لا تنظر إلى الخلف  أبدا!

 

 

مثل عشرات المرات السابقة ، وقفت في الموقف بانتظار الحافلة . لم تكن على عجلة من أمرها ‘ فهي اعتادت كل يوم أن تخرج مبكرة عن ساعات دروسها في مدرستها الصغيرة . تلك المدرسة التي تشكل مع البيت كل عالمها الصغير .ثمة أغان يرتفع صوتها أكثر من المألوف من محل المرطبات . السيارات تتهادى في الشارع بدون توقف وكأنها تنساب من ينبوع لا يهدأ ولا يجف. كل شيء في ذلك اليوم كان يبدو اعتياديا ، الناس والسيارات والشارع والضجيج . حتى الشمس في تألقها وبريقها الربيعي الأخاذ  ، ودفئها الذي يتسلل بخدر إلى الشرايين ، كانت مألوفة بالنسبة لها .

من بعيد أقبلت الحافلة مثل كل يوم أيضاً . نظرت إلى ساعتها بصورة لا شعورية ،وابتسمت . إنها لم تتأخر إلا قليلا . لم تكن الحافلة مزدحمة ذلك الازدحام الذي يبعث في النفس أحياناً الشعور بالتأفف والضجر . كل ما في الآمر ، أن مقاعدها كانت شبه مزدحمة بالركاب .جلست بهدوء على أحد المقاعد . حينما تحركت الحافلة ، أخذت الأشجار والأبنية تتحرك والناس يتحركون أمامها كشريط سينمائي متدفق ، مزدحم  بالحركة والألوان . التفتت إلى جانب الشباك فألفت إلى جانبها شاباً بملابس عسكرية لم تنتبه إليه حينما جلست إلى جواره .

الأشجار التي تمر الحافلة بالقرب منها ، تلقي بظلالها على وجهه . جاهدت أن تبعد نظراتها عنه ، لكن شيئاً خفياً ، جذاباً ظل يدعوها إلى أن تتأمله بطرف عينيها لسبب لم تعرف دوافعه .

يبدو ممتلئاً بالحيوية ، كث الشارب ، عريض المنكبين ، لا يعيب وجهه الجميل سوى استطالة غير محبذة إلى درجة ما في ذقنه . وحينما أحست بأنه انتبه إلى نظراتها  ، اعتدلت في جلستها ، واتجهت بنظراتها إلى الشارع وإلى فرع الشارع الرئيسي الذي دخلت فيه الحافلة .

فجأة أحست بسعادة غامرة ، طافحة ، جامحة تملأ كيانها . لماذا تشعر بكل هذا الهدوء الذي يبعث على السعادة ؟  أهو بسبب هذا النهار الربيعي الألق ؟ أم لسبب أخر لا تدري كنهه ؟ لم تجهد نفسها كي تجد الجواب . يكفي أنها تشعر بالسعادة في هذا اليوم الجميل وكفى ؟

التفتت إليه مرة أخرى  ، فرأته قد نهض يريد النزول . أفسحت له المجال ، أحست بأنه هو الآخر يتأملها دون أن  يرفع نظره إليها .جلست ثانية في مقعدها ، وصور الأبنية والشوارع لا تزال تترى أمام ناظريها . بعد موقفين ستنزل أمام المدرسة . حانت منها إلتفاتة إلى المقعد الخالي إلى جانبها . وفجأة أبصرت حقيبة يد صغيرة رجالية . أجفلت لابد إنها تعود له . أرادت أن تسلم الحقيبة إلى سائق الحافلة . لكنها ألفت نفسها غير متحمسة لذلك ، وكأن ثمة يد خفية منعتها من ذلك .  

 

                      *             *               *

الجمعة 5 / 2

ــــــــ

أسميتك (منال ) ،وأغلقت عليك باب قلبي ،وعواطفي من بالمزلاج . صنعتك من خيالي ، وأوهامي الجميلة فأصبحت تعيشين وتتنفسين في أحاسيسي أناء الليل وأطراف النهار .لكل حلمه ..وأنا أصنع حلمي بك .هذا الحلم الجميل يحررني من الزمان و المكان .قد تكونين قريبة مني على بعد مرمى حجر ، وقد تظلين وهماً عذباً حسب رغباتي المجنونة ، وعواطفي الطائشة  يتغير شعرك و ملامحك وجسدك في خيالي .أنت حلمي الجميل الذي أخاطبه بكل اللغات . 

يقول الحسين بن منصور الحلاج (( كأنها كأنها كأنه كأنه . كأنها كأنها كأنه كأنه . بنيانها أركانها وأركانها بنيانها بها بها بها . لاهي هو ولا هو هي إلا هو . لاهي إلا هو و لاهو إلا هو  . )) لو حدث أن التقيت بك   سأقول لك : كأنها كأنها هي أنت ، وكأنه كأنه هو أنا .

 
 
الخميس 15/ 2
ــــــــ

يلجأ الجبل إلى المغاور في النهارات .. والسهول تلملم جلبابها وشمسها .. والأشجار تراقب صامتة خرساء ما يحدث .. آه لو نضع متاعنا اليومي على أكتافنا ، ونتوجه نحو السفن يا منال ..! لو نضع السهم في القوس من جديد .. لنعيش من جديد ، ببداية جديدة لا مكان فيها للسلاح ولا للبدلة العسكرية . لكم أكره أن يكون البسطال جزءاً من حياتي اليومية .

الاثنين  18 / 2
ــــــــ

ها قد انقضى ليل أخر يا حبيبتي .تحول الفجر إلى عصفور مغرد في كل نوافذ العالم . سلاسل الجبال ، تظهر للعيان .كل الألوان بدأت تكشف عن ذاتها .. بدأ نهار جديد لأحمد وعائشة وليلى وعلي وعبد الرزاق وجون ومارياوخاجيك وفرانك وماتيلدا ..هو نفس النهار الذي يشرق عليك من نافذتك .. وأنت تحاولين الاحتفاظ بخدر  النوم ورخاوته من خلال أهدابك السوداء المتعانقة فوق عينيك الجميلتين .

في هذا النهار ثمة من سيموت ، وثمة من سيظل حياً...الموتى يرحلون إلى القبور ، والأحياء للحرث والحصاد والعمل وممارسة الحب .. هذا النهار الذي يشرق على الخنادق والبنادق علينا هنا .. هو نفس النهار الذي يحتضنك في فراشك الذي أتمني أن أكون شريكك فيه ..

الخميس 20/2

ــــــــ
أُقسم الحب وأوزعه على الجهات الأربع .. شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً ، كي يواجهني بك أينما توجهت .

آه لو أدري  من يكتب مصائرنا على الجباه .. أُفقياً وعمودياً ، وتفاصيل أحزاننا وملهاتنا .. ؟

الثلاثاء 4 / 3
ـــــــ

وصل ميم إلى نون ونون إلى ألف والآلف إلى لام ..فكنت أنت ( منال ) ..ووصل سين إلى نون والنون الألف والألف إلى نون فكنت أنا  ..

الليل يبصر وجهه في ضوء القمر منيراً . أنا ليل وأنت قمري .. تعالي لأرى وجهي . تعالي ,أنقذيني من الهم والحسرة والشوق . تعالي ولتتحرر روحي من هذا وذاك ، ومن العيب والحرام .

الاثنين  10 / 3

ـــــــــ

إبراهيم حطم أوثان نمرود ، وأنا أريد أن أصنع أوثاني الجديدة بدلاً من تلك التي حطمتها . نبوخذنصر حول الجميلات في حدائقه المعلقة إلى أصنام .. أما أنا ففي حدائقي التي تتحدى الزمن  ، أصنع وثنك وأعبدك..

الجمعة 14 / 3

ــــــــ

الخيال ، أعظم هبة من الخالق للبشر .. لولاه هل نتخيل الفردوس والحور والغلمان ؟ لولاه هل كنت الآن في أحضاني في مثل هذه اللحظة من الليل البهيم الذي لا يمزق صمته إلا أصوات المدافع بين حين وأخر ..؟

هل كنت أستطيع أن أنام على نهديك .. أن أنزلق إلى شهيقك وزفيرك .. وأن أُضفر شعرك مائة مرة ، وأفتحها مائة مرة في اليوم ؟

الأحد 16 / 3

ـــــــ

أتذكر أمينة بنت الجيران . كانت تُسكرني بقبلها التي أصبحت خبيرة بها مع الزمن . كانت تذهب وحدها إلى السينما . وكانت تزهر كوردة الختمي فوق أحلامي . حينما القمر كان يختفي يبن الغيوم ، أمينة كانت تقول: وردة الليلاك تزهر فوق رأسي ثم تقول : اعزف لي العود كي يكبر صدري ..

كم من موسم مر على أحيائنا الفقيرة التي قاسمتنا الهموم وأفراحنا المتواضعة .. فتيات بعمر الزهور ..أرامل وشابات ، من يدري أين هن الآن ؟

في الصيف كانت النوافذ تنفتح على سعتها .. وبمجرد نظرة تبدأ قصص حب صامتة . . ينتحر شاب من أجل فتاة تذوب كالشمع بصمت من فرط الحب السري ..! يا إلهي أي قلوب هذه التي تحب بكل مثل هذا العنفوان والقوة ؟ .. رسائل دافئة ، لقاءات سرية ، وقُبل تحت ضوء القمر في أماكن لا تخطر على بال إبليس نفسه .. مجرد دقائق مختلسة تساوي العمر كله ..وعد بالوفاء طول العمر ..كأن العشاق يعيشون في الفضاء والآخرون على الأرض ..أما ألان فقد أسقطت الأحلام أوراقها  ، كما الأشجار في الخريف . تعرت السماء من زرقتها ، والأشجار من خضرتها ، وقلوبنا من اللهفات القديمة .. سقطت الأوراق من الأشجار ،واختفت الأماني ..

لذلك صنعت حلمي بنفسي ،فكنت أنت يا منال .

 

 

الثلاثاء 18 / 3

ـــــــ

يقول مولانا جلال الدين الرومي :

قسماً بأرواح كل السكارى ، أنا سكران فخذ بيدي أيها الضليل .. قسماً بروح كل ذي روح ، تحولت إلى روح .. وآنت معبودتي في الكعبة والكنيس ، وأنت مرامي في العلياء والدنى .

الخميس 20 /3  

لو قلت لي : اذهب من هذا الصوب فأنت رجل عاقل ، لذهبت وسكرت حتى الثمالة .

لو قلت لي : أنت لست مجنوناً فلا تليق بي ، لجننت وقيدت نفسي بالأغلال في ( عمر مندان ) ليل نهار*
وجد فؤادي فيك بريق الروح ، فأشرق وأضاء .
اهتدى فؤادي إلى أطلسك الزاهي ، فغدوت عدواً لبدلتي العسكرية .
الأربعاء 26 / 3
ـــــــ

كل الأحلام تؤدي إلى ( منال ).. فمتى تصلني  أنفاسك الحرى   ؟.. لامكان للخطيئة في مرآك ، وملامستك .

.. أُمي أكثر لهفة مني للقيا (منال )  تعتقد من كثرة حديثي عنك لها أنك واقع جميل في حياتي ، وليس مجرد حلم صنعته لنفسي   .. يليق الإنسان بمن يعبده ، فما أسعدني بمعبودتي ..حين تخرج من دهاليز الحلم إلى حيث الشمس و الحياة . الحب ، واللقاء أمران متلازمان . أخشى ما أخشاه أن أحس نفسي مهجوراً كظل عمر الخيام في يوم ما .

                                            *               *            *

 

أغلقت الدفتر الصغير ، وألقت نظرة أُخرى  على صفحته الأولى فوجدت فيها  اسمه وعنوانه . أعادت الدفتر إلى حقيبته الصغيرة ، واتجهت صوب الشارع المذكور في العنوان .

كانت السماء ذات زرقة لا متناهية ، براقة ، ساطعة ، عميقة ، وسرب من الزرازير تصافح بأجنحتها النسيم العذب الذي يهب من فوق نهر( خاصة صو ) *الدائم الجفاف صيفاً ، والممتد بمياهه الضحلة كورقة ملساء 

أخيراً ، دلفت إلى الزقاق الذي يقع فيه العنوان . لم تكن متهيبة ، ولم تكن تحس أن في تصرفها أمراً غريباً . لعل هذا الدفتر الصغير أو الحقيبة بمعنى أصح تحمل أهمية كبيرة له .

ضغطت على الجرس . تناهى إلى سمعها صوت امرأة عجوز . لابد أنها أمه :

ـ  عيني سنان اجلس أنت .. وسأفتح أنا الباب  .من الطارق؟

ألفت نفسها ترد بثقة :

ـ  أنا منال  !

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* ـ عمر مندان : مزار قريب من كركوك يربط إليه بالأغلال من به مس طلباً للشفاء .

* ـ خاصة صو : نهر جاف صيفاً يمر من وسط كركوك .