الدخول في الشرنقة

       

                                                        

 

وتنطلق الحناجر بالموشح تتحدى الغربة بكل اللغات ،وتشهق الأفئدة بالحسرة .متى ،متى أيها الوطن الحبيب نعود ثانية ؟

قدك المياس يا عمري

يا غصين البان ..

ـ ألا تنوي أن تعترف  ..

أصحو من جديد . تتلاشى الصور كطائر رعديد .

ـ أي اعتراف يا أخي ؟

ـ أخوك ..هه

ـ أنا عائد إلى وطني والطائرة نزلت هنا لفترة قصيرة للإقلاع ثانية .وانتم الذين قبضتم علي .

ـ لا تحاول المراوغة .فلقد مر من مشرحتنا الكثيرون من أمثالك .

ـ إنني عائد إلى بلادي . ماذا تريدون من إنسان ليس من مواطنيكم ؟

ضحك اسمن الرجال الثلاثة هازئا ،وكأنه يقول في داخله سنجعلك تعترف بكل شئ من يوم ما ولدت وحتى الآن .

ماذا يريدون أن يعرفوا عني ؟

ماذا يهمهم من الصبي الذي كان يذهب إلى المدرسة على دراجة أبيه العتيقة ؟ ماذا يهمهم منه ومن أحلامه الرومانسية التي كانت تجتاحه وهو ينتظر حبيبته عند عودتها من الكنيسة ..؟

هيفاء . من يدري أين أنت الآن ؟ عشر سنوات لم أرك فيها .من يدري في أية زاوية أنت من كركوك ؟ كم أود أن اضحك عاليا .فقد كنت اعتبر نفسي شاعرا في يوم ما .وكنت اكتب عنك أكثر من قصيدة في يوم واحد .

آه كم كنت أتباهى بقدرتي هذه بين أصدقائي .

ـ ألا تود الاعتراف ؟ من كنت تعرف من طلبنتا  المعادين للنظام الوطني ؟ ألم يكن لهم تنظيم معاد  ؟ ما هي أسماءهم ؟

ـ كأسكم يا شباب ..

يبرز رشيد بضحكته التي لا تغيب عن شفتيه ، وهو يقول :

ـ والله يا شباب يوم تخرجي ، سأرقص إلى حدود هذا البلد . سأودع فيه بزغاريد مريرة ..

ويرد عليه شوقي :

ـ لم نعش في هذا البلد  غير الجوع ووجع الرأس والإفلاس .

يعود صوت الرجل ملحا :

ـ هيا لابد أن تعرف أسماء بعضهم .

ـ أية أسماء يا أخي ، لم يكن معي في ذلك البلد عربي واحد.

وتنهال عليّ عصي وصفعات وشتائم لم اسمعها في حياتي .

يضربني نور الدين أفندي معلمي في الابتدائية . صاحب السدارة الوسخة التي لم أرها مغسولة طوال سنوات الدراسة مرددا (( العصا لمن عصى ))..لكنني لم اعص نور الدين أفندي ..

ـ هيفاء .. لماذا تخجلين ؟

ـ تُقبلني وتريد مني أن اضحك ؟

أضمها إلى صدري وسمع دقات قلبها .

أين أنت الآن يا هيفاء ؟ من يدري ، ربما تزوجت . ولم يبق مني فيك غير خيط رفيع ينتابك كحزن شفيف. لماذا أتذكرك الآن ؟ في هذه اللحظة بالذات ؟

ينساب إلى فمي سائل حار مالح ثم ينهمل دمي على أرضية الغرفة قطرة قطرة ..

لماذا يا نور الدين أفندي ، لماذا ؟ لقد حاولت أن أكون طالبا مطيعا دائما . فمتى تُلقي هذه العصا من يدك ؟ ربما أنت أيضا ، سترى نفسك ضعيفا من غيرها كهؤلاء الذين يبدون عربا من قارة لا اسم لها على خارطة الزمن .

ـ أرجوكم أريد العودة إلى وطني .

ـ دخول الحمام ، ليس مثل خروجه .

ـ أنا هنا مجرد عابر سبيل . وانتم الذين اعتقلتموني في المطار .

ـ سنمهلك ساعة  ، بعدها سنعود . ومن الأفضل لك أن تتذكر أسماء من تعرفهم من طلبتنا .

وضعوا أمامي ورقة بيضاء وقلما .

الورقة بيضاء ناصعة .أتذكر أول قصيدة كتبتها عن هيفاء .كانت قصيدة ساذجة . شبهتها بالقمر الذي لم تكن قدما اَرمسترونك قد وطأته بعد .ماذا اكتب ؟هل اكتب أسماءكم هنا يا شوقي ويا رشيد و يا محمد و يا فوزي  ..؟
قال فوزي :ـ الليلة ، ليلة التخرج . فلتكن سكرتنا بمستواها .
بعد ساعات فاحت  رائحة اللحم الذي اشتريناه بعد أن جمعنا ثمنه  .

ـ هذا خير دليل على اشتراكيتنا  .

ـ  لا تبسط الأمور إلى هذه الدرجة  فلم نشرب بعد..

ـ هذه ليلتنا ..

ـ  عند الأحباب تسقط الآداب .

غضب رشيد . لم أره غاضبا قط . لكم كنت أحب هذا التيس  !

ـ  يا أخي هذ1 قول سوقي  ..

ـ بالله عليكم يا شباب  ..دعونا من هذا الهراء .

ـ سأعود إلى بلدي ..لا إفلاس ، لا انتظار للحوالة الشهرية والاهم لا امتحانات .

طوال الوقت ،انطلقت الحناجر بقدك المياس يا عمري ..تحت سماء أجنبية الهواء والنجوم ..

في تلك الليلة لم انم . كان الوطن هو الحلم في النوم والصحو .
في الصباح انطلقت أول طائرة .
في فمي مرارة العلقم . تذكرني بطعم العرق الذي شربته لأول مرة مع فوزي ..
الورقة لا تزال بيضاء .

أخوض في عباب السنوات والأيام .جواز سفري عربي ،وهذه ارض عربية  . هُراء هؤلاء من قارة أخرى ،من ارض لم يسمع بها أحد . وأنا ما ذنبي ؟ أتتشابك خيوط الذكريات وتنتهي هنا واقل من نصف ساعة تفصلني عن بلدي .

ـ كأسكم يا شباب           ! 

ونهرع إلى المستشفى في حرب 73 للتبرع بالدم .

صف طويل من الطلبة اصطفوا أمام الطبيب الذي اندهش قائلا: لم أكن أتصور أن في بلادنا هذا العدد الكبير من الطلبة العرب !

الورقة البيضاء تنظر إليّ بحنو . أبادلها النظرات .
يدخل قطار الغربة في نفق طويل دامس . اسمع صوت أقدامهم .يفتحون الباب .
ابتسم يا رشيد،ولا تخف . بل اضحك ملء شدقيك كعهدي بك دائما !..