يعتبر يونس لوليدي
أحد الباحثين الجادين والمتميزين في المشهد المغربي. عرف بانشغاله
بمجال المقدس والأسطورة. نشر العديد من الدراسات والأبحاث, كما أصدر
كتابين هما «الأسطورة بين الثقافة الغربية والثقافة الإسلامية » و«
الميثولوجيا الإغريقية في المسرح العربي المعاصر » والدكتور يونس
لوليدي أستاذ جامعي بكلية الآداب ظهر المهراز بفاس.
***
س: من هو يونس لوليدي
وما هي انشغالاته النظرية والإبداعية؟
ج: أنا أحب دائما أن أقدم نفسي كأستاذ
باحث, إنها الصفة التي ارتضيها لنفسي وأشتغل ضمنها فأنا أعتبر نفسي لا
ناقدا ولا أي شيء آخر, وإنما أستاذ باحث يهتم بمجال المسرح وبمجال
الأسطورة بشتى تمظهراتها من مقدس وطقوس وشعائر واختلافات.
بالنسبة للانشاغالات الإبداعية لي محترف
مسرحي أشرف عليه, ونحاول كل سنة أن نقدم عملا ولا نشارك إلا في
المهرجانات الجامعية خصوصا الدولية منها. ومن خلال هذه المهرجانات
أحاول دائما أن أقدم نصوصا قد تكون لكتاب مغاربة ربما لكن باللغة
الفرنسية؛ فقد اشتغلنا أكثر من مرة على نصوص لعبد اللطيف اللعبي. إلى
جانب هذا أشتغل أيضا بمادة التعبير الجسدي في بعض المعاهد الجامعية
التي تحتاج إلى هذا النوع من الدراسة. أما بالنسبة للجانب النظري، فأنا
أشتغل الآن على مشروعين: المشروع الأول ترجمة كتاب لي بالفرنسية عن
توفيق الحكيم بعنوان le Language dramatique de TAOUFIK EL HAKIM اللغة
الدرامية عند توفيق الحكيم, وسيصدر في مصر. أما المشروع الثاني، فهو
كتاب حول (التراث المسرحي المغربي المعاصر) حيث أحاول أن أبحث في
تجليات وتمظهرات التراث في نصوص المسرح المغربي سواء تعلق الأمر بالسير
الشعبية, أو الملاحم, أو الحكايات الخرافية, أو الحكايات العجائبية, أو
الأساطير أو ما إلى ذلك.
س: الاشتغال على
الأسطورة في المجال الإبداعي, وفي مجال المسرح بالخصوص, تحكمه غايات
وخلفيات كثيرة, ما هي بالمقابل الغايات والخلفيات التي تحكم الاشتغال
على الأسطورة في المجال النظري؟
ج: أعتقد أن الأسطورة أولا موجودة في
حياتنا, إذا نظرت إلى أكثر الشعوب تقدما وأكثرها معانقة للتكنولوجيا,
والذي هو الشعب الياباني لوجدت أنه لازال يعيش في جو ميثولوجي وأسطوري,
فالأسطورة موجودة في تفكيرنا, وفي حياتنا وفي ممارساتنا, وأنا هنا أميز
بين الأسطورة وبين الفكر الأسطوري. الآن الأمر مختلف جدا, فالأسطورة في
الإبداع وفي الرواية, وفي الشعر, وفي المسرح, وفي القصة تسمح لك بأن
تغادر شرطك الإنساني, وأن تتجاوزه بأن تغادر عالمك الواقعي لتحلق في
عوالم قد تكون هي الأخرى واقعية, وليس من الضروري أن تكون هي الأخرى
واقعية, وليس من الضروري أن تكون غرائبية أو عجائبية أو متخيلة, ولكن
تسمح لك على الأقل بالانطلاق وملامسة قضايا قد تكون إنسانية, أو وجودية
أو مطلقة, ومن خلال هذا الوجودي أو الإنساني أو المطلق يمكن أن تعانق
همومك الذاتية والفردية, وهموم شعبك وأمتك.
إن الواقع في كثير من الأحيان يبدو أقل
غنى من الخيال, والعلم نفسه نشأ في أحضان الخيال؛ فالأسطورة تعطيك هذه
العوالم المتخيلة, ولكن ليس من أجل الهروب من الواقع وإنما من أجل
ملامسته والعودة إليه من خلال عوالم متخيلة وأدوات جمالية لأن الأسطورة
كلها لمسات جمالية في حكيها وفي شخصيتها, وفي تناولها لمجموعة من
القضايا والمواضيع.
س: البحث في الأسطورة
وفي المقدس هو بحث في موضوع دقيق وإشكالي, خاصة بالنسبة لمجتمعنا, ألم
يعرضك هذا الاشتغال لبعض المآزق النظرية, أو المآزق الفعلية في الحياة؟
ج: أكيـد أن الاشتغـال في الأسطـورة وفي
المقـدس وفي كل ما له عـلاقة بالمفاهيم والمصطلحات هو صعب في العالم
العربي, لأن الذين سبقونا (والذين هم أساتذتنا) اجتهدوا وحاولوا نقل
العلوم والمعارف إلى الثقافة العربية, لكن لم تكن لهم نفس الأدوات
والمناهج والميكانيزمات التي تتوفر لنا الآن, ولهذا فقد أصابوا في
أشياء وأخطأوا في أخرى, وعلينا نحن أن نعيد النظر في مجموعة من
المفاهيم والمصطلحات. فأنا عندما بدأت الاشتغال على الأسطورة وعلى
المقدس انطلقت من أن المفهوم الذي نؤمن به الآن هو مفهوم خاطئ.
فالأسطورة في اشتغالاتنا هي ترجمة Le
mythe، والفرق شاسع بين المصطلحين: ف Le mythe هو الحقيقي والمقدس
والواقعي بامتياز, بينما الأسطورة تعني الكذب والخرافات والترهات. فكيف
أترجم ما يعني الواقع بما يعني الكذب. كذك الأمر بالنسبة للمقدس,
فالمقدس في ثقافتنا العربية الإسلامية يعني النقي والطاهر فقط بينما
«Le sacre» الذي نترجم به عادة «المقدس» يعني الحلال والحرام, ويعني
الحرب والسلم، أي يعني الشيء ونقيضه في الوقت نفسه. فنحن نترجم شيئا لا
يعني إلا الإيجاب بشيء يعني الإيجابي والسلبي. والاشتغال في مثل هذه
المجالات عرضني لمجموعة من المآزق, لعل أخطرها هو تكفيري من طرف أستاذ
بجامعة أم القرى, وكان ذلك عندما اطلع على كتابي الأول المعنون –
الأسطورة بين الثقافة الغربية والثقافة الإسلامية- حيث لم يفرق بين
الإسلام وبين الثقافة الإسلامية. أنا أشتغل على الثقافة وليس على
الإسلام, فالإسلام هو دين الله ودستور المسلمين، لكن الثقافة الإسلامية
هي صنعنا نحن على اختلاف مشاربنا وعلى اختلاف ثقافتنا. وربما على
اختلاف دياناتنا السابقة على دخولنا إلى الإسلام. فهذا إذن أخطر الأمور
التي تعرضت لها, كما أني أجد الآن مضايقات كثيرة كلما حاولت النشر في
مجموعة من المنابر التي آمنت بهذا التوجه واعتبرت أنني أمس بالمقدسات,
حيث بدأت ترفض أن تنشر لي بعض الدراسات.
س: انشغل العديد من
الدارسين الغربيين والعرب بموضوع الأسطورة وموضوع المقدس, من مثل
ميرسيا إلياد، وكلود ليفي ستراوس, وروجي كايوا، وروني جيرار، وجوزيف
شلحود، وفراس السواح، وغيرهم, فما هي المرجعيات الفاعلة في رؤيتكم؟ وما
الذي يودون إضافته إلى ما جاء به هؤلاء وإلى ما قيل في الموضوع من قبل؟
ج: أنا شخصيا أومن بنظرية ميرسيا إلياد
إلى حد بعيد, ولكن مع إضفاء لمسة عربية إسلامية عليها. فميرسيا إلياد
مؤرخ ديانات، وهذا هو المهم, لأن الأسطورة مرتبطة بالدين وما هي إلا
صورة أخرى للشعائر والطقوس. ولعل مؤرخ الأديان هو من يفهمها أكثر. صحيح
أن من حق المحلل النفساني وعالم الاجتماع والمؤرخ والأنتروبولوجي
والأثنولوجي الاهتمام بالأسطورة, ولكن الذي يقترب منها أكثر ويتعامل
معها أكثر أيضا هو مؤرخ الأديان.
لقد وضع ميرسيا إلياد من خلال مجموعة من
كتبه اللبنات الأولى لهذه النظرية. وقد حاولت أن أقربها إلى العالم من
خلال إضفاء اللمسة العربية الإسلامية عليها: فالأسطورة في اعتقادي هي
حكاية حقيقية وعندما أقول حقيقية يجب أخذ الحقيقة هنا كمفهوم نسبي, لأن
ما يبدو حقيقيا بالنسبة إليك قد لا يكون كذلك بالنسبة لي. إنها حقيقة
ومقدسة بالنسبة للذي ينتجها ويستهلكها, وليست بالضرورة هي كذلك بالنسبة
لباقي المجتمعات الأخرى. الأسطورة هي حكاية مقدسة وحقيقية وضعت في
بداية الزمن, وتصلح كنموذج للتصرفات الإنسانية. وأعتقد لو أخذنا بهذا
المفهوم لأدخلنا مجموعة من الحكايات الدينية والتاريخية التي لم نكن
نجرؤ على أن ننعتها بأنها أسطورة, خوفا من أن نتهم بالكفر وتزوير
التاريخ, في هذا الإطار لأنها حقيقة ومقدسة ولأنها قديمة قدم الزمن,
ولأننا نبحث من خلالها عن نماذج لتصرفاتنا, لنبحث من خلال الممدن
والمخلص عن نموذج نقتدي به ونسير على خطاه.
س: كيف تقيمون الاشتغال
على الأسطورة في مجال المسرح, وهل هناك تمثل جيد للموضوع على المستوى
العربي؟
ج: عندما كنت أهيء أطروحة الدكتوراه,
اتصلت بمجموعة من المبدعين المغاربة وكنت أطرح عليهم السؤال التالي: هل
وظفت الأسطورة في مسرحياتك؟ ودائما كنت أجد جوابا, وعندما كنت أطلب
المثال كانت تنتابني الدهشة؛ فهناك من يقول لي وظفت أسطورة عنترة بن
شداد, وعنترة بن شداد سيرة شعبية وليست أسطورة, وهناك من يقول وظفت
أسطورة سالف لونجة, وسالف لونجة حكاية خرافية وليس أسطورة, ومعنى هذا
أن المبدع نفسه لا يضبط المفهوم. ففي نظرهم كل ما هو خرافي وعجائبي
وغرائبي هو أسطورة, ولكن المادة الأسطورية هي متميزة عن كل هذه
الأشياء. هناك نقط التقاء بينها وبين كل هذه الأنواع الحكائية ولكن لها
تميزها. وأعتقد أن المثال الصارخ الوحيد في المسرح المغربي هو
بروميتيوس, أو بغداديات محمد الكغاط, لأنه استلهم فيه أسطورة بروميتيوس
بشكل صريح وواضح, أما ما سوى ذلك فهو استلهام لأنواع حكائية أخرى.
أما بالنسبة للعالم العربي، فكلما
استلهمت الأسطورة كانت غطاءا من أجل التحدث عن الوضع السياسي, إذ كلما
أحس المسرحي العربي بتضييق الخناق عليه, وأنه لا يمتلك الحركة الكافية
ليقول ما يشاء عاد كالمهزوم إلى الأسطورة, لا يعود إليها من أجل
الإبداع, ومن أجل أفق رحب ولكن فقط لا يستطيع أن يقول ما يريده بحرية,
وهنا نتحدث عن الإبداع ولكن عن الصورة الإكراهية.
س: غامرتم بالبحث في هذا
الموضوع الإشكالي, ألا تفكرون في الاستمرار في المغامرة, من خلال
اقتراح بعض المبادرات, من أجل تجذير الاهتمام بالأسطورة وبالمقدس في
مجال المسرح المغربي, وفي مجال البحث الأكاديمي كذلك؟
ج:
أنا أسعى جاهدا إلى تكوين مدرسة من خلال الطلبة الذين أشرف على
الأطروحات والرسائل التي يهيؤونها, في مواضيع لها علاقة بالأسطورة
والمقدس في مجال الشعر والرواية والمسرح. ونحن نحاول أن نعمق الحديث
أكثر, وفي الحلقات الدراسية Les séminaires نحاول أن نشتغل على المتخيل
والمقدس وما إلى ذلك هذا من جهة. ومن جهة أخرى فسأترأس عما قريب وحدة
تحمل عنوان أنتروبولوجيا الأسطورة والمسرح, وذلك بكلية الأدب ظهر
المهراز. وسأحاول أن أزاوج فيها بين الدراسات التي اهتمت بالأسطورة,
وبين الدراسات التي اهتمت بالمرح انطلاقا من الاحتفالات الأولى
والظواهر الأولى وهكذا إلى آخر الابتكارات. وإلى جانب هذا أشير إلى
مشروع آخر أشتغل عليه الآن هو المقدس بين الثقافة الغربية والثقافة
الإسلامية. هناك الآن مجموعة من الدراسات التي أنجزت أو هي في طور
الإنجاز, يشتغل عليها باحثون مغاربة شباب ينتظرهم مستقبل زاهر, ولكنهم
يحتاجون إلى بعض التنوير وإلى إثارة انتباههم إلى دلالة المفهوم ودلالة
المصطلح. ومن أجل هؤلاء ومن أجل غيرهم أعمل الآن جاهدا, لإنجاز المشروع
إنني أحاول أن أجتهد, وأن أعمل كلما سنحت لي الفرصة على دفع طلبتي
وزملائي إلى الاشتغال في هذا المجال.
س: يطرح الوضع المسرحي
في المغرب مجموعة من الأسئلة المقلقة, هل ما يوجد وما يعرض الآن يدل
على أن لنا مسرحا مغربيا حقيقيا؟
ج: أعتقد أن ما هو موجود الآن على الساحة
هو فراغ لعدة أسباب: فقد بدأت الآن تعرض مجموعة من الأعمال لا تستهدف
إلا جمهورا معينا وغاية معينة. إنها تستهدف الجمهور البسيط والربح
السريع, وهذا نوع من الأعمال لا يبحث عن أية خلفية جمالية معرفية في
المسرح, بل يبحث فقط عن الضحكة السهلة حتى ولو كانت على أذقان الجمهور.
إنه مسرح يبحث عن الضحكة المبتذلة والحركة المجانية, ويعزف وترا حساسا
هو أن الجمهور المغربي يعاني في يومه معاناة تراجيدية, مما يجعله في
حاجة إلى لحظة كوميدية, فما نراه الآن هو كوميديا ساقطة وهابطة تذكرنا
بكل المراحل التي هبط فيها المسرح المغربي عبر تاريخه, وفقد دوره في
التربية وتوعية الجمهور, وصار مجرد تهريج مجزية للفراغ.
س: يتم تقديم بعض العروض
المسرحية في مجموعة من المدن, وهناك أخبار عن هذه الأعمال في التلفزيون
والجرائد الوطنية, لكن أغلب هذه العروض لا تتوفر على الحد الأدنى من
المواصفات الجمالية والفكرية والإبداعية, التي يجب أن تتوفر في العرض
المسرحي, هل برأيكم تم نفض اليد من هاجس تأسيس المشروع المسرحي
بالمغرب؟ وهل هناك جهة محددة يمكن اتهامها بالتفريط في هذا المشروع؟
ج: أنا أميز بين نوعين من المسرح, المسرح
الهاوي الذي انطفأت شمعته والذي كان وحده قادرا على أن يؤسس وعلى أن
يجرب وينظر, ويبحث عن أشكال جمالية, منها ما هو مستورد ومنها ما هو
مستنبت, ومنها ما هو أصيل من الأرض المغربية, والمسرح التجاري وأنا
أسميه احترافيا الذي لا يؤسس, ولا ينظر ولا يبحث عن التجريب. وبما أن
المهرجانات التي كانت تجمع الهواة قد غابت, وبما أن المهرجان الوطني
لمسرح الهواة نفسه قد فقد كل مصداقية, وبما أن المجالس البلدية لم تعد
تساعد في تنظيم هذه الملتقيات التي كانت تعرض فيها مثل هذه الأعمال,
وبما أن المنح قليلة أو غير موجودة فالهواة أو أغلبهم لم يعد يشتغل,
وبما أنه ليس هناك تجديد فأغلب الأسماء انقرضت كأنها ديناصورات, خاصة
أن المسرح المغربي لم يعد قادرا على أن يلد لنا أسماء كتيمد ومسكين,
وحتى الذين يوجدون الآن هم الذين كانوا يكتبون في السبعينات من أمثال
عبد الكريم برشيد ومحمد الكغاط. إن الأسماء التي كانت تكتب هي نفسها
التي تكتب الآن, وكأن هذه الأرض عاقر وغير معطاء. وإذا كان علي أن
أنتقد وألوم جهة معينة, فهذه الجهة هي الجهة القائمة على شؤون هذه
البلاد. فالمسرح اعتبر كما الفلسفة في إحدى الأوقات, فقد خفنا منه
وخفنا من أن يتحول إلى أداة تنويرية, وخفنا من أن يشكل هاجسا ضد الأمن
والنظام, فحاصرناه. في حين أن المسرح هو قمة التوعية, وأقسى ما يمكن
للمسرح أن يفعله هو أن يعطيك شعبا واعيا, والشعب الواعي ماذا يمكن أن
يفعله, يستطيع أن يطلب حقه بنظام وانتظام, أما الذي يمكن أن نخشاه فهو
الشعب غير الواعي, وشعب بدون مسرح هو شعب بدون وعي.
س: هل يمكن أن نربط بين
التفريط في مسرح الهواة وبين انحباس إبداعية المسرح المغربي؟
ج: أكيد. لأنه كما قلت فالهواة وحدهم
الذين كانوا يبحثون وينظرون, والهواة وحدهم الذين جربوا بيسكاتور وأرطو,
وهم الذين بحثوا في القسوة وفي المسرح الملحمي وفي باقي التيارات
الغربية والشرقية وفي الموروث المغربي. والموروث العربي الإسلامي, لهذا
فإهمالهم وتضييق الخناق عليهم هو إهمال للإبداع وتضييق للخناق عليه
وعلى هاجس التأسيس, أما الذين يشتغلون في المسرح التجاري, فلا يمكنهم
أن يبحثوا في هذه الأشياء إنهم لا يعلمونها, ولا يعلمون حتى مقومات
الفرجة. والدليل على ذلك هذه المسرحيات التي تعرض الآن, والتي يمكنك أن
تشاهدها كما يمكنك أن تسمعها لأنها تشبه التمثيليات الإذاعية, وليس
فيها أي اهتمام بمقومات الفرجة من إكسسوار أو ديكور وموسيقى وملابس
وفضاء درامي وفضاء سينوغرافي, مما يدل على أنه ليس هناك وعي بمقومات
وميكانيزمات الفرجة. فكل ما يوجد هو صالون ودخول عن يمين وخروج عن يسار
وثرثرة وكلام, إن الذي لا يفهم ولا يضبط مقومات الفرجة لا يمكن أن يفهم
الخلفية التاريخية للمسرح والخلفية الإبداعية للتجريب.
إن العيب الأساسي يكمن في النظرة
الاحتقارية للمسرح وفي العقلية المسيرة, وفي اعتبار الناس الذين
يشتغلون بالمسرح مجرد «دراري» وأستسمح على العبارة. فهذه النظرة يجب أن
تتغير ويجب أن يصبح المسرح ممارسة اجتماعية في حياتنا اليومية, كما يجب
أن نذهب إلى المسرح مرة في الأسبوع أو مرة في الشهر على الأقل, وأن
نرتدي أحسن ملابسنا ونحن ذاهبين إلى المسرح, وأن نؤدي ثمن التذكرة ونحن
على اقتناع بذلك, وأن نشاهد عرضا ونحن نحس بأنه قادر على أن يربينا.
الشعب الذي لا يعتبر المسرح وسيلة من وسائل تربية شعب لا يستحق أن يكون
لديه مسرح, ولا يستحق أن يكون شعبا.
س: تتحركون رفقة مجموعة
من الفعاليات المسرحية, من أجل تأسيس إطار يعني بالبحث والتجريب في
مجال المسرح. كيف تتصورون عمل هذا الإطار؟ وكيف يمكن له أن يساهم في
خدمة مشروع المسرح المغربي ؟
ج: فكر مجموعة من الإخوة في إنشاء إطار
للبحث والإبداع في مجال المسرح التجريبي, إحساسا منا أن ما يعرض الآن
صار مبتذلا, وقد آن الأوان لتجريب صيغ جديدة ونصوص جديدة واشتغالات
جديدة, على الممثل وعلى المخرج وعلى المؤلف وعلى النصوص, لبعث الحياة
في الحركة المسرحية المغربية, لأن التجريب هو أنك تؤمن بأنك لم تصل إلى
النهاية, ولم تصل إلى النتيجة, وما دمت لم تصل إلى النهاية ولم تصل إلى
النتيجة, فإنك تبحث دائما عن صيغ جديدة. أكيد أنك كلما بحثت عن صيغ
جديدة إلا أعطيت للمسرح فرصة جديدة وأعطيت للجمهور إمكانية جديدة للقاء
بك, لمطارحة نفس القضايا التي تهمك وتهمه. أعتقد أن هذا الإطار لو
اشتغل بالشكل الذي نريده له, ولو وجد الأرض الخصبة التي يقف فيها على
قدمين صلبين, سيحقق الشيء الكثير, لأن الذين سيشتغلون فيه مؤلفون
ومخرجون وأساتذة جامعيون, ونقاد باحثون يسعون إلى أن يعطوا للمسرح
المغربي نفسا جديدا وإن أمكن أن يحملوها خارج المغرب, ليقولوا جاء جيل
جديد لم يتنكر للجيل القديم، بل يحاول الاشتغال معه لخلق حالة وسطى,
ليست هي الغاية وليست هي المثل والأحسن, ولكنها خطوة نحو الأمام, ليس
لإعادة أمجاد السبعينات لأن أمجاد السبعينات لها بصمات لن تعاد, ولكن
من أجل البحث عن أمجاد القرن الجديد, وعن صيغ جميلة وجديدة للمسرح,
انطلاقا من الإيمان بالتجريب وبكونه يعني أن المحاولات لم تنته ولن
تنتهي.
|