حيوي. فعبر مقوله عنترة واقراره الظاهري بان "العبد لا يحسن الكر, انما يحسن الحلاب والصر" نراه يشير لامزا الى عدم قبوله لوضعه الراهن. اما اجابة الاب فانها تشير الى فهمه للتلميح, وبالتالي لجوئه الى المادة الاستثنائية في الناموس الجاهلي والتي تتيح الاعتراف بالهجناء في حالات محددة. وهذا ما حدث. وشتان ما بين حوار المساومة هنا من منطلق القوة التي يملكها عنترة وبين موقفه الاضعف في "العبد عبكم والمال مالكم".

بناء على ما تقدم اقول - مع سبق الاصرار - بان عنترة بريء من الشعور بالنقص, بل لا داعي لان يشعر به اصلا, فهو ينجح نجاحا باهرا في تحسين وضعه وتجاوز موقعه الاجتماعي الدون, بل ودأب عنترة باستمرار على زيادة اسهمه الاجتماعية ليصبح البطل بال التعريف, حتى يقال ان عمرو بن معد يكرب قال (بناء على الاصفهاني): "ما أُبالي ما لقيت من فرسان العرب, ما لم يلقني حرّاها وهجيناها". ويعقّب الاصفهاني بقوله: "يعني بالحرّين عامر بن طفيل وعتيبة بن الحرث بن شهاب وبالعبدين عنترة والسليك بن السلكة". فعنترة مرهوب الجانب, او بمفاهيمنا الحالية, يعتبر من النخبة الاجتماعية. ويبدو ان عنترة لم يكتف بالفروسية والتضريب بالسيف كما يقال, انما ساهم في شن حرب نفسية وبث الدعاية الايديولوجية لمفاهيمه عبر شعره. فنراه يدافع عن حركيته الاجتماعية مجازا ايضا, وهذا برأيي يفسر اعتداده بنفسه وفخره, فهو في حرب دائمة مع الاخر الخارجي ليس من باب الشعور بالنقص - معاذ الله - انما من باب تثبيت اقدامه والخروج عن القولبات السلبية تجاه المجموعة الادنى اجتماعيا في ذلك الوقت, مجموعة السود والهجناء. فها هو يتبنى استراتيجية اخرى, عدا استراتيجية الحركية الفردية التي نجح فيها, الا وهي استراتيجية "التمايز الايجابي" (المذكورة آنفا) منافحا بها عن نفسه وعن افراد المجموعة التي ينتمي اليها (الهجناء السود). حيث نراه يعيد تعريف ابعاد المقارنة بين نفسه (وبالتالي مجموعته نظرا لانتمائه اليها) والمجموعة الخارجية (العرب الاحرار), وهذا يعيدنا الى البيتين اللذين اوردهما مارون عبود حول دفاع عنترة عن سواده:

يعيبون لوني بالسواد جهالة - ولولا سواد الليل ما طلع الفجر

تعيرني العدا بسواد جلدي - وبيض فعالي تمحو سوادي

فهنا يتلاعب عنترة بمفهوم السواد ويعيد تعريفه, ليحوّله من نقيصة سلبية بناء على معايير المجموعة الخارجية الى واقعة حياتية لا غنى عنها - لولا سواد الليل ما طلع الفجر. ثم يحوّل ابعاد المقارنة من البعد الجسدي الى البعد النفسي, فبدل الالتفات لسواد بشرته يدعو اعداءه للالتفات الى بياض اعماله وانجازاته.

واخيرا نراه ممعنا في الفخر حين يباهي في بيتين آخرين حتى الاحرار الصرحاء, ويفخر بانه رغم كونه هجينا الا انه افضل منهم, فهو لا يتحدث عن مجرد "تمايز ايجابي" متعادل, انما يتعداه الى التفضيل بعيد الاثر والذي يضعه فوق الجميع, حيث يقول مباهيا بنفسه انه رغم كونه نصف عبسي الا انه بطل يحمي الاخرين بسيفه, وعندما يحمى وطيس المعركة فانه يفوق الاحرار الصرحاء الذين ينتمون لبني عبس انتماء تاما بالنسب وليس بالفعال:

اني امرؤ من خير عبس منصبا - شطري واحمي سائري بالمنصل

واذا الكتيبة احجمت وتلاحظت - الفيت خيرا من معم مخول

قبل ان اختم هذا التعقيب بودي التوقف عند المقولة التي اوردها الاصفهاني ومارون عبود (ربما نقلا عنه) بان النبي (ص) قال: "ما ذكر لي شاعر واحببت ان اراه الا عنترة". حيث يعقب مارون عبود على هذا بقوله: "وهو يقصد بهذا القول ان عنترة عفيف القول وعفيف الفعل, لم ينزل عن المستوى العربي الرفيع وهو القائل:

واغض الطرف عن جارتي ان بدت لي - حتى يواري جارتي مأواها"

واجد تفسير مارون عبود طريفا, اذ ان الاصفهاني يورد المقولة في سياق آخر حيث يقول:

"انشد النبي (ص) قول عنترة:

ولقد أبيت على الطوى واظله - حتى انال به كريم المأكل

فقال صلى الله عليه وسلم ما وصف لي اعرابي قط فاحببت ان اراه الا عنترة".

وبرأي فان الرسول لم يتماه مع عنترة من باب عفة القول والفعل فقط كما يرى مارون عبود, فباعتقادي هناك قاسم مشترك بين عنترة والرسول اعمق واهم الا وهو الحركية الفردية, فهناك تماثل بين الاثنين عبر خروجهما على الوضع الاجتماعي الراهن وعدم الاستكانة الى ما هو سائد, اضافة الى ايجاد ثغرات لوضع قوانين جديدة للعبة الاجتماعية ونجاحهما في هذا الامر. فالرسول (ص) يجد في عنترة صدى نفسيا له, لانه مثله "بات على طوى" القوانين الجاهلية التي جعلت الغلبة والسيادة للاقوياء واصحاب النفوذ, وصبر على دونية وضعه الراهن الى ان اتيحت له فرصة الحركية الاجتماعية وبالتالي نيل "كريم المأكل" - اجتماعيا طبعا.

 

 

 

أرشيـف الموقـع

 

 

 

 

 

 

 

 

جماليـــات

إضــــــاءات

حــوارات مقـــــــالات تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

 

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.