زوار الفجر

 

 

   فتح عينيه في الظلمة .إذن لم يأت النهار بعد !

  لا تزال هناك فسحة واسعة بينه وبين ذلك الكون المضيء ،الشمس التي تطل بالضياء والهموم على البشر في كل مكان.

تقلب في الفراش يمنة ويسرة دون جدوى .أدرك ذلك.فهو معتاد على ترك الفراش حالما يفتح عينيه مهما كانت الساعة .

لكم كتب من قصص في ساعات الطلق بين الليل والنهار !..حيث كان يترك فراشه طائعا ،راضخا ليكتب ،.ليمسك بتلابيب شخصية ،ويشرحها على الورق.يداعبها ،يحاورها ،يثيرها عدة ساعات حتى يشرق النهار بينما كل مخلوقات الله غارقة في سباتها  . يتذكر القصص التي كتبها على ضوء الفانوس عقب كل غارة في حرب الخليج ،والمسرحيات المريرة،الساخرة التي كتبها في أربيل عدة ليال .والتي كان يقرأها لأطفاله فيغرقون في ضحك مرير كرد على المسرحية الحقيقية، الهزيلة، البائسة التي كان الجميع يعيشونها ..

ترك فراشه متوجها إلى الصالة . لكنه توقف فجأة . فقد فوجئ بوجود ثلاثة أشخاص يجلسون بهدوء ،ينظرون إليه بمودة وكأنهم يعرفونه منذ زمن طويل .أرتبك للحظات .من هؤلاء ؟ هل هم (زوار الفجر)؟لا..لا انه يحلم . فهو يعيش الآن في جنيف . ترك الكوابيس والمفاجآت وزوار الفجر هناك.

نهض أحدهم متقدما مني باشا :

ـ أراهن انك لم تتعرف علينا يا أستاذ ؟

ـ من أنتم ؟

قالوا بصوت واحد :

ـ نحن أبطال إحدى قصصك القديمة !

غريب ! هل يحلم ؟شخوص تزوره هنا في منفاه الجديد وتدعي إنها ترتبط  بصلة النسب إلى أفكاري ؟

ـ لقد أسميت قصتنا ..

يقاطعه زميله :

ـ كركوك كركوك ..لكنك شطبت عليه ،وبدلته فيما بعد إلى (هياج الأحصنة(.

ـ أسميتني في القصة (قادر) والتي كتبتها في 11/4/1975 فأنت حريص على كتابة تواريخ قصصك بل وساعتها .لكنك لم تنشرها مثل الكثير من قصصك التي لا تزال رهينة دفاترك القديمة .هكذا كانت تبدأ القصة " انسحب النهار الرمادي رويدا رويدا من شوارع كركوك وبيوتها وأزقتها .قل الزحام في سوق القورية .أغلقت أغلب الدكاكين أبوابها ،وغادر (الله ويردي)* صاحب الخان .." هل تذكرتها .

محال أن يتذكر قصة لا يملك حتى مسودتها، مر عليها أكثر من ستة وعشرون عاما.ويبدو أنهم أحسوا بأنه في دوامة . بدأ أحدهم الحديث، وكأنه يقرأ من كتاب غير مرئي :

" ثلاثة من العتالين الذين جمعتهم المهنة والفقر وخان (الله ويردي).تشرق الشمس ساطعة مرات ،وشاحبة مرات .تسقط السماء بالمطر ،وينتشر صوت الرعد في خوف النساء والأطفال ..وأبطال قصتنا الثلاثة يمارسون في كل يوم صمتهم وترقبهم .يعرقون ويتعبون .. ))

أنا شاكر في قصتك .. الذي انطلق من أعماق قريته (ينكجه ) الكثيفة الأشجار والطيور إلى كركوك ،بعد أن اضطرت عائلته للهرب خوفا من الثأر بسبب حادثة قام بها أحد أقربائه .في المدينة لم يكن ينتظرهم غير السلال والهروع وراء المتسوقين في سوق (القورية).لم يتحمل في البداية .كانت القرية في ذهنه توقا بعيد المنال . كانت البيوت والدغل الذي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الله ويردي : اسم شائع بين التركمان من مسيحيي القلعة في كركوك .

 

 في القرية، تنسل في الليل إلى حلمه حيث يفوح الليل والنجوم وحجرتهم ،التي يتقاسمونها مع أبيه وأمه وأشقائه السبعة بشذى القرية . في أيامه الأولى تعذب في السوق أحس بالغربة والوحشة تستوليان عليه ،وأحس بأن الأرض تتقعر تحته وتهبط إلى ما لا نهاية .كان يحس بالذلة.أما الآن فقد تعود على كل شيء.كل شيء أصبح عاديا عنده حتى العودة خاوي الوفاض من السوق .

ـ أما أنا فقد أسميتني في قصتك (زينل) وقلت عني فيها " والسوق يعرف زينل منذ أمد بعيد.. مضت أربعون سنة من حياته في أوحاله .يعرف كل الذين نشاؤا فيها ثم اغتنوا وأصبحوا من أغنياء المدينة. يعرف كل زاوية في السوق حتى العاهرات اللاتي ينمن مع أصحاب الدكاكين من أجل قليل من اللحم أو الخضار حيث يرحلن بعد مدة ،وهن يحملن بذلة، سلة مليئة بالخضار.ولن ينسى أصحاب السيارات الفارهة التي يهرع أصحاب الدكاكين إلى أبوابها ،وهم يحملون وراء أصحابها حاملين ما اشتروه … أنه يعرف لغة المدينة ،هذه المدينة التي يجيد إنسانها لغة المرارة والفرح والتسكع والذلة والرغبة والشراهة والنبل في آن واحد.

ـ أما أنا فاسمي قادر في قصتك وتقول عني : يصادق كل أراذل المدينة ويحفظ أغان قديمة .وحينما يسكر يتحدث عن حكايات سمعها من أمه التي ماتت منذ مدة طويلة ،ترك على أثره البيت بعد زواج والده عقب أربعين يوما من موت أمه . .يصادق الشحاذات ،يهوى إطلاق الشتائم و يعتبرها توابل وطعم ولذة أية لغة .يحفظ أسماء الشحاذات في كركوك ومناطق كل واحدة منهن ونشاطاتهن الليلية .

 أحس القاص أن ثمة مسرحية تمثل في بيته في الساعات القريبة من السحر. كما بدت له ملابس أبطاله المزعومين غريبة على جو مدينة جنيف .

 ثلاثة أشخاص يدعون أنهم أبطال قصته ،يزورونه في السحر ! أبطال قصة لا يتذكر تفاصيلها حنى الآن . توجه إليهم بالسؤال :

ـ  حسنا يا سادة ، ما هي تفاصيل القصة التي تدعون أنكم أبطالها ؟ ..صدقوني يبدو إنكم تحدثونني عن حلم لم أعشه..    ـ تبدأ القصة في الوقت الذي يغادر فيه (  مال الله) الخان ،حيث يصرخ شاكر بنا " أف لماذا تصمتان ،وكأن عزرائيل  أختطف حنجريتكما ؟..ثم يفتح الكيس الورقي ويخرج منه ثلاث رمانات ،ويضع قنينة النبيذ في الوسط صارخا بحبور " إذا حضر الماء بطل التيمم " .

وبعد أن ينهي شاكر القدح  يحس بدفء في رأسه وبشيء مثل خيط رفيع ومبهج يهبط بخفة في نفسه .فيصفق بيديه و يغني :

        

                                      مشيتك مشي الكطاية

                                       تعال جاي جوه العباية

 

صمت شاكر بعد أن رأى حيرته قائلا:

ـ يبدو يا سيدي انك نسيت قصتك تماما .فطب نفسا وقر عينا ،فنحن سنذكرك بكل تفاصيلها ..

ـ صدقوني يبدو إنكم تحدثونني عن حلم لم أعشه ..

نسجت الخيبة خيوطها في وجوه الرجال الثلاثة .بدوا وكأنهم فقدوا كل أمل في إحياء ذاكرتي التي خمدت بعد سنوات البؤس والكوابيس . إلا أن أحدهم حاول للمرة الأخيرة ،التشبث بطوق الأمل قائلا،ألا تحتفظ بقصصك ؟

أحس الكاتب بجمرة في كبده .نظر إليهم بعينين احتضن فيهما الخيبة،الأسف :

ـ آسف لن أحرقت كل قصصي القديمة ،عندما اضطررت إلى تركت الوطن كلص مذعور .

جثم طائر الصمت على الصالة .وراح الصمت يذرع بينهم جيئة وذهابا . ولإزالة هذا الصمت الثقيل قال شاكر :

ـ ألا نشرب نخب تعارفنا بعد ربع قرن . ثم واصل حديثه معاتبا ، في قصتك شربتنا نبيذا رخيصا ! لعلك تسقينا الآن شيئا من الويسكي الفاخر .

ـ أوه أسف  إنني  أعاني من السكري وضغط الدم .ولم اعد بحاجة إلى الخمرة كسابق عهدي..رغم إنني كنت رفيق الكأس لسنوات طويلة .كان البقاء واعيا يؤلمني كثيرا.ويجعلني أتحمل تفاهات البيانات والبرامج التلفزيون المملة التي تقطع لسماع بيان عن انتصارات قواتنا الباسلة .كانت الخمرة أقرب إلي من حبل الوريد . كنت أشرب وأخرج إلي الشوارع وأنا أحمل نصف وعيي .لم اعش بوعي كامل .كان هذا الوعي المنقوص كفيلا بأن يجعلني أتحمل الكوابيس وآثام النظام ،وان أذهب إلى عملي وأمارس الحب ،وان أنام لأصحو دائما قبل الفجر  ،وكأنني على خصام مع الشمس ،لأجلس وأكتب .اضحك في مسرحيات أكتبها طلت سجينة أوراقي .اسخر فيها من كل شيء ،وأنا الإنسان العابس في النهار أمام الآخرين .أشتم من أريد ،وأمد باقات الورد إلى من أريد .وفي الصباح كنت أعيش الصمت الرهيب .لا أطرح أسئلة على أحد .لا أستفسر عن شيء.أي أصبح مواطنا ممتازا من الدرجة الأولى.أجيب فلا أسال .أعمل أكثر من الآخرين بل اكذب لا لكي أتجمل ولكن لكي أظل بعيدا عن عيون الذين كانت مهمتهم أن يسوروا حياتنا كالطوق.لكنني في الليل حينما أصحو قبل الشمس كنت اسخر من كل شيء،وانتقم من الذين كنت اضطر إلى الكذب أمامهم .

فجأة دق جرس الباب .استغرب أن يدق بابه في مثل هذه الساعة المبكرة.

فتح الباب .فوجئ بشرطيين أمامه .حيياه بأدب .ثم قال أطولهما :

ـ هنالك شكوى ضدك من الجيران بتهمة إثارة الضجيج ،وإقلاق راحتهم .

ـ لا أعتقد أن ذلك صحيح يا سيدي .. فأنا أتحدث إلى أبطال إحدى قصصي التي لم أعد أتذكرها .

تأمله الشرطيان ثم همس أقصرهما لصاحبه  "يبدو أن السيد أفرط في الشراب ". ثم توجه إليه بالسؤال :

ـ هل تسمح لنا بالدخول ؟

دخلا إلى الصالة .حيا أبطال قصته الذين لم يرد أحد منهم على التحية,شم الشرطيان رائحة غريبة في الموضوع .طلب الأطول ،ويبدو أنه أعلى رتبة من الآخر هوية الكاتب .شكره بعدما ألقى نظرة عليها .ثم  طلب من أبطاله هوياتهم .لم يحظ بجواب منهم .قال لهم :

ـ أليست لديكم هوية ..؟أوراق شخصية ؟

قال شاكر :

ـ لقد حضرنا لنطلب منك تغيير نهاية القصة . فمهنة الحمالة أصبحت بائرة ،بل مهجورة، في زمن الحصار والعوز . فالناس لم تعد في بلادنا بحاجة إلى حمالين في الأسواق .لأنهم لا يستطيعون شراء إلا ما يقيم أودهم  ،كما أن  بغداد أصبحت لا تعني الخلاص والانطلاق كما كنت تتخيل في القصة .. قبل أكثر من ربع قرن  يا أستاذ .. بل أصبحت مثل باقي مدننا .تحلق غربان العوز والفاقة في كل أحيائها.

قال الشرطي :

ـ سنكتفي هذه المرة بتحذيرك بعدم إقلاق راحة الجيران مرة أخرى .لكننا مضطرون للتحقيق مع هؤلاء .. فقد يكونون من الذين دخلوا بلادنا بطرق غير مشروعة ..خاصة وأن موجة المهاجرين في هذه الأيام لا تنقطع عن بلادنا  .أرجو أن تقول لهم أن يأتوا معنا ..!