محطات عمر

 

كنت لا أزال في العشرين . أضاجع نساء الجيران بشبق لا يهتدي إلى مرفأ .

كن عشيقاتي في الحلم .وكنت أشعر بلذة فائقة حينما كنت أبسط عليهن سطوتي وفحولتي في أحلامي.

في صباح كل يوم كنت أتأمل بإشفاق مشوب بالسخرية أزواجهن وهم في طريقهم إلى العمل دون أن يكون لديهم علم أو ريبة بالزنا الذي تعيشه زوجاتهن معي جهاراً في أناء الليل وأطراف النهار .

  كان الربيع يحبو ، وكانت النهارات المشرقة قد بدأت تهبط كالفراشات على كركوك .وكانت أسراب الزرازير تسبح بين الفينة والأخرى في فسحة السماء الزرقاء غير مبالية بالأزقة التي شاخ فيها الحزن والبشر والأغنيات .

  في مثل هذا الزمن المضيء الذي يمد فيه الربيع سطوته على الأزهار والأحزان والأحلام ،دق شرطي بابي ،وهو يحمل لي تبليغاً بضرورة حضوري إلى مركز الشرطة في نهار اليوم الثاني .

  في نهار اليوم التالي الذي كان يبدو بالنسبة لي بكل خيوطه توأماً للأمس الذي ودعته ،لم يكن يشغل بالي إلا قصة ( لعبة الليل والنهار ) التي أرسلتها قبل شهر بالبريد المسجل إلى مجلة ( الآداب ) البيروتية . كانت القصة شغلي الشاغل .

  لم يكن يهمني هل أن الأرض كروية أم مستديرة ؟ وهل أن الحلاج قتل غيلة ، وهل سأزني الليلة في الحلم مع ( شميران ) التي كانت تثير اهتمام مراهقي الحي بفساتينها القصيرة التي تكشف مساحات مثيرة من ساقيها ؟ .. كانت قصائد السياب تهمني أكثر بكثير من خطب القادة والساسة ،وكتاب ( طبيعة المجتمع العراقي ) للدكتور علي الوردي أهم عندي من النظريات السياسية الفجة ..

  بعد دخولي المخفر حولني ضابط الشرطة بعد حدجني طويلاً بنظرات ملؤها السخرية المشوبة بالوعيد برفقة سائق مدني وشرطي إلى مكان آخر ، لم أعرف كنهه . كان المكان عبارة عن بناية لمدرسة ابتدائية متواضعة . ولم أدر غلا بعد فترة طويلة إنني اقتيدت إلى (منظومة استخبارات المنطقة الشمالية(

  ـ اسمك ؟

  ـ نصرت مردان .

  نظر إلي العقيد نظرة ثاقبة ، وكأنه يريد بها أن يستل كل كياني وأمعائي وشراييني  لينفذ إليها ،ليعرف بنظرة واحدة فقط لا غير حقيقة ،وأصل وفصل هذا المخلوق الذي أمامه ( وهو أنا ) والذي لا يزيد طوله على 165 سم ووزنه على 50 كغم .

 ـ هوايتك ؟

 ـ الأدب .

 ـ يعني ..؟

 يريد المزيد حتى يتمكن من الغوص إلى أعماقي التي لن يجد فيها إلا السياب ونجيب محفوظ وعشيقاتي السريات

 يصفعني بصوته المعتاد على إهانة الآخرين واتهامهم دائماً . بينما نظراته تزداد شراسة وقسوة ،وتتغلغل بحدة كسكين قضت عمرها في التقتيل والتذبيح والتشريح ..

 ـ أفندي ! ما هذه الأرقام التي كتبتها هنا ؟

 ويبرز من درج مكتبته قصتي ( لعبة الليل والنهار ) التي كنت قد أرسلتها قبل شهر إلى (الآداب) . أصبحت قصتي إذن سجينة الأدراج السرية !

 ـ إنها مجرد تجديد في القصة . أتحدث فيها عن سجناء بالأرقام لا بالأسماء ..أقول  (( قام 36 مثلاً ..)) بدلاً من قام حسين وهكذا ..

 ـ لا يا أفندي ..! هذه شفرة ! وما قمت به يعتبر في قاموسنا تجسس !

 ـ سيدي إنها مجرد تجديد شكلي في السرد ، ومجلة ( الآداب ) معروفة هنا .

 بدا على وجهه ابتسامة خبيثة وكأنه عثر على مفتاح سري سيحقق له انهياري في لحظة .

 ـ مادام الموضوع ،موضوع تجديد كما تدعي ،لماذا لم تكتب (س) أو (ص) بدلاً من الأرقام ..؟

 ـ ألم ستكون ستوجه لي نفس الاتهام لو فعلت ذلك ؟

 تبرم من سؤالي .بدا كمن يفكر في نصب كمين جديد لي ،يصطاد فيه ذاكرتي وثباتي .كان على عجل .يريد أن يضع سداً يفوح برائحة الدم أمام النهر المترقرق الذي ينساب منذ عشرين عاماً في روحي وأحلامي .

 كرر اسطوانته المشروخة :

 ـ في عرفنا الشفرة تجسس .

 ـ يا سيدي وهل من يمارس التجسس يكتب اسمه الصريح وعنوانه على مظروف الرسالة ؟

 لم يتوقع مني هذا السؤال الذي وجده رغم عدوانيته الطاهرة منطقياً ومقبولاً .

 لم يتكلم . ضغط على جرس .دخل الغرفة جندي . فهم بنظرة واحدة منه إلى عيني سيده ،المطلوب منه .

 قادني الجندي إلى غرفة أشبه بقن . في سقفه ضوء أحمر لعين بلون الدم الذي يفوح في كل مكان لا ينطفئ قط ..

هناك اختلط الليل والنهار ،وصارا صديقين أليفين لا يفترقان أبدا. يجتمعان في كل الأيام التي نسيت أسماءها وأشكالها ورائحتها .

حاصرني الظلام المضاء بالمصباح الأحمر دهرا ..

أصبحت سجين قن لا ينطفيء فيه الضوء الأحمر لحظة .

 لم أعد أعرف الليل من النهار .

 في أوقات معينة لم أعرف ساعتها ،ولا وقتها .اهو ليل أم نهار ، كان الحارس يأتيني بالطعام في صحنين من البلاستيك كنت استملهما فيما بعد كوعائين للتبول والتبرز .وكنت اجبر من قبل الحارس على غسلهما والأكل فيهما مجدداً .

 في يوم اكتشفت بالصدفة البحتة النهار ..

 حينما كنت مختلياً مع حزني وهمومي وأحلامي المغتالة ، سمعت فجأة هديل يمامة ،وهو ينساب كالشمس الساطعة إلى القن اللعين .. ((كوكوختي ..كوكوختي ..)) .حييت هذا الطائر الوديع هديله :

                          كوكوختي ..

                        ـ وين اختي ؟

                        ـ بالحلة .

                        ـ شتاكل ؟

                        ـ باجله .

                        ـ شتشرب ؟

                        ـ ماي الله .

 احتفظت في أعماقي طويلاً في ذلك اليوم بفرحة اكتشافي للزمن .انه النهار .

 انتحبت   كالأطفال . لم أكف عن النشيج إلا حينما نهرني الحارس . غفوت في مساء ذلك النهار دامع العينين

                                                    *     *      *

صحوت . وجدتني في الخامسة والعشرين طالباً بمدينة ( أزمير ) الواقعة على بحر إيجة بتركيا . تشبثت بالحانات .صادقت الشعراء والعاهرات .عشت دهراً حالماً بكل ما هو عصي ،بعيد المنال . خنت مرات عديدة من كنت أزني معهن في أناء الليل وأطراف النهار في سيدة المدن .. كركوك .

  في الثلاثين استدعوني إلى الأمن التركي وقالوا لي :

  ـ ها قد أنهيت دراستك .ثمة اتفاقية لنا مع بلدك ، ترغمنا إلى عدم تجديد إقامتك .. عليك العودة إلى وطنك ..

 وجدتني في قطار الشرق السريع ( قطار طوروس ) . ربما كان نفس القطار الذي حملني يوماً إلى مقاعد الدراسة وأحضان الغانيات وإلى  الأرصفة والشعراء ..

 توقف القطار في الموصل .صفر طويلاً وكأنه يودعني ،ويعتذر عن فظاظة الشرطة . نفث زفيره الأسود فوق ضياء نهار كان قد مر على شروقه ساعات قليلة . .ثم واصل رحلته المتعبة إلى بغداد على أن يواصل بعد يوم رحلته من نفس الطريق إلى استانبول .

  كانت الحرب في الوطن وحشاً يلتهم الأخضر واليابس والأحلام بنهم وشراهة ،ويدفع الآلاف من الشباب في مختلف الأعمار إلى مفازات الموت والعوق والدمار ..

  في وطني اُصيب المنطق والعقل بالجنون .

غاب الوعي . ونمت أنا دهراً …..

                 

                                                      *        *             *

صحوت . وجدتني في السابعة والأربعين لاجئاً بمعسكر ( سيلوبي ) بتركيا ،وسط خضم هائل ومتماوج من اللاجئين . بينهم اللاجيء حقاً، والمظلوم حقاً ،والأفاق حقاً ،والسياسي حقاً ،والسافل حقاً ..

نسيت كم مرة أشرقت فيها الشمس على خيمتي وغابت عنها ؟

                                                       *             *            *

 

أصحو . أجدني في الخمسين .

  يترك رأسي الوسادة . في الخارج نهار رائق مثل الآلاف النهارات التي عشتها في كركوك … أبعد عن ذاكرتي أيام الجوع والقهر والقحط والعذاب في معسكر ( سيلوبي ) ..ألقي نظرة  على الفضاء الممتد من نافذتي في مدينة ( جنيف ) إلى الحدود الفرنسية التي تبعد 500 متراً عن بيتي  سيارات ،دبلوماسيون ،شعراء ،شقراوات ،زنجيات ،قوادون ،عاهرات ، مدمنون ،بشر من كل لون وجنس يعبرون إلى فرنسا . يمتد من أمام ناظري بساط من الخضرة والألق والأزهار والأشجار وطيور تغرد بمودة ، ولا تحلق مرعوبة من البشر ..

 أمد يدي بمحبة ومرارة إلى تلك القصة ( لعبة الليل والنهار ) التي لا تزال حتى الآن سجينة الدرج هنا . درجي في المنفى .