محمد أسليــم

بالعنـف تتجدد دمـاء الحـب

(روايـة)

 

 إهــداء

إلى كل الواقفين على شرفة المجتمع، على هَامِشه، حيث يغرسون زُهورا وورودا، من دمَائهم ولحومهم تقتاتُ؛ اتخذوا من الأفران بيوتا لهم، ينشرُون فيها جثثهم ويَعرضونها أطباقا، مَأدبات لنهش الناهشين، لا ينصرفون منها إلا عَلى خطى من جَمر... على كشف زيف البضَاعة يتعاونون...

نص الروايـة

لم تكن تصفيقاتُ جمهور الحاضرين قد توقفت بعدُ عندما انسلت من صُفوف المدرج حَسناء شقراء، ابنة ست وعشرين سنة، لم يسبق لي أن عَرفتها مِن قبل. قامت تتهادَى، ثم أخذت وجهة المنصة بخطو سَريع وخصلات شعرها تدَاعب جبينها وعينيها، ومَوكب عطرها يسبقها إلى أن وَصلت إلى مَائدة المشاركين، فاختارتني لسَبب لا زلتُ أجهله إلى اليوم؛ وثبتْ على وجنتي، وانكفأت طابعَة عليهمَا قبلات ملحاحة عميقة. خجلتُ، ارتبكتُ، سَألتها مُتمتما بنبرَة استغرابٍ شديد:

- مَن أنت؟

قالت: سَوف تعرف.

قلتُ: كيف تجرأتِ على تقبيلي؟

قالت: سَوف تعرف، سَوف تعرف.

قلتُ: لكن زوجتي حَاضرة هنا...

قالت: إنكَ لم تتزوَّج بعد.

سَألتها باستغرابٍ شديد، وأنا أشير إلى حيث تقعُد ربَّـة بيتـي:

- وإذن فمَا عَسى تلكَ المرأة أن تكون؟!

قالت: مجرَّد نقطة في المداخلة، كانت أهَم ما أثارني في كلامك، وهي ما أودُّ مناقشتك فيه بالضَّبط. أتتفضل بمنحي لقاء فورَ انتهاء الندوة، على السَّادسة والنصف مَساء، في مقهى العزَّب؟ متفق؟

قلت: ولكنني لستُ أعزب، أنا رجُل متزوج وأبٌ لطفلين...

قالت: مجرَّد وهم. أنت لا زلتَ أعزب ككل الرِّجال المتزوجين، وزوجتك لا زالت عَزباء ككل نساء البلد. الموعد ضروري ومُؤكد. سَتجدني في تمام الساعة السَّادسة والنصف، جالسة في انتظارك بمَقهى العزَّب.

كدتُ أقنع نفسي بأن الأمرَ يتعلق بواحدَة من تلك الطالبات المجنونات اللواتي يتصيدن التجمُّعات أو التظاهرَات الثقافية ليختلقن حكايات يَسترقن بها الأضواء، كتلكَ التي كانت تواظب على حُضور الندوات الرِّوائية، وفي كلِّ ندوة تطبق على روائيّ زاعمة أنه قد كتب عن أسرارها الشَّخصية في هذا العمَل من أعماله أو ذاك... كدتُ أقنع نفسي بذلك، ولكن ما أن ألقيتُ نظرة على يميني وأخرى عَلى يسَاري حتَّى تبدَّد ما هممتُ إقناع نفسي به؛ فقد شَدَّ المتدخلون واحدا واحدا على يَدي يُصافحونني، بل وتجرأ بعضهم عَلى تقبيلي من الوجنتين مثلما فعَلت الفتاة...

انصرفتُ إلى المقهى وأنا شبه مُوقن بأن الحكاية لا يمكنُ تفسيرها إلا بكون الفتاة المعنية قدْ أخفت لي مُفاجأة كبرى: لعَلها قريبة لي انقطع حبل الصِّلة بأهلها منذ عقود، ثمَّ اهتدت أخيرا إلى مكان وجودي، فاختارت أن تسْتهل عَلى ذلك النحو عرضَ اللقاء بين قريبين بَعد فراق طويل. أو رُبما كنتُ جئتُ في عرضي - من غير أن أعلم - بنظرية جَديدة ستقلب كلَّ المعارف الرَّائجة حاليا «بصدد تفسير نشأة المؤسَّسات الاجتماعية: الأسْرة نموذجا»، وكان هذا هُو عنوان العرض الذي ساهمتُ به، حثَّني على هذا التفسير طولُ التصفيقات التي خصَّني بها جمهور الحاضرين، ثم التحية التي خصَّني بها زُملائي الأساتذة....

ما أن وطئتُ عتبة مقهى العزاب حتَّى لاحَ لي وجهها، جلستُ بجانبها، صارت مائدتنا شبه مغناطيس يجذبُ أنظار الرُّواد قاطبة لفرط جمال جَليستي، فاتحتني قائلة:

- لستُ من أقربائكَ، كما قد يخيل إليك، ولا حتَّى من اللواتي يُحتمَل أن يكنَّ أعجبنَ بمحاضرتك، بل إني كدتُ أعتبرها أضعفَ المداخلات على الإطلاق لولا أنها أثارت في ذهني الأفكارَ التي قررتُ أن أقنعكَ بها...

قلت: لا أزعمُ أنني جئتُ بوحي أو بحقائق نهائية. اطرحي أمَامي المسألة، هات الحجج والبراهين المضادَّة، وأنا على أتم الاستعداد لمراجعة كلَّ شيء على ضوء ما تقترحين.

قالت: ذكرتَ أنَّ ظهور المؤسَّسة العائلية يرتبط في شق منه بالضُّعفِ، مثلها في ذلك مثل كافة القوانين: فسَن القوانين يتوِّجُ تسلطا لا مثيل له: في البدايَة ينال الأقوياء ما يشاؤون بفضل قوة عَضلاتهم، لكنهُم يفطنون إلى أن هذه القوة ستطالها شَيخوخة مزدوجة طالَ الزمان أم قصر: شيخوخة السِّن، وشيخوخة النسل، وفورَ فطنتهم لذلك يعمدُون إلى تحرير قوانين، هي ضرب من عُقود ومواثيق يضمنون بها استمرار امتلاكهم، هُم وأبناؤهم، الامتيَازات التي كانوا نالوها بالقوة. بهَذا المعنى، لا يرتبط رجُل بامرأة إلا ليؤممها ويَصرف عنها، بقوة القانون، جَبابرة الرجال ومَردتهم الذين يصولون ويجولونَ في حلبات النساء، لجمالهم أو لأموالهم، لعضلاتهم أو لدهائهم... ثم ذَكَرْتَ أن ظهورَ مؤسسة العائلة نفسَه يرتبط في شقه الآخر بالمزايا النفسية التي يحققها هَذا التنظيم، حيث سَردتَ مجموعة من الحالات النفسية زاعما أنَّ الإنسَان لو لم يجد فيها راحة وسَعادة لكان استغنى عن الزَّواج منذ قرون. أليس كذلك؟

قلتُ: بلـى.

قالـت: هذا بالضَّبط ما أريـدُ مُناقشتك فيه. وأود أن أستهلَّ هذه المجادلة بسؤال؛ سُؤال واحد لا غير، تمنحني وعد شرفٍ بصدق الإجابة عليه:

- أتحبّ زوجتك أم لا؟

سادَ صمتٌ رهيبٌ، هممتُ بالنطق، احتوتني نظراتُ جليستي الملحاحة الغنجة، وجدتُ نفسي غارقا في الصَّمت. داخل صَمتي طاردتني مؤنستي:

- أتحبُّ زوجتك أم لا؟ عِدني وعْدَ شَرَفٍ بصدق الإجابة...

سادَ صمتٌ أطول، خلتُ نفسي نائما، لملمتُ كلمة، هممتُ بإلقائها، حاصرني جمالُ الجليسة، أصابني شبه دُوار، غرقتُ في تأمل محيَّاها بإجلال وخشوع، تارة أغرقُ في نشوة الابتهاج بجمال بدئي، وتارة يغيبُ وجه المؤنسة فتنبجسُ منه صورة زوجَتي أيام تعرفتُ عليها... تساءلتُ هل أحسَست يومئذ بالنشوة ذاتها وبالجاذبية ذاتها؟ اختلط الوجهان: وجهٌ قديمٌ جديدٌ، ووجهٌ جديدٌ قديمٌ. هاجت حواسّي، تمنَّيتُ لو كانت زوجتي هي جَليستي الآن. قلتُ كمن استيقظ لتوِّه من النوم:

- لا!!!

تنفسَت الصعداء، كأنها نجحتْ في اختبار عسير، أو نجت من عقاب وَشيك، سوَّت مقعدها قليلا بحركة فهمتُ منها أنها حدثت نفسها قائلة: «يحقُّ لي الآن أن أستمر في مجالسته ومحادثته؛ شيءٌ ما يُبـرر الاستمرار في الجلوس معه والتحدُّث إليه». ومما رسخ في ذهني صَواب هَذا التفسير كون الوضعُ الجلوسي الجديد الذي أخذته محادثتي، سمَّر بصرها في وجهي بحيث صَار مستحيلا عليها أن تنظر في أيّ رجل آخر غيري، وهي التي كانت قبْل قليل مُطبقة ببصرها على فضاء المقهى وشخوصِه الجالسين والمنصرفين والقادمينَ، كأنها جهاز رادار فائق الحسَاسية. أحسستُ بالذنب؛ لماذا لم أصرفها لحظة طبعتْ على خدِّي قبلاتها العميقة الملحاحة؟ زَوجتي المسكينة جَالسة الآن مع طفليها، تنتظرُ وصولي كيْ تستفسرني عن أفكار ذكرتها في العَرض، كنتُ أخفيتها عَنها من قبل، وأنا أستمتع بالنظر في هذا الوَجه الملائكي الذي سيتضِح لي - فيما بعد - أنه خرَج من سُلالة الشياطين... أحسستُ بالنشوة: لم يكن بوُسعي أنا ولا أي رجل آخر أن يرفض قبلاتها؛ فهي أوقعتني في مَا لا أتردد الآن في تسْميته بفخ: تصرفتْ على نحو أوهمني بأنها موظفة جديدَة في الكلية، ولما اطمأنت إلى أنني خدِعت، انحنت ثم دَنت بفمها إلى أذني كأنّها ستبلغني أمرا إداريا هامّا، بيدَ أنني ما ملتُ بأذني كي يسهل عليَّ التقاط ما خيلَ إلي أنها كانت تودّ قوله لي، ويسهُل عليها إيصال «رسالتها» إلي حتَّى وثبت عَلى وجنتي وأغرقتهما بالقبلات...

أجبتُ زوجتي في حوار بيني وبينهَا بصَدد المشهد المعلوم:

- أيّ رجُل بوسعه أن يفعل شيئا آخَر غير ما فعلته؟ !

لكنها ردَّت حجَّتي باعتـراض أقـوى، ربما كان هُـو سبب انتشائي، وتبدّد إحساسي بالذنب؛ صرختْ في وَجهي بعينين جَاحظتين يتطايران شـرا:

- ولماذا اختارتك وحدَك من بين سَائر السَّادة الأساتذة؟ ..

نعم لماذا اختارتني من بين سَائر زملائي؟ أنا بدَوري ما فتئتُ أطرح السؤال بداخلي حتى الآنَ، ولكن أحدا لن يصدِّقني على الإطلاق.

- ...........

قالت: لو لم يكن لها تصـورٌ عنـك، لو لم تكنْ لهـا مَعرفة مسبقة بك، لو لم يكن لها فهمٌ معين لنصوصك، لو لم يُحْكَ لها عنك، لو.. لو.. لو.. لو.. لما جرأتْ على فعل ما فعلته مَعك وحدكَ...

انتزعتني الجليسَة من اللجاج الدَّائر في رأسي بيني وبين زوجتي، أخذَت ملامحها حَزْما عتابيا قزَّم عبوس ربة البيت؛ بدَت محاورتي مِثلَ أمّ شريرة أمسكتْ عصا وعبسَت، ثم ألقت في وجه طفلهَا سيلا من العتابات والتعنيفات تمهيدا لإمطار ظهره ضَربا. قالتْ لائمة مُستغربة:

- ولماذا لا تحبها؟!!

قلت مُتمتما: أقصد أنني لم أحسّ بالسعادة معها. ربما لكون الحبّ يتلاشى داخل الحياة الزَّوجية؛ في البداية يحبُّ الرجل الفتاة - مشروع زواجه، فيكونُ سعيدا، يتخيَّل أنها ستأويه في فردَوس، لكن مَا أن يجمعهما سَقف واحدٌ، وتتمطى الأعوام علىالبيت، ويعمِّره الأبناء حتَّى تصيرُ الحاجة إلى الآخـر محضَ روتين.

قالت: عَجبا، ولماذا؟!

قلت: لستُ أدري، ربما كانتْ طبيعة الإنسان دائما هَكذا...

قالت: هَل يمكنني أن أفهمَ أنَّ الإنسان يكون أسعد إن لم يتزوَّج؟

قلتُ: ربمـا.

تنفست الصّعداء مُرسلة زفرة أطول من الأولى، كأنها نجحت في اختبار أعسَر، أو أفلتت من عقاب أوشك، سوَّت مقعدها قليلا بحركة حَازمة فهمتُ من خلالها أنها حدَّثتْ نفسها قائلة: «يحق لي الآن أن أستمرّ في مجالسَته والحديث مَعه؛ ثمة شيءٌ ما يبرِّر البقاء معه...».

قالت: ذاكَ هو رأيي بالضبط، وذاكَ هو الاعتراض الذي أردتُ إبداءه إزاءَ ما جاءَ في عرضك. فأنا لستُ مُتزوجة، ولا أفكر في الزواج ، ولن أفكرَ فيه على الإطلاق. بل لا يخطرُ ببالي نهائيا الارتباط بأيِّ رجلٍ مهما كانَ جماله الجسدي ومرتبته الاجتماعية، ولو لمجرَّد شهر أو شهرين، لأنه مَهما يعاملني لن يجد لغزو قلبي سَبيلا؛ سأمله بسُرعة، وينقلب ميلي إليه إلى نفور... لو فعلتُ لكنتُ كأنني عمدتُ إلى قيدٍ ووضعته على يدي ورجلي، يمنعني من حرية الحرَكة والتصرُّف. البقاء مع رجل واحد سيحرمني من لذة الإقامة في الاحتمَال وما أدراكَ ما الإقامة في الاحتمال؛ هي أن أشعرَ على الدَّوام بأنني حرّة طليقة، بأنني مِلكٌ لنفسي، مُهيأة دائما لإقامة علاقة جديدة، أترقب على الدَّوام أن أرتبط بصلة جديدة مع رجُل جديد دون أن يكون لأي رجُل قديم، «ارتبطتُ به» من قبل، أدنى حق في مَنعي عن ذلك ... لكن، أنتَ لماذا تزوجتَ؟

قلتُ: لستُ أدري، كل ما أعرفه هُو أنني لم أفطن إلى هذه الحقيقة إلا في وقتٍ قريب جدا، لم ألتفت إليها إلا بعد فوات الأوان؛ فأنا الآن رَبّ بيتٍ، كما أنني أبُ أطفال، ولي مَسؤوليات تجاههم، ولا يعقلُ أن أنصرف وأتركهم، إن فعلتُ أذنبتُ في حقهم، كنتُ كمن ارتكب جريمة في حقهم. وفي النهَاية، إنَّ الأطفال أنفسهم يرتقون ما يخرمُه الزمن. إذا كانت العلاقة بالزَّوجة تتحول إلى أزَل من الرّوتين، فالأبناء يزوِّدُون الأب والأم، في كلِّ يوم، بوقود جديد لطي ما سَيَأتي من السنوات. إنهم يمنحون الطرفين نوعا من التعويض، حيث يَنسى كلُّ طرف الآخر، بل وحتَّى نفسه، ليصرفَ اهتمامه وبصره إلى ما يجمعه بالطرف الآخر: الأبناء. ثمَّ فوق هذا كله، إنني لستُ نادما على زواجي، لأنَّني لو لم أفعل لربما كنتُ الآن صُعلوكا أو مشردا، أو ربما كنتُ ميتا لفرط ما كان سينقضُّ علي من أمراض عَائدة إلى سوء التغذية وقلة الاعتناء بالنفس والبدن...

قالت: لا أشاطرُ زعمك بأنَّ التخلي عن الأطفال يُعَدّ جريمة في حَقهم. حقا إن ذلكَ سيؤلمهم، بيد أنَّ الألم قِسمة متداولة بين بني الإنسان. فإذا أنجزَ بحث تاريخي في موضوع تداوُل الألم، ربما كانت النتيجة التي سيتم التوصّل إليها هي: إن يُتمَ الأطفال، والترمّل، والعجز الجسدي، أمانة أو قسمة توزَّع على بني البشر توزيعا عَادلا، أي بالتسَاوي، ولكن في دورات زمنية وأجيال محدَّدة، إن كان من التعذر صياغة قوانين بصدَدها فيمكنُ على الأقل تبيّن ما يلي: إن شقاءَ هذا الطفل اليتيم أو الذي انفصلَ والداه عن بعضيهما، مثلا، والذي تتفتت أكبادُنا شفقة عليه؛ شقاؤه ذاك هو «الضريبة» التي يقدِّمها على السَّعادة التي عاشها من سبَقه من أفراد شجرة نسابته، الذينَ لم يذوقوا طعمَ اليتم ولا شقاءَ فراق الأبوين، الذين كانوا يعيشون، ويلدون، ويُنشئون أبناءهم، وتمتدُّ بهم الحياة إلى رؤية أحفادهم. وهَذه السعادة التي تغمر هذا الجدّ الذي يسعد لكون الحياة قد امتدَّت به إلى أن رأى أحفاده، بلْ وربما حتى أبناء أحفاده، تلكَ السعادة ليست سِوى المكافأة التي نالها عن «الشقاء» الذي عاشَه بعض أعضاء شَجرة نسابته من قبل، الذين ترمَّلوا أو ذاقوا طعم أن يكونَ الرجل أيما، أو ماتوا صغارا... وعليه، يكونُ معنى الحياة نفسها هو إما ضريبة يؤديها المرءُ عن سابقيه أو مكافأة ينالها عن سابقيه أيضا. بهذا المعنى، فإن الفردَ محضَ وَهْم.

وفيما وَراء هذه الخلفية العميقة للأشياء، أعتقـدُ أن المرء بإمكانه أن يخلـق السَّعادة لنفسه متى شاء، كأن تغيرا [أنتَ وزوجتك] دوامَ القبوع في البيت بأن تنظما خرجَات أو أسفارا، تدخلا إلى السِّينما من حين لآخر، تجلسَا في مقهى رُفقة طفليكما...

قلتُ: يا سيدتي، قد فعَلنا ذلك كله وأكثرَ منه؛ سَافرنا، وخرجنا، وأكلنا في المطاعم، وقضينا ليَالي في الفنادق، وتجولنا مَعا في الشَّوارع، إلى أن احتمينا من روتين الإقامة فيها بالهرُوب منها. لكننا لما عُدنا إلى البيت وجدنا روتينه قد كبر واشتدَّ سَاعده إلى أن انفتلت عضلاته، فخشينا العودَة إلى الشارع مخافة أن يَكون روتينه قد صَار غولا... إني لموقن أنني لستُ الوحيد الذي يعاني من هَذه الرتابة. ولكي تقفي عَلى ذلك، يكفي أن تلقي إطلالة على حَانات المدينة. ستجدينهَا مكتظة عن آخرها بالآباء، مثلي، الذينَ يتمردون على مُؤسَّسة الزواج، يهربونَ من جحيم البيت، ويحتمون بظلال الحانة، محاولين تعويضَ برودة العلاقة بالزوجة بدفء العلاقة بالخمرة.

قالت: أخطأتَ الخطأ كله إن ظننتَ أنَّ السِّكِّير ومُدمن المخدِّرات يسكران ويتناولان المنشطات العقلية لكي يفرَّا من المجتمع وضوابطه. على العَكس، إنهما ما يَفعلان ذلك إلا لكي يظلا على صلة وَطيدة بهذا المجتمع، ما يمتطيان طائرة العَقل إلا ليمتثلا لأوامِر الجماعة ونواهيها. كلُّ شيء يتم وكأنهما لا يطيقان المؤسَّسات وقيمها وقيودها، ولكن نظرا لتسلط الجمَاعة وغلبتها، فإنهُما يلجآن إلى الخمرَة والمخدرات لينزلا من أعالي التمرُّد إلى سُفوح الطاعة. كأنَّ السِّكِّيـرَ، بإدمانه الشربَ، يخاطب الآخرينَ قائلا: «اعلموا، ياسَادة، أنني لستُ متفقا معكم، أني غير راض عن كلّ ما تأمرونني بفعله وتحثونني عَلى تركه. في ممكلة الجور والاستبداد بالرَّأي نصبتم رايات وشيدتم ضَوابط، وقلتم لي: "هكذا ينبغي أن تكون"، ثمَّ ألزمتموني بتقديم فروض الطاعة والوَلاء يَوميا... تريدون مني فروض الطاعة والوَلاء؟ حَسنا، سأقدِّمها، لكنني لن أفعل ذلكَ إلا بالانتقال إلى حَالة ثانية، تبديكم لي أشباه مَلائكة، لا يأتيكم الخطأ من أمامكم ولا منْ خلفكم؛ كل ما تقولونه صحيحٌ، وكل ما تأمرُونني بفعله وجيه، ولذلك سَأفعله. لكن اعلموا أني لا أمتثل لأوامِركم إلا لأني سكرانٌ. إن صحوت قلقتُ جدا، لأنني سأكون في حاجَة إلى خمر أو مخدر». ويترتبُ عن ذلك أن المجتمعَ هو الذي يوجد في حالة سُكر لا السَّكران. بتعبير آخر: المجتمعُ سكرانٌ بصَحْوه والسَّكرانُ صاحٍ بسُكره.

ثم إن ظننت أنه بالإمْكان تعويض المرأة بالخمرة، كما ذهبَ إلى ذلك ألفريد دُو موسيه في «نزوات مَريانا» أو بُودلير في «الجنات الاصطناعية» و«أزهَار الشر» وآخرون كثيرون، إن ظننتَ ذلك كنتَ مخطئا أيضا، لأنه لا يُعوِّضُ امرأة إلا أخرى. والطريقُ الملكي لذلك الاستبدال هو أن يخون الزوجُ زوجته، أن يرتبط بسيدة أو أكثر... وبإقامته هَذه العلاقات، سيتغلبُ حتما على الروتين، ويعيد تفجير ينابيع الحبِّ التي أقبرتها زَوجته فيه. ذلك أن الرَّجل ضعيفٌ دائما بطبعه، وما أحوجَه إلى امرأة تعامله كما لو كانَ طفلا صغيرا؛ تبتسمُ له على الدَّوام، تسأله عما به، تقرأ أقلّ قسمات محياه لدى كل لقاء جديد بينهما. وهذا ما لا تعطيه النسَاء، هذا ما تبخلُ به النساء على أزواجهنَّ، لأنهن لا يعرفنَ جميعا هذه الحقيقة، واللواتي يهتدينَ إليها - بالصّدفة أو بإعمال التفكير - سُرعان ما يسدلن عليها حُجُبا وأستارا ويقمن بينهن وبينها حواجزَ شاهقة. وبذلك، ما أن تثقل إحداهن كاهلَ زوجها بحمل من أطفال حتَّى تتمطى وتنفرج أسَاريرها وتتنفس الصعداء قائلة: «إن هذا الرَّجل ليس سوى زَوج لي»؛ «ليس هذا الرَّجل بأكثر من مجرَّد زوج لي»، ما أن تثقل كاهله حتّى تنقلبَ عليه وتأتي من الأفعَال والتصرُّفات بما يجعله يحسّ كأنه يعيش مع والدته أو جدَّته... وأمام وضع كهذا، للرَّجل الحقّ في أن يتخذ له خليلة خارج البيت؛ لا يرَاها يوميا فلا يشبع منها، يشتاق إليها علىالدوام، ولا تراه يوميا فتحن إليه على الدَّوام، ومتى التقاهَا لم تسعها الدنيا فرحة بلقائه، فتنيمُه في فراش من حبّ وتغطيه برداء من عشق، مُغدقة عليه كل ما حرمته الزوجة منه أو لم تقدِّمه له إلا بمنتهى الشحِّ والتقتير، تفعل الخليلة ذلك وكلها خوفٌ من أن يكونَ قد بقي فيها بقية لم تمنحها إياه. وله أن يتدبَّر أمر الحصُول على عشيقته إلى أن يتأتى له ذلك. إن عجز أو انسدَّت في وجهه السُّبل فخادمة البيت تكونُ دائما أقرب الإناث إليه، وأكثرهُن في مُتناول يديه...

قلتُ لها: ما أعتقدني قادرا على إتيان مثل هَذا السّلوك ولا ذاك؛ فكلاهما تصرّفٌ لا أخلاقي.

قهقهت ضَاحكة، ثم قالتْ:

أوَّلا، إن الخيانة الزَّوجية هي أسمى شكل للتعبير عن رفض مؤسَّسة الزواج من دَاخل الزواج نفسه. عندما يخونُ زوجٌ مَّا زوجته، فإنه، عبر هذه الخيانة، إنما ينقلُ في الواقع رسالة؛ يقول: «أنا متزوّجٌ، لكنني أعزب أيضا» أو «أنا أعزب، لكنني مُتزوج أيضا»، وهو قولٌ مجانسٌ لقول اللصّ، والعَاهرة، والمتحوِّلة جنسيا، كما سأوضِّحُ لكَ في ثنايا هَذه المحاورة.

صمتت لحظة، أرسَلت قهقهة أعلى من الأولى، ثم سوَّت جلستها كأنها سَتلقي محاضرة، وواصلت حَديثها قائلة:

كانَ بوسعي أن أتخيل كلَّ شيء إلا أن تكون من السَّذاجة بحيث تعتقد بوجود «الأخلاق». إنَّ الأخلاق ليعجز عن تصوّرها «واضعوها» و«صانعوها» أنفسهم فأحرى أن يقوَى على تقمُّصها وتجسيدها قطعانُ التابعين، وذلكَ لأمور:

الأوَّل: للأخلاق نفسها طبيعة زئبقية، الأمرُ الذي يجعلها تتمنَّعُ عن الانسكاب في أيِّ وعاء، ويجعلها لا «تقيمُ» إلا «هناك»، علما بأن هَذا الـ «هناك» هو الآخر زئبقي يتغيرُ موقعه وجهته بتغير مَوقع الكلام/الكائن/الهنا؛ فإذا كان الهنا هُو الأرضُ كانت الأخلاق في السماء، أو كانت في سَائر العوالم إلا الأرْض؛ كان كوكبنا أصغر من أن يسَعَ الأخلاق؛ كان مَوطن الصَّلاح والاستقامة ومقامُها هو النجوم والكواكب والمجرَّات الأخرى. وإذا كان الـهُـنا هو الإنسانُ كانت الأخلاق خارجه؛ كانت في سَائر الأجساد والكائنات إلا الإنسَان؛ كان موطنها ومقامُها الجبَال والبحَار والأنهار والأحجَار والطرُقات والأشجَار والحيوانات...

الثاني ليكون للأخلاق وُجُودٌ يجب أن يكون للاأخلاق وجودٌ أيضا. فالشيء لا يتحدَّد إلا بغيره، بنقيضه؛ لا تتحدَّد هويته، لا يكتسبُ استقلاله ويصير قابلا للتمييز إلا بضِدِّه. بيد أنني صرفتُ دهورا في تأمل ما يفعله بنو الإنسان فما وجدتُ إلى التمييز بين الإثنين سَبيلا. أما رأيتَ أن الصَّلاحَ والولاية لا ينسكبان إلا في وعاءٍ من دَنسٍ؟! لا تحدثني عن التوبَة، فذهني أصغرُ من أن تقيم فيه صُورة امرئ يَصرف أزمنة في الفجور واللهو والسّكر ثمَّ يلتحق بين عشية وضُحاها بركب الزَّاهدين. إن المرء الذي يصرفُ الأوقات في الحانات إلى أن تشرقَ عليه الأنوار الحاتمية فيبذر أموَال أبنائه تبذيرا، بلا حسابٍ ولا تقتير، فيتصدق على من شاءَ الصَّدقة ويشرب أنخاب الخسران معَ من شاء الشراب، ويُعَـرِّضُ جيبه لنهب من شاء من القوَّادِين والوُسَطاء والعَاهرات، وكلما أوقعوا به واجَه خسَارته بالإشفاق عَليهم والتماس أعذارَ شتى لهم... ذلك المرء يـَمْقته الناسُ، ينظرون إليه بأعين ناقصة، ويمنحونه وَضعا اعتباريا يقعُ على طرف نقيضٍ من ذاك الذي يمنحونه للرَّجل الذي يصرفُ أوقاته في العناية ببيته وزَوجته وأبنائه وفي عبادة الله ابتغاءَ حسن الإياب. بيد أنهم جميعا في ذلكَ مخطؤون؛ ألا يضعُه سلوكه ذاك في مقام واحدٍ مع أولياء الله الصالحين؟ ألا يضعُه سلوكه ذاك في مقام واحدٍ مع أكبر الزَّاهدين؟ إن تبذير الأموال في الحانات لهوَ، في الواقع، رسَالة مزدوجة يوجهُها المبذر إلى المجتمع، ثمَّ إلى نفسه:

يقولُ للذينَ نصَّبوا أنفسهم على المجتمع حُرَّاسا: «قد منحتموني مُكافأة على عَملي، هي هَذه الأوراق التي تزكمُ الأنف لأن لها رائحَة كرائحَة برَاز الكَلب. تكافئونني بأوراق! هه؟! أهذا جَزاءُ عملي؟! إليكم أوراقكم، استعيدوها». بهذا المعنى يَكون إدمَان شرب الخمر في الحانات ووُجوه صَرف النقود التي تفضي إلى «الإفلاس»، أو على الأقلّ تضع المبذر عَلى النقيض من مضاعفة الملكية التي تؤدِّي إلى الثراء، عبر مُراكمة الأموال واكتنازها، وبالتالي تجلب للمدّخر مزيدا منَ الاحترام من لدُن المجتمع، يكون ذلك نوعا من إعلان قطيعَة مع المجتمَع. وأعرف شخصيا رجُلا يمكن اعتباره نموذَجا مثاليا لهذا السّلوك: فهو رَبّ حَانة صغيرة، يقضي اليَوم مُشتغلا، وعند سَاعة الإغلاق يجري الحسَابات، ويُفرغ الصّندوق مما اجتمعَ له طيلة اليَوم من أربَاح، ثم يضعه في جَيبه، وينصَرف إلى حَانة أفخم فندق بالمدينة، وهُناك يقضي بقية الليلة في احتساء الخمُور وتنقيط العَاهرات والرَّاقصات بالأوراق النقدية، إلى أن يصرف كلَّ ما اجتمَع له في اليَوم، وآنذاك فقط يعود إلى المنزل مرتاحا مُطمئنا، رَاضيا مَرضيا.

أما الرِّسَالة الثانية - التي يوجِّهها المبذر لنفسه - فهي: «إذا كنتُ أبذرُ أموالي في الحانَات، فذلك لأني أحرص الحرصَ كله على ألا أعود إلى البيت ومَعي مَال؛ لأني أحرصُ على الاتصَاف بالاستقامة؛ أسهرُ على "تبرئة ذمتي" وإراحة ضميري». أو هي: «ما أودّ قوله عبرَ تبذيري أموالي هو: «الآن وقد أعدتُ لهم مِلكهم يحق لي أن أعُود إلى منزلي مُرتاحا، وأناَم ملء جفوني». وتبذيرُ المال باعتباره سعيا إلى الطمأنينة، يمكنُ تفسيره على النحو التالي: كأن الحرصَ على المال يشكل عبـئا عَلى المبذر؛ كأن النقدَ، بوجوده وحده، يتطلبُ تفكيرا مُستمرا فيه: يتطلبُ التفكير في كيفية صيانته، في كيفية تدْبيره، في كيفية مُضاعفته، في كيفية حسَابه، في جمعه، في طرحه، في ضربه، في قسمته، الخ.، وذلكَ عبءٌ يُوَلد صُداعا في الرَّأس. تجاه ذلك كله، ينهَض المسرفُ، فيصرف دفعة واحدة، في يوم واحد أو ليلة واحدة، كل ما ملكت يدُه، ليتأتى له بعد ذلك أن ينعَم بالرَّاحة، ويصرفَ الطاقة المذّخرة - التي كان سيبتزه منها الحرصُ على المال - في أشياء أخرى؛ إذا كان مثقفا أو كاتبا، فإنه مَا أن يتخلص مِن النقد حتى يجد نفسه «مضطرا» للانشغال كليا بالمطالعة أو الكتابة. بهذا المعنى، تكون الكتابة تعويضا أو بديلا رَمزيا عن المال المفقود. وإذا كان تاجرا أو عاملا استعجَلَ استئناف تجارته أو عمله كي يعوِّض الأموال التي أنفقها في غير الوجه الذي كان يجب إنفاقها فيه، فيعود إلى دكانه أو مقرّ عمله وهو يفيضُ حيوية ونشاطا. بهذا المعنى يمكن اعتبار الخسران محرِّكا لعجلة العمل ومنشطا لدورات الإنتاج. ومعنى ذلك أن عجلة المجتمع لا تدورُ بسُرعَة إلا فوق طريق من دَم وعظام وجماجم. فكرة ما أن نمضي بها قليلا إلى الأمام حتى ترتسمُ في الأفق الحقيقة المرعبة التالية: إن الدّول التي تعيشُ اليومَ في تجانس وتناغم وحُسن جوار بحيث يستحيل تصوّر إمكان أن تشن إحداها حَربا على أخرى، تلكَ الدول عاشت فيما مضى حُروبا ضارية على الصَّعيدين الدَّاخلي والخارجي. وبالمثل، فالشعوبُ التي تشهَد اليوم حروبا أهلية قاسية، تطاحنات عرقية وَحشية، مَا تقتاتُ يوميا إلا على أخبار الدِّماء، والصُّراخ والبكاء، تلكَ الشعوب إنما تزرَع بهلعها الرَّاهِن بُذور مستقبل آمن مُطمئن رغيد. بيد أنه، مثلما براكينُ هذه تبشر بهدوء وديع، كذلك يبشر سُكون تلك بزلازل مُروعة آتية لا ريب فيها؛ سِلمُ اليوم جائزة عن حرب الأمس، لكنه يمهد في الآن عينه لحرب الغد؛ وحربُ اليوم عقابٌ عن سِلم الأمس، لكنها تمهِّدُ في الآن عينه لسلم الغد. حقيقة أروَع من سابقتها: الإنسانُ راكبٌ في أرجوحة؛ طرفها القصي الأوَّلُ سلمٌ وطرفها القصيّ الثاني حَربٌ، طرفها خيرٌ وطرفها شرّ، طرفها أخلاقٌ وطرفها لا أخلاق.

والسَّارق؟ إن حَرَكة السارق لا تبعد عن إشرَاق المتصوف وذهول الحشّاش إلا بمقدار أصبع أو أقلّ. مثل المتصوف أو الحشَّاش يُدَاهمُ السارق هدفه وهو غارقٌ في الرَّغبة والرَّهبة. الرغبة، لأن الاستيهامَ يسلط عليه فرحة يتخيل نفسَه فيها وقد سَطا على هدفه فصَار مِلكا له، يتمتع بكامل حُقوق التصرّف فيه، وبالوَجه الذي يشاء. والرَّهبة، لأن الخوفَ يسلط عليه حَذرا شَديدا من أن يُضبَطَ فيسَاق إلى السِّجن. خليط الفزَع والفرحَة تحمرّ له الوجنتان وترتعشُ المفاصلُ وتتسارع نبضات القلب داخل مُطلق الزَّمن الذي يحيط بلحظة التهيؤ للسَّطو: يتحوَّل الناسُ من حول السَّارق إلى كائناتٍ مُفرطة الغباوَة ومُفرطة الفطنة في آن واحد، الأمر الذي يُجبرُه على القيام بحسابٍ مُزدَوج... وفيما وراءَ الرغبة والرَّهبة والسَّذاجة والفطنة يضع السَّارق الملكية في أزمَة، يضع نفسَه خارجَ مُواضعة اجتماعية حيوية: بينما يخاطب المجتمع كل فردٍ قائلا: «اشتغل لتملِكَ» أو «لكي تملك عليكَ أن تشتغل»، يخاطبُ السَّارقُ المجتمعَ قائلا: «إني لا أريدُ أن أشتغل، لكنني مع ذلك أريدُ أن أملك» أو «لن أشتغل ومع ذلك سأملك؛ سأملك دونَ أن أشتغل». كلنا نكرَه العمل في العمق، لكننا لا نملك جرأة البوحَ بهذه الكرَاهية ولا ترجمتها إلى سلوكٍ مخافة أن يقطع عنا المجتمع ما نقتاتُ به. كلنا نكره العَمل، في قرارة أنفسنا، لكننا لا نملك جرأة السَّارق لنترجم هذه الكراهية إلى سطو على ما يملكه الآخرون. لو كان المجتمعُ وفرَ لنا جميعا، وعلى قدم المساواة، ما نأكل وما نشرب، وما نلبسُ، أترى السَّارق كَان سيكون له وجود؟ اعتقد ما شئتَ، أما أنا فأرى أن الأمر لو كان على ذلك لما وُجد السَّارق أصـلا، لما خطرت السَّرقة على بال، لكان فعلها في حُكم العدَم.

ستتهمني بالدفاع عن السَّرقة؛ بتبرير ما لا يُبرَّر واختلاق منطق لمن لا منطق له. حسنا، هذا مَا يبدو لأول وهلة، لكن ما أن تبذل مجهُودا قليلا في فتح عينيكَ من حواليكَ حتى تقف على الحقيقة المرعبة، وهي أننا وسَط اللصوص نقيمُ! نعم، إن العديدَ من المهن والأنشطة التي ينظر إليها باعتبارهَا شريفة، تقوم في الحقيقة على استبلاد الآخرين واختلاسهم. مجَّدتَ في مداخلتك الفنَّ. وأود الابتداء من هَذه النقطة بالضبط. أنا أومن بأنَّ اللصوصية هي الهيكل العظمي للفنّ. ستستغرب لهذه الفكرة، لكنني ما جئتُ هنا بجديد؛ فقد سبق للجاحظ أن ألفَ كتابا أسماه «كتابُ اللصوص ودُستور العيارين»، قال فيه: «فنونهم...». وبقدر ما آسف على فقدان الكتاب يتبدَّد أسفي لكوني، من خلال قراءة المقاطع التي سَاقها عنه الأقدمُون، أستنتج أن وَجه الصِّلة بين اللصوصية والفن لم يتبينه الجاحظ ولا من كتب بعده في الموضُوع، بمعنى أن ما يردُ في الكتب القديمة في الموضوع لا يعدو مجرَّد سرد حشد من المعلومَات الأمبريقية، الإثنوغرافية، تفيدُ في معرفة فئات اللصُوص ودوافعهم، وطرقهم المعتمدة في اللصُوصية، دون أن تفيدَ في تبين الصِّلة القائمة، مثلا، بين السَّرقة وفنون كالشعر أوالسِّحر أوالغناء، أو المسرح، الخ. ومَا أود إقناعك به هُو أن للممارسَات اللصوصية وجها فنيا يتضحُ مَا أن نصنف السرقة إلى صنفين: الأول يلتقي فيه اللصّ مُباشرة بالضحية، فيتولى مهمَّة الانتشال، وأسمي هذا النوع الأوَّل «السرقة بالفعل». أمَّا الثاني، فيسخر فيه اللصّ وَسَائط احترافية، للاتصال بالضحايا، تستهدفُ جلبهم طواعية كي يمتثلوا أمَامَه شخصيا أو يمثلوا أمَام وسطاء آخرين فيقدمون لهم أمْوالهم طواعية.

حقا، أمَام تعقد مَظاهر السَّرقة وأنواعها وحيلها لا يمكن لهذا التصنيف أن يبدُو إلا مغرقا في العمُومية. ومع ذلكَ، فإني أعتقد أن كافة أضرُب السرقة تندرج ضمنه: سَرقة الممتلكات، وسرقة العَواطف، وسَرقة الجماعات، وسَرقات الأفراد، وسَرقات الدّول... لا أود إثقال سمعك باختبار هذا التصنيف على كافة أضرُب السَّرقات، وفي المقابل سَأحاول أن أوقفك على صنف واحدٍ، هو سرقات الشركات التجارية والصِّناعية الأفرادَ من خلال استعمال القنوَات الإشهارية. بتعبير آخر، سأسْعى إلى إظهار أنه مثلما يوجدُ وراء فقدان راكب حافلةٍ حافظة نقوده لصٌّ من لحم ودَم، هو الذي تولى عمَلية الانتشال، كذلك يوجَد وَرَاء شراء مستهلكٍ مَّا منتوجا غير جيد لصّ سخره صاحبُ معمل صنع المنتوج المذكور. هَذا اللص يأخذ أشكالا عديدة، لو شئتُ جردها جميعا لاستغرق مني ذلك ساعات طويلة جدّا، ولوقفنا معا على الحقيقة المقرفة، وهي أننا لا نخلو من أن نكونَ سَارقين - رغم أنفنا - أو نعيش من أموال مَسروقة أو نيسّر للصُوص سُبل السطو على الآخرين. ولذلكَ ارتأيت الاقتصار على شَكل واحد، هو الخطاب الإشهَاري:

تدخُل عملياتُ التجارة المرتكزة على الإشهار ضمن ما يمكن تسميته باللصُوصية «اللطيفة» أو «الوديعَة». بخلاف اللص «المتوحِّش» أو «الخشن»، الذي يعمَد إلى العنفُ الجسدي لابتزاز ضحيته، يعمدُ اللص «اللطيف» أو «المهذب» إلى استغباء ضحيته أو اسْتبلادها: فلكي يَبيع منتوجاته، يعمدُ إلى الإشهار؛ يتصل بمؤسَّسات نشاطها هو الإشهار، فيطلب منها أن تروِّج لهذا المنتوج أو ذاك. هَذا الصنف من اللصُوص لا يسرق مباشرة، لا يتصل مُباشرة بالضحية، وإنما يلجأ إلى أشخَاص محترفين، مِهنتهم بالضبط هي ابتكار الأكاذيب والحيل الكفيلة بالإيقاع بضَحايا يتجهون، بُعَيْدَ وقوعهم في الفخ، إلى اللص الحقيقي، إلى منتج المنتوج المراد ترويجه (في هَذا الإطار، يمكنُ أن ندرج ضمنَ الممارسات اللصوصية عملياتِ تقليد الاسْم، كأن يسمَّى منتوجا ماَّ، مثلا، "باط"، ويكون منتوجا فعَّالا، ثم يَأتِي لصّ صاحب مَعمَل، فينتجُ منتوجا أقلّ فعالية وأقلّ كلفة، ثم يطلق عليه اسم "بات"، لكنها لصُوصية بدائية، مقدار ما تخاطبُ الجانب الأكثر سذاجة في كلِّ واحد منا، تستهدفُ الفئات الأكثر سَذاجة في المجتمع كالأميين والبدو، الخ.). علما بأنَّ هذا اللص يقبع داخل مقرّ هو مصنع المادة، ثم يرسلُ بضائعه إلى وُسطاء، فيبيعونها بالتقسيط. بهَذا المعنى، فإن أصحاب الدَّكاكين يبعيون الكثير من المنتوجَات الفخاخ / منتوجات اللصوص. مُهمة هذه المنتوجات هي الإيقاع بالناس، تمثيل البؤرة أو المكان الذي ستتمّ فيه عملية السَّرقة، الذي سيباع فيه هذا المنتوج.

ما تفعله مُؤسَّسات ابتكار الأكاذيب والحيل الكفيلة بالإيقاع بالضحايا هو كتابة سيناريو، واختيَار ممثلين، ومخرج. ومعنى ذلك أن جزءا من الصناعة السِّينمائية - أو مستوى منها - يتمّ تسخيره وتوظيفه لكي يظهرَ أن المنتوج كذا هو الأفضل. من هَذه الزَّاوية يمكن تحليل بعض اللقطات الإشهارية على ضَوء فرضية أنَّ ما من خطاب إشهاري إلا ويقوم على أسُس ثلاثة: الإغراء، والاستعراء، ثم التهديد. ووجهُ اللصوصية في الخطاب الإشهَاري أنه يعمدُ إلى تغيير المرجع، فيقدِّم القبيح باعتباره جميلا، ويحجب الجميل، يشوش عليه، ما لم يقدمْه باعتباره قبيحا؛ يعمدُ إلى إحدى آليات اشتغال الفن. يقدمُ منتوجا محدود الفعالية باعتباره فعالا جدا، بغاية أن يُصدقه الناسُ، فيشترونَ قلة الفعالية بثمن الفعَالية؛ يَدفعون مالهم في منتوج لو عرفوا ضآلة فعاليته لما تردَّدوا لحظة في الامتناع عَن شرائه، الخ. إنهم يشترون بضاعة رغم أنفهم. يجعلهم الخطاب الإشهاري في وَضعية حَاجة إلى ما هم في غنى عنه. بهذا المعنى، يمكنُ اعتبار الحملات الإشهارية التي تقوم بها بعض الأبناك لإغراء النّاس بالاقتراض عمليات نصبٍ من زاوية كونها تخلق حَاجة لدَى من هو غير محتاج أصلا؛ تغريه. والصّحف بدورها تعمَد إلى مُساعدة هذا النوع من اللصُوص، من حيث كونها تنشرُ إعلانات إشهارية لبعض الموادّ لا لشيء سوى لأن أصحَابها يؤدّون مبالغ مالية مقابل الإعلان عن نشر النصوص الإشهارية. إنَّ القنوات التي تمرِّر الخطاب الإشهاري لا تمرره مجانا، وإنما بمقابل يكون خياليا في بعض الأحيان. إنها تقتاتُ من عملية احتيال لصّ مَّا / شركة مَّا على الناس. بهذا المعنى، يجري اللص شبه مُقامرة في البداية؛ يروِّج لمنتوج نجاحُ رواجه غير مضمون؛ يدفع مالا كبيرا كي يُقال ويُعاد قول: «إنه منتوجٌ رائع». وقنواتُ الإشهار تذيع هذه القولة وتتنصَّل من كل عواقبها. إن لقي المنتوج رواجا شديدا لا يكون لها الحق في مُطالبة اللص / صاحب المنتوج بأن يقتسمَ معها نصيبا من الأرباح أو يمنحها قدرا من المال زيادة على ما تم الاتفاق عليه لحظة إطلاق لقطة الإشهَار. وإن لم يرُج، فليسَ للص الحق في أن يحاسبَها على عدم استجابة الناس للخطاب المذاع، لأنها وإن كانت توصل فعْلا الخطاب الإشهاري إلى المستهلكين المحتملين، فهي لا تملكُ سلطة عليهم ولا يمكنهَا النفاذ إلى سَرائرهم...

الثالث: للمجتمع في قوْل «هذا أخلاقي» و«ذاك لا أخلاقي» المآربَ قاطبة إلا مأربَ الانشغال بالأخلاق. لنعد إلى مثال الخمرة. إنَّ شرْبها قلما يُبقي المرءَ في وَضعية عَادية؛ فإذا شبَّهنا الحالة الطبيعية للإنسَان برقاص ميزَان في حالة سُكون، أي بالنقطة الصِّفر أو بنقطة الاعتدال، كانت الخمرة، متى بَالغ الإنسان في شربها، لم تضَعه إلا في أحد حدَّين قصيَّين:

أحدهما يشكلُ ما يمكن تسميته بـ «مَدينة فاضلة»، وفيه تكاد جميعُ المشاكل المستعصية تجدُ سبيلها إلى الحلّ؛ يصير الإنسانُ حنونا عطوفا، يبذل بسخاء، يكرمُ المحتاج، يُصغي إلى المشتكي، ترهف حاسّة تذوق الفن لديه، فيعود إلى بيته محمَّلا بلوحات تشكيلية ومِزْهَريات وشمعَدَانَات... هي أشياء لم يخطر على باله اقناؤها قبل أن يدخل الحانة. قد ينطبق ذلك على ربِّ البيت وربِّ المجتمع على السَّواء. أما سمعتَ ما أورَده ابن عذاري عن أحد الزعماء؟ قالَ: «وفي سنة 345، أخرج أبُو إبراهيم بن الأغلب صَاحب إفريقية مالا كثيرا لحفر المَواجل، وبنيان المسَاجد والقناطر لكلمةٍ كانت منه على سُكر»* . من هذه الزاوية، يمكن تفسير مناهضة المجتمع للسّكر، أو على الأقلّ بلوغ هذه المرتبة من الشَّراب، وبالتالي إدراجها ضِمن «اللاأخلاق»، بكون ضابط العمل هوالمهدَّد؛ سَخاء السِّكير قد يدفعُ البعض إلى عَدم الاكترَاث بالعمل؛ سيقول: «ثمة دائما، في خمارة مَّا، رجلٌ مَّا يعاقر الكأسَ، ومتى ارتقى في مَدَارج السّكر درجات عُليا تصدَّق عليَّ». لكن، ألا يحظنا المجتمَع نفسُه على الصَّدقة؟ ألا يعتبرها عملا خيرا، وبالتالي يدرجها ضمنَ الأخلاق؟

أما الطرف القصيّ الآخر فهـُو العنـف، وفيه تضـع الخمرة المرء في مساحةٍ لا تعرف الخوف، ولا التردّد، ولا تقدير عاقبة الأمور - هذه العَاقبة التي ليستْ في نهاية المطاف سِوى يقظة المجتمع وكلية القدرة والحضُور اللذين يَطبعان القانون - فلا يتردَّد في الضرب والجرح والقتل والسَّرقة. وبكلمة واحدة، فإنَّ الخمرة، في هَذا المستوى، توقظ الغرائز التي مدَارُ التنشئة الاجتماعية بكاملها لجمُها وتنويمها في باطن كلِّ واحد منّا؛ توقظها وتخرجُها من معاقلها، فتجرّد عملَ المجتمع في ترويض الفرْد من كل فعالية، وتحيله إلى مجهودٍ ذهبَ سُدى. وانتقاما من ذلك، يُعاقب المجتمع السّكير الذي جرأ على ارتكاب ما ارتكبه؛ يُجري شبهَ حوار بين طفل وأبيه: يُعاقب الأبُ طفله قائلا له: «كنتُ نبهتك إلى كذا وكذا، كنتُ نهيتك عن فعل كذا وكذا، كنتُ حذرتك من مغبَّة فعل كذا وكذا، والآن وقد فعلتَه فقد ألزمتني عقابَك. أرأيتَ كيف أنَّ لي عينا لا تنام؟ أرأيت أنني لا أخلف الوعيد؟!».

ستقول لي: «ها نحنُ أمام ضربٍ من البشر يبدو سلوكهم غير أخلاقي بشكل صَريح»، لكن أينَ نضع الذين لا يطالهم القانون، وهُم فئتان: فئة تنتهكُ القانون عَلى مرأى ومسمَع من الناس، لكنها لا تعاقَب إما لأنها صَاحبة القانون نفسها وواضعته أو لأنها صَاحبة مَال وجاه ونفوذ، وفئة تأتي ضرُوب المحرمات قاطبة بعيدا عَن أعين المجتمع والقانون، فلا يفطن إليها أحدٌ، لا تعاقبُ، وبالتالي يَستمر الناسُ في النظر إليها باعتبارها «طيبة» و«متخلقة»؟

الرابع: إنَّ ما يسمَّى بـ «الإنسان» لا يعدو مجرَّد بضاعة مُفلسة، ما من كائن «ناطق عاقل» إلا ويجدُ نفسَه مورَّطاُ فيها، مُجبَرا على حملها. «ماذا يجب عليَّ أن أفعل بـ "الإنسان" الذي أنا إياه؟»، هذا مَا يبدو أنَّ جميعَ «العُقَلاء النّاطقين» لا يكفّون عن طرحه. وهم جميعا يسعَون إلى التخلص مما أسميته بضَاعة، إلا أنهُم للوُصُول إلى ذلك لا يتبعون إلا أحدَ مَسلكين: بعضهم يعمَد إلى تزيين البضاعة في أعين الناظرين، فيقول لهم: «نِعمَ السِّلعة هذه. ما فيها عيبٌ ولا أدنى نقيصة»، وهؤلاء هم الذين يَتظاهرون بحب الحياة، ويسلكون للاجتماع كل السّبل، هم الكائنات «الاجتماعية» التي اتخذت مِن ارتداء الأقنعة، والنفاق، والاستعرَاء، والكذب، والتظاهُر بالتوازن ومحبة الغير، عُمْلة... أما البعض الآخر، فلا يُريد الإيقاع بأحد؛ لا يريد تمرير بضاعة فاسدة باعتبارها جيدة، ولذلك فهو يقول لكل من أراد شراء بضاعته: «نعم سيدي، قد راقتكَ بضاعتي، رَاقك مَظهري وسُلوكي، لكنني لا أخفيكَ ما فيها من عيوب. انظر ها هي عُيوب سِلعتي واحدا واحدا، افتح عينيكَ جيدا حتى تكون على بينة مما تفعل». وهؤلاء هُم الكائنات التي تنعتُ بـ «اللاأخلاقية»، «اللااجتماعية»، «المُقلقة» و«المثيرة «للقلق» و«القرف» جرَّاء حبها الحقيقة ورفضها ارتداء الأقنعة وتمثيل أدوار زائفة... يفعل بَنو الإنسان ذلك أفرادا وجماعات:

الجماعة من الصنف الأوَّل تتألفُ من أفراد، هم الذينَ يستيقظون في الصَّباح الباكر، فيلبسُون بأناقة، ويحرصُون على أداء واجباتهم المهنية والعَائلية بمنتهى الدقة، يُضربون عن الحانات، يعقدون في المقاهي للنمِيمة ولائم ومأدُبات، إن كان أحدُهم على مَوعد مع زوجته وَأطفاله وفاته الموعد بنصف دقيقة أقامَ الدّنيا وأقعدَها إن لم يَنفخ في الصّور ويُقم القيامة... عَلى تمرير البضاعة الفاسِدة يتآزرُون. أما الجمَاعة الثانية، فتتألف من الذين لا يتملمونَ من فراش النوم إلا بمنتهى المشقة، كأنَّ اليقظة طريقٌ إلى المقبرة. أداءُ الوَاجبات الاجتماعية والمهنية عندهُم تقلبٌ في سعير، ولذلك فهُم يتملصون من الوَاجبات قاطبة إلا واجب الوُقوف في شرفة المجتمع، على هَامِشه، حيث يغرسون زُهورا وورودا، من دمَائهم ولحومهم تقتاتُ؛ يتخذون من الحانات ونوادي القمَار بُيوتا لهم، ينشرُون فيها جثثهم ويَعرضونها أطباقا، مَأدبات لنهش الناهشين، لا ينصرفون منها إلا عَلى خطى من جَمر... على كشف زيف البضَاعة يتعاونون...

بناءً على ما سَبق، فإني لأحثكَ على الارتباط بسيِّدة أو أكثر. وحتى إذا اعتبرتَ هذا خطيئة، فاعلم أنَّ مَغفرة الله تسَعُ خطايا الإنسانِ قاطبة إلا شرَّ أن يُسيء إلى غيره بأن يتسببَ في موته أو إيلامه، كأن يجرحه أو يبتر أحَد أعضائه أو يتسبب في سجنه أو غرقه أو إحْراقه أو السَّطو على ممتلكاته... وهَذه أبعد الأشياء عما أحظك عَليه.

قلتُ: حتى وإن كان الأمرُ على ما تقولينَ فإني لا أستطيع القيام بهذا ولا ذاكَ. لا تنسي أن زوجَتي مُوظفة. إنَّ الإقامة في الحانة لأهونُ علي ألف مرَّةٍ من إتيان هَذا أو ذَاك.

قالت: ستشيخُ قبل الأوان، سَتهرم قبل الأوان، ولا تمضي إلى المقبرة إلا وقد تحوَّل جسدُك إلى أجزاء مُفصَّلة (pièces détachées) جرَّاء ما سيثبُ عليك من أمرَاض. ذلك أني تأملتُ الخمَّارات فما وَجدتها إلا أفرانا وما رأيتُ رُوادها سوى شطائر لحم أو خبز فيهَا تنطبخ؛ عندما أدخل حانة مَّا أوَّل ما أفعلُ أتأمّلُ وُجوه زبنائها وبنيات أجسامهم. إن وَقَعَ بَصَري على زبون مُسنّ، تبدو عليه عَلامات الإدمان والإنهاك البدني؛ سمات كونِه صَرف شطرا من عُمره في ارتياد الخمارة يوميا، إنْ وقع بصري عليه قلتُ: «إنَّ هذه الشطيرة من اللحم أو الخبز قد نضجت منذ مُدَّة، والأليق كانَ إخراجُها من هنا، فما بقاؤها مَزيدا من الوقت إلا احتراق لها»، وإن وقعتْ عيني على شابّ يافع تساءلتُ: «هي ذي شطيرة لحم طازجة دخلت الفرنَ لتوِّها، كم سنينَ يلزمها البقاء في هذه المحرقة كي تنضج؟».

ثمَّ إن اعتراضك ليس بعذر، إذ على العَكس كلما كانت المرأة مُتمدرسة كلما سهُل على الزَّوج إقناعها بضرورة خيانته إياهَا وفوائد هَذه المعاشَرة الممنوعة. لا تحدثني عن الزَّواج الأحادي، فهو لا يجب أن يُلزَمَ به إلا مَن تزوَّجَ امرأة أمِّية، لأنه لن يقنعها بفائدة الخيانة ولو سَاق لها حجج الدّنيا قاطبة، فأحرَى أن يقنعها بحكمَة تعدّد الزوجات. بخلاف ذلك، فالمرأة المثقفة تملكُ من اتسَاع الذهن والابتعَاد عن التحَجر، وقابلية تفهّم الآراء المخالفة لقناعاتهَا، ما يجعل من السّهولة على الزّوج أن يقنعها بكل شيء. وأنا لا أفهم لماذا لم يأخذ المبادرة أيّ رجُل منكم، أنتم معشَر الرجال، حتى اليوم. أكثر من ذلكَ، إني لا أفهَم لماذا لا تتصرَّف النسَاء المثقفات متى ضبطن أزواجَهن يخونونهن إلا على نحو مَا تتصرَّف به النساء الأميات. أتتصور ماذا فعَلت أختي، وهي امْرأة موظفة، عندما ضبطت زوجَها فوق الخادمَة؟ انتابتها حالة هستيرية، فارتمت على الأرْض والتوت فوقهَا مدة طويلة وهي تتخبط وتصرُخ كمَا كانت ستتلوَّى وستصرخُ عذارءُ رامبو المجنونة أمَام بعلها الجهنمِي لو أراها حِلياً، ثم قامت وكسَّرت مِن أواني المنزل النفيسَة كل ما كان في متناول يديها، وأخذت توَلول وتصرخ إلى أن احتشدَت جمهرة الجيران في بيتهَا، حتى إذا استعادت رُشدَها أوسَعت زوجها شتما ورَكلا، فما أشبعَها ذلك، فغضبت، وهَجرت منزلها إلى بيت والدَيها، بينما غرق هو في الخجَل ولازم بيته؛ لم يقو على الذهَاب إليها اعتذارا. ومع ذلكَ، ما مضت بضعَة أيام حتى سُقتُ لها - أنا التي لستُ سوى امرأة - من الحجج والبراهين ما جَعلها لا تعودُ إلى البيت رَاضية مَرضية فحسب، بل وأيضا قبَّلتْ رأسَ زوجها وقدَميه طالبة منه أن يغفرَ لها ما اقترفته في حقه من إسَاءة. قالت له:

- إني أعرفُ تمام المعرفة أنك رجلٌ، ونصيبُ الرِّجال من الرغبة والشهوة يضاعف نصيبَ النسَاء منهما... لذا، متى أحسستَ بالروتين اخبرني، سأتكفل شخصيا بأن أسُوق لك من النساء ما يبدِّدُ عنك الحزن ويجلو عنك الغمَّ، ويجدد شراييَن الحب في بيتنا إلى أن تنفجرَ ينابيع العشق بدواخلك، فتغدق عليَّ من الحنان والعطف والمحبَّة وحُسْن المعاملة والكلام الجميل ما يُعِيدُنِي عقودا إلى الوارء... نعَم، سأتولى شخصيا أمرَ الاختيار، لأن امرأة أعرفها فأختارهَا لك، خير ألفَ مرة من امرأة لا أعرفهَا وتختارها لنفسك: التي أعرفُ ستحترمُ الرباط المقدس بيننا؛ ولن تحدثها نفسُها إطلاقا بأخذك مني، ستترفعُ عن ذلك. أما التي لا أعرفُ فقد تحدثها نفسها بالسَّطو عليكَ وأخذك مني، وقد يتأتى لها ذلكَ بسهولة لما يُعرفُ عنكم - أنتم مَعْشَرَ الرِّجـَال - من سُرْعَة انهزَام أمَامَ النسَاء، فأفقدك إلى الأبد يا عزيزي...

وذلكَ ما كان، وهُما الآن يعيشان في سعادة لا مثيل لها؛ من يراهما يخيَّل إليه أنهما قد عادا إلى الوَراء قدر عشرين سنة أو أكثر...

قلتُ لها: لا تحدثني نفسي بذلكَ، ولا أظنني أقوى عليه. وإن كنتُ ألومُ في ذلك أحدا كنتِ أنتِ أوَّل من ألومُ. نعم، أنتن معشرَ النساء، الأصلُ في شقائكن وشقائنا، لأنكن ناديتن بتحرّر المرأة، فنلتنه، ولم تقنعنَ بالحرية ففرضتن علينا الزواج الأحَادِيِّ، ومن ثمَّ جنيتنَّ على أنفسكنَّ وعلينا: على أنفسكنَّ لأنَّ العديدات منكن لا يتزوجن ولا يـَعثرن على شغل يَسْدُدْنَ به رمقهن، فلا يجدن بُدّا من بيع أجسادهن في الشوارع حتَّى إذا ذبل جمالهن وانفضَّ الرجال من حولهن، انقلبن إلى قوَّادات أو إلى شحَّاذات أو مجنونات، والحال أنه كان بوسعهن الانضمام إلى بيوت فيعمِّرنها، ونسَاء فيؤنسنها، وفرش فيدفئنها. وأنا مُوقن أنه لو كان العمل بتعدّد الزوجات لازال مباحا لما وجدَت مومسٌ واحدة في البلاد؛ ثم جنيتنَّ علينَا لأنني، مثلا، قنطت من بُكاء زوجتي اليومي من جرَّاء تمزقها بين عمل البيت وعمَل خارج المنزل، قنطتُ من كثرَة البرامج الإذاعية والتلفزية التي تلبسُ فيها النساء الجلادَات أقنعة الضحايا البريئات، قنطتُ من كثرة الكتب التي تدَافع عن المرأة ضدَّ ظلم ذكوري مزعوم... ما أرى الرَّغبة المختفية وراء كل هذا اللغو واللغط سوى السَّعي إلى قلب الأدوَار بين الجنسين بحيث يصير الرجل امرأة وتصير المرأة رجلا؛ فتصبح قادرة على أن تمارسَ على زوجها أضعاف ما تزعم أنه يمارسه عليها حاليا من جُور وتسلط. بل إنَّ عددا منهنَّ قد حملنَ أعلامَ النصر المسبق، قبل قيام المعركة، وتقدمن الرَّكب؛ أقعدن أزواجهنَّ في البيت وألبسنهم، تنوراتٍ وأحذية عالية الكعب، وأجبرنهُم على غسْل الأواني، وترتيب البيت، وتنظيفه، وغسْل الملابس... فيما يصرفنَ هنَّ الأوقات في مُنتديات الدِّفاع عن حقوق الأرَامل والعانسات والمطلقات. متى تناولت إحداهنَّ الكلمة لم تفه بحرفٍ واحدٍ إلا وهي مجهشة بالبُكاء، كأن السّياط تلوى على ظهرها صباح مساء. أي قِوامَةٍ هذه؟ أتدري أيَّ شيء كنتُ سأفعله لو ابتليتُ بامرأةٍ من هذا العيار؟ لحملتُ عصا وقلتُ لها:

- اسمعي رحمك الله يا ست!. أحسبتني قوَّادا لكِ أم خلتني ثالثا مَرفوعا؟ اسمعي رحمك الله يا ستّ: لكِ أن تختاري بين اثنين لا ثالث لهما؛ فإمَّا تساهمي في ميزانية البيت وتجعلي محاسنك ومَفاتنك حكرا عليَّ، فنواصل العيشَ سويا تحت هذا السَّقف أو تستمري في الاستئثار بأموالك، لا تخرجي إلى العمَل إلا وقد صرتِ شبه عرُوس، جرَّاء ما تظهري من مَفاتن، حتى إذا عُدتِ إلى المنزل كنستِ المسَاحيق وخلعت التنورات والكسوات والأحذية العالية وارتديتِ أسمالَ تبديك أقرَب إلى خادمة بيتٍ منك إلى زَوجة، فأقعدنَّك عن العمل، وأجبرَنَّك على مُلازمة المنزل، لا أغادره إلا وقد غلَّقتُ أبوابه من ورائي بمفاتيح، ولا تغادرينه إلا وقد سترتِ وجهَك بخمار ولففتِ جسَدَكِ بمئزر يكنس الأرض إلى أن يتعالى الغبار. ألستِ من سُلالة عقبة بن نافع ومُوسى بن نصير؟!

مَا يشفي غليلي في هذا الصِّنف من النسَاء، بل العوَانس وما هنَّ بعوانس، إلا الشيخ؛ كلما دعونه إلى منتدى من منتدياتهن، وحيته إحداهنَّ يعرف تاريخها حقَّ المعرفة، ردَّ التحية، ثم سَألها هامزا لامزا: «أين تركتِ إحليلك؟!». ما إحليلها إلا زوجُها طبعا، لأنهَا قبل أن تتشبَّه بالعانسات، كانت قد جعلت من وجهها بُستانا، غرست فيه زهورا ووُرُودا، ثم رفعتْ عموديها الرّخاميين إلى أبراج السَّماء، ونصبت ضريحهَا قبلة لطوابير الزناة، يحجون إليه من كلّ فج عميق... حتى إذا ذبلت، وصَار ضريحها أوسع من يأوي رجُلا واحدا، وتحرَّكت غريزة الأمُومة بداخلها، التفتت يمنة ويُسرة فإذا الرجال جميعا من حولها منفضّون. فلما انقطعَ رجاؤها ويئست، ملأت جُيوبها بما تأتى لها جمعه من أمْوال الحلال والحرام، ثم قصدَت رجلا أضمر الجوعُ بطنَه، وأرته كمشة أورَاق، ثم قالت له: «هيتَ لك»، فإذا بها بين عَشية وضحاها من النسَاء المحصَّنات. ومنذ ذلك اليوم، وهي تواظب عَلى حضور أنشطة الجمعيات والمنتدَيات، تدافع عن حقوقها التي سلبها إياها بَعلها الجهنَّمي، تاركة إياه في البيت يَعجن الخبز ويطبخ الطعَام ويغسل الملابس... ومن يَدري؟ فقد قيل إنها لا تخرجُ إلا وقد غلَّقت الباب من ورائها بأقفال ومفاتيح؟...

اسمعي يا ستّ. لا أريد مُواصلة الحديث في هذا الموضوع. فقد يتهمنَني بالكفر والزندقة، ويحتشدن بباب منزلي ويرمينَني بالحجارة... رأسي أخذَ يوجعني وإنّي لأفكر جدّيا في تأسيس جمعية للدّفاع عن حقوق الرِّجال.

لو كان لي الحقّ في اختيار أكثر من امرَأة واحدة لاخترتُ أربعا: واحدة مثقفة موَظفة، الأمر الذي يضمَن للبيت مَوارد اقتصادية كافية، وأخرَى متخصِّصة في شؤون الطبخ وتنظيف البيت، بما يجعَل الجمَاعة في شباَب وقوة دائمين، وثالثة لتربيـة الأبناء وتعليمهـم، مما يضمن لهم تفوقا دراسيا دائما، ورابعة متخصِّصة في الرقص والغنَاء والتمثيل، مما يبدِّد غيُوم القنط عن البيت ويجعَله في صَحْو دائم...

قالت: إني لأتفق تماما مع كلّ ما قلته حولَ كفاحهن ضدَّ ظلم ذكوريّ مزعوم. وإلى قولك السَّابق أضيفُ مسألة ونكتة:

المسألة أنَّ المرءَ عندما يحضر اجتماعاتهن ويرى هيآتهن، ويستمع لكلامهنَّ، يبهرنه لا محالة إلى أن يقولَ: «ما أراني إلا أمام حفيدَات ديدْرُو ومُونتيسكيو. سبحان الله! ها هي الحداثة التي كسَّرت عقول مشايخنا القدماء قد جَاءتنا خَانعة طيعة ذليلة ما تجرّها إلا شُعور البنات». لكن ما أن يختلي المرءُ نفسه بإحداهنَّ حتى يجد نفسه قاعدا أمام مَا يشبه جدَّته أو أفظع. إنَّ حُبَّ الماضي والاتباع ليجري في مَجاري دمَائهن جرَيانا، حتى إني لا أترددُ في تسميتهن بـ «حارسَات التقاليد». لماذا يُطالبن بالشيء ويتنصلنَ منه؟ بتنصلهن مما يطالبن به، ألا يكرِّسن ويرسِّخن ما يشكين منه؟ إني ما أرى أعتى الرِّجال تسلطا إلا بيادقَ في أيدي النساء!

أما النكتة، فهي أني حَضرتُ، في السنة الفارطة، مُحاكمة رَمزية، تآزرت على عقدها جمعياتٌ عديدة، نفخت في الصّور وأقامت القيامة، فهبَّ الوافدُون والوافدات من كل حَدب وصوب، وتوَالت شهادات النسَاء المظلومات، يلقينها بأنفسهنَّ أو تنوب عنهنَّ في الإلقاء نائبات، فلاحظت - ضمنَ ما لاحظت - أمرين: الأوَّل: كلّ المظلومات ونائباتهن أخفين وجوههُنَّ بخمُر، وأجسادهن بجلابيب سُود إلى أن صرنَ كالمحتجبَات، فقلتُ: «يا سُبحان الله! بالأمس كنت رافعة عموديك الرخاميين إلى أبراج السَّماء، تشرعين ضريحك لمن شاء، تقدمين أكاليل اللذة والمتعة لمن شاء، وأنت تعلمين علم اليقين أن الطريق محفوفة بالفخاخ والشرَاك، ولما وقعت في أحدها انقلبت بين عشية إلى أختٍ للأم طيريزا!». الثاني: قلبتُ كلامهنَّ على وجهه وظهره مِرارا وتكرارا فما وجدتُ فيه للرجل مكانا؛ فالتي سُجنت في مَاخور وأجبرت على ممارسَة البغاء كانت سَاجنتها وجَلاَّدتها امرأة، والتي كادت أن تجد نفسَها بغيا راقصة في بلاد العجم إنما نصبت عليهَا امرأة، كانت مُصدِّرتها امرأة... آنذاك قلتُ: «أين الرَّجل في كل هذا؟ ما يجلدُ النساء إلا النساء»، ثم أضفتُ: «أمرُكنَّ بينكن أيتها النساء»؛ «شأنكنَّ بينكنَّ أيتها النساء»، وغادرتُ القاعة وشعور بالقرف يملأني ورغبة قيء تنتابني.

ليكن ذلك. بيدَ أني لا أتفقُ إطلاقا مع رغبتك في الزواج بأربع نسَاء، لأنه يتنافى وطبيعة المرأة. ذلك أنَّ الزوجة بوسعها أن تقبل من ربّ بيتها كل شيء وتغفرَ له خطاياه قاطبة إلا أن يجعلَ فراشها قِسْمَة بينها وامرأة أخرى. ثم إنَّ الرجل مهمَا يفعل، لن يعدل بينهن...

قلتُ: مَعناه أنَّ المرأة عدوَّة للمرأة، أنها حاكمة ديكتاتورية ومتسلطة، لا تعرفُ التسامح ولا تعدّد الرغبات والأمنيات... مَعناه أنكن لو تقلدتن أزمَّة الحكم لكان مقدار نصف دقيقة كافٍ لقيام الحرب العالمية الثالثة: الدَّولة بيتٌ والعالم بيتٌ، ومثلما البيت لا تتساكنُ فيه امرأتان كذلك العالم لا تحكمُه امرأتان. أنتن تنفرن غريزيا من بعضكن بَعضا، تكرهن غريزيا بعضكنَّ بعضا، لذلك ستقتتلنَ لأتفه الأسباب... ثم أيهما أفضل للمرأة؟ أن تتعرَّض لغبن صغير في البيت، من جراء عدم قدرة زوجها على العدْل بين شريكاتها فيه، أم تتعرض لغبنٍ كبير في مجتمعها، فينبذها الجميع؟

قالت: أنا أفضِّل الحلَّ الأوَّل. أليست خَادمة البيت دَائما في متناول ربـِّه؟

قلتُ: بلى، ولكنها تغدُو مصدر شقاء آخَر عندما تكونُ صغيرة السِّن وأكثر جمالا من ربَّة البيت، إذ ترتدي الزوجة آنذاكَ بذلة وقبعة، وتحمل عَصا ومُسدَّسا، ثم تنذر نفسَها لإثباب النظام والأمن داخلَ المأوى.

قالت: وإذن ففي هذه الحالة يبقى العُنف هُو السبيل الوحيد لإحيَاء السعادة داخل البيت وتجديد شرَيان الحب فيه. نعم، العنفُ هو الطريق الملكي إليه، ذلكَ أن المرأة تحتاج إلى أن يعاملها الزَّوج كما لو كانت صبية، فيجعل لها فِراشا من حنان، وغطاء من عشق، ويسألها دائما عَن أمانيها ورَغباتها وشهواتها، ولا يحدثها إلا بكلمات تقطر من شهْد عَسَل... غير أن كبرياءَه يمنعه من ذلك، فضلا عن أنه هُو نفسه يكون دائما أحوج من المرأة إلى مَا تحتاجه منه: يحتاجُ إلى أن تعامله كطفل، فيجدُها، لدى كل عودة له إلىالبيت، قد تزيَّنت وتعطرت، ولبست أبْهى الحلي والحلل، ثم أحضرَت ماء دافئا، فتبتسم له، وتمسكه من يَديه وتسوقه إلى أن تجلسَه في مكان مريح، وتخلع حذائيه وخُفيه، وتحضر مَاء دافئا وتغسل قدميه وتنشفهُما، ثم تناوله الطعام، وتلازمه وهُو يأكل، سائلة إياه عمَّا ينقصه، محدثة إياه بكلمات تقطر من شَهد عسل... وانسجَاما مع هذا الكبرياء، يجب على الرَّجل أن يعامل زوجته دائما بمنتهى القسْوة والعنف، فيوبخهَا، ويعنفها، ويقرِّعها، ويهددها، ويوسعها شتما ولكما، رَكـلا لطما، لسبب أو لغير سَبب، إلى أن تنكسر أمامه، لأنَّ انكسارها أمامَه هو وحده ما يمكن أن يفجرَّ فيه ينابيع حاجياتها منه. آنذاكَ، سيشعر بالتفوق، وينتشي بذكورته ورُجولته وأنانيته، ويحس أنه بالفعل أقوَى من المرأة ومتفوق عليها، فتنحدِر به الغريزَة من أعالي القسْوة والغضب إلى سُفوح الشفقة والندم؛ سيتمزق حسْرة، فيغدق على شَريكة حياته من الحبّ والحنان والعطف، وحُسن المعاملة، وجميل الكلام وحَلاوة اللسان، ما يكفي لقضَاء أسبوعين أو ثلاثة في فردوس حَقيقي، بعدهما يجب عليه حَتما أن يعود إلى ضربها ثانية ليستهلّ دائرة العنف من جديد... أنا مُوقنة أن العنف الدوري، داخلَ البيت، يقود حتما إلى مَنح الحياة الزوجية دماء طرية، ويجدِّد تدفق شَرايين الحب والعَطف والحنان بينَ الزوجين.

عدتُ إلى البيت، حيَّيتُ زوجتي، لم ترد عليَّ، صرختُ في وجهها، قالت ساخرة مُتهكمة كأنها ضبطتني مُتلبسا:

- إني لأقرأ نواياكَ في عينيك، اعلم أنِّي لستُ من السَّذَاجَة بحيث أصدِّقُ ما تفتعله لتجعلني أنسَى أو أتناسى عِظم ما أتيته الليلة. مَن تكون - خيرا وسلاما - تلك «العَاهـرة» التي أغرقتـك بالقبــلات، دُون سائـر الأساتـذة،

كأنكَ أشهدتَ على نكاحها أبا هُرَيرة وأصحابَه؟

قلتُ: أنا نفسي لم أعرف من هي، ولازلتُ حتَّى الآن أتساءَل من تكون...

قهقهت ساخرة، ثمَّ قالت: ها ها!، أتستبلدني؟! أين ذهبتَ بعد انتهاء الندوة؟ كنتَ في موعدٍ معها، أليس كذلك؟ أين؟ أفي مَقهى أم حانة؟...

هويتُ على زوجتي بأقرب شيء إلى يَدي، أطلقتْ صرخة عظمى، ثمَّ ساد البيت صمت رهيب. هَل ماتت؟ أتصفح ملامحها، لم تمت، ها هي جالسة أمَامي تبتسم، غارقة في النظر في وجهي، وأنا شبه غَائب عن نفسي لفظاعة ما ارتكبته. اقتلعتني من شُرودي داعية إياي:

- هيا إلى البيت، هُناك سيكونُ الفضاء أنسب لهذا النوع من النقاشات.

قالت ذلكَ، ثم سوَّت حساب النادل، وسبقتني دون أن تتركَ لي فرصة للنطـق بأي كلمة....

لم أعرف حتَّى الآن أي مُنعطفٍ مال إليه ما دار بيننا إلى أن انتقلنا إلى الجهَة الأخرى من الإحسَاس والتفكير والسلوك: فما كادَت نفسي تطيب بالمكان حتَّى عَادت مُضيفتي، من الغرفة الأخرى، وهيَ نصف عارية، زاعمة أن حَرارة الجو كانت مفرطة، مع أن أنفي لم يكفّ عن الرشح مُنذ صباح ذلك اليوم بسبب نزلة أنفلونزا قوية مَا انفكت تعاودُني منذ مستهلّ ذلك الشتاء القارس بوجه استثنائي... جالستني قليلا، ثمَّ افتعلت إحضار كتاب، فإذا بها تعُود وقد أزالت حمالة صدرها، قرأتْ جملة من الكتاب، ثم اصطنعَت البحث عن مُعجم، فخرجت، وهَا هي تعود وقد خلعت سراويلها... ثمَّ توالى الاستئذان، والخرُوج والدخول إلى أن لم أفطن لنفسي إلا ونحنُ معا فوق سَرير النوم وهي عارية كأنهَا خرجت للتوِّ من رحم أمها.

بقدر ما كنتُ أتأمل الجسد العاري كان شعورٌ مزيجٌ من الرهبة والخشوع يستولي عليَّ. بدون تفكير مُسبق وجدتُني قد قمتُ وتوجَّهتُ إلى الباب الخارجي للمنزل. كان محكم الإغلاق بالأقفال. أحسستُ بارتياح كبير لم أدرك معناه إلا الآن: كنتُ أخشى أن يتسلل إلى البيت وحشٌ ضار من بني جلدتي. يبدو أن المنازل في البدَاية كانت تبنى بدُون أبواب، ولم يهتد الإنسانُ إلى صُنع هذه المداخِل - المخارج التي تتيح وضعَ سَدّ منيع بين فضاء المسكن ووالِجه إلا بَعد أن فطن الإنسانُ إلى أن بينَ بني جلدته، بين بني قومه، من الوُحوش مَن هُم أشدّ ضراوة وبطشا من وحوش الغاب التي كان السعي إلى اتقاء شرِّها هو الأصلُ في اهتدائه إلى فكرة بناء مَساكن: وُحوش بني جلدته هم اللصُوص والقتلة.

استيقظ حارسُ الأخلاق بداخلي، أحسستُ بالذنب، سألتها:

- لماذا تعريتِ؟

احتوتني بنظرة غنجَة شبه سَاخرة، ثم قالت:

- يَبدُو أنك لم تفهم لحدّ الآن أي شيْء مما قلتُ، ولسـتُ ألـوم في ذلكَ إلا نفسي لأنني لم أكن واضحة بما فيه الكفاية: اعلمْ يا سيدي أنني لم أتجرَّد من ملابسي بعدُ، شأني في هذا شأن كل النسَاء. فللمرأة سران: سرٌّ في الجسد وآخـر في العقل. وهي من النرجسية بحيث تمنح للرَّجل سر البَدَن دون سـرّ الذهن موهمة إياه أن مَا من شيء فيها إلا وقد وهبته إياه بينما تظلّ، في الحقيقة، عذراء مُوصدة باب ضريحها مَدى الحياة، لأنها لا تمنح سرّها إلا لنفسها. وهذا يغدو مَصدر قلق عميق لها وللذين اشتهتهم نفسُها على السَّواء، يستوي في ذلكَ الذين استطاعت الوُصول إليهم والذين لم تستطع الوُصول إليهم. ولتبديد قلقها، فهي تفكرُ في الخيانة. فإن تيسرَت لها السّبلُ خانت بالفعل، وإن أعوَزتها خانت في الرغبة والمتخيَّل؛ أتظن أن المرأة التي تصرفُ ساعات خمس في التجوّل في سوق الخضر أو الملابس أو الحلي بدَعوى التحقق من أثمنة ما تودّ شراءه، أو بدعوى المشاكسَة والمماكسة حرصا عَلى مال البيت من التبذير، تلك المرأة أتظنها لا تفعَل شيئا آخر عَدا التحقق من الأثمنة؟ أتظن أن المرْأة التي تصرف أوقاتا طوالا خارج البيت تجالسُ الرجال في المنتديات والجمعيات، لا تفعلُ شيئا آخر سوى الدِّفاع عن حقوق الأطفال والأرَامل والمطلقات والأمَّهات المظلومات؟... وإذا تعذر عليها هَذا وذاك صرَّفتْ عجزها في إشعَال جحيم من رقابة الزوج ومُعاقبة الأبناء، وحولت الحياة دَاخل البيت إلى فرنٍ لا يُطاق. وأمام وضع كهذا ليس للرَّجل إلا أن يبحث عن نساء عديدات خارجَ البيت، عديدات بحيث يبلغ عددهن مائة امرأة فما فوق، ومع ذلك لن أضمَن له أن يحقق إشباعا ولا سَعادة. وهذا هو الوَجه الإشكالي في ما أود إقناعك به، لأنَّ للرجال بدورهن حقول شهوات، في العقل، لا ترْتوي أبدا، لأنها من ليالي قرون الكبت الطوَال تنحدر، كبت استغرَق نموه وكبره مجمُوع الأزمنة المنصرمة. وهل يمكن للإنسان أن يهدِم في يوم واحِد ما استغرق بناؤه عشرات آلاف السنين؟... إنَّ هذا هُـو الأصل في كون الرجل يطلبُ دائما المزيد وهو يترنح على الدوام لغبن مَا فاته وُلُوجُهُنَّ منْ أضرحة النساء ولو بلغ عدَد اللواتي قطفَ ثمارهن عشرَة آلاف امرأة أو أكثر.

قلتُ: هل يمكنُ أن أفهم من كلامكَ أننا نعيش في شوط مُتخلف جدا من الحضارة، في طوْر ناء جدا عن غيرنا من الشعوب؟ فالرَّجل الغربي، مثلا، متى أحبّ امرأة واتخذها زوجة أحبها فعلا، ولم يتمنَّ غيرها، فأحرى أن يشتهيهَا؛ ليسَ لشريكة حياته آنذاك إلا أن تتمدَّد على سرير النوم وتتخذ يمناها وسادا ثمَّ تنام نوما هَادئا لذيذا، وكذلك المرأة منهم...

قهقهتْ، ثمَّ قالت: الآن تبدي سذاجة لا تقل عن تلكَ التي أبديتها عندما حدَّثتَني عن الأخلاق. سواءٌ أسلكتَ سبيل الزَّمن أم ركبتَ مطية المقارَنة، فإنك لن تجدَ للتخلف مقاما؛ إنه مجرَّد وهم؛ إن كونفوشيوسَ وبُوذا والإسكندر والمسيحَ ومحمدا... كلهم لم يمرّوا إلا قبلَ قليل: إن ترهف السمعَ يسيرا، تسمع صخب جُيوش الإسكندر، وصوت النبي وهوَ يدعو قريشا وحوافر جياد عقبة بن نافع وهي تغزو إفريقيا ووَقع أقدام الإنكشارية وهي تجوبُ ضفتي البحر الأبيض المتوسط طولا وعَرضا... فكلّ ذلك لم يمض على مُروره سوى بضع لحظات. ما القول عَن الثورتين الصناعية والزَّراعية؟ ما القول عن الحربين العظميين الأولى والثانية؟ كلّ ذلك لم ينته بعد، إنه بصدَد الجريَان لا غير. ثم إن الإنسان، ما من إنسان إلا ويعيشُ بُعدا مُزدوجا: قمة الحضارة، لكن أيضا عَتبة الحضارة؛ فتحن نزهو دائما، ونحسّ بكبرياء، بحظوة على الذين سَبقونا، لكون الزمن تأخرَ بنا، فلم نولد في العصر الحجري أو في عهد الإسْكندر المقدوني، أو إبَّان الفتوحات العثمانية...، الخ. ما أن يَستحضر أحدنا تلكَ العصور حتى يردِّد في خاطره منتشيا فرحانا: «لو عشتُ في تلك العصور لكانت حياتي تحت رَحمة نزوات الحكام، لو عشتُ هناك لما شاهدتُ تلفازا ولا استنرت بكهرباء ولا سافرتُ في طائرة ولا جلستُ أمام حاسوب، ولما عرفتُ أن قدمَ الإنسانَ قد وطأت سَطح القمر، ولما علمتُ أن العدة جارية على قدم وساق للنزول فوق المرِّيخ...، الخ.». ربما ذلك يُطمئن كل واحد منا، ويرسخ في ذهنه قناعة أنه أفضَل سائر بني البشر الذين مَضوا من قبل، لكن عندما نفعَل ذلك ننسى أن الإنسان الذي عاشَ في عصر الإسكندر أو شارك في الفتوحات البيزنطية كان هو الآخر يغمره الزهوُ نفسُه الذي يغمرنا الآن، كان يحسّ بالكبرياء نفسه وبالحظوةِ نفسها؛ حظوة كون الزَّمن لم يتقدم به، فلم يولد في العصُور السابقة. ولك أن تتصوَّر ما نحن إياه بالمقارنة مَع بني جلدتنا، مع حفدتنا، الذين أخَّرَ الزمنُ ولادتهم عنا بقرُون، الذينَ سيأتون بعد ألفي سنة أو أكثر. لكَ أن تتصوَّر أي شفقة ستثيرها فيهم ذكرى وجودنا.

صمتتْ برهة ثم أضافتْ: هَايْ هاي، لم يتحقق الإشباع الجنسي ولا سعادة الرِّباط المقدس بين الجنسين بَعْدُ في أيِّ بقعة من العالم. ففي أورُوبا، مثلا، حطمت الخيانة الجنسية كلّ الأرقام، بما جعل حرمة زنا المحارم نفسَها لا تسلم من الانتهاك، والرَّجل الغربي متى اختلى بامرأة عَربية أوشَك على الخبل جرَّاء ما يشتعلُ فيه من الرغبات ويستيقظ فيه من الاستيهَامات... وفوق ذلكَ كله، إذا سلمنا بأن الغربيين قد وصلوا فعلا إلى تحقيق الإشباع وسَعادة الصلة بين الجنسين، فبماذا تفسِّر ازدهار تجارة الجنس، في العَوالم الافتراضية، كَأفلأم الخلاعَة، والقنوَات الماجنة، ودُور «السِّيكس شوب»..، ما لم تكن هذه المؤسَّسات قد جاءت لتسد فراغا رهيبا داخل البيوت، وترقعُ حبل الزَّواج المهلهل على الدَّوام؟؟

لم يسعفني العقلُ في الاهتداء إلى أي جواب، هَاجَت حَوَاسِّي، هممت بتقبيلها، أبعدتني، أحسستُ بالغباء والضعف لأنني لم أقو على صَدِّهَا بمثل هذه الوحشية لحظة انكفأت علي وأمطرَت وجنتي بالقبلات.

قالت: ما هذا قصدتُ. لماذا تجعلون من المرأة فاكهَة، وتسخرون كل شَيء لإنضاجها حتى إذا طابَت أكلتم منها قسطا زهيدا ثمَّ انصرفتم بحثا عن أخرَى؟ وفضلا عن ذلك، فأنا لا زلتُ عذراء، ثم إني عاهدتُ نفسي بأن أظل عزباءَ مَـدَى الحيَـاة؛ أن ألازم مدَى الحياة وضعَ «المرأة المشرعة على الاحتمال»

لفني صمتٌ خجول، تدفق في خَاطري سيل من الأماني: «ليتني لم أذكر زواجا ولا طلاقا في عَرضي، ليتني صدَدْتها كما صدَّتني توّا، عندما انحنت على أذني وأغرقت وجتني بالقبلات، ليتني لم أشَارك أصْلا في تلك الندوة اللعينة، ليتني لم استجبْ لدعوتها، ليتني فارقتهَا في المقهى...». أعقب سيل الأماني غضبٌ كبير وشعور بالغبن شديدٌ. أي شيء يجبُ على المرء أن يفعله بجسد أنثى عَار يتلوَّى رغبة وكلما رامَ الدنوّ منه صـدَّه عنه؟!

غرقتُ في بحر من الهلاوس، غفوتُ لحظة، وهاهي موسيقى إيروتيكية صاخبة تقتلعني من غفوتي. ما هذا؟ أفي الحلم أنا أم في اليقظة؟ فقد أسدَلَتْ مضيفتي شعر رأسها، ثمَّ ارتدَت حمالة صدر بيضاء وسليبا أبيض، واستسلمتْ لرقصٍ ماجن مُغو، على إيقاع شريط Enigma الموسيقي: هَا هي واقفة قبالتي، تطيل النظر فيَّ بعينين من ليل، ترسِل شبه أنةٍ أو وَحْوَحَةٍ، تعقبها بقبلة تبثها إلي عَبر الهواء، تثني نصف جسدها العلوي يمنة ويسرَة بحركة بطيئة، كأنها أفعى تسير واقفة، تميل إلى الأمام، تركعُ، تدلي رأسَها إلى أسفل، يلامسُ شعر رأسها الأرض، تقف فجأة، يتطايرُ شعرُها في الفضاء كما يتطاير شعر الراقصات في ليالي الحضرة، تقصدني وهي تلتوي رقصا، تمسَحُ عنقي وأذني وخدِّي وجبيني ثم فمي برأس لسانها، تطبع على عنقي قبلاتٍ راغبة عميقة، انطلقتْ رغباتي وشهواتي من عقالها، وقفتُ، عانقتُها، راوَغَتني، ابتعدتْ عني ببضعة أمتار مُوَاصِلة رقصها الإيرُوتيكي الغنج المدلل، عَلى غرار تلك اللقطة التي تختم بها قناة Chanel Adult حصتها اليومية غير المرموزة، في منتصف كل ليلة. لاحقتُها وهي تتملصُ مني مواصلة رقصَها إلى أن بلغنا معا حاشية السَّرير، عانقتُها، جذبتها إلى صدري داعيا إياها إلى التمدّد على السَّرير، تملصت مني بمنتهى الخفة وهي ترسِلُ إشارة تمنع بوجهها، ثم انتقلت إلى الجهة الأخرى المقابلة للسَّرير. تذكرتُ نصا، كنتُ قرأته من قبل، تحت عنوان «بالعنف تتجدَّد دماء الحب»، يتضمن مقطعا وصف فيه صَاحبه لقطة هي نسخة حرفية مما أعيشُه الآن، ها هو المقطع بين يدي:

«غرقتُ في بحر من الهلاوس، غفوتُ لحظة، وهاهي موسيقى إيروتيكية صاخبة تقتلعني من غفوتي. ما هذا؟ أفي الحلم أنا أم في اليقظة؟ فقد أسدَلَتْ مضيفتي شعر رأسها، ثم ارتدت حمالة صدر بيضاء وسليبا أبيض، واستسلمت لرقصٍ ماجن مُغو، على إيقاع شريط Enigma الموسيقي: ها هي واقفة قبالتي، تطيل النظر فيَّ بعينين من ليل، ترسِل شبه أنةٍ أو وَحْوَحَةٍ، تعقبها بقبلة تبثها إلي عبر الهواء، تثني نصف جسدها العلوي يمنة ويسرة بحركة بطيئة، كأنها أفعى تسير وافقة، تميل إلى الأمام، تركعُ، تدلي رأسها إلى أسفل، يلامسُ شعر رأسها الأرض، تقف فجأة، يتطايرُ شعرها في الفضاء كما يتطاير شعر الراقصات في ليالي الحضرة، تقصدني وهي تلتوي رقصا، تمسَحُ عنقي وأذني وخدِّي وجبيني ثم فمي برأس لسانها، تطبع على عنقي قبلاتٍ راغبة عميقة، انطلقتْ رغباتي وشهواتي من عقالها، وقفتُ، عانقتُها، راوَغَتني، ابتعدتْ عني ببضعة أمتار مُوَاصِلة رقصها الإيروتيكي الغنج المدلل، على غرار تلك اللقطة التي تختم بها قناة Chanel Adult حصتها اليومية غير المرموزة، في منتصف كل ليلة. لاحقتُها وهي تتملصُ مني مواصلة رقصَها إلى أن بلغنا معا حاشية السَّرير، عانقتُها، جذبتها إلى صدري داعيا إياها إلى التمدّد على السَّرير، تملصت مني بمنتهى الخفة وهي ترسِلُ إشارة تمنع بوجهها، ثم انتقلت إلى الجهة الأخرى المقابلة للسَّرير».

قلتُ كأنني أمام الشَّخصية ذاتها. وبما أن صاحب النص قد اختفى هذه الأيام رفقة إحدى خليلاته السِّرِّيات، فما أدراني أنني أمامَ العشيقة نفسها؟ ألا يردِّدُ هو نفسه أنه لا يكتب إلا نصُوصا واقعية؟ نعم لن تكونَ هذه إلا خليلته الحالية. خليلته الحالية هي التي تقيمُ في شقة سرِّية، بعيدا عن والدَيها، هي التي تمرَّدت على كل المؤسَّسات وعلى رأسها الزواج، هيَ التي صاحبت من الرِّجال ما جعلها قادرة على النفاذ إلى نوايا محدِّثها من مجرد حركة يد يقوم بها، أو من مجرد كلمة يتفوه بها أو مجرَّد نظرة يُرسلها... استحوذَ عليَّ الهلع، سألتها:

- هل أنتِ خليلته؟

قالـت: لا

أيقنتُ أنني شخصٌ من لحم ودم وليس مجرَّد شخصية في نص الكاتب، تنفستُ الصعداء، وحمدتُ الله، ثم ودَّعت هلاوسي وعدتُ إلى مآربي الأخرى:

أيّ شيء على المرء أن يفعله أمَام جسد امرأة يتلوى رغبة، يُرسِلُ نداء الرغبة والشهوة، لكن كلما دنا منه صدَّه عنه؟ راودتني فكرة اغتصابها: لأَسْتَدْرِجَنّهَا إلى حاشية السَّرير، ثم أعانقها بيدٍ وأسحبها من الأرض بساقي فما تفطن لنفسها إلا وهي ممدَّدة فوق السَّرير وأنا أعتليها. قال قائلٌ بداخلي: «إن تفعل تكن الشاهدَ نفسَه عَلى قولها السَّابق: "كل الرجال يصيرون كلابا أمَام المرأة، بحيث إن أعتاهم وأشدّهم هيبة ووقارا، في الشَّوارع، والإدارات، لينكسرُ بين فخذيها في أقلّ من رمشة عين إذا ما اختلت به فوق سرير"». اخترتُ سبيل الحيلة؛ انصرفتُ إلى الحمَّام، حيث قضيتُ وقتا لا يُستهان به في الاغتسال وتصفيف الشعر والتعطر، ثم عدتُ وأنا موقنٌ من القدرة على الإطاحة بها، هذه المرة، على شاكلة ما أطاح النبي الزائفُ مُسيلمةُ بنبية تميم الزائفة أمينة سَجَاح.. بيد أني ما عدتُ حتى رأيت ما شق عليَّ فهمه، فأحرى تصديقه: فقد وجدتها جمعت شعرها، وغطته بمنديل أبدَاها كالمتدينة، ثم ارتدَت قميصا تدَلى تحت ركبتيها، واضطجعت فوق السَّرير وقد كسَى وجهها حزنٌ عميقٌ. سألتها:

- ماذا ألـمَّ بك؟

أجابتني بنظرة مبهمة عميقة مرفوقة بزفرةٍ، فهمتُ أنها كانت في غضب شديد مني أو بصدد توجيه عتابٍ قويّ إلـي.

قلتُ لها: ماذا فعلتُ؟ أي شيء قمتُ به - ولو عن غير قصدٍ - فجَـرَّ عليَّ كل هذا الغضب؟

أجابت بالنظرَة المبهمة العميقة نفسِها المرفوقة بالزفرة ذاتها التي فهمت منها أنها كانت في غضبٍ شديدٍ مني أو بصدد توجيه عتابٍ قوي لـي...

لما لم تزدها أسئلتي وتوسّلاتي إلا إمعانا في الإحجَام عن الكلام، انزويتُ في ركنٍ من الغرفة، واحتميتُ بصمتٍ رهيب وأنا أدخن سيجارة تلو أخرَى بشراهة مَا عهدتها في

نفسي من قبل، كأني رَجُلُ مَطـَافِئ.

ساد الغرفة صمتٌ رهيبٌ. تعزَّز الصمتُ بسكون جسدينا وفتور حركاتنا، صرْنا مِثلَ حجَرين مُودَعين في طريق أو رَابية، أو مثلَ شيئين نفيسين قابعين في مبنى أثري سَحيق مُوَارى في باطن الأرض بفعل توالي القرون. تحولت كلّ حركاتنا وكلماتنا - مُنذ التقينا في المدرَّج حتى احتمائنا بالصَّمت قبلَ قليل - إلى محض ذكرَى غائمة، كأننا مُستغرقين في جلسة يوغا مُنذ عشرات السِّنين. فرغَ ذهني من عَملي وزوجتي وأطفالي وكلامي، فصرتُ خفيفا ما يملأني إلا الريح. وبقدر ما كنتُ أزداد فراغا كنتُ أزداد عمقا وقدرة على التوَغل في دَهاليزي وطبقاتي البَاطنية. أحسستُ لأوَّل مرة بأنني فعلا مِلكٌ لنفسي. رددتُ في قرارة نفسي: «ما أكونُ الآن إلا داخل قبرٍ أو قبيْل القيامة». وفجأة أحسستُ بالحجبِ بيني وبين الأزمنة والفضاءَات ترتفع، وهاهِي الأنات تتناهى إلى الغرفة من كل حَدب وصَوب. وفي غمرة ذلكَ الضجيج المرعب غرقتُ في التفكير:

لسنا أوَّل من يقيم على وَجه البرية؛ فمن قبلنا جرَت أممٌ وشعوبٌ كلها بادت، جماعات وأفرادٌ كلهم ابتهجوا للولادة، ثم كبروا، وماتوا. منهم من مَات طريحَ الفراش، واحتضر، ثم غادَر الحياة وهو يعلم أنه سَيغادرها؛ ارتسم أمَامه المجهول، مجهُول الموت، تعذرَ عليه إدراكه من خارج الحياة، بمقولات وأحاسيس وأفكار غير تلكَ التي تعلمَها في الحياة، فمضى وكله أنينٌ وحسرة وبكاءٌ حتى. ومنهم من مات مريضا مقتولا في حربٍ وبحكم إعدَام، تعذب عذابا طويلا قبل أن يسلم الروح. كم أنَّة أرسَلَ، وكم دموعا ذرف، وكم صُراخا أخرجَ من هَول التعذيب أو الألم الذي ألحقه به سيفٌ أو رمحٌ أو بندقية أو قنبلة أو لغمٌ قبل أن يُسلم روحه! وبعد موت كل فردٍ تنوح جماعة بكاملهَا من الأقارب والجيَران، من وَطأة فقدانه، ينتشر النحيب في السَّماء. آه لو تمكن العلمُ من صنع آلة لالتقاط / استعادة أصوَات النواح والعَويل والنحيب التي تردَّدت فوق هذه الأرض، عقبَ كل فقدَان، وابتلعها الفضاءَان الطبيعي والبشري، فحَجباها عنا إلى الأبد. لو تأتى ذلكَ لربما تعذر عَلى الأحياء البقاءُ على ظهر الأرض لأنَّ أنين سابقيهم سيُصمي آذانهم. أي امرئ يقوى على الحياة في بيتٍ تكون الغرفة المجاورة له ترسل أنينا وصُراخا ونحيبا لا ينقطع ليلا ولا نهارا؟ لا أحَد إطلاقا، ومع ذلك يبدُو أن بني البشر هم هذا «الأحَد» الذي يقوى على ذلكَ، لأنهم أداروا ظهورَهم لما انصرف من الآلام وما يتمّ الآن وما سَيلحق بهم هم أنفسهم. تساءلتُ: لماذا ساقني التفكير إلى هذه المنطقة؟ قال قائلٌ بداخلي: «تلك نبوءة العرَّاف؛ شيءٌ ما سيحدُث في هذه الليلة الليلاء». أخذتْ فرائصي ترتعشُ.

ما مضى وقتٌ قليلٌ حتى خرجتْ إلى بهو المنزل، ثم عادَتْ واختطفت علبة سَجائري والولاعة والمنفضة، والتحقت بالسَّرير حيث تمطت وأخذت تدخن سيجارة تلوَ أخرَى بشرَاهَة ما عهدتها من قبل إلا عندَ أعتى مُدمني الخمر والتدخين، كأنها رجلُ مَطافئ.

ربما لن أعرفَ - طالما حييتُ - أيَّ خاطر قادني إلى تذكر تلك النكتة التي كنتُ طرفا فيها أيام كنتُ أقيم بباريس:

فقد كنتُ عائدا إلى غرفتي، بزنقة بيو Rue Biot الكائنة قرب سَاحة كليشيه، في حوالي منتصف الليل، وقد شربتُ بضع جعَّات، عندما لفت انتباهِي جسدُ حسناء شقراء رشيقة، ترتدي جَاكيت من الجينز وبنطلونا من الجينز أيضا وحذاء جلديا عالي الكعبين. لم يكفني أكثر من كلمَة واحدَة لأجدَ نفسي راجعا إلى الغرفة مرفوقا بالحسَناء. في البيت، تجاذبنا أطراف الحديث، وتعشينا، وشربنا الأنخابَ احتفالا بذلك اللقاء، وتغازَلنا إلى أن نضجت الرَّغبة والشهوة بداخلنا، وكسَّرت عقالها، وانطلقت خارج كل الحدُود... حتى إذا حانت لحظة تنافذ السّرِّين كانت المفاجأة العظمى: فبدل أن أجدَ عند الحسناء ضريحا، كما توقعتُ، وجدتُ سرّا مماثلا لسرِّي عدا أنه قصيرٌ ونحيفٌ ومنكمشٌ كأنه قلمُ صبي. أمَّــاهُ! إني أمام مُتحولة جنسية (travestie) لا أمامَ امرأة. لم أجد ما أبتلع به الصَّدمة الكبرى سوى الانعطاف - بمنتهَى اللطف والحذر - من العناق ومُداعبة الفخذين والشعر الأشقر ولثم الفم والنهدين، إلى الجلوس وتبَادل الحديث مَع هبة تلك الليلة العمياء. تعلق الأمرُ فعلا برجُل، لا امرأة، ومن أصْل أمريكي لاتيني، كان ابن طبيب - حسب ما زَعم - ثم اختار أن يتحول جنسيا لسبَب ارتأيت آنذاك أنه يهمّه وحدَه، لكنني الآن فقط أتبينه على نحو ما سأذكر بعدَ قليل.

فهمَ صاحبي صدمَتِي، فاعتذر لي ضمنيا، بغنـج اللقاء

ودَلاله نفسه، ثم ارتدى ملابسه، وصففَ شعره، وأعَاد تجميل وجهه بالمساحيق والمراهم، وتعطر قبلَ أن يستأذن بالانصراف ويمضي إلى حيثُ لن أرَه إلى الأبد... وحدَه «اكتشاف» سبب تحوله هُو ما سـ «يجمعنا» ثانية بعد انصرَام عشرين عاما عن ذلك اللقاء «العابر»...

ثمة أشياء تحدثُ لنا، تصادفنا، أو تمرّ أمامنا فلا نعيرها أدنى اهتمَام، أو يخيل إلينا أنها انتهت فور انتهاء انشغَالنا بها لحظة تماسِّنا معها، لكنها في الواقع تنزوي في رُكن من الذاكرة وتظل تشتغلُ وتشتغلُ وتشتغلُ، على غير علم منا، فما تسنحُ لها الظروف، بعدَ انصرام مدة طويلة، بأن تطفو إلى السطح حتى تعُود وكأنها لم تمر إلا قبل قليل، حالة تشبه إلى حدٍّ مَّا مَا يُسميه المحللون النفسانيون بالتأثير البعْدي (l’après-coup). الآن فقط أدركتُ السَّبب الذي جعله يتحوَّل:

تضعُ المتحوِّلةُ (جنسيا) الجنسَ في أزمة: رجلٌ يتحول إلى امراة. وبتحوّله الفيزيولوجي إلى أنثى يسطو على عَلامات الأنوثة، فيصبح ذا نهدين، ويمرُدُ وجهُه، ويرتدي تنورة وكسوة وحذاء عالي الكعب، لكنه لا يؤدي وظيفة الأنثى: لا يُنجب. بعدَ وُلوجه بُعد الأنثى، يسطو عَلى أغلى ما تملكه بنتُ حواء؛ يزيِّفها. خلافا للمرأة الحقيقية، تمنحُ المتحولة نفسها للـرجل - غالبا - بسُهُولَة؛ لا تمانِع. إنـَّها في الأصل رَجُلٌ مِثليّ جنسِيّ (مُنحرفٌ) يمرّ إلى الرِّجَال من طـريقٍ (سويّ).

تصَفِّي المتحولة، في مجال الحبِّ، حسابا مزدوجا: مع المرأة ومعَ الرجل. كل شيء يتم وكأنها تقول للرِّجال: «إذا كان لابد للمرء أن يَكون امرأة، لينال وصْلكم ومحبتكم، فها أنذا قد تحولتُ من رجلٍ إلى امرأة تمنح الحبّ بلا قيودٍ ولا شروط. مِثل الشاعر، تعيد المتحولة تأثيث العالم من موقع المستحيل؛ تقول: «إني لستُ رجلا، لكنني لستُ امرأة أيضا» أو «أنا امرأة، لكنني رجلٌ أيضا». التحوّل الجنسي هو التموضُع في مساحة مجانسة لتلكَ التي استشرفها نيتشه وباطاي للإنسان عندما شكَّكَ الأوَّل في الوظيفة الحالية للعقل والعين، و(عندما) دعا الثاني إلى قيَام عين في قمَّة رأس الإنسان كي يتحوَّلَ من كائن أفقي إلى كائن عمودي، من كائن شبه بهيمي إلى كائن مَعرفي. وبكلمة واحدة، إنَّ اللوطيَّ [السلبيَّ] مُنحرفٌ سَويّ والمتحولة سويّة منحرفة.

استرقتُ نظرة إلى مُضيفتي، كأنَّني كنت أتساءل عبرها: «هل أنا الآن أمام متحولة؟»، فإذا بها تجيبني على الفور، كأنها قرأت أفكاري أو كانت مَعي في حالة تخاطر عن بعدٍ: ابتسمتْ، ثم أشرعت سَاقيها، فإذا به ليس هو، وإنما هي؛ فإذا به هُوَ هِيَ وليس هُوَ هُوَ. قمتُ نحوها معتذرا، حتى إذا دنوتُ منها انحنيتُ كالرَّاكع وهممتُ بتقبيله، صدَّتني قائلة:

- قد انطفأت الرَّغبة والشهوة بدَاخلي تماما. أتدري ما أقلقني؟ أتدري لماذا دخنتُ؟ قبل قليل كنتُ أرقصُ، وكنت برقصي ذاك أرمِي إلى تصعيد الرغبَةِ والشَّهْوَة فيكَ تصعيدا مزدوجا: كانت لديَّ أمنية في إشرَاع محرابي لكَ، لكني أردتُ الصّعود بها إلى الذروة؛ ومقدار ما كنتُ أصعِّدها بالرقص كان مفروضٌ فيك أن تستثار، أن تشتعل؛ كنتُ أراقب مَفعول الإثارة والاشتعال فيكَ مُنتظرة أن تصل إلى النقطة التي تتدلى فيها مِن أعالي أجرَاف جسدك في اللحظة نفسِها التي أتدلى فيها على أعَالي أجراف جسدي، لكنك صدمتني؛ أتحسب أنني من السَّذَاجَة بحيث أصدِّقُ ما تفتعله لتجعلني أنسَى أو أتناسى عِظم ما أتيته قبل قليل؟ فقد رأيتُ بأمِّ عيني ما فعلته؛ تعقبتك خفية، واسترقتُ النظر إليك من ثقب البَاب، فإذا بي أجدُك تستمني! لماذا فعلت ذلك؟ لماذا فعلتَ ذلك؟ (مجهشة بالبكاء) حرامٌ عليكَ، لماذا استمنيت؟

قلت لها مستنكرا: اتق الله يا ستّ، إنما كنتُ أغتسل وأتعطَّـرُ.

قالت: لا، رأيتك بأمّ عيني تستنزلُ الحليبَ بيدِك!

قلتُ: رحمك الله يا ستّ، غفر الله لي ولك يا ستّ، إني مَا فعلتُ ذلك قط، ولك أن تتأكدي الآن.

قالت: كانت الرَّغبة مُشتعلة بداخلي وقتَ كنتُ أرقصُ. أما الآن فقد انطفأتْ تماما؛ خمدَت واختبأت في أعمَق دهليز بداخلي.

قلتُ لها: رحمك الله يا ستّ، غفر الله لي ولك يا ستّ، إني مَا فعلتُ ذلك قط.

قالت: لا، إني شاهدتُكَ بأم عيني تستنزلُ الحليبَ.

أغراني تحديها بالنفاذ إلى طبقاتها الباطنية التي تنفث هَذا القلق كله إزاء فعل لا أرى معنى له؛ قلتُ لها:

- لنَهَبْ أني فعلتُ، فماذا بعدُ؟

فركتْ وجهها كأنها استيقظت لتوِّها مـن النوم، ثمَّ قالت بعينين جَاحظتين:

- أحقا فعَلتَ؟!

قلتُ: نعَـم!

أطلقتْ زفرة عَميقة، ارتمت فوقَ الفراش، بحركة يائسة قلقة، كأنهَا فقدتْ شيئا عزيزا أو صدِمت بخبر مَشؤوم، دَفنت وجهَها في السَّرير، استسلمتْ لشبه نوم عميق. بيد أنه ما مضت لحظة حتى انتفضتْ بحرَكة عنيفة مُتوترة قلقة، ثمَّ جلست وصَرخَتْ والدّموع تنهمرُ من عينيها:

- الآنَ أيقنتُ أنَّ الخيانة تجري في دمَائك. لماذا استنزلتَ الحليب؟ لماذا؟ لماذا؟

قلتُ: لستُ خائنا، يا ستّ، فمَا نِكتُ سوى يدي، إني ما نكتُ سِوى جزءٍ من جسدي...

قالت مُسترسلة في البكاء:

- ومَع ذلك، فإني لن أغفرَ لك ذلكَ على الإطلاق، لن أغفر لكَ ذلكَ على الإطلاق.

قالت ذلك، ثم رمتْ في وجهي ما كان في مُتناولها من أورَاق وأواني، وهي تردِّدُ في نبرة شبه هستيرية:

- لكَ الآن أن تنصرفَ إلى حال سَبيلك. فقد أفرغتَ هذا اللقاء من كل معنى. لماذا فعلتَ ذلك وأنا مَوجودة هنا؟ لماذا فعلتَ وأنا مَوجودة هنا؟

تراجعتُ عن مسَاحة اللعب، وقلتُ:

- أسحبُ كل ما قلته لك، إني ما أردتُ سوى اختبار نواياك، لم أستنزلْ بُذورَ كائنٍ ولا هم يحزنون.

قالت: لا تستبلدني. قد رأيت بأمِّ عيني ما فعلته؛ تعقبتك خفية، واسترقتُ النظر إليك من ثقب الباب، فإذا بي أجدك تستنزلُ بذورَ الكائن! لماذا فعلتَ ذلك؟ لماذا فعلتَ ذلك؟ (مجهشة بالبكاء) حرامٌ عليكَ، لماذا استمنيتَ؟

قلتُ لها مستنكرا: اتق الله يا ستّ، إنما كنتُ أغتسل وأتعطَّرُ.

قالت: لا، رأيتك بأمّ عيني تستنزلُ الحليبَ بيدِك!

قلت: رحمك الله يا ستّ، غفر الله لي ولك يا ستّ، إني مَا فعلتُ ذلك قط، ولك أن تتأكدي الآن.

قالت: كانت الرَّغبة مشتعلة بداخلي وقتَ كنتُ أرقصُ. أما الآن فقد انطفأت تماما؛ خمدَت واختبأت في أعمَق دهليز بداخلي.

لم أصدِّق أذني، أعـادت على مَسمعي صـكَّ الاتهام

نفسَه مِرارا بما جعلني ضنينا رغمَ أنفي. بذلتُ من المجهودات لإقناعها برفع التهمَة عني ما جعلني أتصبَّب عرقا، لكن بقدر ما كنتُ أصرّ على النفي كانت تصرّ على التأكيد، بل وعزَّزت زعمَها بالبكاء بما أضفى عَلى المقام مُسحة جنائزية: فبقدر ما كنتُ أرشح بالعرق جرَّاء ما كنتُ أبذله من مجهود فكري لدَفع التهمة عني كانت تذرفُ دمعا مذرارا أبداها كالنائحة من جرَّاء فقدان لا يُعوَّض أو كالتي تعرَّضت لغبن وَجُور مَريرين. وضعٌ لم أفطن فيه لنفسي إلا وأنا أرْسل قهقهة كبرى عَلى إثر ذكرى طفتْ على ذهني من غير إعلام ولا سَابق استئذان:

«رَوَى جلال الحكيم عن جارة له عَن أختها المومس أنها قالت: كنتُ واقفة كالعادة رفقة صُويحباتي، بحي كليطو، لاصطياد الزناة، فإذا بزبُون شاب يتقدَّم إلي. كان يرْتدي معطفا طويلا تدلى تحتَ الرّكبتين، ثمَّ سألني: "بكم الجماع يا أخت؟"، أجبته: بمائة درهم، قال: ما لي منها سِوى النصف، فهلا قبلتِ؟ قلتُ: لا، وانتظرتُ أن ينصرف إلى حَال سبيله، بيد أنه واصل الوُقوف والمشاكسة والمماكسة، بنبرة إخلاصٍ مُنكسرة جعلتني أتمزق شفقة عليه، فقبلتُ أن أقدم له جسدي هدية بالمبلغ الذي اقتَرحه، بيدَ أني ما قبلتُ حتى زعَم أنه ما يملكُ إلا نصفه، وهو خمسٌ وعشرون درهما، فرفضتُ، وانتظرتُ أن ينصرف في حال سبيله، بيد أنه واصل الوُقوف والمشاكسَة والمماكسَة، بما جعلني أتمزق شفقة عليه، فقبلتُ أن أقدِّم جسَدي له هَدية بالمبلغ الذي اقترحه، بيدَ أني ما قبلتُ حتى زعَم أنه ما يملك إلا نصفه، وهُو إثنا عشرة درهما ونصف، فرفضتُ، وانتظرت أن ينصرفَ إلى حَال سبيله، بيد أنه وَاصل الوقوف والمشاكسَة والمماكسة إلى أن حرَّك العطفَ والشَّفقة بداخلي، فقبلتُ أن أقدّم له جسدي هبة وأتصدَّق عليه بالجمَاع، غير أنني ما أن دَعوته إلى الصّعـُود إلى الفندق، ليأكلَ شطيرة لحمي حتى أطلقَ شهقة، ثمَّ قال: «كفى كفى، شُكرا شُكرا»، ثم انصرفَ إلى حَال سَبيله وتركني مبهوتة. على الفور فهمتُ لماذا قطع الحديث فَجأة وانصرف، وأدركتُ سرَّ كونه كان طيلة حديثه معي داسّا يده تحت معطفه، وسرّ تلكَ الحركات الارتجافية المسرُوقة: لقد كانَ يستنزل حليبَه. ومُنذ ذلك اليوم والسِّيناريو نفسه يتكرَّر بكيفية مُنتظمة، ونحن – معشر بائعات الهوى – نتسَابق إليه، لاسْتمتاع باسْتنـزاله السِّرِّي».

قلـتُ: إذا كانَ الفعـلُ واحدا، فلمـاذا يُبكي تلكَ ويُضحِك هذه؟

قال قائلٌ بداخلي: يُضحِكُ الاستمناءُ هذه لأن البغاءَ صارَ عندها مهنة، صارَ واجبا. وبتحوله إلى شُغلٍ أصبحت المومسُ تحسّ بالملل والرّوتين ذاته الذي تحسّ به الزوجة والموظف والعامل والعونُ، فصارَت ترغب في قرَارة نفسها لو لم يكن لها شغلٌ. وعندما يأتي المستمني يُعفيها من الشغل، مثله في ذلك تقريبا مثل ذلكَ الزبون الكريم الذي يُكرمها لا لشيء سِوى لتؤنسه في الليل، فتصرفُ معه الليلة آكلة شاربة سَهرانة نشوانة دون أن يَلتفت لضريحها ولو بإطلالة. يعفيها (المستنزلُ) من الشغل، فتضحَك، وضحكها ذاكَ تعبيرٌ عن نشوة الرَّاحة، عن نشوة التموضُع خارجَ كل إكراهات المجتمع وضغوطاته؛ كأنها بضحكها تقولُ: «هُوَ ذا الجنسُ قد تشيأ؛ هي ذي اللذة تتحقق الآنَ دون حاجة إلى جسَد رجل ولا امرأة؛ ها هو الجماعُ يضاجِعُ الجماعَ نفسَه والإنسانُ يتفرَّج عليه دون أن يكون طرفا فيه؛ يستمتع به دُون أن يشاركَ فيه».

بخلاف ذلكَ، أجهشت الحسناء بالبُكاء لأنهَا تلقت استنزالَ الحليبِ باعتباره نوعا من وضع الأنثى في حالة عَطالة، استحواذا على وظيفة بنت حَواء؛ عندما يكون المستنزل بصدد التلذذ بتدليكِ إحليله باليد، كلّ شيء يتم وكأنه يقول: «أنا رجلٌ، لكنني أنثى أيضا» أو - بالأحرى - يقول: «أنا ذكرٌ، لكنني أنثى أيضا»، وهُو في ذلك يلتقي معَ الشاعر واللصّ والعاهرة والمتحوِّلة جنسيا. بكاءُ رفيقتي تعبيرٌ عن رغبة البقاء ضمن المجتمَع، تعبيرٌ عن الألم المتولد عن إحسَاسها بأنها قد أقصيتْ من الجمَاعة، نبذََتْ منهـا.

ما أن انتهيتُ إلى هذا التفسير حتى أحسستُ بإشفاقٍ مزدوج: على نفسي وعليهَا، لأنني لحظة تخيلتُ أنني قد التقيتُ واختليت بأنثى متمردة على جميع القيم، تقبلُ التموقع خارج كل المؤسَّسات، ها هُو يتضح لي الآن أنهَا قد شربت كأسَ الضَّابط حتى النخاع. انتابني إحساسٌ بأنني جالسٌ أمام زَوجتي أو أمي أو جدَّتي. سرَت قشعريرة في جسَدي، أخذت أسْناني تصطكّ، امتعضتُ، انتابتني رَغبة في القيء. اقلتعني تهدِيدها من امْتعاضي، قالتْ:

- قد سامحتكَ هذه المرَّة، لكن كن على يقين من أنكَ إن عدتَ لاستنزال الحليب ثانية ارتميتُ على الأرض وتلوّيتُ وصَرختُ بكلّ ما أوتيتُ من قوة إلى أن يمتلئ المنزل بحشد الجيران.

قلتُ: لعلي أمَام عَاهِــرَة!

قال قائلٌ بداخلي: سَواءٌ أكان المكان زقاق ستراسبورغ دُ سان دُني بباريس أو كَايي سَان رامون ببرشلونة أو حي كليطو بسوق الأربعاء أو زُقاق الذباب بالقصر الكبير أو إبط الكلب بالرِّيصَاني...، فإنَّ الفَضَاء يظلّ وَاحِدا؛ حيـثما وليتَ وجهَك لا ترى سوى حِسان واقفات في أحْوال ومقامات تشبه أحوال الصّوفية ومَقاماتهم وكأن كل تأمّل في جسد المرأة وهو عَار لا يمكن أن يتم إلا في جَو من الرَّهبة والرغبة والخشوع. تقف المومس خارجَ كلِّ نظام للقرابة، كأنها تقول: «أنا أكبر من القرابة، أنا أكبر من صِلاتِ الدَّم»، تطرح جانبا كل ما أجهدت أنظمة القرابة نفسَها في ترْسيخه وتقنينه، تمنح نفسها لكلِّ راغبٍ، خارج جميع المواضعات الاجتماعية إلا ضَوابط البغاء. في أحيَاء الدَّعارة تتحطم جميع الحواجز؛ بإمكانكَ أن تختار أيَّ امرأة شئتَ، وما يكفيك للوُصول إليها إلا كلمة / قرار بسيط. مثلَ المجنون، تبدُو العاهرة كأنها تقول: «لستُ متفقة مع ما شيدتموه؛ مَا هَكذا يجب على العَالم أن يَكون، بل هكذا». إنها تقفُ في مرحلة ما قبل العائلة وهيَ موغلة في نظام العائلة نفسِه. يتمثلُ الجانب الثوري في سُلوك المومس، وكلّ من تمارس الجنسَ خارج مُؤسَّسَة الزَّوَاج، أي دون أن تكونَ زوجة لرجل، في ما يلي: صَوْتُ الأخلاق يقول لها: «افعلي كلَّ شيء إلا أن تكشفي عَن سرِّك لأي كان، إلا أن يلجَ ضريحَك أيّ كان؛ إن هذا الموضعَ من جسَدك لمقدَّسٌ، فلا تظهريه أبدا، لا تكشفي عنهُ أبدا، وإذا كشفتِ عنه أو أظهرته فليكن ذلكَ لرجل يرتبط بك برباطٍ مُقدَّس يُعتَرَف لكمَا به اجتماعيا عبر اجتيازكمَا حفل الزوَاج باعتباره طقس عبور». وبـ «تعهّر» المرأة يتمّ كلّ شيء وكأنها تقول: «إذا كان الأمرُ لديكم على هَذا النحو، فهوَ عندي عَلى النحو التالي: إني لأفعلُ، عن سَبق إصرَار، عكسَ ما ظللتم توصُونني به على الدَّوام». بتعبير آخر، بوُلوج عالم البغاء، تلجُ المرأة نفسُها عالما غريبا عن الجمَاعة، ترسِي قطيعة مَعها، كأنها تخاطب، في الآن عينه، أعضَاء هذه الجمَاعة قائلة: «قدْ أعطيتم للسرّ قيمة كبرى، لكنكم أسَأتم إلي. وعقابا لكم، سَأوجّه لكم ضربَة في أعزّ الأشياء لدَيكم وأغلاها، سَأنزع عن السِّر كل هالة وأجرِّدُه من كلّ قيمَـة».

قزَّمَ جلالُ العاهرة جليستي. تساءلتُ: هَل تكون خائنـَة؟

قالَ الصَّوتُ نفسه: الخيانة هي أسمى شكل للتعبير عن رفض مؤسَّسة الزَّواج من داخل الزَّواج. يبدو الخائن وكأنه يقول: «أنا مُتزوجٌ، لكنني أعزب» أو «أنا عَازب، لكنني متزوج أيضا»، وهُوَ قولٌ مجانسٌ لقول المتحَولة جنسيا...

استأذنتُ جليستي، أذنتْ، خرجتُ إلى غرفة مجاورة، خلعتُ حزامي الجلدي، عُدْتُ إلى غرفة النوم وأنا نصف عار. هممتُ بالجلوس. ما أن توهَّمَت الفتاة أني جالسٌ حتَّى رفعتُ الحزام وهويت عليها بضربَة وحشية، ارتسمَ فوق ظهرها خط أحمر عريضٌ، صَرختْ بأقسى ما أوتيتْ من قوة، طوَّحتُ بالحزام في الهوَاء، سَقط بعيدا، انحنيتُ على مُضيفتي متوسِّلا إليها أن تصفح عني، صَدَّتني بفظاظة، ثمَّ قالت في ما يشبه الابتهَال الخشوع:

- زدني. أرجُوكَ زدني، أرجوك زدْنِي.

رَفَضْتُ إشفاقا عليها، لكن إلحاحَهَا كـان مـن الجـد والاسترسَال بحيثُ لم أملك أمامه سوى الانكسار: فأنا رجُل مهذَّبٌ لطيفٌ يكرَه التعذيب، ولكن هَا هو يجدُ نفسَه إزاء ضحية فاقت كلّ مازوشية، كأنها خرَجَت لتوِّها من روايات الماركيز د ساد أو سَاشر مازوش. أشفقتُ عليها وعلى نفسي، تقطرَت من خَدي دَمعتان، دنوتُ منها، رَجوْتها أن تعفيني من تلكَ المهمَّة العسيرة، لكن بقدْر مَا كنتُ أزداد أمامها انكسَارا كانت تزْداد أمَامي إصرارا... وفيمَا كنتُ شاردا في التفكير في ما يجب علي فعله، تذكرتُ، في تلكَ اللحظة، دُون أن أعرف لحد الآن لأي سَبب، حكاية صاحب المسدَّس السّري التي رواها جلال الحكيم عن جَارة له عن أختها العَاهرة أنهَا قالت:

«كان يتردد على حي المومسات صاحب مُسدَّسٍ، فيختار أجملنا، ثم يختلي بها في غرفة، فيأمرها بالتجرّد من الملابس، فتفعل إلى أن تصير (زبطاء) كأنها نزَلت لتوها من رحم أمها، وبَدل أن يلج سرّها مُباشرة، يجلسها في حاشية السَّرير ووجهها مستدير صوب الجدَار، وردفاها منتصبان قبالته، ثم يتجرَّد من ثيابه، ويبتعد عَنها إلى أقصَى طرف البيت، وهو يتأمَّل ضريحها الخلفي، ووجهُهَا مدفونٌ في الفراش... وفجأة تسمَع وقعَ خطوه القوي على أرْض البيت: يتقدَّم نحوها رَاكضا، تقبض أنفاسَها، تستعدّ لإطلاق صرخة كبرى من جرَّاء الألم الذي سيُحدثـه عنف دَسِّ سِّرِّه في سِرِّها... لكن يا للعَجب! تصوَّرُوا أي شيء يفعل. ما أن يصل إليها حتَّى يُقعي، ويصفَع ردفيها باليمنى واليُسرى صفعا قويا، كأنه يطرشُ خدين، ثم يجهش بالبكاء مخاطبا الرِّدفين وقد جعَل منهما جمعا: «أنا مزاوكـ فيكم، هَا العار عليكم. أش بغيتوا عندي، تفارقوا مني، الله يرحم والديكم، أنا مزاوكـ فيكم. راني جيت غير نحـ.....كم»، ويُلازمُ ذلك الوضع إلى أن ينسكبَ حليبه في يديه، ثم يُسَلم للتي اختلى بهَا المبلغَ الذي اتفقا عليه، كأنه قضى وَطرَه منها فعلا، وينصَرف إلى حَال سَبيله فرحانا مَسْرُورا...»

من قبل، كنتُ كلما سمعتُ الحكاية اكتفيتُ بالسّخرية من الحارس السِّرِّي مُبتسما، لكنني وجدتني الآن أطلق ضحكة كبرى، لستُ أدري لحدّ السَّاعة سبب إطلاقها ولا سَبب كوني تخيلتُ المشهد، لأوَّل مرة، وكأنه يمرّ أمامي مثلَ شريط...

قال قائل بداخلي: لماذا تضحَك؟

أحجمتُ عن الضَّحك، وهَا هو ينقشع أمامي مَغزى الرّعب والألم الذي يؤثث مَشاهد الجنس عند سَاشر مازوش والماركيز دُ ساد، ومَغزى تلك المشاهد التي تتحوَّل فيها «الجايشات» اليابانيات إلى جَلاداتٍ قاسيات؛ تجرِّد الواحدة منهن زبونها من ثيابه وتكبله بالأغلال، وتجعَل منه شبه بهيمة، تمتطيه، ولا تجود عليه بمجرد لمسَة أو قبلة - فهيهات، ثم هيهات أن ينعَم بالضريح - إلا بعدَ أن تمطر ظهرَه بسيل من السِّياط، وتشنف آذانه بأقذع الشتائم... الآن فقط أفهم مَغزى الأنين والترنح الذي يتخلل مَشاهد الجمَاع الأكثر اشتعالا، الأنين والترنح الذي ترسله تلكَ الحسانُ ذوات الجمال الملائكي اللواتي يقبلنَ أن تسجَّل ممارساتهن الأشدّ حميمية في أشرطة بصريةٍ وتجوبُ أنحاء المعمُور... إن هذا الصراخ لهو جوابٌ يقدمه الإنسَان على سؤال مَفقود، مَفقود لكنه موجود، عرفه ابن آدم مُنذ العُصُور السَّحيقة - ولا زَال - وسَوف يظل يعرفه:

ربما كان فعلُ الجماع نفسُه تصريفا رمزيا لفعل أكلٍ حقيقي كان يمارسه الجنسان على بعضيهما في العهُود السَّحيقة، تحتَ تأثير (أو لتصريف) القلق الذي يحدثه في المرء مُشاهدته ضِعفه، أي رؤيته وجهَه في الجنس الآخَر باعتباره مرآة له. وحيث إنَّ هذا الافتراسَ كان سيؤدي لا محالة إلى انقراض النوْع، فإن مَا يمكن تسميته بالعقل الغريزي - أو عَقل النوْع، الثاوي في الجنس لا الفرد - دلَّ الإنسانَ على طريقة لنقل الصراع إلى حلبة أخرى، لمواصَلة الحرب بأسلحة أخرى: دلَّ الجنسَين على سرَّيهما. ومنذ ذلك الحين والحرْب قائمة بين الإثنين: هَذا يسعى للنفاذ في ذاك وذاك يسعى لابتلاعه... وحيثُ لا النفاذ ولا الابتلاع الكامل يتحققان، فإن الإنسانَ يعوِّض هذه الاستحالة بالصّراخ أو يعضِّد ذلك السَّعي بالصراخ؛ ما الصّراخ إلا تألم أو خطوٌ في طريق الغوَاية...

لم تسعف توسّلاتي ولا ابتهالاتي ولا محاولاتي في إقناعها بعجزي عن الإمْساك ثانية بالحزَام. فقد كان إلحاحها وتوسلها من الصدق والرقة بحيث لم أمْلك إلا الإذعَان له. ولحد الساعة، مَهما نجحتُ في إقناع نفسي بأنه لم يَكن بوسعي أن أفعل أيَّ شيْء آخر عدا تعذيب مُضيفتي تعذيبا فاق كل وحشية، فإنني لن أفلح - طالما حييتُ - في فهم لغز المارد الذي خرَج مني لحظتئذ، وجَعلني أقوى على القيام بكل ما قمت به في تلكَ الليلة الليلاء: لم أكتفِ باتخاذ حزامي الجلدي سَوطا وتمزيقه فوق ظهر الحسْناء فحسب، بلْ تجاوزتُ ذلك إلى تكبيلها بأغلال صنعتُها من أطرَاف المآزر واللحف، ولويتُ على ظهرها ضربا كلّ ما كان في البيت من قضبان وأواني مَعدنية، ومزقتُ ملابسها وعدَدا لا يستهان به من الأفرشة، صَانعا منها قيودا وأغلالا، ودَسَسْتُ قطع الصّوف والقطن في فمها، للحَيلولة دون تسرُّب صُراخها إلى خارج البيت... بيد أنني مِقدارَ ما كنتُ أعذبها كانت تستزيد، بل إني لا أتردَّد الآن - وقد أدمنتُ مشاهدة الأشرطة البورنوغرافية - في اعتبار صُراخها مَا كان من وقع الألم، وإنما من موقع اللذة كان... ولم أتوقف إلا بعد أن صَارت مؤنستي جثة هامدة. وهي ممدَّدة مثخنة بالجرَاح بدَا لي أنها شاخَت. قلتُ هي ذي الحقيقة سافرةٌ ممدَّدة أمَامي؛ ما يليق بي أن أقوم به منَ الآن فصاعدا هوَ: كلما مرَّت أمامي امرأة عجوزٌ، امتلأ وجهها بالتجاعيد، وقلَّ بَصرها، لا تسير إلا مجاهدة قدميها أو مُتكئة على عصا، يجبُ أن أقول: «عجبا كيف مرَّ الوقتُ سَريعا! منذ لحظاتٍ فقط كانت هذه السيدة فتاة حسناء، تلاحقها عُيون الرجال أينما حلت وارتحلت، ويَشتهونها جميعا»... وبالمثل ما يَليق بي قوله كلما شاهدتُ فتاة في مُقتبل العمر تمرّ أمامي، مزهوة بجمالها، تسير متهادية، تتحاشى عُيون الرجال وهي مُوقنة أنها تتابعها، ما يَليق بي قوله هو: «ما تمضي لحظات إلا ويَكون هَذا الجسد قد تهلهَل، والوَجه قد ذبُل، وحان قطافه؛ سَينقض عليه الموت المتربِّص».

استحوذ علي الهلعُ، أخذت فَرائصي ترتعش، غرقتُ في ندَم شَديد، قضيتُ الليلة بجانبهَا، أتصنتُ من حِين لآخر على دقات قلبها، وأرَاقب شهيقهَا وزفيرها، طالبا منَ السَّماء ألا يكفَّ ذلكَ القلبُ عن النبض وألا يتوقّفُ ذلكَ الصَّدر عن الشهيق والزَّفيـر... لكن السَّماء كانت أقسى من أن تستجيبَ لدعائي...

توقّفَ قلبي عن النبض، انقطعت أنفاسُها، قلتُ هي الآن في أحد وضعين: إما توقفت عن العَمل أو دخلت في طور العطالة. ذلكَ أنني كنتُ على الدَّوام أقول: شغلٌ لا نتقدَّم في شأنه بطلبٍ لأيّ كان، لكننا لا نفطن لأنفسِنا إلا وقد كُلِّفنا بمزاولته، فنزاوله شئنا أم كرهنا، مَع أننا لا نتلقى أي مقابل عنه: إنه مهنة الحياة.

جبَّارٌ أنت أيها الموتُ، وعاملٌ (أنتَ) لا يَكلّ ولا يملّ! عندما يَكون الشارع مزدحما بالمارة والمتجوِّلين، بحيث يتعذر عليَّ المرور بسُهولة، من جرَّاء الاحتكاكات المتوَالية لجسدي بأجساد الآخرين، جراء الزِّحام، أتعجبُ قائلا: «عَجبا كم أمتار كفن يَلزم لتكفين كل هَذه الجثث التي ستلتحق بعد قليل بالمقبرة»، فيردّ عليَّ قائلٌ بداخلي قائلا: «وأعجبُ من ذلك أنَّ الموتَ نفسه سيتكفل بهم جميعا؛ سيزورُهم واحدا واحدا دون أن يكلَّ أو يملَّ، أو تثنيه عنهم كثرة أعدَادهم!»

الآنَ وقد ماتت، الآن فقط أدركُ أنها اسْتطاعت، في هذا الوقت القصير أن تتوغلَ إلى أحشائي، إلى أن صَارت أحد اثنين: حبيبة أسْكرَني عِشقها، أو أنثى تربطني بها صلة قربى قوية. أوجعَني موتها. أترنَّح تحتَ وطأة الفقدان. أدركتُ فظاعة الخطأ الذي ارتكبته: علينا ألا نمنح كل محبتنا للأحبَاب ولا الأهل، لكي لا نؤلمهم برَحيلنا ولا يؤلمونا برَحيلهم؛ علينا مُعامَلتهم كأنهم جيرانٌ لنا أو رفَاق طريق في سَفر لا نعرف كم يَدوم... علينا، متى رأينا أحبابنا، أطفالنا أو أبوانا، ألا نَرى في عيونهم سوى ظلمة ليل الكائن الحالكة، علينا أن نقول: «ما يجمعنا بهؤلاء سوى سفر، ما يعلم أحدٌ منا ولا أحدٌ منهم مَتى ولا أينَ سينتهي به».

ليَكُنْ. لكن، أما علمتُ أنه لا يَشفع لنا وطأة الإحساس بفقدان الأقارب إلا قِصَر نظرنا؟! فنحن نتألم على موت الأب والجدّ. أما علمنا أن الجدَّ نفسَه قد تفتتت أكباده من فراق أبيه الذي لا نعلم عنه شيئا، وأنَّ أبا الجدّ قد أنزل دموعا مهراقة لما ماتَ أبوه (وهو أنا - الأب - الجد - أبو الجدّ) (وهو جدّ جدّ أبي). بهذا المعنى، فألم فراق الموتى يَسري في عُروقنا من غير أن نعلم به. حَري بنا ألا نُصْدِر ابتسامة واحدة.

تراءَى لي مَوكبها الجنَائزي، وقفتُ أتأمَّل جثتها مليا، ردَّدتُ في خَاطري: «أنا هُو ذاك الميِّت، أنا هو الجثة الممدَّدة»، وبذلكَ استعَدتُ الخسَارة التي يمنى بهَا «الأحيَاء» بعد مَوتهم - خسَارة مشاهَدَة الشَّخص جثته وهو مَيِّت - وحوَّلت استحَالة استبَاقي الموْت، إلا في المتخيَّل والاستيهَام، إلى استباق حَقيقي واقعي. هذا ما يليق بالإنسَان المنذور للموت أن يفعله مَع كلّ ما يحيط به، فينصت لصَرْخات الألم التي سيطلقها عَليه أبناؤه بعْدَ مَوته، يُنصِتُ إليها وهو حيّ يرزَق، ويسمَع ما سَيقوله الناسُ بعدَ وفاته وهوَ لازال حَيّا يُـرزَق.

استحوَذَ عليَّ الهلع، قلبي يدقّ بضربات مسموعة، كما في الأفلام، في اللقطات التي تنبئ بوقوع كارثة، أو في شَريط Enigma الموسيقي، في ذلكَ المقطع بالضبط الذي ينسحبُ فيه صوتُ المغنية لتعوضه ترنحات نشوَة الإنزال مَشفوعة بدقات القلب المسموعة، وهِجرة بُذور الحياة وسَط خَرير عيون السرِّ الأنثوي الجارية... وفي غَمرة ذلك الهلع والصمت الموقَّع بنبض قلبي، في غمرة تلكَ الوَحدة القاتلة التي لم يكن يُرافقها سوى الجثة العَارية، اجتاحتني رَغبة لا تقاوم: لفَّت اللحمَ العاري مُسحة سحر وجمال أكبر مِن أن تقاوم، اشتعَل سرِّي رغبة وتوهَّجا. ساقتني قدَماي، من غير استئذان، إلى الجسد العاري الممدَّد، دنوت من عَتبة الضَّريح، صدَّني صوتٌ بداخلي:

قال: أتستمني؟!

قلتُ: كيفَ؟

قال: ستضاجِع أنثى مَيتة، ومضاجعة الموتى استمناءٌ مَادام لا يستفيد من الجماع - خلال هذا الضرب من المواقعة - سوى فرد واحد، هو الحيّ. لا يمكن أن تتمَّ هذه المضاجعة إلا من قبل فرد مغبون. والعَملية أسمى تعبير عَن الغبن الذي يلحقه المجتمع بالفرْد المضاجِع. جثة الميت هي - بمعنى ما - فتاتٌ يلقيه المجتمع فوق المائدة ما دامت تنبَذ بعد الموت، وحينما يجامِع رجلٌ حيّ امرأة ميتة، فإن الأمرَ يتم كما لو أنه يقنع بذلك الفتات، يخضع لقوَّة المجتمَع القاهرة، في لحظة يتعرَّى فيها الكائنُ.

قلتُ: بالفعل، مَن يضاجع امرأة ميتة لا يَفعل شيئا آخر عدا أكل فتات مَائدة انصرف أصحابها وألقوا بفضلات الأكل إلى المزبلة. أي شَيء نفعله بالموتى غير أننا نلقي بهم في مقبرة، نبعدهم عن أحياء الأحياء، ننقلهُم إلى خَارج مدارات الأحياء؟! يا له من سلوكٍ غبي! يخصِّص الأحياء للأموات «إقامات» على هامش إقاماتهم [=الأحياء]، هي المقابر التي تقع دائما خارج المدينة (مع ملاحظة أنه بتقدم الزَّمن واتسَاع المدينة يَصير مكان المقبرة يقع وسَط أحياء الأحياء، وآنذاك، يكتَبُ الأحياء في باب المقبرة عبَارة: «ممنوع الدفن هنا»). وباستحضار حقيقة أنَّ الإنسان «الأوَّل» كان يَعيش وسط الغاب، بينَ الحيوانات، يمكن القوْل إنه كان حيوانا، كان عضوا في مجتمع واحد يتألفُ من الحيوانَات وبني الإنسان. ولكن حدَث أن خرَج الإنسانُ من الغَاب، وحصَّنَ نفسه داخل مُدُن، تاركا الحيوانات تعيشُ في الغابة. هَذا الخروج يمكن اعتباره إقامَة على هامش الإقامة / المجتمَع الأصلي، يمكن اعتباره إقامَة في مقبرة، وبالتالي فالمدُن لا تعدو مجرد مَقابر للغَاب، وبنو الإنسَان بداخلها بمثابة أموات دَاخل مَقابر.

قال: فليكن، لكن إن تضاجعْها لنْ تتمَّ هذه المضاجَعة إلا داخل فضاء / إحساس مسروق، مشوب بالفزَع، لأن للمجتمع عينا لا تنام كعيُون ثلاث: عينُ الله وعين الصبي وعين الفنان:

عينُ الله لا تقتضي شرحا نظرا للطابع البذيهي لحقيقتها.

أمَّا الثانية، فمتى وقفنا عَلى حقيقتها انتابتنا دَهشة لا تقاوَم من هؤلاء الكبار المقيمين بيننا، الذين نستصغرهُم (وهم الأطفال). فالطفل يمرّ أمامه مشهدٌ ما، فنخالُ أنه لم يفهمه وبالتالي نسيَه، أو أنسَينَاه إياه أو فوَّتنا عليه فهمَه، من خلال تزْويدنا إياه تفسيرا خاطئا للمشهَد المعني، مَا لم نلجأ إلى قمعه بإحدَى الطرُق التي نراها ملائمة. نخال أنه قد نسيَه...، لكنه ما أن يكبر، ما أن تفصل مَسافة زمنية بيننا والطفلَ والحدَثَ حتى يعيد إلينا صبيّ الأمسِ الحديثََ بكل تفاصيله. والمظهر الأكثر قابلية للاستشهاد، في هَذا الصَّدَد، ما يَكتبه الأدباء عن طفولتهم، إذ يَكشفون عن أشياء تهمّ آبَاءهم ووسطهم الطفولي لم يخطرْ لوالديهم عَلى الإطلاق أنَّ أبناءهم سيتذكرونها في يومٍ من الأيام. بهذَا الصَّدد يمكن المضي بعيدا وافتراض أنَّ للطفل ذاكرة يمكن نعتها بأنهَا غريزية، بواسطتها يتذكر - لا شُعوريا - أشياء تعود إلى طوره الجنيني، كَأن يكون أحبّ المأكولات إليه فاكهة مَّا، ثم نقف فيما بعد على أنَّ الفاكهة نفسها كانت أحبّ الأشياء إلى أمه أيَّام كانت حُبلى به.

أما عَن عيون الكتاب، فيمكن افتراض أنَّ هؤلاء أنفسَهم إنما هم عيونٌ مُستصغرة داخل المجتمع. ووضعهم الاعتباري، من هذه الزَّاوية، يشبه إلى حدّ بعيد وَضع أطفالنا بيننا، إن لم يَكن نسخة أخرى منه. وجْه الشبه يكمن في أنَّ أناسا (حكاما، سَاسة، أو مجرَّد أفراد عَاديين، أو الأصناف الثلاثة بكاملها) يتصرفون كمَا يحلُو لهم، معتقدين أنَّ كلَّ شَيءٍ يطويه النسيان، ولن يُتذكَّرَ فيما بعد. لكن مَا أن يمضي ردحٌ من الزَّمَن حتى يطلع علينا أدِيبٌ برواية أو قصوصة تعيد سرد المشهد / الحدث / التصرّف... بكل تفاصيله. أكثر من ذلكَ، تعيدُه مُغلفا بطابعٍ وجداني، يحمِّل المشهدَ سُخرية أو نقدا أو إشادة...

قلتُ: كيف يمكنُ النظر إلى ما يفعَله المؤرخ بالمقارنة مع ما يفعله الكاتب؟

قالت: المؤرِّخُ يُعيد وصف المشهدَ أو الحدث، في أغلب الأحيان، ليحفظه للأجيال القادمة. يدخله في صلة مع الزَّمن، يحاول أن يضفي عليه طَابع الديمومَة. كأنه يقوم في ذلك بردِّ فعلٍ تجاهَ الموت / النسيان. كأنه يقولُ: «مررنا من هنا، وفعلنا كذا وكذا، والشاهدُ عليه كذا (مصنف التاريخ أو المعالم التاريخية. بهذا الصدد، فإن كلمة «معالم»، بمعنى «repères» لا «آثار = monuments»، نفسَها تظل محمَّلة بدلالة، ومع ذلك يظل من المفيد البحث في المعنى الاشتقاقي للكلمة اللاتينية الثانية نفسها عسَاه يصبّ في هذا الاتجاه). كأنَّ الحياة والفضاءَ والزمنَ صحراءٌ من شأن الإنسان أن يتيه فيها. ولكي لا يتيه، فإن المؤرِّخَ يَضع أمامه معالم. وبالنظر إلى أنَّ البعد الزمني يغيب في المعنى الحقيقي لكلمة «معالم»، إذ تقتصر في الدلالة على المكان، فإنه يمكنُ اعتبار الكتابة التاريخية محطات للإقامة. كَأن البشرية في رحلة داخل صَحراء، وما يوقفها للاستراحة أو الإقامة إلا مَعالم التاريخ. من هذه الزاوية، يمكنُ إعادة قراءة الأحداث التاريخية انطلاقا من السّؤال: ماذا تمثل الحقبة كذا من تاريخ الشَّعب كذا (أو البشرية) بالقياس إلى ما سَبقها من أحداث ووقائع؟ هَل هي استراحة أم إقامة؟ نعرفُ أن شعبا مَّا هو (أو كان) في حالة استراحة عندما نقيسُ ما سَيفعله في ما سيأتي من الزَّمن، داخل المعلَم الذي يحطّ فيه؛ عندما نقارنُه به. فإن حققَّ قفزاتٍ، تجديدات، ابتكارات، إضافات نوعية لما جاءَ به سابقوه من بني شعبه أو من بني البشَر قاطبة. ونعرفُ أنَّ شعبا ما هو (أو كان) في حالة إقامة عندما نقيسُ ما سيفعله في ما سيأتي من الزمن، داخل المعلَم الذي يحطّّ فيه؛ عندما نقارنه به، فنتوصَّل إلى أنه لم يأت بجديد يُذكَر. جَميع شعوب الأرض تهتدي إلى مَعالم، فتقيم فيها لحظة تطُول أو تقصر، تسكن فيها، ثم تغادرها إلى مَعَالم أخرى جديدة...

كنتُ أقـولُ: إن للمجتمع عَينا تظلّ يقظانـة سَهرانـة حَريصة حتى على فـُتَاتها. ومتى ضُبط فردٌ مَّا متلبسا في هذا الوضع قادَه ذلك حتما إلى السِّجن مَا لم يقده إلى الإعْدام. وعندما يحاكم المجتمع المضاجِع أو يعدمه، فإن كلَّ شيء يتم وكأنَّ هذا المجتمع نفسه يبث رسالة مُزدوجة: يخاطب الظنين فيقول له: «لا تحسبنني أبخس قيمة أي شيْء مما أملكه حتى ولوْ طاله البلى والتلاشي وأشرف على النسيَان؛ ففتات مائدتي نفسه تظل له قيمة كبرى عندي»، ثم يخاطب حشدَ الأحياء، باعتبارهم أظناء محتملين، قائِلا: «اعتبروا بهذا. من تسوِّل له نفسه إتيان ما أتاه [هذا] فليعلمنَّ أن المصيرَ نفسه ينتظرُه».

قلتُ: معناه أن المجتمع ملاَّكٌ بخيلٌ، بل إنه لا يفطن إلى بخله، فيتجاوز هَذا النسيان إلى تنصيب نفسه عَدلا أو حكما، بيد أن عدلَه يتبدى أعْرج.

قـالَت: كيفَ؟

قلـتُ: إنه يُنَصِّبُ نفسه حَكَما بين طرفين، يجعل من الإثنين - الحي المضاجِع والميت المضاجَع - ظالما ومظلوما، غَابنا ومغبونا، ثم يعاقبُ أحدهما. وبمعاقبة هَذا يخاطبُ ذاك قائلا له: «قد انتقمتُ لكَ منه»، ساعيا إلى بثّ إحسَاس مُزدوجٍ: الشعور بالارتياح لاستعادة حق مَسلوب، هُو حق التصرف بالجسَد، حقّ المرء في أن يمنحهه لمن شاء ويمنعه عمن شاء، وهو ما سَلبه المضاجِعُ الحيّ من المضاجع الميت عندَما واقعَه دون استشارة ولا استئذان. ثم الإحسَاس بالرضى لوجُود أبٍ حامٍ، هو المجتمع بترسانة ضوابطه وقوانينه، يشمَل أبناءه بالرعاية، ويصدّ عنهم كلَّ ظلم، وذلك سعيا إلى توليد مزيدٍ من الرغبة في مواصلة الحياة ضمن المجتمع، ضمن الثقافة و، في الآن عينه، توليد مَزيدٍ من الرَّغبة عن الحياة ضمن الغاب، ضمن الطبيعة، ضمن الغريزة. لكن أمَا علم أن المظلومَ المزعوم، وهو الميت، مُذْ غادَرَ هذه الحياة ما عادَ يربطه بالعدْلِ، والحَكَم والظلم والارتياح والرَّغبة إلا السَّديم؟! فعندما يموت المرء، يكفّ عن أن يكونَ ملكا لنفسه، يتشيأ، يصيرُ كالأحجار المودَعة في الطرُقات، كالأشياء الجامِدة التي نؤثث بها منازلنا. الأحياء هم أيضا لا يملكونَ أنفسهم، هم أيضا أشياء، ودائع في هَذا الكون، إلا أنهم - بخلاف الموتى - يملكون أنفسهم مَاداموا يتحركون في المكان، ويملكون بعضا من سلطات القرار والإرادة. وعَليه، لا يليق بنا - نحن مَعشر الأحياء - أن نتساءل: كيف سنكونُ بعدَ الموت؟ بماذا سنحسّ؟ هل سنتذكر الحياة أم لا؟ أو نقول: «يجب علي أن أفعل كذا الآن لكي أكون كذا بعدَ الموت»، لأنَّ مثل هذه الأسئلة والأفكار لا تطرَحُ إلا من مَوقع انسدَل بينه وبين الموت حجابٌ أبدي، بل إن التفكيرَ والكلامَ والنظر والشمَّ واللمسَ والسمعَ...، كلّ ذلك حُجُبٌ بيننا وبين الموت. وعليه، فمَا يليقُ بنا قوله كلمَا حضرتْ فكرَة الموت في أذهَاننا، أي كلما تذكرنا أننا إلى الموْت آيلين، مَا يليق بكل واحدٍ منَّا قوله هو: «أنا هنا وكفى».

في الصَّبَاح الباكر استيقظتُ على صوتها، كانت تئنّ تحت جروحها، فرحتُ، نظرتُ إليها، هالني منظرها، انقض علي خوفٌ رهيبٌ، أخذت فرائصِي ترتعِش، قلتُ في نفسي: «محظوظٌٌ جدا لأنك لم تقتلها»، لكن حظي سرعان ما تبدَّى أعرج، ارتدَّ إليَّ السّؤال: «ماذا لو انقلبتْ عليكَ؟»... قبل أن ينضج أي جَوَاب في ذهني، اتجهتُ إلى المطبخ. هناكَ، هَالنِي حشدُ ما رأيتُ من العلب والقنينات المصفوفة في الرفوف. دَنَوْتُ منها فإذا كلها مُستحْضَرَاتٌ طبيعية من الأعشاب، كتِبَ على كلّ منها اسم الدواء، ولأي داء يصلح، وكيفية استعماله... غرقتُ حَسرة على ما عاناه بشرٌ أمثالنا - سَابقون لنا - كان السَّعي لوضع حدّ لآلامهم هُو الأصلُ في وُجود كلّ الوصفات التي دَخلت هذه القارورات. كأن الإنسان مختبرٌ للأمراض. بمقدَار ما يوجد هنا، وفي النوزوغرافيات الطبية، من أوصَاف ووصفات كان هناكَ من أمراض. إن إلقاء نظرة واحدة عَلى أي كتاب من كتب الطبِّ، ولو كان مجرَّد مصنَّفٍ للتداوي بالأعشَاب والنباتات الطبية، لتكفي للتمزق حسرة على ما عاناه بشرٌ أمثالنا. وإذا كان العلاجُ ومحاولته لا يأتيانِ إلا بعدَ حلول المرض، فلنا أن نتصوَّرَ كم أمراض عانى منها الإنسان. بتعبير آخر، إن وراءَ تقدّم معرفة الطب والبيولوجيا بجسَدِ الإنسانِ، وراءَ تقدّم طرق تشخيص المرَض، وراءَ تعدّد الأدوية يقبعُ كونٌ من معاناة المرضى الذينَ لولاهم لما كان ذلك كله.

رغم أنني كنتُ مُوقنا بأن الحسناء قد استحالت، تحت وطأة التعذيب الذي ما رسته عليها، إلى مخلوق شبه ميئوسٍ من حياته، فإنني مع ذلك طرقتُ باب المستحيل متوسِّلا إليه أن يمنَّ عليَّ بهبة في مرتبة تلك الليلة الليلاء: تفحصتُ قوارير العقاقير قارورة قارورة، ثم حملتُ من الأدوية ولوازم التطبيب ما رأيته «مناسبا لحالتها»، ساعيا إلى تطبيبها، إلى بعثها. أقول طرقتُ باب المستحيل، لأنني ظللتُ على الدَّوام أعتقد أن الطبَّ التقليدي لا يعدو مجرَّد هراء. هَيهات ثم هيهَات أن تضَاهي فعاليةُ وصفةٍ لا يهتدي إليها المرءُ إلا على نحو ما يهتدي الأعمَى بمفرده إلى الطريق فعاليةَ وصفة علمٍ تجريبي عقلاني - هُو الطب - صَرف آلاف السنين في بناء صَرحه لبنة لبنة، إلى أن طوَّق بمعرفته جسدَ الإنسان وتمكنَ من القضاء على العديد من الأمرَاض الفتاكة التي كانت في الماضي تحصدُ ملايين الأحياء... تلك هي القناعة التي كنتُ لا أحيد عنها قيد أنملة في كل نقاش حول الموضوع. بيدَ أنني، بمحاولتي تلكَ، لم أكن أفعل في الواقع سوَى ترجمة ذلك الضعف البدئي الذي لازمَ الإنسان منذ العُصور السحيقة وسيلازمه طالما ظلت تفصله عَن الخلود أسْوارُ الموت الشاهقة؛ تصرفتُ على نحو ما يتصرف ذلكَ الإنسان الذي يظلّ يقيسُ أفعاله وسلوكاته بمقاس العقل والمنطق والحسَاب والخبرة والتجربة حتى إذا ألم به مصابٌ، ولم ينفع في رَفعه عقلٌ ولا منطق ولا حسابٌ ولا خبرة ولا تجربَة، انقلبَ إلى الجهَة الأخرى، وارتمى في أحَضان اللامعقول عَساه يجد فيه ملاذا... بتعبير آخر، مَع أنني كنتُ موقنا بأن وحدَه تدخلٌ طبي هو ما كان من شأنه أن ينقذ حَياة الحسناء، فإنني مَع ذلك عزفتُ عن استدعَاء طبيبٍ، مخافة أن يبلغ الشرْطة فيلقى علي القبض، وحَاولتُ تطبيبها بيديَّ..ولم أكن في ذلك إلا ترجمـانا للرَّغبة...

دخلتُ غرفة النوم، وأخذتُ أضمِّدُ جروحها، وأكمِّدُ البقع الحمراء التي انتشرت في جسدها، وأدلكُ أعضاءَها بالمرَاهم، وأقطرُ سوائل في فمها وأنفها، فما مضت سَاعتان حتى كانت واقفة على رجليها تجوب غرف المنزل جيئة وذهابا، مُستعرية أمامي لاقتناص تلصّصي. كأنني لم أدخل إلى المنزل إلا منذ لحظات.

لم أصدِّق عيني، ذهلـتُ، سألتها :

- عجبا، لو رآك امرؤ قبلَ قليل، لقالَ: «ما ينفع هذا الجسد المريض المحتضر إلا تدخلٌ جراحي أو علاجٌ مطوَّل في مصحة عصرية»... ومع ذلك، ها أنت شفيتِ بسُرعة لا تصدَّق، وبالسّبل التي لا تصدَّق!

قالت: لا أتفق معَك. فأنا لم أكن «مَريضة»، وإنما كنتُ في «موعد مع نفسي»؛ في «لقاء بنفسي»، وما أدراك ما لقاء المرء بنفسه؟ هو أن يفرغ من شؤون العالم بأجمعه إلا منها. وهذا لا يتحقق للإنسان إلا مرَّتين: في المرض العُضال، وفي الموت: لقاء المـرَض: يتفاوت بتفاوُت الأمراض. ضمنَ هذا المنظور، يمكنُ اعتبار أدنى ألم يُصيب أحد أعضائنا نسخة (version) منَ اللقاء الفعليِّ للإنسان مَع الموت. وأشدّ الناس لقاءً بأنفسهم الأطفالُ الصغارُ؛ هشاشة صحَّتهم تجعلهم معُرضين على الدَّوام لما لا يعدّ ولا يحصى من الأمراض، وفي كلّ سقم ثمة اختلاءٌ بالنفس وإنصاتٌ لها. وتوَغلا في النظرَة نفسها، يمكن تفسيرُ غياب كلام الطفل مُنذ الولادة - أي طوَال مقامه في محطة مَا قبل الكلام - باعتبَاره انشغالا بالذات، اقترانا بينَ الرّوح والجسد؛ النفسُ والبدَنُ كلاهُما يكون وجها للآخر. لكن المجتمع يتدخلُ باللغة والضَّابط، فيقيم شروخا بينهما، بينَ المرء وكينونته الجوهرية. شرْخ يزدادُ بتوغل الفرْد في الكبر (ومعنى ذلك أننا نعيش خارجَ أنفسنا). كلما كانَ المرءُ سَليمَ البنية، نسَى جسَده، وكلما مرضَ صارَ هذا الجسد نفسُه شغله الشاغل... بهَذا المعنى، فالمرضُ عوْدة إلى الطفولة، ولحظة الموْت تعادلُ لحظة الولادة. وعليه، فإني ما كنتُ قبلَ قليل إلا في غمْرة الطفولة. لو متّ لكنتُ وُلدتُ ثانية. ومَع أنني حزينة جدا على عدَم تحقق هذه الولادَة منذ أمطرتني بالسّياط إلى صَحوي من الغيبوبة، فإني أشكرُك شكرا جزيلا؛ إذ لولاكَ لما استمتعتُ بذلك السَّفر الجميل في رحَاب الطفولة.

قلتُ: مع أنني لم أفهم بعدُ الشق الثاني من كلامك الموغل في التجريد، فإني أبادلك شكرا مماثِلا عَلى إتاحتكِ لي فرصة تصحيح مجمُوعة مُعتقدات خاطئة كنتُ أعتنقها بشأن الطب التقليدي. فهَلا أمليت عليَّ تلك الوصفات حتى أتخذ منها دَعامة لاعتقادي الجديد، وأدَافع عنه بالدَّليل الملموس، من خلال إفادَة الغير وانتشاله من مَخالب الألم؟

قهقهَت، ثمَّ قالت:

- الوصْفات؟! لو شئتُ أن أملي عليكَ مجرد قسط مما أعرفه منها لاستغرقَ مني الإملاءُ وقتا قد يطول إلى مَطلع فجر الليلة القادمة أو أكثر دون أن ينفد ذلك القسط. بيدَ أنني لن أفعلَ لسبب وَحيد، وهو أنَّ تلكَ المركَّبات لن تنفع في شيء ما لم يتمثل المرءُ الفلسفة الثاوية ورَاءها، وهي فلسفة تختلف بعُمق عن نظيرتها الكامنة ورَاء ما يفعله الطبّ العصري:

ففي الطبِّ التقليدي، المنحدر من العُصور السَّحيقة، يُنظر إلى الجسد باعتباره شبه لغز، وعَاءً مُغلقا، متى اشتكى تمَّ الاكتفاء بتحضير وصفات ثمَّ تناولها، بغرض الشفاء لا غير. ومعنى ذلك أنَّ طب القدماء يقومُ على أسَاس من احترام الحيوات التي تجاورُنا والتي تتجاوزنا، الظاهرَة والباطنة على السَّواء. بخلاف ذلك، يسعى الطبّ العصري إلى «اجتياح» الجسد وتطويقه مَعرفيا، إلى حَصر كل مُكوناته... متى اشتكى هَذا الجسم من صُداع أو ألم تمَّ البحث عن مَصدر الإيلام، وهذا المصدَر يكادُ يحدَّد دائما في أجسام غريبة تكتسح الجسَد. أجسادٌ قد تكونُ خارجية المنشأ كما قد تكون دَاخلية المنشأ. ولتخليص المريض يتم صناعَة أدوية، هي في الحقيقة «مُبيداتٌ»، الهدف منها القضاءُ على الأجسَام الدخيلة. وهذه الرَّغبة في الإبادة يتمّ التعبيرُ عنها لغويا بمصطلحاتٍ تنتمي إلى حقل الحرب أكثر مما تنتمي إلى حقل الصِّحة والمرض، فيقالُ، مثلا، «مُضادات حيوية» (antibiotiques) على غرار ما يقالُ في الجيش «مُضاد للصَّواريخ» (antimissile) و«مُضاد للدَّبابات» (antichare)... يتمّ تسليح الجسَد، بالأدوية، لتخاضَ بداخله حربٌ لا هوادة فيها بينَ البدن العَليل (أو القلعة المحصنة) والنزلاء الدّخلاء، بَين الجسَد السليم (الأصل) والجسيمات العليلة (الفرع أو الامتداد) التي شذَّتْ عن «ناموس» الفضاء الذي تحيا فيه إلى أن صارت تهدِّدُه في بقائه بدرجات تتفاوتُ بتفاوت نوعية الأورَام. ولعَمري، تلكَ هي الخطيئة الكبرى.

قلتُ متعجبا:

- كيف؟ ! خطيئة كبرى؟! إني لا أتفقُ إطلاقا مَع هذا الرَّأي؛ فقد أنقذ الطبّ العصري ملايين الحيوات، ووضَع في حكم كانَ أمراضَ كانت في الماضي تفتكُ بملايين البشر، وسيأتيك المستقبلُ من كشوفاته وفتوحاته بما لا يخطرُ على بال... لا يُعقل أن تكونَ ممارسته خطيئة كبـْرى...

ابتسمت بسُخرية، ثمَّ قاطعتني قائلة:

- لنتأمل معا هَذا المعطى البسيط: إنَّ عدد البكتيريات المقيمة في الكرَة الأرضية هُو رقم ثلاثة متبوع بثلاثين صفرا، فيما لا يتعدى عدَد بني آدَم اليومَ ستة ملايير نسمة، أي رقم ستة متبوعا بتسعَة أصفار. ما معنى ذلك؟ مَعناه بكل بسَاطة أنَّ الإنسانَ لا يعدو مجرَّد كائن عرضي، أنه ليسَ أكثر من رقم غير أسَاسي في معادلة الكون، أنَّ الحيويات وسَائر الكائنات المجهرية - التي عرفها الإنسَان والتي لم يَعرفها بعدُ - هي الأصلُ والإنسان هو الفرع. أمَام هذا المعطى وحده، لا يمكنُ للمرء إلا أن يستغربَ من مسعى هذا الطب الذي يرُوم قطع الشجرة للإبقاء على الأغصان، انتشالَ التربة والإبقاء على الكائنات مُعلقة في الهواء. إنه مَسعى مستحيلٌ، بل هو سلوكٌ سيزيفي. والدليل على ذلك، أنَّ الإنسان ما أن يتنفسَ الصعداء على إثر القضاء على مرض فتاكٍ حتى يظهرَ مرضٌ أشد فتكا من سَابقه، ما أن يكتشف دواء فعَّالا ضد داء قاتل، ويمضي على ابتكار الدواء بضعة عقود، حتى يتبدَّى الترياق السابقُ عديم الفعالية جرَّاء تكيف الحيويات مَعه واكتساب أجيالها وسُلالاتها الفتية مناعة ضدَّه، تمكنها من مُقاومته مقاومة أشد من مقاومة أجدادها للعقار نفسه. لا أريدُ استدعاءك للتأمّل في الغاية النهائية التي يضعها الطبّ العصري نصبَ عينيه، شعوريا أو لا شعوريا، من خلال التساؤل مثلا عن أيّ شيء يربحه الذي يعيش 180 عاما بالمقارنة مع الذي يعيش 100 عاما؛ أي شيء سيربحه شخصٌ بعينه كان سيموتُ حتما عن سن تناهز الستين، ثمَّ امتدَّ به العمرُ إلى أن بلغ سن المائة وستين عاما، نتيجة اجتهادٍ طبي وعلمي جبَّار؟ لا أريد استدعاءك لمثل هذا التأمل، فهو سيُبدي الممَارستين الطبيتين التقليدية والعصرية على السَّواء مجرَّدَ سلوكٍ رمزي، سَعي لوُلوج الخلود. وبالمقابل أودّ أن أجمل لك الاختلافَ بين الطبين على النحو التالي: كلاهما تمثلٌ للمرض وتعاملٌ معه: في الحالة الأولى، يُتمثَّلُ الداء باعتباره كائنا مُلغزا، ضبابيا، سَديميا. وبهذا الصدد، سيكون من المفيد جدا إنجاز دراسة حولَ «لغة الطب عندَ القدَمَاء»: كيف يتحدَّثـُونَ عَن الداء؟ كيفَ يُصَنفون الأدواء؟ كيفَ يتحدثون عن العلاج؟ من هُو الإنسان السَّليم في نظرهم؟ من هو العَليل؟ هل المريضُ مسؤولٌ عن مرضه؟، الخ. كنتُ أقول يُتمثلُ الداء باعتباره كائنا مُلغزا، وبالتالي تتمّ محاباته إن جاز هذا التعبير. ويتمثلُ وجه المحاباة في عدم البحث عن مَصير الأورام، بعد شفاء الجسد. كل ما يُسعى إليه هو استعادة الصّحة والعافية لا غير دُون البحث عن دَرجة هذا الشفاء. وهُو ما لا يقبله الطبّ العصري بتاتا، لأنه لا يؤمنُ بعافية كاملة إلا إذا تأكدَ من مغادرة الكائن الدخيل الجسدَ بصفة نهائية. و«حجته» في ذلك أنَّ هذا النزيلَ الغريبَ يمكن أن يتحصَّن في قلعة قصية من قِلاع الجسَد الخفية،ثمَّ يباشر مهمة تخريبية غير مرئية، لا يفطنُ إليها المرءُ إلا بعد فوات الأوان أو وَشك فوات الأوان. والأمثلة المقدَّمة، في هذا الصدد، عديدة جدا، كالسِّيدا، والزهَري، والنقرس، والكباد، والسَّرطان، الخ.

قلتُ: هلْ يمكنني أن أفهمَ من كلامك أنك من أنصار مُقاطعة الطبّ العصري؟

قالـت: نعـم.

قلـتُ: ومَع ذلك فقد تكوني مَدينة له بحياتك. لولا التلقيحات التي تلقيتها في صغرك ضد عدد من الأمراض لربما كنتِ الآن ميتة، جراء سُلّ أو جُذري أو حَصباء...

قالـت: ما في ذلك أدنى شكّ، ولكن التلقيحَ عملٌ مُضادّ لعمل الطبيعة، خرقٌ لحكمتها الخفية. أما ترَى أن الإنسان وُلد دائما ضعيفا، مُهددا بما لا يُعد ولا يحصى من الأمَراض والأوبئة، ومع ذلك لم يَنقرض؟! إنَّ للطبيعة حكمة خفية هي التي تدبرت أمرَ بقائه... ما معنى تلقيح الجسَد ضدَّ أمراض مُعينة؟ هو استعطافٌ للمرض، للكائن الحيَوي المستور عن أعيننا، هُو فتح إمكانية للتعايش مع الكائنات الدقيقة التي تنشأ بداخلنا أو تغزو أجسَادنا من الخارج. كأنَّ الإنسانَ بتلقيح نفسه إنما يخاطب هَذه الكائنات المجهرية قائلا: «لكِ أن تنشئي بدَاخلي، إن شئت، أو تقتحمي جسمي إن شئتِ، لكن لا تغتاليني، لا تتسببي في إيجاعي». وهذه اللغة إجراءٌ مزدوجُ البُعد: ذاتُ بعدٌ فردي وبعدٌ جماعي: يتمثل البعدُ الأوَّل في صيانة الفردِ المفرَد من المرَض، وقايته من أن تنحرفَ بعض خلايا جسمه عَن مَسارها الطبيعي، فتنقلب إلى كائناتٍ مُهَدِّدة بالمرض والموت. غاية التلقيح في هَذا المستوى هي صيانة الفرد الواحد بما هو نواة للنوع وضَامن استمراره وإيصاله وبقائه وديمومته. أما البعدُ الجماعي، فيتمثلُ في السَّعي إلى صيانة النوع، وقاية الجماعَة من التعرّض لأوبئة تكون إمَّا خارجية المنشأ، آتية من الفضاء الخارجي، أو دَاخلية المنشأ تأتي من أفرادٍ آخرين يكونوا قد وقعوا تحت قبضة المرَض، أطبَقَ عليهم إلى أن صارُوا قابلين لنقله إلى الآخرينَ عن طريق العدوى. في هذا المستوى، يمكن القولُ ثمة عملية مماهاةٍ تجرَى بين المريض والمرَض نفسِه. كأن الفرد المريضَ بالكباد أو السّل، مثلا، قد صار السّلَّ أو الكباد نفسه. ولذلكَ يجب الاحتياط منه مرَّتين: مرَّة بحث جهاز المناعة الداخلي لدَى الأشخاص المحيطين بالمسْلول أو المكبُود؛ بتقويته بحيث تصير أجسَادهم قلاعا منيعة ضدَّ تسلل أي كائن عضوي صَغير إليها، لأنه مَا أن يتسلل حتَّى يصير شعوبا وقبائلَ، يتناسل ويتوالدُ ويتكاثر، يلهو ويلعبُ ويرقص إلى أن يهدَّ جدران القلعة المنيعة ويُسقِطُها، فتنهار. إذا انتهى الانهيار بموت الجسد العليل أمكنَ تأويلُ العملية بكاملها بمثابة حَركة للطبيعة: كل شيء يتمّ وكأن الإنسان يسعَى إلى الانفصال عن الطبيعَة، إلى الديمومة داخل هيأته الحالية التي تتيحُ له الحركة والتفكيرَ والتحرك في الفضاء، لكنَّ الطبيعة تقتلعُه من وضعه هذا، ثم تعيدُه إليها. كأن الطبيعة تدورُ في حلقة مُفرغة هي الإنسان: الكائناتُ المجهرية الدَّقيقة تزورُ ابن آدم، تفد إليه منَ الخارج، ثمَّ تفرغه من نفسِه، توحِّدُه معها إلى أن يغادرَ نفسه ويعُود إلى الطبيعة... بهذا المعنى، يمكنُ تأويل المرض باعتباره طبيعة تحنُّ إلى نفسها، طبيعة في حَالة سجن، مَسجونة داخل الإنسان / الجسد المريض، وتكافح وتناضلُ من أجل استعادَة حريتها، من أجل الخرُوج ثانية إلى الطبيعة. ومتى تحققَ لها ذلك أخرجَت الإنسانَ نفسه معها من نفسِه محولة إياه إلى سَائر الكائنات والذرَّات التي يتحول إليها الجسدُ إلى أن يتكلسَ.

قلتُ: ولكن، كيف يمكن تفسير العلاج الناجح؟ هلْ هو عقابٌ للكائنات الدقيقة، بطردها من جسَد الإنسان، أم مَاذا؟

قالت: قد يجوزُ اعتباره ضربا من إعادَتها إلى رُشدها. كأنَّ الإنسان / الطبيبَ يقول لها: «ليسَ هَذا مكانك»؛ «أخطأتِ الطريق، فمَا هنا يجب الإقامة». بهذا المعنى، يمكنُ اعتبار الطبيبَ شرطي المرُور، ينظم سير سائر الكائنات في طريق الحيَاة، فيوقف هَذه ويطردُ تلك ويقاضي أخرى في المحكمَة، الخ. يمكنُ اعتماد هذه الخطاطة وتوسيعُ شرحها بحسَب الأمراض، بحيث يتم وصفُ كل مرض على حدَة: أعراضه، كائناته الممْرضة / المتسببة فيه، كيفَ يتم معاملتها، الأمراض التي تعالجُ، الأمرَاض المستعصية عن كل عِلاج، الخ.

قلتُ لهـا:

- كيف اهتديتِ إلى كشف كل هذه الحجب بينك وبين أسرار الطبيعـة؟

قالت: بوحي منْ كاتب ورسَّام تعرَّفتُ عليهما في مدينة مكناس. الأول: يهتم بالموت، وألف فيه نصُوصا أفزعت قراءتها الكثيرين، وخلقت له أعداء بالمجان عديدين، لم يتردد بعضهم في نعته بالـ «عفريت». درسَ الأدب، والرَّسم، والفلسَفة، والطب، والموسيقى، والسِّحر، والتنجيم، إلى أن صار يضرب الرَّمْلَ ويكتب الحجب للبنات العانِسَات ومنكوسات الحظ... وكما قال هو عن نفسه، فهو «عالم من العصور الوُسطى تأخَّرَ به الزَّمن فألقى به في القرن العشرين».

أما الثاني، فقدم نفسَه قائلا: «هلْ أحدثك عن سبب هجرتي إلى فرنسا؟ سافرتُ لسرِّي ولا لشيء آخر غير سرِّي. نعم، سِرِّي هو سببُ إفلاسِي. كان القومُ كلما عادوا من المهجر قالوا لنا نحن معشر من لم تطأ أقدامهم أرضا خارج الوطن قط: "عجبا أمرُ النساء هُناك. مَا يبلغ المغربي محطة قطار أوستليتز Gare d’Austerlitz حتى تطاردُه الباريسيات من كل جانب. إن لم تأخذ حَذرك لن تفطن لنفسكَ إلا وقد اختطفتكَ إحداهنَّ ومدَّدتكَ فوق سريرها ثم اعتلتكَ". فما سمعتُ هذا حتَّى جمعتُ حقائبي، ثم سافرتُ ابتغاءَ نسوةٍ لا رزق. هناك، لم أجد أي امرأة في انتظاري ولا في انتظار أيّ مسافر آخر. ومع ذلكَ فقد ولجتُ من أضرحتهن ما يناهزُ ألفا وخمسمائة ضريح أو أزيد»...

قلتُ في نفسي: «لن يكونَ هذان إلا أسليم ومَوَاهِب: نعم، الأول هو الذي يلازم معاشرة الموتى، أسليم هو الذي أصابه مسّ من الأعشَابِ، فصار يهذي بالطرخشُون والبابنوج، وإكليل الجبَل، وأمُّ ألف ورقة، وعِنَب الدّب، والدَّارصيني، والخَزامى، ولسَان الحمل، ونباتات أخرى، ثم أخذ يصنع الدَّواء ويوزعه مجانا في مقاهي مكناس... والثاني لن يكون سوى مَواهب، نعم مواهب هو الذي يرافقه مثل ظله، مَوَاهِب هُو الذي أنفق على سرِّه ما يَكفي لبناء عمارة من عشر طوابق في أفخَم شوارع المدينة. ومَوَاهِب هو محمَّد شكري الشفوي... نعمْ لن يكون هذان إلا هما؛ هما اللذان يدمنان السَّفر في الطريق الثلاثية رقم 33 ويأتيان المصائب في مَدَاشرها وقراها، كما يَشهد بذلك سائقو الشاحنات المتردِّدُون على تونفيت، واغبالو إسرْدن، وزاوية الشيخ، وتيغسَّالين، والقبَاب...». استحوذ علي خَوف لم أجد لحدِّ الآن أي تفسير له. استأذنتُ مضيفتي في الانصراف، أذنت لي، تهيأت للخرُوج، استوقفتني، قالتْ:

- يمكنكَ الآن أن تعودَ إلى بيتك، لكن اعلم أنكَ من الآن فصاعدا لستَ زوجا لأي امرأة سواي؛ هنَّ جميعا يمنحنك سرَّ الجسد ولا يمنحنك سرَّ العقل. من الآن فصاعدا أنتَ زَوْجي، لأنني أشرعتُ لكَ أسراري قاطبة إلى أن ولجتَ عَقلي.

بباب المنزل شاهدتُ رجلين يتهيآن للدخول، وكلاهما يحمل قفة: إحداهما امتلأت بالخضر والفواكه وعلب الخمر، والثانية تدلت منها خيوطٌ عديدة فهمتُ فيما بعد أنها كانت سياطا وحبالا للتعذيب. رفعتُ بصري، وها هو أسليم بقامته النحيفة وظهره المقوس مثل قوس قزح، وشعره الأشعث، وفمه المدبوغ بالسجائر والقهوة والخمر... ثم ها هو مَوَاهِب بشعره الأشيب، ونظارتيه السَّميكتين، ويديه الموشومتين، ومُعجمه الفاحش يسبقه... ابتعدتُ قليلا عن المنزل، لاحَ طيفُ امرأة تسير نحو البيت بخطى من غضب وهي تجرّ طِفلين يملآن الدنيا زعيقا ببكائهما. قلتُ: «لن تكون هذه إلا زوجة أسليم». وبالفعل، ما أن دنوتُ منها حتَّى كانت هي. قلتُ في نفسي: «أحمد الله لكوني لستُ محمد أسليم» دون أن أعرف لماذا استثنيتُ مَواهب، ثمَّ عدتُ إلى بيتي وأنا أفكر في اصطناع عذر أرَاوغ به زَوْجَتِي عسَاهَا تصَدّقني وتستسيغُ غيابي ليلـة أمس...

 

* ابن عذاري المراكشـي، البيـان المغـرب في أخبار الأندلس والمغرب، تحقيق ومراجعة: ج. س. كولان وإ. ل. بروفنسال، بيروت، دار الثقافة، ط. III / 1983، ج. 1، ص. 113.

 

 

 

نصوص سردية

بالعنف تتجدد دمـاء الحب

روايـة

 

 

 
 
جماليـــات صالـون الكتابـة

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.