الطلســم

                                  

 

" هذه الدنيا لا تستحق إلا عفطة !"

هذه هي الفلسفة التي تختصر رؤيته للحياة . فهو لا يهمه أن يكون ملكا أو صعلوكا في هذه المدينة.يكفيه أن يحس بآدميته ،أن يقول احبك لمن يحب ،وأن يلعن من يكره لسابع ظهر.

كان يشعر بأنه يمشي لوحده في الشارع ،يكفيه فخرا أنه نشوان ،ومن حقه أن يفلسف الحياة في هذه الساعة التي خرج بها من الحانة كما يريد.

الدنيا باب للظلم والغدر والخديعة …كن يقظا كي لا تلدغ من جحر مرتين .لكنه لدغ من نفس الجحر آلاف المرات ،لصفاء سريرته ،بل لسذاجته . لأيمانه بأن الأزرق ازرق ،وليس بينهما طيف من الألوان . قضى سنوات من عمره ليتعلم هذه البديهية البسيطة .

كان كبر على احترام كل شيء. الحمام لأنه حمل الرسائل إلى المسلمين ضد كفار قريش.والنحل لأنه يصنع العسل للبشر ،والفراشة لأنها مملكة الألوان. . العسكري يحترم لأنه يحمي البلد ، صوروا له دروب الحياة مفروشة بالورود  ، وقالوا له إن العسكر عماد الدولة وسندها .

 لكنه تنبه إلى هشاشة عالمه هذا ووهمه أثناء الحرب. انتبه أن ما قالوه إنما هو وهم وخيال ،وان الحياة صراع ديكة ،وصراع أكباش ،والشطارة أن تتعلم كيف تمسك النرد بين إصبعيك ليأتي دائما (دوشيش ) دائما ( دو شيش ) تعلم ذلك حينما رأى معلم الرياضة سعدون ،وهو ينهال عليه ضربا، بينما يتودد إلى ابن عسكري في الصف بمنتهى الرقة قائلا بوجه بشوش:

ـ باسل، لا تنسى سلم على بابا .

وكأنه ليس ذلك المخلوق الشرس، الذي يملأ الصف رعبا .كان عليه أن يتعلم الخسة وهو يشاهد زوج أخته دنيا، الذي (حفيت أقدامه ) لكي يتزوجها وهو يتركها مباشرة دون كلمة وداع ،ويبعث لها ورقة الطلاق بعد أن تم استئصال ثديها الأيمن عقب استفحال جرثومة السرطان فيه ..وأن يرى  صديق طفولته موفق ،وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة بين ذراعيه في قاطع (سوسنكرد ) كطائر جريح ..

 قالوا له ،الدنيا دار للامتحان .. عرف دناءة هذا العالم ،حينما ألقت سهام، بنفسها بين ذراعي أول رجل بعد مقتل موفق في الجبهة ..عرف أن الشيوخ ،ليسوا أبواب النصح والزهد كما أوهموه ، بعد أن شاهد جارهم البقال الحاج شاكر ،وهو يغوي فتاة صغيرة بالسكاكر ،و يستدرجها إلى الدكان ثم يغلق بابه في عز الظهيرة.

" هيكوا ..ليكوا " لعبة سرية كانت جارتهم (أم فضيلة ) قد علمته إياها ،وكانت تنتهي وهي تلقمه شفتيها الظامئتين ..أو بالأحرى تتناول شفتيه الصغيرتين في فمها الواسع .. " هيكوا ..ليكوا " التي لا يعرف معناها ،ولا من أية لغة أتت . هل اخترعها هندي بائس ،أشعلته الرغبة ..؟ " هيكوا ..ليكوا " هكذا هي الحياة بكل بساطة : أخذ ورد .بيع وشراء ،بذل وعطاء ..و

توقف حينما تذكر معلمهم الأستاذ نجدت، وهو يردد بحماس له و لأصدقائه في الصف " الحياة بذل وعطاء دون انتظار لنتيجة "، حتى رأى جثته تتمرجح على أشجار الكالبتوس في ظهيرة 14 تموز عام 1959 قرب ساحة (القشلة) في كركوك .

ماله الليلة هل أصابه الجنون ،فيحاول أن يختصر الدروس التي تصور تناقضات حياته، كشريط سينمائي يفوق تناقضاته أعتى الأفلام الهندية !  ..تلك الدروس التي استخلصها من الحياة ،بل من هذه الدنيا الـ ..لأول مرة لم يرغب أن يكمل العبارة التي تعود مؤخرا أن يرددها دائما بمناسبة أو بدون مناسبة ..

تأمل النجوم البراقة ،وتنفس بعمق الهواء المنعش .هذا الهواء الذي يتنفسه ،لا يتنفسه الآن كل أصدقائه الذين رحلوا ..نامق، بعد أن أصابته الجلطة القلبية بعد أن وجد زوجته تخونه مع أقرب أصدقائه ،وفاء وهي تلد وليدها الأول،عصمت، الذي لم يحترم في حياته غير الخمرة ،وهو يقع ضحية السرطان ، سلطان ،الذي سقط في الحمام استعدادا لقضاء سهرة غير بريئة مدعمة بالفياغرا ،موفق، في الجبهة الإيرانية ، سمير، في حرب الخليج ،عادل في حرب الشمال . لو كانوا أحياء الآن لكانوا يعيشون تحت هذه السماء الصافية ..

" كل دقة في قلبي بتسلم عليك " ضحك على المبالغة التي في هذه الأغنية التي طالما يرددها وهو يتذكر صوت (نازك ) المخملي .كم ستكون الجملة مضحكة لو ترجمت إلى لغة أخرى . اللغة الإنكليزية مثلا والتي تفكره دائما بمدرسه صبري في مرحلة المتوسطة ،والذي كان يفتخر بحفظه العديد من مقاطع من مسرحية (هاملت) و(عطيل) ..كان يرددها بين الطلبة الأغبياء التي لا يفقهون شيئا ،محاولين إخفاء ضحكاتهم ،بينما هو يتبختر في الصف منتفخا ،وكأنه ديك يتهادى كبرياء أمام منافسيه من أبناء جنسه . وكان الأستاذ يرى أن الإنكليزية لغة حضارة .. وكان يقول ساخرا:

ـ حتى شكسبير العظيم قلبوه إلى عربي رغما عن أنفه ،جعلوه شيخ زبير ! وقالوا أنه عربي سافر إلى انكلترة وفتح الله عليه فتعلم لغتها كأهلها . يا لدهاء العرب ! شكسبير العظيم (يقولها بالإنكليزية ) تحول إلى شيخ زبير !

الخمر حرام ! لكنه حينما تناولها استطاع أن يقول للكلب كلب ،وأن يقول للجميل، شكرا .استطاع أن يتحدى  ،وأن يقول للرفيق أبو ثائر (طز)، فقضى شهرا في الاعتقال ،ثم أطلقوا سراحه ،حين لم يجدوا تهمة يلصقونها به .

ـ هل تدعى خليل ؟

التفت إلى مصدر الصوت فلم يجد إلى جانبه أحدا.انتبه إلى ظل صغير، يمشي حثيثا ملاصقا لظله .وجد كلبا صغيرا يمشي إلى جانبه .أراد أن يرفسه ليطرده بعيدا عنه ،لكنه توقف فجأة ما ذنب هذا المخلوق البائس الذي وجد الأمان قربه ليرفسه ،وهو الذي شبع ضربا ورفسا بالتأكيد من أطفال كل الأحياء التي مر بها ؟  داعب الكلب الشريد بحنو،رغم أنه يخاف الكلاب في ساعات الصحوة .سأله الكلب وهو يهز ذيله :

 ـ ألا تدعى  خليل !

ارتعب حينما لاحظ أن الكلب يكلمه،التفت حواليه مستغربا أن يعرف كلب شريد اسمه .وغمغم  " اللعنة !.. ها قد أصبح كل شيء يكلمني، حتى الكلاب كالعادة بعد الكأس السابعة ! ثم قال  محاسبا نفسه " من قال لك أنت تشرب ،إلى هذا الحد يا حيوان ؟"

كان الكلب وظله يتابعانه بإصرار.أراد أن يتأكد من الكلب الشريد هو الذي يكلمه ،جلس على حافة الرصيف ،تحت عمود الكهرباء.وقف الكلب أيضا ،أمامه وهو يهز له ذيله بمودة.

ـ هل أنت الذي تحدثني ؟

قال الكلب بمودة ،وهو يحس بالارتياح لأنه انتبه أن خليلا قد عرف من هو محدثه:

ـ أجل ،أجل ..انه أنا .لكن قل لي هل تدعى خليل ؟

أحس انه يعيش ليلة فريدة ،ساحرة في غرابتها وسرياليتها: مدينة نائمة حتى النخاع ،وكلب يسأله عن اسمه.كيف يتسنى له أن يعيش في هذه المدينة العابسة نهارا ،مثل هذه اللحظات التي لا تصدق في ليلة انفلتت فيها كل مشاعره الحميمة من مساماتها .قال ضاحكا:

ـ أجل اسمي خليل .كيف خمنت ذلك ؟

اخذ الكلب يهز ذيله بشدة من الانشراح والانبساط .

ـ حمدا لله .أخيرا وجدتك .منذ سنوات وأنا أتجول في أزقة المدينة وأحيائها ،وأسأل كل من يقذفوني بالحجارة،أو الذي يتصدق علي بقطعة عظم : هل تدعى خليل ؟ ..سنوات وأنا أسأل هذا السؤال في قيظ الصيف ،وصقيع البرد دون أن يفهمني أحد.. أسأله في الليل والنهار.أسأل الصبي والشيخ دون ملل نفس السؤال:هل تدعى خليل؟

نفث نفسا من سيكارته في وجه الليل الذي احتضن نسيمه الدخان ،وألقت به بعيدا.كان يعيش ليلة فريدة ،ملتقيا فيها لأول مرة بكلب ناطق،معذب مثل إنسان بائس.فكر وظل ابتسامه سكرى ترتسم على شقتيه ،لو أنه حدث يوم غد أصدقاءه عن هذه الليلة الغرائبية،هل سيصدقونه؟ مستحيل بل أنهم سيتهمونه مسبقا ، بأن كل ما رآه هو من بركات الكأس السابعة ،التي وحدها كفلت له أن يكون أول إنسان يلتقي بكلب شريد ناطق !..أراد أن يستمر في استنطاق الكلب الظريف .

ـ اخبرني يا صاحبي ماذا تريد مني ؟

ـ ادري انك تستغرب من أن يتحدث إليك كلب بلغة البشر.لا تستغرب ،أنا لست بكلب بل كنت إنسانا مثلك.

أحس انه يعيش في طقوس قصة خرافية شبيهة بتلك الموجودة في قصص ألف ليلة وليلة .كلب يدعي أنه كان إنسانا مثله ،ويشاطره همومه!

استعذب الاستمرار بدوره في القصة الغرائبية.

ـ وكيف تحولت إلى كلب ؟

بدا حزن دفين في عين الكلب.وبدأ يروي قصته :

ـ كنت ابن اكبر تجار كركوك ، أحببت فتاة خلبت لبي.أحبتني هي أيضا،وأترعتني من كؤوس الحب والغرام فترة طويلة.المشكلة أن والدها كان شرطيا ،اشتهر في المدينة بشراسته التي لا مثيل لها.كنت مستعدا لقبول كل صنوف العذاب والهوان والسجن من اجل حبيبتي .لكن هذا الرجل الشرير، بدلا من ذلك استدعاني إلى بيته ،واستغربت هدوءه معي .وكان يجلس معه في البيت شيخ وقور.قال لي ،اسمع يا بني ،أنا على استعداد لتزويجك ابنتي،فأنت من عائلة مرموقة.. وظل يطيل الحديث معي. في خلال حديثه كان الشيخ يشعل البخور ،ويردد كلمات مبهمة.فجأة أحسست بالأرض تميد بي ،وبوالد حبيبتي يرفسني ،ملقيا إياي خارج البيت.كان يبدو وكأنه أصبح عملاقا في نظري.لكنني رغم ذلك سمعت الشيخ يقول له:

ـ حولته إلى كلب .سيهيم في الطرقات لن يفهمه أحد إلا من يدعى خليل ،ولن يعود إلى حاله إلا بعد يردد ذاك الرجل  :

                              سبع سبعات

                            سبن سباع

                            والسبع ما ظلو

                            صباع ..

قهقهة  ضاحكا.كان في أوج انتشائه ومرحه .وكان مصرا أن يعيش هذه الليلة الفريدة حتى نهايتها .

ـ هل ستعود إلى حالتك لو نطقت بهذه الكلمات المضحكة ؟

بدت اللهفة والرجاء على الكلب ،الذي اخذ يتمسح به بانكسار:

ـ هذا ما قاله الساحر الشرير.إنها كلمات الطلسم الذي سيعيدني بعد سنوات العذاب إلى أهلي وأحبائي.

ـ غالي والطلب رخيص يا صاحبي الطيب :

                           سبع سبعات

                            سبن سباع

                            والسبع ما ظلو

                            صباع ..

أحس بالأرض تميد به . لم يعد يرى الكلب ،بل وجد إلى جانبه شابا يبدو طويلا كالعملاق .يقول له :

ـ شكرا لك يا خليل .

ثم ينطلق كالريح لا يلوي على شيء،بينما بقي هو يعوي في شوارع كركوك حتى الصباح !

                                                                                                          

                                                               25    /5/2002