ذ. محمد إدارغـة

في ضيافة محمد أسليم الباحث، المبدع والإنسان

نشرت هذه الدراسة / الشهادة، في الأصل، ضمن الملحق الثقافي الأسبوعي لجريدة الميثاق الوطني، يوم 9-10 دجنبر 2001.

 

الانفلات إلى داخل مدارات الكاتب محمد أسليم اخترق ثلاث مراحل مطردة رشمتها أزمة القراءة ببصمات وتقاسيم تغايرت فيها أشطان الانشداد والانشداه. في الأولى أتيته حيث هو، عبر أمداء إنجازاته الإبداعية المندلقة عبر أعمدة رحبة من صفحات الملاحق الثقافية مبدعا سيلا متدفقا من فضاءات السرد أو مترجما مباحث أو نصوصا من إنجاز بعض أعلام الثراء الثقافي الغربي، فانفلقت بتربة فراستي تباشير حدس جميل – وقد فطرت على فضول زائد بالنبش والسؤال – بطول يده في هذه المقامات، وما البسمة المنكتبة في الصورة التي ترافق مشوراته إلا تمحيص لهذه القراءة الحدسية ودعك لمرتكزات هذا الافتراض، بحكم قابليتها للتأويل المعقلن في مستويات شتى، وأهمها الانشراح والثقة في عتادة المؤهلات والاعتداد بالذات والإشراق الممر. بهذه الصفة تعرفت إلى الكاتب محمد أسليم وتشبعت بهواجسه المبثوثة عبر حلقات من كتبه الآتية:

ويزركش هذا التواصل في المرحلة الثانية بدفقات جديدة، صبها كرم الشاعر عبد الناصر لقاح في هذا المجرى، حيث كان لا يمانع أبدا في أن أبعثر نسقية رفوف مكتبته الزاخرة، وأن أتركه متأبطا ركاما من الكتب. وقد سألته مرة – وأنا المولع باستكشاف تضاريس حصاد الإبداع المغربي – أن يشير علي بما يستفز فضولي أو يشبع نهمي، فكان أن قام إلى ذخائره – غير متملص ولا متذمر – وأخرج منها كتابا معنونا بـ «حديث الجثة» للكاتب المغربي محمد أسليم.

ما أن بلغت منتهى الزقاق حتى دسست أنفي في صفحاته وطفقت ألتهم سطورها، وبهذا الفعل وضعت الحجر الأساس لمشروع قراءة جديدة في كتابات محمد أسليم، ورحلت رفقته في ملكوت الموت، أقص أثر خطواته المنسابة – بثبات وتبخثر – في مسالك هذا الانشغال، يغالب منيع تضاريسها المتحجرة، يفتق شرانقها، ينتفض من أرمدة محرقتها، يمسك بأطواق زئبقها، يطوع إقبالها وإدبارها، يفلسف شهوتها في التعملق والهيمنة، يتأمل في جبروت الموت وتربصاته القائظة... يمتح من نسغ واقعية الأشياء وتدفقاتها التجريدية.

عندما ختمت الكتاب، كنت قررت الاستزادة من نفس المرجعية، بغية اكتشاف أمداء أخرى من قارة محمد أسليم، وتأتى لي ركوب متن سفر جديد في رحاب «كتاب الفقدان: مذكرات شيزوفريني». وبعد قراءة أولى وانشباع بإملاءات فصوله لذ قلمي الانغراق في متاهات انشغالاته والتلفع بحالات جنونه المعقلن، فاختليت بدروبه ومساربه، أجني قطاف منحدراته وتشعبات طوفانه الفكري. وقد أدركت حينئذ أن السفر رفقة السارد محمد أسليم في عوالم كتاباته يقتضي التمنطق بعتاد خاص، ذلك أن قارئه ملزم – مهما كانت الوجهة – بالتملص من استقطابات التوليفات الاعتيادية، واختراق المدار الإنساني في اتجاه تصدعات الذات وانشراخات الإبداع الذي يراهن على الانفلات من قفص الأعراف. كان الارتحال في كينونة سردياته شاقا وممتعا في الوقت نفسه، وكانت الرغبة قائمة في محاولة تجميع خيوط تمكنني من حبك وحياكة مؤشرات «بورتريه» لمحمد أسليم الإنسان. تأرجحت التخيلات وترجحت التمثلات، وكدت أسلم بأن بنينة مشروعي الآتي من قبيل المستحيلات، بسبب زئبقية ضمير السارد ويسر انفلاته من عدسة الالتقاط، وكدت أن أصدف عن الأمر، لولا أن مباغثات الزمن رفقت بقلمي الحرون وقررت إخراجه من زوابع شطحاته، لما رسمت بيننا طريق اللقاء المباشر لتكمل المرحلة الثالثة.

كنت بالمقهى – كباقي الأيام العادية – أقرأ أو أكتب، لا أذكر جيدا. وأقبل الشاعر عساوي محمد المرجاني مرفوقا بالكاتب محمد أسليم الذي طرق أبواب الحي لغرض شخصي. لم يسمح المقام المتعجل بالإطناب والإفاضة وتفريع مسالك الخطاب. باقتضاب شديد عبرت عن تقديري غير المشروط إزاء ما يكتب، وانفضت هذه المقامة الشخصية لفائدة إخراج سيناريو البحث عن مسكن، بغية القبض على ذوائب فضاء وتحصيل شروط الاستقرار أولا. وبعدما اكتمل نصابه جزئيا، اقتحمت والشاعر عساوي محمد المرجاني فضاء مكتبته. ألقيناه غارقا في ركاماتها الهائلة، منغلقا في تنسيق رفوفها، لبقا في ثأثيث لوحاته. استشعرنا نحن الزائرين أطياف حرج وإحراج ورغبنا في الرحيل فورا، غير أنه أصر على بقائنا واستفرغ نفسه زمنا للمجالسة والإكرام والإمتاع. ويتكرر هذا التقطيع المشهدي كثيرا، ويتمسك محمد أسليم الإنسان بالمواصفات نفسها، خلاف هذا محمد أسليم الكاتب والباحث، وهذا ما أود تركيبه في خطاطة هذه الشهادة.

محمد أسليم في مكتبته / مكتبـه

عندما ولجت مداره الكتابي ف يالزيارة رقم اثنين، وقبل تفتيق عتبة أي مسلك حواري، قام محمد أسليم إلى زوايا مكتبته العامرة بصنوف الإبداع والفكر، ثم جلس إلى مكتبه يوقع لفائدتي نسخا من جميع إصداراته بما فيها نسخة من «كتاب الفقدان»، علما أنني – وقبل التعارف المباشر – كنت منشغلا بمقاربة نقدية للرواية نفسها، تحت عنوان: «انشراخ الكتابة والذات في كتاب الفقدان»، انطلاقا من نسخة مستعارة من الشاعر عبد الناصر لقاح. حضنت عطاءه الرائق شاكرا مبادرته الرائعة، ثم رخصت لنفسي إطفاء بعض جمرات شدهي بفيض ممتلكات مكتبته. قيدت عناوين نادرة وأضمرتها في جدار ذاكرتي. في قرارة نفسي غبطته على هذا الوشاح الثر المسبوك بقوة من الحضور الفعلي للكتاب، وهمست: – هنيئا مريئا لك بهذا الدفق العذب الزلال. رأيت هذا الفضاء الكتبي ينبوعا دافقا بجداول شتى من الإبداع وأطباق المعرفة، منسكبة متدفقة مزدوجة التعبير: عربية وفرنسية، تتعايش في ربوعها ورحابها أعلام من الشرق والغرب، من طيات الأمس وتبرعمات الحاضر: مباحث في الفلسفة، علم النفس، السوسيولوجيا، الأنثروبولوجيا، كتب في التفسير، والتاريخ، والعلم، والسحر، والتداوي بالأعشاب، وإبداعات قزحية الأبعاد: مسرح، قصة قصيرة، شعر، رواية، و... أسفار، مجلدات ومجلدات و...

محمد أسليم يرقص على إيقاعات الكتابـة

عند الاحتفاء بقراءة رباعية لروابته «كتاب الفقدان» و(شهادة عبد النبي دشين) فبراير 1998 بمكناس، سجلت بعض الأصوات المتهمة أن الكاتب محمد أسليم غزير الإنتاج، فقد كان زمنئذ يمتلك سبعة أسهم من رأسمال المكتبة المغربية، تتأرجح بين الموضوع (حديث الجثة، كتاب الفقدان، وسفر المأثورات) والمترجم (الفرنكوفونية والتعريب وتدريس اللغات الأجنبية في المغرب، أبحاث في السحر، اللغة والسلطة والمجتمع في المغرب العربي، ولغة العلاج والنسيان. دراسات في ألف ليلة وليلة وقضية «الآيات الشيطانية»). وقد رأى المحتفى به أن الرقم المؤشر عليه لا يفيد غزارة بالمعنى المتداول، بقدر ما هو إصرار وتشبع بجدوى الاستمرار والمواظبة على فعل الكتابة والإبداع، هذا الفعل الإجرائي الذي لا يمكن أن يفوت أي زائر تقييده، فهو – في معظم الأحوال – جالس إلى الكمبيوتر، يرسم العتبارت الأولى لنص آت، أو يعالج مخاض مبحث جنيني في طور التكوين، أو يراجع مشروع ترجمة في اتجاه التبلور والاكتمال، أو...، لكنه – بطبعه صموت يشمئز من فضح مخبوءات أشرطة الغميسة – ولا يهتك حجبا إلا أمام فضولي ملحاح. وما دُمت على هذه الصفة، فقد تأتى لأسئلتي الطفيلية – مرات – أن تخترق جدرات سكوته فأعاين عن قرب جزئين ضخمين من مبحث رسالته للدكتوراه الوطنية (السحر في المغرب الراهن) والنسخة المزيدة والمكنقحة من «ابحاث في السحر»، و«هوامش في السحر»، ونص سردي تحت عنوان مؤقت «قربانيات»، وأخرى مترجمة، وكتابا في «اللغة والسحر»، ونصا مسرحيا مطولا يعانق نفس انشغالات «سفر المأثورات»، كما عاينتُ اشتغاله على تعريب حوار – سيناريو لفيلم مغرب يقيد الإنجاز... ورغم حصاد هذه الجولة في أرشيف كتاباته المعدة للنشر، فإنني أعترف أن شرنقة محمد أسليم تظل مستعصية على البوح المطلق، وعسى أن تسعفني الأيام القبلة في الانفلات إلى بقية دفائنه الثرية المذرارة.

محمد أسليم «العشـاب» و«السـاحر»

ليس الرجل من شيء على هاتين الصفتين، بالمعنى التداولي. فلن تجد حانوتا – في أي موقع – يعلن لزواره الكرام أنه لصاحبه محمد أسليم يتعاطى فيه امتصص أموال المستضعفين ويقايضهم بالوصفات ويرأس فيه زمرة مستخدمين. ولن تجد شبيها له ينصب فيه الرجل نفسه ساحرا كذابا منافقا مبرقا. فهو أبعد عن النعتين معا وعما يجاورهما مما ترسب في أذهان المغفلين والعوام.

إنما هو «عشاب» بالمعنى العلمي الصرف، قارئ جيد للتآليف التي صنفها أهل المشرق والمغرب، من القدماء والمحدثين، وباللغتين العربية والفرنسية، ناقدا لمتونها، مقارنا بين وصفاتها، حافظ لأرصدة معجمها «التقني» وما يقابله في اللسان المغربي الدارج، سريع البديهة في الإحالة والنصح، قابضا بقوة على القوائم والمقادير وحالات التعاطي، مدمنا على عيادة دكاكين العشابين، لاقتناء عينات من الأعشاب، متعاط لما يجدي منها في علاج بعض الأعراض الطارئة، مستشار نصوح لمن يستفتيه. وقد استدرجته في هذا الانجذاب إلى تجميع ما يناهز 250 وصفة شكلت نواة لتصنيف آخر من نفس العيار، والتفكير في تبويب هذه التآليف وفق خطاطة تيسر أمر الاستئناس بهذه الكتب – غير الصفراء – والتي تؤشر صفحاتها على دراية مؤلفيها التامة بمستجدات البحوث العلمية الجامعية الغربية في أسرار الأعشاب، وبحكم هذا الانشغال، فلا تشده إذا ما أبصرت بحسن الجوار – أطوارا – بين كتب مكتبته عينات عشبية معلبة.

وهو «ساحر» بحثا وتنقيبا في طقوس وطلاسم وأعراف ومتاهات هذه العادة الشائنة. فبصدد السحر، أنجز بحثه الميداني الضخم الذي خول له إحراز الشهادة المذكورة أعلاه من فرنسا عام 1990، وترجم في شأنه عدة مباحث غربية نشرها في كتاب «أبحاث في السحر» في طبعته الأولى، والذي هو قيد الطبع في صيغة مزيدة مطعمة بمستجدات مبحثية أخرى، والذي قد يغادر دواليب المطبعة مرفقا بكتاب مواز سماه «هوامش في السحر». والمؤكد أن هذه التسمية لازالت تمسك بأطواق الباحث الأنثروبولوجي محمد أسليم بدليل مواظبته المطردة على الحفر في تضاريس السحر وتجميع مواده والنظر المستمر في تشعباته وظواهره وفروعه وأنساقه ومقارباته النقدية للكتب التي صدرت في دوائر (مثلا كتاب نادية بلحاج «التطبيب والسحر في المغرب»، ود. سامية أسعد الساعاتي «السحر والمجتمع. دراسة نظرية وبحث ميداني».

محمد أسليم «العشـاب» و«السـاحر»

يمكنك ـن تجالسه في جميع حالاته، وأن تطمئن إلى مواعيده، وأن تشاكسه في كل اهتماماته وانشغالاته، وأن تصارحه في عارض القيل والقال وأنت جليسه بالمقهى. لا تنتظر منه سورة غضب وانفعال، فهو رجل «رياضي» بالمعنى العام، يحسن الإنصات إلى مآخذك مهما ضعفت مرجعياتها، ويخمد شعلات عتابك بالرد الجميل، وإذا ظن يوما أنك أسأت تأويل أقواله، فإنه لا يجد حرجا في الاعتذار عن «زلاته» البريئة.

في المقهى، نادرا ما يشطح محمد أسليم في أمداء القول، فهو غالبا صموت شارد الذهن في أحوال لا تدريها، ويبقى عليك أن تستفزه، أن تدعوه بلباقة إلى دروب الحديث الذي تود الخوض فيه، أن تشركه في ملء خانات شبكة تقاطعت كلماتها، أن ترحل به في متاهات جد القول أو لغوه.

في المقهى، محمد أسليم عجول الإكرام رفقاء منضدة جلوسه، يسابق غيره في أداء حصيلة المشروبات بدعوى حاجته إلى الصرف قبل الانصراف.

محمد أسليم في ميزان النقـد

لا أبغي هنا وضع محمد أسليم الإنسان في ميزان القيم والأخلاق، فقد أشرت على بعضها في مقام فائت، وإنما أريد تلقيات كتاباته. فإذا كان البعض يرخي لنفسه العنان «شفويا» ويصفها بالغزارة والانهمار المتدفق، فإنني – وانطلاقا مما قيدته سابقا – أرى أن مقدارها يتوافق مع ما عرفته عنه من استمرار ومواظبة، بل إن المنطق يقتضي أن يحقق تراكما أقوى. وقد حظيت مترجماته وكتاباته الإبداعية بتقدير الأقلام المتابعة والنقد، وأخص بالذكر «كتاب الفقدان» الذي احتفى به في فضاء القراءة بمكتبة الكرامة بمشاركة الحسن احمامة وعبد النبي دشين، وفي مندوبية وزارة الثقافة بمدينة مكناس، بمشاركة محمد أمنصور، لحسن احمامة، عبد الله صالح سفيان، وكاتب هذه السطور، وعبد النبي دشين، وحضور مكثف للمثقفين المهتمين، ونصوصه السردية «حديث الجثة»، هذا الإبداع المتميز الذي فرض ثراءه على أقلام عديدة فقاربته في عدة مستويات ومن زوايا مختلفة، والتي تراكمت إلى حد أن بعضها فقط شكل متن كتاب من حجم 142 صفحة، تحت عنوان «الكتابة والموت. دراسات في حديث الجثة»، وسفر المأثورات الذي لازال يستدرج مقاربات إضافية أخرى، ناهيك عن متابعات في شأن باقي كتاباته.

 

 

صفحة الحوارات والشهادات

محمد إدارغـة

 

 

 

في ضسافة محمد أسليم الباحث، المبدع والإنسان

المحتــوى

شهادات حول محمد أسليم

 

محمد أمنصـور: محمد أسليم الخارج من الصف أبدا

  في ضيافة محمد أسليم الباحث، المبدع والإنسان

حوارات مع محمد أسليـم

  لا أعتقد أنني كاتب (حوار أحمد المسيح)

إني لأتمزق حسرة على الكتب التي فاتني تأليفها (حوار محمد إدارغة)

في ما هية السحـر ووجوده أو عدمه (حوار عادل الحربي)

المثقف لا يكون على درجة عالية من التعليم بالضرورة

السحر موجود بالنسبة لمن يزاولونه (حوار: مصطفى واعراب)

حوارات أجراها محمد أسليــم

الحوار مع المغاربة يعزيني كثيرا (حوار مع الروائي الفرنسي كلود أولييه)

(حوار مع الناقدة الفرنسية ماري صاكوط)

 
 
 

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.