عائلة سعيدة

 

أرفع ذراعي من حول رقبة زوجتي. أتمدد على ظهري متنفسا بأنفاس متلاحقة .تجول عيناي دون إرادتي في أرجاء غرفتي . ينساب ضوء النهار الوليد من خلال النافذة.

أعيش سعيدا في قوقعتي .انظر بحنو إلى أولادي .أمتليء فخرا بهم. أعود إلى زوجتي ،أداعب شعرها الذهبي الأشقر.تضحك عيناها.

ما أسعدني في قوقعتي !

انظر إلى الساعة.تأخرت قليلا في الفطور.في كل مرة أفطر وحدي .تكتفي زوجتي وأطفالي بتأملي بصمت عند تناولي الشاي مع الخبز والمربى .يشع الرضا من عيونهم ، وهذا ما يبعث السرور والانشراح في داخلي.أرتشف الشاي بتلذذ مثل نبيل إنكليزي.أنظر إلى (ماهر) بحنو.كم أحب عينيه وخديه الموردتين دائما !

أحس بأنني رب عائلة سعيدة حقا ،فأنا أنظم كل ما يتعلق بجميع أفراد عائلتي ،دون أن أثقل كاهل زوجتي الحبيبة بأعبائهم ،والتدخل في تفاصيل حياتهم. أجل ،أنا أعتبر نفسي أبا مثاليا متفرغا دائما وأبدا لهم .بل يصح القول إنني لا أعيش إلا من خلالهم. حسنا فعلت بأخذ ثلاثة أيام إجازة من العمل ،الذي لا يثير في نفسي إلا الشعور بالسأم .لهذا سأقضي الأيام الثلاثة ،آناء الليل وآطراف النهار  إلى جانبهم .

يقلقني وضع ابنتي (منى) التي يبدو عليها الشحوب ، كما أن عينها اليمنى غائرة إلى الداخل بعض الشيء.أهمس في أذنها بحنان : عزيزتي منى ، ألا تقولين لبابا ما بك ؟..لو تعرفين كم يحبك بابا !

تنظر إلي صامتة كعادتها دائما ،وابتسامتها المعهودة مرتسمة على شفتيها الصغيرتين. ترى هل تعاني من الكآبة والضجر ؟أم يلزمها أخ جديد،لتتسلى معه ؟ في الواقع ،لا أدري منذ متى تقبع (منى) في زاويتها،التي أعتدت عليها في الغرفة.؟.يبدو عليها القدم ،لكن قلبي لا يطاوعني على القذف بها في سلة المهملات .فهي ابنتي أولا وأخيرا،رغم وضعها الذي يؤلمني.

يصادف اليوم عيد ميلاد ابني (عادل) .أتذكر تماما تفاصيل اليوم الذي حل فيه ضيفا عزيزا على بيتنا.منذ اليوم الأول ملأ حياتنا بالفرح الغامر.

كنت قد قبضت مرتبي الشهري،بعد أن عد المحاسب الأوراق النقدية ثلاث مرات .لكم أكره فيه حرصه المفرط على أن لا يرتكب أي خطأ ،ونظراته لي بعينيه المربيتين ،وكأنه يتصدق بالراتب من جيبه الخاص.وكأنني لا أستحق تلك الأوراق الملونة .لو يعلم  كم أعاني في غرفة الأرشيف الواقعة في الطابق السفلي بين أوراق تفوح منها رائحة الزمن الغابر ،من الأيام والسنوات!ولكم أكره تلك الملفات المصفرة التي تنطلق في أوقات كثيرة من بين صفحاتها الصفراء الصراصير التي أتقزز من منظرها!

في غرفتي بقسم الأرشيف لا أتحدث مع أحد.أطلق على من أصادفه التحية ،واجلس بين الأضابير ،أستعجل الزمن كي أعود إلى داري وزوجتي وأولادي.في هذه الغرفة لا تكف رفيقتي العانس في الغرفة من مشاكستي:

ـ أنا أحسن من تطبخ (الدولمة) .لو ذقتها من يدي مرة ،ستأكل أصابعك معها.

ـ لا تحاولي ،أنا متزوج .

تقابلني بضحكة رقيعة :

ـ لماذا تحرم نفسك مما حلله الشرع والدين ؟حقك أربع نساء.

تصمت للحظة ثم تواصل ثرثرتها:

ـ أم أنك لا تتمكن إلا من واحدة !

أدفن رأسي بين الملفات مفضلا رؤية الصراصير المقززة ، وهي تنطلق في زوايا الغرفة.أبعد صورتها عن ذاكرتي.

أتذكر اليوم الذي حل فيه ابني (عادل) في بيتنا.كنت قد قبضت راتبي ، حينما رأيته يتأملني بابتسامة طفولية بريئة، من وراء زجاج المخزن .ابتعته فورا.

احتفلنا بقدومه أنا وزوجتي وأطفالي في ذلك اليوم .سميناه (عادل) ،وقلنا له بصوت واحد " أهلا بك يا عادل في بيتك الجديد !"

أتناول قدحا آخر من الشاي .زوجتي لا تزال في الفراش.احملها من الفراش وأجلسها قرب عادل.أحس برغبة طاغية في أن أسمع صوته الحبيب.أضغط على زره،فيأتيني صوته الذي يردد: بابا ..بابا ..بابا ،دون توقف.

مع كل كلمة (بابا) أشعر بشعور عارم من الفرح يدفعني إلى البكاء من فرط السعادة.آه ..ما أسعدني !..في الحقيقة ،نحن نشكل مع زوجتي العزيزة وأطفالي الأحباء عائلة سعيدة بل عائلة في منتهى السعادة.فلم يحدث ولله الحمد حتى الآن ما يعكر صفو سعادتنا.

أخاطبهم جميعا :

ـ زوجتي العزيزة،أطفالي الأعزاء ! ..اليوم هو عيد ميلاد (عادل ـ عدولي).بهذه المناسبة العزيزة علينا جميعا،سجلت لكم على شريط المسجل كلمة .أرجو أن تنصتوا إليها بإمعان..أحبكم جميعا .

تغرورق عيناي بالدموع ،وأنا أتأملهم نظراتهم المبتسمة دائما.يطغي صمت مطبق على الغرفة .اضغط على زر المسجل :

" أطفالي الأعزاء ..أود أن تعلموا بأنني لم أعش طفولة سعيدة مثلكم.لا تستغربوا أعزائي ..إذا قلت لكم ،بأنني لا أكاد أتذكر ،أن أبي أقتنى لي هدية في يوم ما ،لأنه كان يأتي إلى البيت في معظم الليالي مخمورا..لم امتلك لعبة مهما كانت تافهة في يوم ما.لذلك اكتفيت بجمع إعلانات الأفلام السينمائية...امتلأت أحلامي بـ (طرزان) وأفلام رعاة البقر.كنت أتخيل نفسي الرفيق الدائم لأبطال الإعلانات السينمائية.كنت أضحك مع (شيتا) ،وأهاجم الهنود الحمر مع الكابوي النبيل..

لماذا أتحدث عن كل هذه الذكريات الكئيبة، في هذه المناسبة السعيدة ؟..ربما لرغبتي في التأكيد لكم ،بأن طفولتكم هي أسعد من طفولتي .فأبي لم يكن يحس بوجودي.بينما أنا لا أتصور الحياة بدونكم .."

أغلق المسجل.تتأملني زوجتي بجمود ،متأملة نقطة ثابتة لا تتغير.أحملها بين ذراعي ،وأشبعها بالقبل.

أغني أغنية لعادل .تهدل حمامة على عمود الكهرباء .أضحك :

ـ أنظر يا عادل ..حتى الحمامة تهنئك بميلادك !

أضحك بانطلاق بينما يكتفي أطفالي وزوجتي بابتسامتهم التي لا تتبدل .يبدو لي أن (منى) تغار من عادل.،وكذلك محمود الذي أناديه ساعات الصفاء والانطلاق بـ (حمودي).أداعب شعر (منى) العزيزة :

ـ لا تغاري يا عزيزتي من أخيك ! غدا سنحتفل بعيد ميلادك أيضا.

في الحقيقة إنني أخدعها .لأنني ببساطة لا أتذكر اليوم الذي دخلت فيه عائلتنا،واحتلت مكانها في البيت.ولكن ما الضير من ذلك،سأختار لها يوما للاحتفال بعيد ميلادها.

ما أجمل هذا الصباح الذي ينسل ضياؤه إلى غرفتي.زوجتي لا تزال كما في اليوم الذي اشتريتها فيه.جميلة ،جذابة،ذات أنوثة طاغية ،فهي امرأة لا تشيخ أبدا.ولا تبالي بما حولها.

أشعر برغبة جامحة لا تقاوم في أن أسمع صوت أطفالي وهم ينادونني " بابا !بابا ! بابا ! ".أضغط على أزرتهم .أصدم.لا أسمع إلا صوت عادل وهو يهتف دون توقف " بابا ..بابا " .أما البقية فقد أطبق عليهم صمت ثقيل،أخرسهم جميعا.كانوا فقط يحدقون في وجهي بعيونهم البراقة ،وبابتسامتهم التي لا تتغير.

أنطلق نحو الخارج .أبتاع من البقال عدة بطاريات.أعود مسرعا إلى عشي الهاديء ،إلى زوجتي وأطفالي.

أركب البطاريات على عجل ،أضغط على أزرارهم بلهفة.يردد الجميع في نفس اللحظة دون توقف لعشرات المرات:

ـ بابا !..بابا ! ..بابا !

أتمدد إلى جانب زوجتي .يغمرني شعور طاغ بالفرح والانشراح .