د. عبير سلامـة

نهاية الطريق ([1])

 

«رحت أتطلع إلى الطريق الطويل خافق القلب مبهور الأنفاس. كان كأنما قد اقتطع من جنات النعيم: الأشجار الضخمة الوارفة تحرسه وتباركه بظلالها وكأنها شياطين ضخمة استأنسها بهدوئه وسلامه فأتت تحن إليه بل وانقلبت عطوفة ودودة تحنو عليه فى رفق ولين. وكان الهواء يهب ناعما رقيقا فيداعب الشياطين الضخمة، ويهمس فى حنان إلى الطريق الطويل وهنا وهناك انتشرت المزارع الخضراء الواسعة.. يتمايل زرعها مع النسيم، وتخطر أزهارها فوق بساط الريح، وتتثنى أعوادها على خطى الأزهار وتمايل الزروع.

وسرت... سعيدا مهفهفا كالأزهار، ناعم الفؤاد كالنسيم، مرتاح الخاطر كالشياطين الراقدة على جانبى الطريق، سرت وكأننى عود من الأعواد يدب على الطريق... عود فيه حياة الربيع وخضرة آذار... فنسيت الأحراش الوعرة، نسيت الرجفة والضعف التى أفلتتها قواى حينما عانيت الوحدة بعيدا.. بعيدا فى الأدغال. كنت أرى هذا السبيل المعبد أمامى وعلى مرمى البصر منى طيلة هذا الضلال فى الأحراش ولكنى حسبته سرابا خادعا أو زوالا خطر لعينى التى أنهكها طول التحديق. وما كان أحكمنى حينما عن لى أن أتحقق من السراب، وأقبض بيدى على الزوال - إن كان هناك زوال. وحينما اقتربت واقتربت لم أشعر بنفسى إلا وأنا فى وسطه ساعيا جهدى للمضى فيه وقد سحرتنى أشجاره ونسائمه وأزهاره، وزروعه.

فسرت... سرت وكأنى أحيا بهذا السير، وأعيش من هذا السعى، وأطرح حياتى على هدوء الطريق حتى رأيت إنسانا بائسا بعثرت إنسانيته الأقدار يركن إلى جذع من الجذوع الضخمة. كان بائسا كالشجرة الهزيلة تنبت فى بيداء جدبة... وكان مريضا كأنه المرض نفسه قد انتابته نوبة يتيمة من العافية... وكان جائعا وكأنه ما تناول طعاما بعدما وضعته أمه على حافة الطريق الطويل وكان فى نظرته معنى عميق حزين... كأنه يود أن يقول.. أعطونى يا رفاق حتى أدب معكم فى الطريق.. أنا الذى ضل فى زحمتكم وصرع تحت أرجلكم القاسية. وعز على أن يعكر صفو هذه اللوحة العاطرة ذلك المريض البائس الذى لا يمد يده إلى مال أو طعام بقدر ما يمدها إلى إنسانية... قليل من الإنسانية التى أضاعها منه الفارون. فقاسمته إنسانيتى ومالى وطعامى.

ثم ابتلعنى الدرب الساحر وكنت كلما أوغلت فى السير تتقاطر على وفود القادمين... كلهم مثلى يسرع إلى الزوال الذى أفتقده... وكلهم مثلى مبهور الأنفاس مما يراه... وكلهم مثلى يسعى جهده للمضى فيه وقد سحرته أشجاره ونسائمه وزروعه. ولمحت فى زحمة الخلق صديقى... صديقى الذى سرنى أنه قد عثر مثلى على الجنة التى أنا فيها.. فناديته فلم يسمع وصرخت فيه فضاعت صرختى فى الضجة التى تثيرها الأرجل الساعية والأفواه المهمهمة. فأسرعت خطاى حتى بلغته بعد لأى وبعد أن رمقنى هذا بنظرة عاتبة لنى سبقته ورمانى ذاك بأخرى ملتهبة لأنى كتفى قد حف بكتفه. وسعد صديقى بلقائى وخيل إلينا أننا لسنا فى صحوة بل فى حلم غريب... ولكنه لم يكن حلما وإنما كان حقيقة راضية كهذا النسيم، وصدقا مطمئنا كالجذوع الضخمة القابعة فى سكون، غير أن سعادتنا لم تدم طويلا... والبهجة التى عشنا فيها مضت عنا ساخرة شامتة، إذ سرعان ما فرقتنا الأكتاف المتدافعة، وأبعدتنا الأرجل الثقيلة الساعية. وتلفت حولى فإذا بى وحيد مرة أخرى ليس معى إلا الطريق والناس ولا تظللنى إلا السماء العميقة الصافية.

وانطلقت ردحا مع المنطلقين حتى خيل إلى أنى مثلهم لا أبغى إلا الانطلاق ولا شيء غيره.. حتى الزهور والأعواد والزروع والسماء والأشجار بدأت أراها وكأنها قد تلاشت من أمامى فلم أعد أرى إلا السبيل وقد استقام ولم أعد ألمح إلا الناس وقد اندفعوا فى سيرهم الحثيث.

غير أن واحدا من هؤلاء قد استرعى انتباهى بجسده الفارع المكتنز، وبشرته التى ما طالعتها الشمس إلا بيضاء ناصعة، وبطنه وقد تكور وبرز، وملابسه الثمينة الأنيقة، ونظرته التى يفيض منها الرضا ويسيل النعيم. وكان بين الفينة والأخرى يحرك يده فيشع - فى ضوء الشمس - ما قد أحاط بمعصمه وأصابعه من ذهب... يشع بنور وهاج يخطف أبصار الكثير من الدابين. تمنيت أن أكون هذا السيد الفارع... وحتى تمنيت أن تكون لى بطنه المتكورة البارزة... ولكن تلاشت أمانى معه حين حجبته عنى الأكتاف المتلاصقة والرجل الثقيلة الساعية. وشيئا فشيئا.. بدأت خواطرى تتحول واهتمامى يتركز على البحر المتلاطم الأمواج الذى يزحف فوق الطريق.. وبدأت أتلهى عن السير بالنظر إلى هذا والتطلع إلى ذاك. كنت كالذى يجبر على السير فى جنازة لا تهمه وهو أدرى بما ستنتهى إليه... وبما سينتهى إليه كل المشيعون فراح يرمق الخلق الغفير. ولمحت بين الأرجل الثقيلة ساقين جميلتين... ساقين كأنهما الرحيق الدافيء... ولكنهما تسعيان أيضا... مع ساقين أخريين ثقيلتين هذه المرة.

زوج وزوجة اندمج جسداهما ومضيا معا يحفهما الماضون.. رأيت السعادة تتبادلها عيونهما، والبسمة تفتر عن ثغريهما معا. وكأنها ثغر واحد وبسمة واحدة.. وكانت الزوجة تحمل طفلا. ثمرة جميلة من ثمار البسمات السعيدة... كان يناضل مناضلة العاجز الصغير وأبواه يتقبلان مشاكسته البريئة فى غبطة وهناء، ويجازيانه عليها بقبلات خاطفة عذبة..

وشعرت أن شيئا فى نفسى ينبض.. شيئا فى نفسى تنطلق فيه الحياة بعد موت بارد. شعرت برغبة يحركها منظر الأسرة السعيدة أمامى... الرغبة التى ماتت قبل أن توجد فى نفسى... ثم هاهى ذى تريد الحياة.. تريد أن تجعل منى زوجا كهذا الزوج، وأبا كهذا الأب بل حتى تدفعنى بعيدا... فى غياهب الماضى لأرى نفسى طفلا كهذا الطفل. وتآمرت على عقلى السعادة التى تدور بين الوجوه السعيدة والرغبة التى أحياها صدق ما يدور أمامى.. فأغمضت عينى وأنا أتصنع الإغفاء لأترك للخدر اللذيذ أن يعترينى وأنا أشهد الصراع بين الرغبة التى طال عليها الموت والعقل الذى طالت به الحياة. ولكن عندما فتحت عينى ووجدت المورد الحى الذى كان يغذى رغبتى قد نضب معينه باختفاء أصحابه رحت أضيق مرة أخرى بالقيد الغليظ الذى ربطت إليه... رحت أضيق بعقلى... عقلى الذى قتل الرغبة قبل أن تستنشق النور ولم يكن موتها هو كل شيء بل كانت الشمعة المضيئة التى أنارها جسدى حدادا عليها كافية لأن ترينى الوحدة التى تلفنى وتلف أمثالى فى الطريق.. الوحدة التى ما شعرت بها قط لأننى كنت أعيش داخل نفسى... كانت حياتى كلها بملاذها وأتراحها داخل الحصن الحصين... داخل جسدى.. وما كنت أتخيل قطرة واحدة من قطرات السعادة أريدها ولا تكون فى القلعة الزاخرة بكل شيء. فلما عرفت على ضوء الشمعة الضئيل أن هناك روافد تجرى بالسعادة وتتلوى بالأمل خارج نفسى أدركت الخدعة الكبرى: أنى وحيد... وحيد محاصر فى قلعة عتيقة بالية. عزت على وحدتى، وعزت على نفسى، واعترانى - وأنا الذى بدأت الطريق سعيدا مهفهفا - حزن غامر، وأشحت بوجهى عن كثير من آيات السعادة... من آيات الحب والحنان التى كانت تجرى أمامى. ورحت بدافع لا شعورى أركز نظراتى على الوحيدين من أمثالى فراعنى شيخ مهيب وقور قد ابيض شعر رأسه، وجار البياض على لحيته، وبصمت السنون على وجهه بأصابعها الطويلة القاسية فتركته مجعدا ولكن فى جلال... مغضنا ولكن فى وقار. وكان يحمل مسبحة لم تشذ عن وقاره، وراح يحرك يديه الكليلتين فى بطء وتثاقل وهو يتمتم بينه وبين نفسه بما لم أكن أسمعه أو منعنى من الإصغاء إليه ضجة الساعين. وقادنى شعورى بانى وحيد إلى قرار ليس لى منه مهرب... إن الشيخ وحيد أيضا ولكنه عجوز... نفسى أنا أو نفوس الوحيدين من أمثالى وقد قاربت نهايتها... بقايا أرواحها الطيبة وتراتيلها الخالدة فى قلاع نفسها البالية. وتوسمت فى بسمته القانعة سعادتى - وسعادتهم - حين يمضى بها العمر وتتكاثر عليها الأيام... ولكن... خطواتى الفتية كانت أقوى من أن يحتملها خطوه الواهن، وسرعان ما تركته ورائى... وحيدا كما ألفيته، وكأننى أنفض عنى كبرى وعجزى ونهايتى.

وشيئا فشيئا بدأت دائرة بصرى تتسع وتشمل الطريق وما حوله وكأننى أريد أن أجد عزاء عن وحدتى، ومهربا منها. وتخطت عيناى الأشجار الضخمة، وعبرت المزارع التى على جانبى الطريق، وراحت تناضل الأفق... وانتهى النضال إلى شبح لنهر يكاد يكون قريبا. وعجبت كيف لم أره قبل ذلك. ولكن عجبى زال حينما عرفت أن الطريق وما فيه ومن فيه كان مستحوذا على لبى ولب ما فيه من جموع. وترددت هنيهة بين الطريق وبين.. الشبح الواهى للنهر. ولم يطل ترددى، إذ سرعان ما وجدت نفسى، أندفع فى طريق النهر، متجها إلى الأفق باحثا وراء المجهول. وتركت الناس يمضون، والأكتاف تتدافع، والأرجل الثقيلة تسعى واخترقت المزارع الخضراء، ووقفت أرقب النهر فسحرتنى مياهه... المياه الشفافة الملساء وكأنها أنفاس حور العين... وغرقت فى خضم من أفكار كانت متضاربة متشابكة ولكنها ما لبثت أن صفيت وشفت حتى دانت أنفاس حور العين. ثم بدأت نظراتى تتردد فى شيء يشبه الرهبة بين النهر وشاطئيه، وعجبت حينما رأيت هنا وهناك قوما يطرحون شباكهم وآخرين يمتطون زوارقهم وفريقا ثالثا قنع بشص قد أمسك به..

كانوا يصيدون، وكانوا منهمكين فى صيدهم وقد استغرقهم نهرهم فلم يعبأوا بما حولهم أو كانوا يعتبرون أن لا شيء حولهم. بل هم فى بسماتهم الهنيئة حين تخرج شباكهم وقد اكتظت بالأمل الموعود... أو العبسة الساخطة حين يجذب الواحد منهم شصه فلا يعلق به عالق... هم فى صبرهم على كل ذلك وأناتهم يخضعون لراع كبير يبسط جناحيه عليهم وعلى النهر... يخضعون للهدوء.

وبرمت نفسى مرة بهؤلاء. هؤلاء الذين تركوا الأكتاف والأرجل ثم جاءوا هنا يقضون الأحقاب فى انتظار الأمل.. ويحدقون فى النهر ويجترون مياهه.. ثم يخضعون لهذا الراعى البغيض... راعى الهدوء. ولكن نفسى التى تسعى دائما وراء المجهول أبت إلا أن تقف على أمر هؤلاء الصائدين فى الماء الشفاف فتركت موقفى وانتهيت إلى واحد منهم قد جلس إلى الشاطيء ثم أرخى لشصه العنان. وأقرأته السلام، ولكنه كان مستغرقا فى شصه وفى الصيد الثمين الذى بدأ يداعب طعمه، فظللت واقفا بجانبه... أرقب الأمل الموعود. وجذب شصه فخرج الأمل... أمل نابض حى وانتهزت الفرحة التى غمرته وأقرأته السلام مرة أخرى فابتسم لى مجيبا ثم قال: من أنت؟ فقلت: أنا قد كنت - إلى ساعة مضت - إنسانا يزحف فى الطريق مع الزاحفين.

فابتسم مرة أخرى وقال: وماذا جاء بك؟ فقلت:

- دائرة بصرى حين اتسعت فرأيت النهر، وحين اتسعت مرة أخرى فرأيتك ورأيت الصائدين.

- وهل أعجبك النهر ومن على جانبيه؟

- لا ولكنهم يثيرون فى نفسى شيئا.

- يثيرون ماذا؟

- أأقول الهدوء؟... لست أدرى.

- إذن دعنا لسؤال سهل: أكان إعجابك بالنهر أكثر أم بالطريق؟

- بالطريق طبعا لأنى سرت فيه واستنفدت ما فيه من لذة... وكذلك ما فيه من ألم.

- ولكنك لم تعرف النهر بعد؟

- أظننى قد عرفته.

- لا يا صديقى... بل خيل إليك أنك عرفته.

- وما الفارق؟!

- هو الفرق بين القمة والسهول... بين صفحة المياه والأعماق.

- ولكن ماء النهر صاف شفاف... وأنا أرى أعماقه.

- أو يخيل إليك أنك ترى قراره.

- أليس ما أرى هو القرار إذن؟

- ليس له من قرار يا صديقى الطيب!

- إنك تتهمنى بالخيال فى نظرتى.. وأنا بدورى أتهمك بالتعمق أكثر من اللازم فى نظرتك. أنا أرى القرار واضحا وأنت تراه عميقا.. عميقا إلى حد العدم.

- ومن منا تظنه المصيب؟

- الحقيقة هى المصيبة دائما.

- وأين الحقيقة؟

- أو تهمك؟

فابتسم ولم يجب، ولكنها كانت تهمنى أنا.. كان يهمنى أن أثبت لهذا المسفسط الذى جلس على حافة النهر خائفا مرتعشا من أعماقه. أثبت أنى أكثر منه خبرة - وقد قطعت الطريق الطويل - فاعتزمت أمرا.. أن أخوض النهر وأقف على قراره، ثم أرسل بضحكة متشفية للجالس الخائف. وخلعت ملابسى، وذهل صاحبى حين قذفت بنفسى إلى الماء الصافى الشفاف. ومددت رجلى بأقصى ما أستطيع لتعثر على القرار.. وعثرت عليه. ولكنه كان أيضا.. من الماء الشفاف ورحت أهوى.. أهوى إلى الأعماق ولكننى هويت وهويت حتى ضاق صدرى وأنا لا أحس بقرار.. بأى قرار.

وتزعزعت الحياة فى جسدى ولكننى تشبثت بالحياة التى كانت تعوى فى جسدى عواء الذئاب أنهكها طول الجوع والظلام ورحت أناضل لأفر من الأعماق.. لأفر من حتفى. أخيرا عثرت على الشاطيء بعد أن رأيت أن موتى كان أقرب إلى من هذا القرار، ولكن كنت قد شريت برغمى - ماء كثيرا من ماء النهر وارتديت ملابسى ورحت ألعن المجهول، نفسى التى تسعى دائما وراء شيء كاد يرينى حتفى وهو الجالس الآن يرمقنى بابتسامة محيرة ولكن فيها كثيرا من الرثاء.

وأدرت ظهرى للنهر والصائدين والأفق البعيد واتجهت إلى الطريق الذى غادرته فى ساعة تردد ملعونة هى الأخرى.وساعتها شعرت بإحساس عجيب جديد. شعرت بطارق مجهول يدلف إلى قلعتى الحصينة من ظلام الأعماق.أيكون مبعثه الماء الصافى الذى شربته برغمى؟!

* * *

رحت أتطلع إلى الطريق الطويل خافق القلب مبهور الأنفاس.. كان كأنما قد قد من الجحيم وصنعت أحجاره من قلوب الزنادقة.. وكان لا ينمو على جانبيه إلا القتاد والشوك. وكان الجو باردا برود الموت، تصفر فيه الرياح بأنغام بشعة مقبضة. وترامت هنا وهناك صحراء جافة قاحلة، لا زهر فيها ولا زرع ولا أعواد فيها ولا براعم.. وإنما ذرات من الرمال والغبار ترقد فى سكون كأنها العدم، وإذا حركتها الرياح المصفرة فإنما تقلب أشلاء ميتة نتنة، وخيل إلى أنى ضللت السبيل، ولكننى رميت ببصرى بعيدا فلم أجد طريقا غير هذا الطريق.. ولا حياة فى تلك البقعة غير ما أمامى من معالم الحياة.

أهذا هو الطريق الذى بدأت به رحلتى؟ أيكون قد أسكرنى الماء الذى شربته برغمى؟

ومع ما شعرت به من تغير مفاجيء طاغ، سرت حزينا كاسف البال كالقتاد، ميت الفؤاد كذرات العدم، جامد الخاطر كالحجارة التى صنع منها الطريق.. سرت وكأننى نغم بشع مقبض من أنغام الرياح بل سرت كأننى أفنى فى الطريق. ورأيت إنسانا يرقد على كومة من القتاد.. كان يمد يده فى سؤال، وفى أعماقه كانت ترقد أشياء وأشياء. كلن يختفى فى ملابسه الرثة ووراء طلعته جسد قوى، ولم يكن جائعا ولا مريضا.. بل فى نظرته معنى.. معنى قاسيا متحجرا.. المعنى الذى يدفع بالجراثيم إلى جسد السليم فتعيش على حسابه وتطعم من دمه لتصنع لها هى حياة فيها موته. كان يود أن يقول أيتها الخنازير القذرة ألا ترون يدى الممدودة؟.. أما كفاكم أنى أصطنع الضعف والجوع والفقر لتهبونى القوة والطعام والمال!

ومر بجانبى إنسان آخر.. رأى البائس وقد ركن إلى جذع شجرة فمد يده وأعطاه شيئا وهو حريص على أن يرى يده كل المارين ليدركوا أنه إنسان يستثيره أمثال هؤلاء من البائسين. فرمقه هذا بنظرة تقول:

ما أغفلك!... وما أبرعنى!

وابتسمت للمسرحية الحقيقية التى دارت بين السائل والمسئول ثم ابتلعنى الدرب.. وكنت كلما أوغلت فى السير تتقاطر على وفود القادمين.. كلهم مثلى يسعى للزوال الذى أفتقده.. كلهم مثلما كنت يبذل جهده للمضى فيه وقد سرته أشجاره ونسائمه وزروعه ولمحت فى زحمة الخلق صديقى.. فناضلت حتى أمسكت بذراعه.. وهممت بأن أقول له شيئا ولكن نظرته جمدت الكلمات على شفتى. إذ من وراء البسمة التى طلى بها وجهه طالعنى لهيب ما يختزنه فى جعبته العميقة واستطعت أن أرى فى اللهيب ضيقه وتبرمه. استطعت أن أعرف ما كان يود أن يقوله لولا البسمة التى أسرعت إلى وجهه.. كان يود أن يقول: لم تضايقنى يا هذا... لم تقتطع منى وقتا كان الأولى أن أنفقه فى السعى الحثيث.. أنا ضيق بك وبصداقتك وما عرفتك إلا لأنى احتجت إليك يوما.. وقد انقضت حاجتى منك فما حاجتى إليك. وشعرت أنه يود أن يقطع يدى.. يدى التى كانت تؤلم ذراعه حينذاك. فتركت ذراعه.. وأنا أسرع الخطى حتى لا أقرأ الكثير فى أعماقه.. فقد اكتفيت بشرر اللهب فما حاجتى إلى النار.

واصطدمت فى إسراعى بالسيد الفارع المكتنز فابتسم لى معتذرا.. وعجبت كيف تنقلب اللعنات التى يصبها من جوفه بسمات على وجهه بمثل هذه السهولة وتلك السرعة ولكن عجبى زال حين راحت نظراتى تعبث بما يحتويه بين ضلوعه.. تعبث بالقذارة الحديثة فى هذه المباءة المظلمة.. تعبث بشعور الغبطة والبهجة التى تكومت فى ركن من أركانه.. الغبطة والبهجة لأنه استطاع اليوم أن يأخذ اللقمة التى كانت فى طريقها إلى بطن خاو من بطون عبيده.. ليحيلها إلى الملابس الثمينة والذهب الذى يحيط بمعصمه وأصابعه.. ثم يرمق القطيع الذى يمضى حوله وتناديهم خواطره: تعالوا وانظروا إلى أنا السيد الذى يرتدى الغالى ولم تصافح بشرته الشمس.. تعالوا اركعوا تحت أقدامى ثم ارفعونى على أعناقكم حتى يرانى سيدا من لم يرانى.. ويركع تحت أقدامى من مر غير آبه بحذائى.

فنظرت إليه - غير راكع - ثم إلى حذائه ولم أشعر بفارق كبير فى النظر إليهما. وانطلقت.

* * *

سرت حتى لمحت بين الأرجل الثقيلة ساقين ناعمتين تقولان أترى أيها الأبله جمالى؟.. ألا تأتى لتزيد فتنتى اشتعالا. وبجانبها ساقان أخريان ثقيلتان هذه المرة تقولان: ارجع أيها الأبله.. لقد كلفتنى الأرجل الناعمة كثيرا أو.. تعالى إن كنت حقا ممتليء الجيوب.. زوج وزوجة قد تلاصقا ومضيا مع الساعين.. وما كان أوسع ما بينهما من هوة وإن تقاربت وجوههما وتشابكت أيديهما. الزوجة ترمق بعلها شذرا وتتمنى لو مات حتى تظفر بثروته.. وتصبح الحرة الطليقة التى تمرح كيفما تشاء.. وتنظر بعينها أنى تريد.. بدلا من الومضات الخاطفة التى ترمق بها الشباب الفائر من الغادين. والزوج يتساءل: أحقا هذا الذى تحملينه هو ابنى.. أم ابن شريكى الذى أرسلتك إليه - لأمر ما - فى ليلة ظلماء.حتى الطفل الصغير كان يشاكس ويناضل عله يستطيع أن يتخلص من الذراع التى التفت حوله، والقبلات الكاذبة التى كان يغمره بها أبوه والتى كانت فى حقيقتها تئن كم سترهقنى أيها الشقى.. وكم ستكلفنى أيها النموس... وهل أستطيع أن أفيد منك ما أدفعه الآن لك؟ واللثمات الخادعة التى كانت تغدقها عليه أمه وتتمتم: حسنا يا صغيرى.. الآن لن يستطيع أبوك أن يطلقنى!

مسرحية أخرى ما سمع حوارها سواى، وما انفطر لها سواى فأنا أرى ممثليها ينطلقون جنبا إلى جنب، ويدا فى يد، يضيعون فى زحمة الخلق. وتطلعت أجتلى نهاية لهذا الطريق القفر فطالعنى شيخ بيضت شعره السنون وغضنت وجهه الأيام يحمل مسبحة ويحركها وهو يتمتم بينه وبين نفسه بصوت لم يسمعه أحد سواه. وسواى أنا الذى رويت من ماء النهر: ما كان أغفلنى إذ ضيعت زهرة شبابى صالحا وقورا. وما كان أحمقنى حين تتقاطر اللذات من حولى فأزور عنها إلى مسبحتى ومحرابى.. وأنا اليوم عاجز حتى عن التسبيح، عشت أيامى وكأنى لم أعش.. مر شبابى وكأنه لم يمر. أيتها الأيام ردى على أمسى لأعيشه.. ردى على ماضى لأخلقه من جديد كما أشاء. وحملقت فى الرجل.. فى سعادتى حين تمضى بها الأيام. ورمقنى هو بنظرة.. نظرة رأيت خيالها ينعكس على أغوار عقله العجوز. ثم يتضاءل الخيال وتحل مكانه رغبة ملحة: أن يكون له مثل شبابى.. ويد قوية مثل يدى... وماض عربيد كماضى القريب. ورمقته بآخر ذرة من الاحتقار لدى وهو يمضى والجموع تفرد له مكانا لينا بينها وتمد يدها لتساعد ضعفه وقدمه.

* * *

ورحت أقرأ الناس ككتاب مفتوح فرأيت كلهم السائل الجشع والمحسن المنافق والصديق اللدود، والسيد المتعجرف. والزوجة العابثة والزوج الوصولى، والطفل البريء والشيخ الذى هو أبعد ما يكون عن الوقار. وشعرت بنفسى أرتفع وأرتفع.. وطاف بذهنى خاطر جارف.. أننى عملاق عرفت القرار.. قرار الخلق الذى يحفل بالمباءات، واستطعت أن أنبذ النظرة المغمضة التى ما ترى إلا ما طفح على الوجوه، وما تبصقه الشفاه، وما تخدع به العيون. نعم إننى مارد وسط هذه الأقزام.. أمد يدى فأخرج نفوسهم من أجداثها وأتلهى بالنظر إليها. أبصق على قذارتها، وأبتسم لطهرها ثم قد تدفعنى الرحمة أن أمد أصابعى فأرفع بعض القذى الذى علق بالنفوس.

إننى مارد نعم.. ولكننى مارد بائس.. مارد يعرف عن الأقزام كل شيء.. يعرف ضعفها وطيبتها إن كانت لها طيبة، ثم قذارتها أيضا ولكن أحدا منهم لن يستطيع أن يرفع بصره إلى وجهى ويرى نفسى، وكيف تستطيع الأغنام أن تقرأ ما يدور فى خلد راعيها. إنها لا ترى إلا عصاه.. ولا تعرف إلا نداءه.. ولا تلمح إلا يده.. يده التى لا تمد دائما إلا لخيرها. لخير القطيع. ولكنهم لا يعرفون، وكيف كما قلت - تستطيع الأغنام أن ترى وجه الراعى ونفسه. أما النظرة التى رمقه بها صائده... النظرة التى فيها كثيرا من الرثاء لأنه لم يكن إلا قزم مارد من هذه الأقزام حقا.. ولكنه فى نفسه قزم سخر منه عملاق آخر.. عملاق يمسك بالمشعل وقد أدلى به فى النهر الشفاف.

برمت نفسى بالقطيع والأقزام على حين مضيت إلى المجهول الذى ساقتنى إليه تلك النفس فى ساعة تردد. بل كأن المارد الذى أخذ يكبر وشيكا بين ضلوعى عليه أن يكون أميرا فى مملكة الأقزام.. وهو نفسه كاد أن يغرق فى النهر الصافى فأبت عليه عملقته إلا أن يكون أميرا عن جدارة واستحقاق. واختفيت تحت قبة الأفق.

* * *

وقفت أرقب المياه الشفافة وعجبت حين لم أجد لها قرارا.. ووجدت أن القرار الذى تخيلته فى ساعة ما، لم يكن إلا قرار نفسى أنا وقد حسبته قاع النهر.. وتفتحت عينى على الحقيقة التى ضاعت منى طويلا.. أنى كنت انظر إلى الناس الماضين فى الطريق قبل أن أشرب برغمى من ماء هذا النهر - كنت انظر إليهم فيقف قرار نفسى حائلا بينى وبين أعماقهم.. كنت أرى فى كل منهم نفسى حين تسأل نفسى حين تخون ونفسى حين تصادق وحين تتزوج وحين تكبر وحين تسود كانت نفسى تحتل على كل فكرى. وتوجه نظرتى إلى ما تراه.. وليس إلى ما أريد أن أراه كانت تحجب عنى الحقيقة بسعادة مصطنعة ورضاء متكلف. كانت تريد ألا أتزحزح عن القلعة التى صنعتها لى.. كانت تريد أن أرى كل شيء ولكن من خلال أبراجها المرتفعة. حيث لا أرى شيئا. حيث لا أرى إلا ما ترسمه الخيالات، وكانت خيالاتى صنيعة نفسى. خيالات نفسى التى جعلت منى قزما فى يوم من الأيام.

وقفت أشاهد المياه. وأرى أبراج القلعة الحصينة والقمقم التى خيل إلى أنى كنت أسجن فيها نفسى ولم يكن فى الحقيقة إلا سجنى أنا. وقفت أرى الأبراج تغوص فى الماء الذى لا قرار له.. وكأنها قطعة من الحجر الجامد الذى صنع منه الطريق. ولم أشاهد بعد ذلك شيئا. لأنى أصبحت حرا، أرى كل شيء أنى أشاء وقتما يحلو لى. وهناك على الشاطيء جلس صاحبى وقد وضع الشص بجانبه وأغرق فى الشرود. تركته ينطلق فى شروده، وينصرف حتى عن نهره وشصه وأخيرا بدا لى أن عقله قد قفل راجعا إليه. عقله الذى لا يدعه يرى إلا ما يترى أمامه. ولمحنى من بعيد، وابتسم بل قهقه! ولأول مرة فى حياتى أرى أعماق إنسان تقهقه مع وجهه الضاحك. وابتدرنى قائلا:

- إيه.. هل أعجبتك الرحلة؟

- نعم.. ولا..!

- كيف؟

- نعم.. لأنى هناك قد استطعت أن أنفذ إلى ما وراء الطريق وإلى ما وراء ما فيه من دابين. ولا.. لأننى برمت مما رأيته.. بل خجلت من نفسى لنفاذة.

- ولم؟

- ألا تذكر إذن ابتسامتك الراثية لضعفى وغرورى؟

- ولماذا عدت يا صديقى الطيب؟

- لأنى رأيت ما فعلت بى جرعة واحدة من مياه النهر فعرفت أن لا حياة لى إلا به ولا حياة لى إلا بجوار العمالقة أمثالك.

- لكنى لست عملاقا.! ولماذا أكون؟!

- ألم تذهب إلى الطريق مرة؟

وابتسم صاحبى مرة أخرى وهو يقول

- نعم يا صديقى.. ذهبت مرات.. بل كل من تراه من الصائدين لا عمل لهم إلا الغدو والرواح بين النهر والطريق.. كلهم كانوا مثلك باحثين وراء الأفق.. ثم شربوا من ماء النهر فأعجبهم الرحيق.. وأدلوا بشباكهم إلى الماء فأخرجت اللآليء.. نعم هم الذين يستخرجون ما حواه النهر من كنوز ثم يبيعونها إلى الماضين فى الطريق.

- لو كان الأمر كما تقول لأصبح كل ماض فى الطريق صائدا ومتاجرا.

- ولكنك نسيت شيئا يا صديقى الطيب.. ليسوا كلهم ممن يتطلعون وراء الأفق وترتفع أنظارهم عن الطريق. وتتسع دائرة بصرهم لتشمل النهر وما فيه من كنوز، نحن الذين نستخرج الدرر وهم عن مخبئها غافلون.. ثم نبيعهم إياها.

- وماذا تقبضون؟

- إننا لا نقبض شيئا.. إننا نوفى دينا.. إننا نبيعهم اللآليء لنشترى أنفسنا.. نعطى الطريق كل ما نستخرجه من نفائس لنفتدى به عقولنا من الأسر الذى ربطها إليه.

- ومن الرابح من هذه الصفقة؟

- الطريق.. طبعا.. إنه يفقد بضعة من الأرجل الكثيرة الساعية وقلة من الأكتاف العديدة المتدافعة.. يفقد كل ذلك ليحوى كنوزا لا يفنيها طوله، ولا تبليها أحجاره الجامدة الصما.

- وماذا تربحون أنتم؟

- ألا تزال تفكر بعقلية الأقزام.. أيها العملاق الصغير؟

ولم أجبه، بل تحولت أبحث عن شص.. أى شص ومددت قلمى فى نهر الحكمة ذى المياه الشفافة الصافية.. عله يخرج شيئا.. بدرة لا تبلى على الطريق، ويكبر لها المارد الصغير ولم أعد أفكر فى أعماق نهر الحكمة، فلقد عرفتها... ومن من المردة أو الأقزام لا يعرف الموت؟! ولا يعرف أعمق أعماق الحكمة؟! كلهم يعرفونه.. وكلهم يصلون إلى القرار.. كلهم يصيرون أحكم الحكماء ولكن.. بعد أن يكونوا هم أنفسهم قد استقروا فى القاع. قاع الموت».

 

(229) مجلة القصة، 20 مايو 1950.

 

 

 

موارد نصيــة

د. عبير سلامـة

نداهة الكتابة

نصوص مجهولة في إبداع يوسف إدريس

المحتــوى

1. بدايــة

2. مفيستـو والتزام الكتابـة

3. تعديل أزمات الثعلب

قصة الورقة بعشـرة

قصة القديسة حنونـة

قصة جيوكندا مصرية

نص المستحيـلان

رأس المثلث الرمادي

قصة المثلث الرمادي

4. موهبة النظير في القصص المجهولة

قصة أنشودة الغربـاء

قصة لعنة الجبـل

قصة نهاية الطريـق

قصة قط ضـال

قصة القبـور

قصة تمليذ طـب

قصة مجرد يوم

قصة الكابـوس

قصة (قصة مصرية جدا)

5. نداهة الكتابـة

قصة (طابور خامس) لمحمد يسرى أحمد

قصة (النداهة) لسليمان فياض

6. قصة المقالات وحدود التجريـب

7. بداية أخـرى

8. ببليوجرافيا قصص يوسف إدريـس

 
 
 
 
جماليـــات إضــــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع مـوارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.