الذئب
ينزل إلى
المدينة
منذ عشر
سنوات و كل
شيء في بيته
ينقص . ما يذهب
لا يعود
.الناقص عكس
الزائد .
سنوات،
والزائد غريب
وغائب عن
حياته و بيته
. لم يزد خلال
هذه السنوات
في حياته إلا أمرين :
راتبه الذي
تضاعف عشرات
المرات ، وكآبته .
الدنانير
أصبحت مجرد
أوراق ملونة
عاجزة عن
إشباع البطون
الخاوية . فقد
قصت الحروب
والحصار
جناحي
الدينار . و
أصبحت كمية
هائلة من الأوراق النقدية
تعادل ثمن
كيلو من البصل
وباقة فجل . لم
يعد للدينار
حول ولا قوة . وأصبح هو
أكثر حدة
وكآبة ..رغم ذلك طلق
إلى الأبد جلسات
الشراب التي
كان يخلو بها
إلى ذاته
وذكرياته ..
بعد أن أصبح
من الاعتيادي
أن يختفي بين
فترة وأخرى
أثاث بيته
الذي أثثه
بعرقه و كد
زوجته .. في
البدء اختفت السجادات والثريا
ثم لحق المصير
ذاته بجهاز
الفيديو ،
ومصاغ زوجته ،
ومائدة
الطعام ،
وأثاث غرفة
الضيوف ..و .. جاء
فيما بعد
دور الكتب التي
اشتراها منذ
أن كان على
مقاعد الدراسة
المتوسطة .
لكم تحايل على
والده المسكين
في شراء تلك
الكتب وكذب
عليه !
كان
معتاداً على كتابة
اسمه وتاريخ
شرائه على كل
كتاب . ويتذكر
أن جارهم
المعلم عباس
الذي ظل
شاعراً
هامشياً طوال
حياته ، سخر
منه :
ـ هذا سلوك
مراهقين !
لم يبال
. استمر في
كتابة اسمه
وتاريخ اليوم
الذي اشترى
به تلك
الكتب . الآن
بمجرد إلقاء
نظرة على كل
كتاب يتذكر
أحداث حياته . اشترى ( عودة
الروح )
لتوفيق
الحكيم في
المرحلة
المتوسطة في
قمة حبه
الرومانسي
لابنة
الجيران . و ( البيان
والتبيين ) و ( الحيوان
) و ( مقدمة ابن
خلدون ) حينما
كان في الجامعة
، و ( المعبد
الغريق ) للسياب
حينما خطب
زوجته سعاد ،
وكتب علي
الوردي و ( الثالوث
المحرم ) لبو
علي ياسين
بعد
تحقيق (
الحرس القومي
) معه .
كان
يحاول أن لا
ينظر إلى بقية
الكتب
المتراصة على
رفوف المكتبة
. من يدري غداً
أو بعد غد قد
يطلق الرصاص
على السياب
المسكين
ومنزل أقنانه
. سيأتيه نفس
المصير الذي
لاحق ثلاثية
نجيب محفوظ .
نظر
بأسى إلى كتبه
. إذا استمر
ذئب الفاقة
والجوع يعوي
في المدينة ،
سيضطر إلى
إصدار حكم
الإعدام شنقاً
حتى الموت على
الجميع . لن
يبقى في
ذاكرته و مملكته
الصغيرة لا طه
حسين ولا
العقاد . لا
فيكتور هيغو
و لا سان جون بيرس .. لا
من أتى
بالشهادتين ،
ولا من أصر
على النصرانية . .
الجوع لا
يرحم ! .. ثمن
ثلاثية نجيب
محفوظ
العظيمة ثلاثة
كيلوات من
الرز ، وكيلو
من البصل ! ..
ومقدمة ابن
خلدون تساوي
كيلو من اللحم
، والبخلاء
للجاحظ يكفي
لشراء كيلوين
من البطاطس ،
وثمن الأعمال
الكاملة لديستويفسكي
يكفي لشراء
دجاجتين ،
دواوين السياب
يساوي لفة سندويج .
أف ما
لهذا العالم يتقحب ! ..
الأشرار
يتناسلون
،ويتكاثرون
كالذباب ، وكل
ما هو طيب
ووديع في
العالم ينقرض
نظر إلى
الأسطوانات
المتربة التي
ورثها عن والده
. مج من سيكارته
نفساً عميقاً
، ووضع نصف
ملعقة من
السكر في قدح
الشاي الذي
برد بعد أن لم
ينتبه لوجوده .
تقتير حتى في
استعمال
السكر الذي
كان يفرط في
استعماله !
أطلق زفرة من
الأعماق
،ووضع
اسطوانة على الغرامفون
القديم كان
أعز ما يملكه
والده . انطلق
من الأسطوانة
المشروخة
التي تبدو
وكأنها تعاتب
الزمن على
غدره ، وقلة
وفائه صوت
محمد القبانجي :
ياللي نسيتونه
يمته تذكرونه
يمته نجي عالبال
وتساعدون
الحال يمته
غمغم في
نفسه (( سيأتيك
الدور بالتأكيد
.. فكل
اسطواناتك
واسطوانات
سيد درويش ،
وسلطانة
الطرب منيرة
المهدية وحسن خيوكة
وأسمهان لن
يساوي عدة
كيلو غرامات
من الدقيق !..
وكل أدوار سيد
درويش لن يساوي
دفتر من فئة
مائة صفحة
أشتريه لابني
الصغير !..
العالم يتقحب و
الأشرار
يتناسلون ..
تجار الكتب
يحملون في غمضه
عين الكتب
داخل أكياس أو
علب ،ويرحلون
بها
بعيداً
ليبيعونها
بأغلى
الأسعار .. لم
يعد أحد هنا
يشتري الكتب
.تحول الجميع
من قمة رؤوسهم
إلى اخماص
الأقدام إلى أسنان
،وأنياب
،وقواطع
،وأضراس ،
تطحن الرديء
من الطعام
لإسكات الذئب
الجائع في
بطوننا الطاوية ..
أما
الأحلام
فنراها في المنام
. انعدمت أحلام
اليقظة و
الخيال
الجميل .أحلامنا
منفية في
نهارنا
ويومنا . وهي
ما تلبث أن
تتحول إلى
كوابيس يلعب
فيها الشرطة
والكلاب دور
البطولة((.
لم يعد الذئب في
البراري
والجبال ..
الذئب نزل
المدينة . حل
في النفوس
،والأرواح
حاملاً في
أحشائه جوعه
الأبدي !
بالأمس
كنا نطلق الزرازير
الحبيسة ،
وطيور الحمام
. أما
اليوم فقد
باتت الأنياب
والأضراس
تطحن هذه
الطيور
الوديعة ! ..
يوم أمس
نصب ابنه
الشباك
لاصطياد الزرازير في الفسحة
القريبة من
بيتهم .زجره
بعنف وكاد أن
يصفعه لولا
أنه سمعه يقول :
ـ اشتهي
دجاجة يا أبي ..
لذلك أردت
اصطياد هذه
الطيور كما
يفعل جميع
أصدقائي .
أحس
بنفسه يتقزم
. . يصغر أمام نداء
ابنه الحبيب
الذي يرخص
في سبيله كل
غال .
أصغى
السمع إلى
هديل الفاختة
. انساب الهديل
إليه من
النافذة مثل
نسمة عليلة
.يا لحظ هذا
الطائر الذي لا يزال يهدل حتى
في زمن القحط
والدمار ،
ويجد ما يسد به رمقه ..
دون أن يفقد
شيئاً من
كرامته .يجد
ما يسد رمقه
ثم يحط على
الأغصان وعلى
عمود
الكهرباء ،
مواصلاً
هديله الذي
بدأه منذ
الخليقة ..(كوكوختي..كوكوختي ) .
أما كوكوختي
الروح فقد
قتلوه الآلاف
المرات
بالحروب والدمار
والحصار ..
أصبح لا يهدل
إلا
شجناً،وحزناً .
طلب من
زوجته أن تعد
له علبة
كارتون .أحس
برعشة في يده
التي امتدت
إلى الكتب .
كانت زوجته
تحس بمدى
الألم الذي
يجتاح كيانه
.فقالت له
بإشفاق :
ـ دعها
إذا كنت لا
ترغب .
ـ سعاد
.. شهور
والأطفال لم يتناولوا
اللحم
ـ أوف ..
لعن الله
السبب في
مأساتنا .
تحامل
على ضعفه ،
وبدأ بوضع
الكتب داخل
علبة
الكارتون . ثم
شد العلبة
بالحبل … كان
يحس وكأنه يشد
الوثاق على القصائد
الجميلة ،
ويضيق عليها
الخناق .تلك
القصائد العذبة التي
طالما رسمت في
مخيلته أشياء
مبهجة . أشياء
مؤجلة في
حياته طالما
تمنى أن تتحقق
يوماً ما .
وقصص تتحدث عن
العدالة
والثورة
والغد المشرق
… ذلك الغد
الذي ينتظره
منذ نصف قرن
دون جدوى .ذلك
الغد الذي ظل
حلماً من
الأحلام
العصية ..
كان يشد
الوثاق ،
ويضيق الخناق
على السياب
المسكين ،
والعراقي
النبيل
علي الوردي ،
والجاحظ ،
وابن سيناء ،
و ابن رشد ،
وعبدا لرحمن
منيف .. وديستويفسكي
العظيم .
الكل
تخلى عما
يستطيع
التخلي عنه من
أجل إسكات
عواء الجوع
الكامن في
الأحشاء .. ثمة
من باع أثاثه
، وثمة من باع
شرفه ،
ومنهم من ضحى
بحريته فأصبح
يعمل في عدة
أعمال خلال يوم
واحد أعمالاً
كان يأنف من
القيام بها
من قبل .. رغم كل
ذلك لا يزال
الكابوس
مخيماً على
النفوس ،
والذئب لا
يزال في
المدينة ..
تمدد على
فراشه محدقا
في السقف .
تمددت زوجته إلى
جانبه بعد أن
اطمأنت على
نوم وحيدها .
كان ساهمة
مثله . لم ينطقا
بكلمة . كان
بينهما جدار
سميك من الصمت
عجزا عن اختراقه
.ثم ما لبثت إن
غرقت في النوم .
نصف قرن
هو عمره ،
كانت الكتب هي
زاده و زواده
لمدة أربعين
عاماً على
الأقل .
تذكر (
طفولة نهد )
لنزار قباني
لكم ردد
قصائدها في
آذان بنات
الجيران
المراهقات : ناردين ،
رمزية ، ميسون
، نسرين و
هيفاء ..
هيفاء تلك
الشقراء
النحيفة التي
تشجع بعد أن
همس في أذنها
قصائد نزار
قباني وقبلها
بكل ما في
أعماقه من
سعير . بادلته
القبلة لكنها
عندما أحست
بحركة غير
متوقعة ما بين
فخذيه،ابتعدت
عنه مرتعبة
وهي تحاول أن
تتمالك نفسها .
أشرقت
وهو يتذكر ما حدث ،ابتسامة
على وجهه
العابس الذي
نسي الابتسامة
منذ زمن طويل
.حتى
الابتسامات
بقيت في
ذلك الزمن
الجميل . لقد
تحول
الماضي البائس
إلى زمن جميل !
أي ماضي
رغم حلكته
ومرارته أجمل
من أيام البؤس
الحقيقية هذه
.لقد كان
الجميع على
الأقل يملكون
قلوباً قادرة
على الحب
وتمتلك
القدرة على
الحلم . .
فجأة أحس
بأنه ينهار .
رأى نفسه
وسط صحراء قاحلة
. كان المتنبي يطارده بدون
هوادة شاهراً
عليه سيفه
كان
يلهث بشدة
، وهو يحاول
أن يتخلص من
المتنبي الذي
كان يصرخ به
متوعداً :
ـ هيهات
أن تهرب مني
. أنا حتفك .
وحينما
أحس بأن
أنفاسه على
وشك الانقطاع
.. حدث ما يشبه
المعجزة ورأى
أمامه دارة
وسط تلك الصحراء
القاحلة .
دلف
إليها مسرعا
.. وأغلق رتاج
الباب في وجه
المتنبي الذي
كان وراءه .
دخل إلى صحن
الدار ففوجئ
بوجود حلقة من
الرجال. كان
ابن خلدون
وعلي الوردي
وعبدا لرحمن
منيف يتجاذبون
أطراف الحديث
مع كونفوشيوس
الذي كان
يخاطبهم
قائلاً :
((لو
تكاتفت الناس حول معنى
الإنسانية
لانهزم الشر
في النفوس((.
وحينما
استعد ابن
عربي ليقرأ
لهم شيئاً من (
ترجمان
الأشواق ) .. كان هو
يتأمل هذا المشهد
الفريد
بصمت
ناسياً
آلامه
، وكأنه مصاب
بالخرس
. لم يكونوا
يحسون به . لكن علي
الوردي الذي
كان
يعدل سدارته
، سرعان ما
انتبه إلى
وجوده فالتفت
إليه معاتباً
ومشفقاً في
الوقت نفسه :
ـ هل
جاء دورنا بعد
الكتب ؟ فأتيت
لتبيعنا في سوق
النخاسة ؟
فتح
عينيه على
سعتهما
وأطلق
صرخة مرعبة .
هبت
زوجته من
النوم مذعورة :
ـ اللهم
اجعله خيراً
..ماذا أصابك
؟ أهو
كابوس
كالعادة ؟
لم يرد
عليها .
تأملته لحطة
بعينين لا
يزال النوم
يمارس سطوته
عليهما . بعد
أن اطمأنت أن
الأمر لا يعدو
كابوساً ،
وضعت رأسها
على الوسادة
لتعود إلى
النوم ثانية .
لكنه هز
ذراعها
قائلاً:
ـ سعاد..! هيا
انهضي ..
ساعديني في
فتح رزم الكتب
وإعادتها
لرفوفها ..!