يوم
شديد البؤس
كانت
غرفة سوزان،
زرقاء زرقة
البحر .غرفة
تبدو معتمة
.أما سريرها
فهو سرير
عتيق ،يصر
كلما نامت
عليه سوزان
الليالي كشفت
لي أشياء
كثيرة عنها .
منامتها
زرقاء ،زرقة
شاحبة .قبل أن
تغفو تشرب
قدحا من الماء
. تحب
الأطعمة
المتبلة والمالحة
.كانت تطهو طعام أمها
في قدر آخر. آلاف
الأضواء تسطع
داخل عيننيّ المغمضتين .في
رأسي صخب عني فيه آلاف
القطارات على
وشك الانطلاق
وفجأة يتلاشئ
كل شئ
تاركا مكانه
لصمت لا حدود
له . أجول
بعينيّ في
الغرفة
،وحينما
أراها أغمضهما
ثانية. انظر
إلى زوجتي خلسة
، إلى وجهها
الأصفر
الكريه . سيكارتها
اللعينة بين
إصبعيها
كالعادة .
ـ آه
..لو يعود كما
كان
.
استمع
إلى صوت أمي .
أحب
سوزان .
أعشقها
من قمة الرأس
،وحتى أخمص
القدمين .كنت أراها
دائما مرتدية بنطالها
الشاحب
الزرقة متجهة
بصمت إلى حيث
تعمل . يا إلهي
كم كانت تحب
الصمت
،وتعشقه بوله
؟!.
ـ
قدمي له طبقا
من الحساء .
هذا
صوت أمي .
ـ
إنه لا يكره
شيئا بقدر
كرهه للحساء .
وهذا
صوتها . صوت
زوجتي . لا
تزال سيكارتها
اللعينة بين
إصبعيها .
أحب
سوزان .
لم
تكن سوزان تحس
بي .لكنها
في كل مرة
تمر فيها من
أمامي ، كانت
تترك عبيرها .
خليط من رائحة
البنفسج
وأزهار
مجهولة
الأسماء . كنت
أعيش فرحا
خفيا
،لاكتشافي
السري رائحة
جسدها .
ـ
ألم يطب أبى ؟
ـ
سوف يطيب .
تعال يابني .
رائحة
طعام ثقيلة
،ودهينه تفوح
من المطبخ . أدير
وجهي نحو
الجدار .
أحب
سوزان ..
منذ
متى بدأت سوزان
تقطن في هذا
الزقاق ؟ من
الغريب
حقاً،إنني لا أتذكر
ذلك .ربما هذه
محاولة سرية
،لنسيان
حقيقي لكل تلك
السنوات التي
لم تظهر فيها
أمامي .أصبحت
أؤمن أنها
بدأت تقطن من
اليوم الذي
أحببتها فيه.
في
الليل كانت
صلتها تتلاشى
مع الصمت .
حيث أصوات
شجار صاخب
ترتفع من
بيتها .وفي كل
مرة كانت
الأصوات تترك مكانها ،لموسيقى
صاخبة ،عنيفة
،مدمرة في
فترات منها ،وهادئة
هدوء البحر في
لحظات أخرى .كانت
الموسيقى
تتكرر
باستمرار
.كطقوس لابد منها
في كل ليلة
.سيمفونية
كانت على
الأرجح ،ولكن
لمن ؟
اقتنيت
سيمفونيات
بيتهوفن و موزارت
وشوبرت وبراهمز
.لم أجد بينها
أصوات الكمان
والبيانو
الصاخبة التي
كانت تصاحب
ليالي المؤرقة .
هل
كانت سوزان
جميلة ؟
كل
شيء فيها كان رفيعاً ،سيقانها
،
كتفيها،ذقنها،شفتيها
.وكان ثمة حزن شفيف
يخالطه خوف
وقلق دائم من
المجهول في
عينيها
.
فتحوا
التلفزيون .
ككل مرة
سيشاهد ابني
أفلام كارتون
. وستجلس
زوجتي على
مقعدها
كالمعتاد .بين
إصبعيها سيكارتها
اللعينة
،وأمامها
فنجان القهوة
المليئة بالأكاذيب .
صرخت
بأعلى صوتي :
ـ
أغلقوا الباب !..
لم
أفكر في يوم
ما أن أتعقبها
. ربما كانت
الشجاعة
تخونني .أو لم
أحس في وجهها
الشاحب بأية
بادرة تجعلني
اصدق أنها تحس
بي . كم
استمرت هذه
العلاقة ،هذا
الوجد ؟.. ربما
استمرت سنوات
طويلة . اجهل
فيها البدء...
في
ليلة لا تزال
منقوشة على
الذاكرة ،عشت
حقيقة مريرة
تخصها .في تلك
الليلة
ارتفعت أصوات
الشجار من
بيتها أيضا
،أعقبتها تلك
السيمفونية
التي لا تهدأ
فيها أصوات
الكمان
والبيانو .كنت
أمام نافذتها
المطلة على الشارع
. من خلال فتحة
الستارة
،رأيتها .كانت
شعثاء
الشعر .يشع من
عينيها بريق
الغضب والسخط
ولأول مرة
رأيت أمها .
عجوز شمطاء .
في وجهها تلك
اللمحة التي
لا تخطئها
العيون ،في وجوه
المتخالفين
عقليا . كانت
مشدودة
الوثاق على
سريرها .بينما
صوت الموسيقى
الغامضة يهدر
في الغرفة
.كانت تهدد
أمها بين
حين أخر.. لم
استطع إبعاد
صورة أمها عن ذاكرتي
،بعينيها
اللتين يكاد
بياضهما
يغطيهما وشفتيها
المتدليتين ..
ـ
لم لا تأكلين
؟
ـ
لا أريد ..
كانت
تطعمها
بالقوة ،كمن
يُطعم طفلا
صغيرا .مخاطبة
إياها
برقة تارة
وبعبارات
التهديد
والوعيد تارة
أخرى.
ـ
دعيني يا عاهرة
..لن أكل ..
ـ
اصمتي و إلا
قتلتك .
ـ
عاهرة.. عاهرة !
جمدت
في مكاني
،وكأني أصبت
بطلق ناري في
رأسي .تلاشى
من ناظري
الشارع
والأشجار
والنجوم .. رغم ذلك
انتظرتها
مئات النهارات
.وقفت أمام
نافذتها مئات الليالي .أصبحت
أعيش حياتها
من وراء
النافذة في
عتمه الليل
وبحضرة
النجوم والأشجار
. اعتدت على
حديثها
اليومي مع
أمها
.وتشد
وثاقها من
جديد على
السرير
،وتبدأ السيمفونية
المجهولة
التي لا تعرف
الانتهاء..
في
أكثر ساعات
الليل صمتاً
،حيث تخلد
فيها حتى
الأشجار إلى
النوم،كنت
أحل ضيفاً على
الليل والظلمة
الحالكة أمام
نافذة سوزان ..
بعد
ليال طويلة
،وبعد صباحات
أطول .
رأيتها في
ليلة منطلقة
.ربما كانت
ليلة عيد
.كانت تداعب
أمها وتصبغ
شفتيها بأحمر
الشفاه .وكانت
العجوز جذلى
راضية بتلك
المداعبة .
أنا أيضا
شاركتهما
الفرح .ضحكت
معهما في تلك
الليلة المعتمة
. كنا نحن
الثلاثة نعيش
ليلة رائعة
غير
عادية
.هما في
الغرفة ، وأنا
خلف النافذة .
بلغت سعادتنا
ذروتها حينما
أخذت العجوز
تغني :
على من يا
قلب
تعتب
على من ؟
احتضنت
سوزان أمها ،
وهمست في
أذنها:
ـ أريدك أن
تكوني عاقلة
هناك ..
سيقدمون لك
كل شئ ،الطعام والملابس
.وسوف أزورك
مع حمدي كل
صباح ..
اختفت
فجأة مظاهر
الحبور من وجه
العجوز التي أطلقت
صرخة مخيفة أفزعتني .
ـ
لن اذهب ..إنه
مكان قذر
..ابقي معي..
ـ
ألا يكفي كل
هذه السنوات ؟
ـ
ابقي معي
ولن أقول لك
عاهرة بعد الآن.! .
ابتدأت
الضجة والصخب
،وبدأت
الموسيقى
الرهيبة ككل
ليلة ،وشدت
وثاق أمها ككل
ليلة أيضا .
بعد ليال
طويلة ،
أتاني
في نهار مشؤوم
صوت زوجتي :
ـ
هيا انهض
..العجوز
المجنونة التي
في نهاية
الزقاق أشعلت
النار في بيتها .
تجول
عيناي في
الغرفة . قي
داخلي نار
مدمرة لا تطاق
.سوزان عاشت
في ذلك الحريق
أضعاف أضعافها
.حينما كانت
راقدة على
سريرها
العتيق في غرفتها
الزرقاء .
أحب
سوزان ..
أمي
تفتح الباب
.تتأملني ثم
تقترب
:
ـ
كيف حالك يا
ولدي ؟
ـ
قلبي يحترق
..يحترق .
تتسع
عيناها بخوف
إلى درجة
الجحوظ .تنظر
إليّ باستغراب.
ـ
ألا تشمين
رائحته ؟
رائحة
الرماد..أغلقي
النافذة ،كي
لا تفوح
رائحته إلى
الخارج .
تتأملني
أمي . أدير
وجهي نحو
الجدار . يصرُ
سريري،كصرير
سرير سوزان
تماماً..!
23 /4
/1987
كركوك