ليل الضباع

 

أنا نخلة مثل آلاف ،بل مثل ملايين النخيل التي تعرفونها .لا أتذكر بالضبط متى انتزعوني من حضن أمي ،وأفيائها الرحبة ،وأرغموني على أن أكبر وأتنفس ،وأعيش وحدي في هذه البلدة الهادئة الوديعة التي أعرف عن كثب كل ما يجري فيها .

أنا نخلة ،مثلكم أسمع وأرى كل شيء..لكنني نخلة صامتة ،لا أجيد الكلام .إلا إنني أرى وأسمع كل ما يجري في قريتي الوادعة التي أحسها الآن تعيش على الكفاف في الخبز والأحلام .

منذ اسبوع وبلدتي الوديعة تعيش في لجة الرعب التي بدأت منذ أن تقاطر إليها جنود مسلحون يدققون في كل شيء في البيوت والبشر وغابات النخيل .كل من في القرية جاهد أن يعرف السبب . بقامتي المديدة ،أرى الجميع في بيوتهم يعانون الرعب .

                                    *    *     *                                               

 

هاهي  سعاد تحمل الطعام إلى غرفة أخيها المختفي في الغرفة منذ اسبوع ثم تعود إلى أمها التي تخبز الخبز في التنور.

قالت الأم ،لا تجزعي يا ابنتي الله سيقودنا إلى مرفأ الآمان ..إن شاء الله (سلومي) سيستطيع النجاة …آخ آخ ..كل شيء كالجحيم ومر كالعلقم ..الحياة ،النهار ،الطعام ،الخبز .

وضعت سعاد الأرغفة في سلة ،وسحب التفكير لا تزال محلقة في تقاطيع وجهها . تمتمت في نفسها ،لن أستطيع الحياة لو قبضوا على (سلومي ) عيني عليه ..

مسحت الأم بخرقة العرق المتفصد في جبينها ،وقالت معاتبة :

ـ هو هم الله يخليه ،ألم يكن من الأفضل له أن يمارس الجندية مثل أقرانه ؟

                              *      *     *                                                

 

في المقهى ، هاهو الحاج جميل يسعل كعادته ،ويقذف بلغما قرب الأريكة الخشبية التي يجلس عليها ثم يميل إلى صاحبه أبو مزهر :

ـ في الحقيقة لا أحد يعلم سبب وجود هؤلاء المسلحين في غابات النخيل ،ومفارق الطرق . هل حلت علينا اللعنة كما يقول إمام الجامع ؟

مال عليه صاحبه هامسا :

ـ هس يا معود للجدران آذان !..من يدري فلربما وضعوا لا قطات صوت سرية هنا .كل شيء ممكن .

انتاب الحاج جميل رعب شديد وهو يخفض صوته ملتفتا يمنة ويسرة ،وكأنه يبحث عن مكان المايكرفون السري

ـ لكنني لم اقل شيئا يا أخي ! مجرد استفسار . أودعناكم آغاتي !

قال العقيد للمختار الذي بدأ أمامه مرتجفا كغصن خريفي معرض للسقوط في كل لحظة.

 ـ فك عينك يا مختار ! أريد قائمة بأسماء المشبوهين والفارين من الخدمة العسكرية ..الكل دون استناء .

لم يجد المختار الشجاعة في نفسه أن يسال عن السبب .لكنه استطاع أن يتمتم ببعض الكلمات التي خرجت من فمه ،وكأنها هي الأخرى مقبلة على خطر وشيك

ـ في الحقيقة سيدي ،بلدتنا نظيفة ،آمنة ولم يحصل فيها أي شغب لا سمح الله حتى الآن .

نظر العقيد إلى عيني المختار ليزيد من رعبه

ـ نعرف ..نعرف ولكن الاحتياط واجب .

أي احتياط ؟ سؤال دار في ذهن المختار ،لكنه لم يجد الشجاعة في نفسه للسؤال .

                              *    *    *                              

 

تنتزع مريم نفسها من أحضان سعيد ،مرتبكة وهي تحاول إعادة النظام إلى شعرها المبعثر.كان سعيد مسترخيا  في زاويته لأن الرغبة المحمومة والشهوة كانت لا تزال في أوج عوائه .كان ينتظر أنوثتها المستسلمة مثل كل مرة .

ـ يكفي يا سعيد أرجو أن ترحل .

ـ أشعلت اللهيب دون تطفيئه ..

زررت صدرها .اختفت الحلمتان أولا ثم النهدان اللذين كان سعيد ينظر اليهما كصقر يستعد للانقضاض على فريسته .لكنها قالت محذرة ومعاتبة :

ألا ترى ما نحن عليه منذ اسبوع .هل تريد أن ننفضح ؟ ألا ترى الجنود في كل مكان. انطفأت آخر جمرات الشهوة في أعماق سعيد حينما تذكر الواقع الي تعيشه البلدة منذ اسبوع .

                

                                      *           *             *

هاهو عبد الجبار يدخل منزله ،بالتأكيد ثمة حلقات من التساؤل تعشش في أعماقه كالآخرين ،بسبب هذه الأيام الغريبة التي لا يجد لها تفسيرا ،ولا لونا ولا طعما .لو كان في زمن العرافين لسألهم عما يحدث.لربما كانوا هم أيضا سيبتلعون ألسنتهم . يبدو انه يفكر بديوانه المخطوط التي لم توافق مؤسسة النشر على طبعه بحجة أنه يحتوي على رموز يمكن أن يساء فهمها .

                              اليوم هو الجمعة

                              لا يهم

                              لو كان يوما آخر

                              ألم يقتل الحسين

                              في يوم مثله !

جلس في غرفته يدخن بشراهة .يشرح قصائده قصيدة قصيدة ،في بحث عن كلمة أو معنى يمكن أن تقوده إلى المقصلة .

                           ارجموني على جدرانكم

                           التي تحميها السلطة

المطلوب بل من الضروري أن يزور ما كتبه في ساعة صدق. وضع ضميره لدقائق على رفوف النسيان .

                         دثروني بزهور الثورة

                         في بساتين الحزب

ثم أتى إلى البيت الثاني الذي كان يحمل عاصفة غضبه :

                        اسحبوا من فمي

                       كل الكلمات بالبنادق

يزورها وينمقها حتى تتلون كالحرباء ،بل تصبح غريبة حتى عنه :

                      خذوا كل كلماتي

                      إلى أعتاب القائد

أحس بأنه يتحول إلى مسخ ،إلى كائن غريب لم يبصره يوما في المرآة ،ولم يقرأ مشاعره على ورقة بيضاء .كائن بلغت عنده مشاعر الزيف عنده القمة .وبتصميم أسرع نحو التنور المشتعل الذي أعدته أمه لتخبز فيه ،فألقى فيه كل مشاعره الصادقة التي جلس قبل لحظات ليزورها .

وقف للحظات متأملا ما كتبه خلال سنوات ،وهي تتحول إلى كتلة من اللهب والتي ما لبثت أن اختفت بين نار التنور المشتعلة بقوة ،بينما كانت أمه تتأمل بصمت وكأنها تفهم لماذا أقدم ابنها ،شاعر القرية على اغتيال ديوانه الذي طالما حلم بنشره في يوم ما .

                                           *   *     *                                           

يتقدم المختار متعثرا صوب غرفة القائد بعد أن أحضرته سيارة عسكرية من بيته ،وهو يتمتم بكل الأدعية والضراعات التي يحفظها ،مبسملا ومرددا أسماء الله الحسنى لتغيثه . فهو لا يرى في إرسال سيارة عسكرية إلى بيته لترافقه إلى القائد فألا حسنا .فذلك في كل الأحوال لا تحمل تباشير تبعث على التفاؤل ،في ظل هذا الظل العسكري المخيم على البلدة.

ازدادت خطواته تعثرا كلما ازداد اقترابا من غرفة القائد .لكن خاب فأل المختار،فالقائد كان في يوم سعد، بفضل قنينة الويسكي التي عبها بانتشاء ، وهو يردد بعض ألاغاني الشعبية التي حولها إلى أغان جنسية فاضحة .

سلم عليه المختار ،وهو يتفحص بعينيه ملامح القائد ،لعله يقرأ منها سبب استدعائه في هذه الساعة المتأخرة من الليل. أشار إليه القائد بالجلوس ،وهو منبسط الأسارير .

ـ أريدك يا مختار ..

قاطعه المختار ،وكأنه جندي من جنوده ،محييا القائد:

ـ نعم سيدي ..؟

واصل القائد الذي تشربت كل مسامات وجهه بالكحول،فباتت منبسطة ،توحي للناظر إليه انه يبتسم بصورة تلقائية، وبأنه أمام وجه دائم البشاشة .

ـ أريدك يا مختار ،أن تجمع لي من الصباح الباكر كل من في القرية ..الجميع دون استثناء الشباب والشيوخ والنساء والأطفال .لا تنس ! الكل دون استثناء .

لم ير المختار بدا من أن يحيي القائد مرة أخرى على الطريقة العسكرية بـ " نعم سيدي "،دون أن تواتيه الفرصة الشجاعة كالجندي الذي ينفذ و لا يسأل .لكنه مع ذلك وجد في نفسه الشجاعة أن يستفسر نفسه بسرعة البرق،ترى لماذا هذا الحشد من الصباح الباكر؟ هل سيأخذون القرية عن بكرة أبيها إلى  الجبهة ؟ ..ولكن أي جبهة ؟فقد انتهت الحرب من سنين ؟ هل هو تطوع جماعي لعمل شعبي ؟

كان القائد يواصل جمله الجادة بأساريره المنبسطة .وكان المختار حائرا في تفسير إلقاء القائد أوامره بسحنة مبتسمة.فذلك حسب علمه لا يجوز.فالعسكرية في عرفه تعني،الصرامة والصرامة فقط في كل زمان ومكان.

ـ  لا تتصور  يا مختار إنني أجهل خوف وقلق الناس هنا من  وجودنا هنا  ؟

اصفر لون المختار ، ولم يجد نفسه إلا وهو يقول :

ـ لا يا سيدي ..هل يمكن أن يخفى شيء على قيادتنا الوطنية و..

أشفق القائد على المختار الذي كان يبدو أمامه كقنفذ منكمش على نفسه من الخوف ، ولم يرد  إطالة أمد تلذذه بتعذيبه  وإخافته . قهقه بصوت عال وهو  يطبطب على كتف المختار :

ـ إنني أحبك يا مختار لله في لله ..  لا داعي للخوف . أبشرك يا مختار قبل رفاقنا في القرية الذين يجهلون مثلك سبب وجودنا  : الرئيس القائد ،سيشرف بلدتكم بالزيارة في ساعة ما !

انبسطت أسارير المختار أيضا .فالبلدة ستعيش حدثا تاريخيا لم تعشه من قبل .

ـ سيدي ..صدقني هذه أعظم بشارة لي ولأهل البلدة .شرف لنا أن تتكحل أعيننا بمقدم سيادته الميمون ..

ـ مختار ! أنت إنسان طيب ..وقد أحببت أن أبلغك بالبشرى قبل الجميع .

شكره المختار ودعا له بطول العمر ثم غادر الغرفة مستأذنا بانتشاء .

في الخارج تنفس المختار بعمق. وهو يحمد الله آلاف المرات لأن شرا لم يلحق به .

تحت السماء الني كانت تتمخض لميلاد نهار على وشك أن يبدأ ،أخذ المختار يشعر بأنه شخصية مهمة .ليس لكونه مختارا لهذه البلدة ،بل لأنه بات يعرف السر من الوجود العسكري المكثف في بلدته منذ أيام .والذي لم يجد أحد تفسيرا له حتى الآن ،والذي أقض مضجع الجميع دون استثناء.

تشرق أضواء ساطعة فجأة أمام عينيه .لم يجد المختار تفسيرا لها .عندما أقترب من مصدرها رأى عمالا يعملون على سد الحفر والمطبات في الشارع ،وآخرون ينزلون بكاميرات من سيارات كتب عليها (مؤسسة الإذاعة والتلفزيون )

أرى المختار ينطلق مسرعا نحو بيته الذي كان مضاء دون البيوت الأخرى التي كانت غارقة في الصمت والظلام. .وهو يردد دون وعي ،الهتاف الذي سيردده جميع سكان البلدة صغارا وكبارا عند مقدم الرئيس :

 

                           بالروح بالدم

                           نفديك يا ..

                                                   

                                                            جنيف                     

                                                                   24 /7/2001