جماليـــات

إضــــــاءات

حــوارات مقـــــــالات تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

 

 
 
 

ابحث في الموقـع

 

 

 

فتيحـة إبراهيم صـرصور (فلسطيـن)

رحلات فدوى طوقان

محطات صعبة وأخرى مضيئة

مراسلة ثقافية

رحلات فدوى طوقان
محطات صعبة
وأخرى مضيئة
إعـداد
فتحية إبراهيم صرصور
غزة – فلسطين 2004م

من يحاول الكتابة عن الحياة الشخصية لفدوى طوقان لن يكتب إلا ما كتبته هي في رحلتيها الصعبة والأصعب، وليس بوسع أحد إضافة شيء اللهم إلا إن كان من يكتب ممن حظوا بشرف لقائها وجالسها؛ فسألها عمّا لم تكتبه في سيرتها، فهي من الكرم بمكان حيث إنّها لا تبخل على من تشعر باهتمامه بها وبدراسة أعمالها.

لقد وثّقت فدوى لحياتها عبر كتابين لم تترك شاردة ولا واردة مرّت بحياتها خلال تلك السنين إلا قبضت عليها وأودعتها بين دفتي رحلتيها؛ رحلة جبلية رحلة صعبة – والرحلة الأصعب- هاتين الوثيقتين اللتين لا يمكن لباحث أو قارئ متعمق أن يمرّ على عنوانيهما مرور الكرام، فإن كان العنوان هو سمة العمل الأدبي، فإنّ عنواني فدوى يكشفان منذ اللحظة الأولى عن طبيعة الحياة التي عاشتها الشاعرة، إنها تصفها برحلة؛ وعادة ما تكون الرحلة غنية بالفوائد والمتع والمغامرات التي يسعد بها الإنسان مهما كانت التكاليف، لأنّ لذّتها تطغى على متاعبها، إلا أن رحلة فدوى لا كغيرها من الرحلات، إنها رحلة جبلية، مع ما في الجبال من وعورة وصعوبات في السير المحفوف بالمخاطر نتيجة لما يعترضها من صخور وأحجار، ثم إن رحلتها لم تقف عند كونها جبلية وإنما ألحقتها بوصف رحلة صعبة، لتزيد في دلالة المعاناة التي عاشتها حتى أصبحت المعاناة ملازمة لها وكأنها تسير في شرايينها فلا تفارقها،هذه هي صورة الشق الأول من حياتها كما نفهمها من عتبة النص، إنها رحلة داخلية في أعماق الذات تصطرع وتتصادم مع المجتمع المدني ممثلاً بمنظومة العادات والتقاليد، هكذا كانت حياتها على المستوى الشخصي والاجتماعي إنها رحلة تخص أناها الفردية منذ كانت جنيناً في رحم أمّها وحتى نكبة حزيران، وكأنها تبدأ السيرة بآهات الحزن الدفين في أعماقها منذ حاولت والدتها إجهاض حملها، وتنتهي بصراخات الأنا الفردية وقد انضمت للأنا الجمعية واتحدت معها.

كانت تلك طبعة دار الأسوار بعكا أما في طبعة دار الشروق فجاء في عنوانها تقديم صعبة على جبلية ليصبح العنوان رحلة صعبة رحلة جبلية معبرا عن آهات مكتومة تصرح بها لفظة صعبة التي تتبعها لبدايات الرحلة التي عاشتها.

تأتي الرحلة الأخرى فيتوهم المتلقي بأنها ستكون أفضل من سابقتها بعد أن أينعت الزهرة، واشتد عودها، وبدأت تواجه الصخور البشرية من خلال إصرارها على قهر القوانين الوضعية التي حرمتها من التعليم، فانتصرت عليها كما تنتصر البذرة فتشق الصخرة، وعوداً على ذكر المتلقي الذي تأمّل وتمنى أن تكون الطريق أمامها ممهدة، وكفاها ما عانته فيما مضى من شطر حياتها، إلا أنّه يصدم حين يرى أن رحلتها الثانية هي الرحلة الأصعب لقد تحولت فدوى في هذه المرحلة من الفردية إلى الجمعية، وذلك لأنها ذات منفتحة لا تعرف الانغلاق، وكما كانت أبواب قلبها مشرّعة فأحبت كلّ شيء، كذلك كانت حياتها كتاباً مفتوحاً يطلّع عليه كلّ من يجالسها ويهتم بأمرها، فهي صادقة وصريحة، جريئة في البوح بما يمكن أن يعتبر سرّاً من أسرار حياتها، هذه الصفات الفطرية أهلّتها للتماهي مع الذات الجمعية، إن كانت الوعورة والصعوبة في كتابها الأول تخص الأنا الفردية والأنا المرأة بفعل منظومة العادات والتقاليد، فإن الصعوبة في هذا الشق من حياتها كان جمعيّاً وبفعل الاحتلال الذي عاناه شعبنا ولا يزال، وكأنّ فدوى تقرّ بأنّ كل ما تعرضت له في حياتها على المستوى الشخصي وكانت تظن أنه أكبر المآسي وأعظمها؛ فكان هناك ما هو أشد إيلاماً على نفسها وقلبها منه؛ إنها مأساة الوطن بأرضه وسمائه بإنسانه ونباته، إننا نكاد نسمع صوت فدوى وهي تقول هانت عذاباتي أمام عذابات الوطن.

لقد تمكنت أن تنتصر بقوة إرادتها على إرادة القوة الكامنة في المجتمع؛ وقد حطمت الصخرة فلم يعد أمامها مستحيل، أما هذه الصخرة المتمثلة في الاحتلال وما يدعم صلابتها من انحلال وتخاذل وخيانة فإنها تراها أكثر صعوبة، وإن كان الهدوء مع الصبر والأناة والعزيمة أبلغاها آمالها فالوضع مع المحتل لا يفيد به سوى الجهاد والاستبسال.

هذا ما نقرأه في عنواني سيرة فدوى الإنسانة الوادعة الحالمة، الإنسانة الشاعرة الحيية، ابنة جرزيم وعيبال ابنة جبل النار سيدة الذات القوية وقد أصبحت هذه الذات سرّاً من أسرار نجاحها واستمراريتها …

إنها فدوى عبد الفتاح طوقان من مواليد عام 1917م على أرجح الأقوال حيث ضاع تاريخ ميلادها من ذاكرة والديها كما ضاع حبّها في قلبيهما، ترجع أصول العائلة إلى قبيلة طوقان القادمة من تل طوقان في سوريا، عاشت في بيت محافظ؛ يجمع في أرجائه بين الأصالة والحضارة والرقي، كان بمثابة مجتمع صغير يجمع العائلة الممتدة من أعمام وعمات وأبناء وأحفاد، كما يحوي العديد من التناقضات التي أدركتها فدوى منذ نعومة أظفارها، كان ترتيب فدوى السابعة بين عشرة من البنين والبنات هم: أحمد – إبراهيم – بندر – فتايا – يوسف – رحمي – فدوى – أديبة – نمر – حنان، لم تحاول والدتها أن تجهض في أيٍّ من مرات حملها المتكرر، وجاءتها الفكرة في المرّة السابعة حين كان الجنين (فدوى) التي تولتها رعاية الله فثبتت في رحم أمّها رغم المحاولة، من هنا تبدأ حكاية فدوى، تبدأ بما تسميه هي الإصرار والتشبث بالحياة.

ولأنّها جاءت على كره من والدتها لم تولها أي عناية أو حبّ وأسندت أمر رعايتها إلى فتاة تسمى (سمراء) وهي ابنة الجيران وتعمل في خدمتهم، ظلّت السمراء هي المرجعية الوحيدة لفدوى سواء في قضاء حاجاتها المادية أو العاطفية من حب وحنان، إلى أن التحقت بالمدرسة وهناك التقت بجو عائلي من نوع آخر، جو يغذيه الحب الذي افتقدته في بيت العائلة؛ أحبتها معلماتها، أصبح لديها صديقات تطمئن إليهن وتلهو معهن بعد أن كانت تفتقر للصداقة داخل البيت حتى من ابنة عمّها شهيرة التي كانت العلاقة بينهما قائمة على الغيرة والحسد من قبل فدوى بسبب ما تلاقيه ابنة عمها من عناية وحب تغدقهما عليها أمها، إضافة لسرعة تحقيق رغباتها المادية، ينضاف إلى ذلك الفراغ الذي حدث بموت صديقتها الوحيدة علياء ابنة الجيران التي كانت بمثابة المتنفس الوحيد لفدوى، فبها ومعها انطلقت إلى المزارع والحقول التي تعشق السير في طرقاتها، وهي التي تصحبها إلى بيت أقاربها وإلى المواسم والأعياد.

لذا كانت المدرسة هي النافذة التي فُتحت لفدوى لترى من خلالها الضياء وتشم عبير الصداقة والمحبة التي كانت عطشى لها باستمرار، أظهرت في المدرسة تفوقاً واضحاً، تفانت في الدرس وحفظ القصائد وإلقائها على معلماتها وزميلاتها، ولكن تأبى الجبال إلا أن تعترض طريقها، ويقف القدر لها بالمرصاد؛ لأول مرة تجد من يهتم بها ويلاحقها، ولأول مرة تشعر بأنّ أنوثتها تقدّر، لقد ألقى إليها أحد الشبان المراهقين بزهرة فلّ، وما أن لمحها أحد أصحاب الدكاكين التي تقع في شارع بيتهم حتى وشى بذلك إلى أخيها يوسف الذي تصفه بأن التفاهم لا يعرف إليه سبيلا، سألها عن الأمر واعترفت له بكل صدق ومع ذلك جاء حكم المحكمة التي لا رجعة في حكمها ولا سبيل للرد أو الاستئناف أمامها، حكم عليها بالحرمان من أحب شيء لديها وهو الخروج للمدرسة، ليتحول الحبّ في مفارقة عجيبة إلى لعنة تطاردها.

صدر الحكم الذي لا يملك أي شخص تغييره إنّه قرار يوسف، لكن أين الأب؟ وما دوره في قرار سيغير مسار حياة ابنته؟ إنّه تقرير مصير، بعد أيام اكتشف والدها تغيبها عن المدرسة، سأل والدتها لماذا لم تذهب هذه البنت للمدرسة؟ قالت له من الأفضل ألا تذهب لأن البنت كبرت ومشاكل البنات هذه الأيام كثيرة. فلم يعترض.

إبراهيم هو القلب الحنون عليها، ومن المؤكد أنّه يرى في هذا القرار حكما بإعدام أخته البريئة وفي هذه السن الصغيرة. ومع ذلك لم يملك أن يغير من الوضع شيئا.

أصبح لا يصلها بعالم الأدب إلا ما كانت تسمعه من إبراهيم، تصغي باهتمام شديد للطرائف الأدبية والتاريخية التي كان يطالعها إبراهيم في كتاب الأغاني أو العقد الفريد أو كتاب الحيوان ويرويها لهم، ثم أخذت تغذي ميلها الفطري للشعر بحفظ المحفوظات والموشحات وتلقيها على الأشجار في صحن الدار متخيلة إياها جمهورا محتشدا.

باتت رهينة المحبسين البيت والجهل، لكن هيهات لنفس أبية أن تتحمل ضيم الجهل وقد ذاقت حلاوة العلم، وإن كانت لا تستطيع الخروج من سجن البيت فإنّ عزيمتها المتوثبة لقادرة على إخراجها من سجن الجهل، والزمن كفيل بإخراجها من سجن البيت،أخذت تساعد والدتها في أعمال البيت، وبعد الفراغ من أعمالها تنكفئ على عودها الذي تبثه شكواها فيستجيب لصدى قلبها، إلى أن كان يوم عاد فيه إبراهيم من عمله مسروراً يحدّث أمه بنجاحه في تعليم طلابه حيث بدأ البعض منهم يكتب الشعر بصورة سليمة. سمعت فدوى القول فردت بعفوية (نيالهم) هنيئاً لهم، لفتت هذه العبارة العفوية من طفلة انتباه إبراهيم فقال لها أتحبين أن تتعلمي كتابة الشعر فقالت (يا ريت). كان هذا اليوم بمثابة أول موعد مع الفرح الحقيقي لفدوى بعد ترك المدرسة، ستعود للكتب والأقلام ستعود لحفظ الشعر الذي تعشقه.

وعلى الفور اصطحبها إبراهيم إلى غرفته ووقف أمام المكتبة يفتش عن كتاب بعينه إلى أن وجده إنه ديوان الحماسة لأبي تمام، فتح الديوان على قصيدة لامرأة ترثي أخاها تقول فيها:

طاف يبغي نجوة من هلاك فهلك
ليت شعري ضلة أي شيء قتلك
أمريض لم تعـد أم عدو ختلك
أي شيء حسن لفتى لم يك لك
كل شيء قاتل حين تلقى أجلك
والمنايا رصد للفتى حيث سلك

حفظتها في ذات اليوم، وفي المساء ألقتها على مسامع إبراهيم دون تردد أو أخطاء- كان هذا الاختيار من قبل إبراهيم بمثابة نبوءة لفدوى التي ما انفكت ترثي الأخوة والأب والأحبة، ثم ترثي شهداء الوطن والعروبة- كان الاختيار الثاني دالية ابن الرومي في رثاء ابنه الأوسط محمد ومطلعها:

بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي فجودا فقد أودى نظيركما عندي

بدا تأثرها بهذه القصيدة شديدا فكتبت فيما بعد قصيدتها (إلى أخي):

لقد زاد في قلبي اشتياقي من البعد فهل عند إبراهيم مثل الذي عندي
أقول لعين تشتهي النوم كفكفي دموعك قبلا تستريحي من السُّهد
ألا ليت شعري هل تجيء ديارنا فيذهب ما يلقاه قلبي من الوجد
عزيزون جميعا أخوتي غير أنني أرى بُعد إبراهيم خلَّفني وحدي
أرى الهم قد عمَّ الديار ولا أرى لبُعدِكَ عنها من سرور ولا رشد
أخذت عمادي يا (أنيس) الذي أرى بأنك لم تأخذه إلا على عمد

ستة أيام مضت على ارتباط إبراهيم بتعليمها ثم توقف فجأة مضت أيام ثلاثة حملت خلالها ثقل الخيبة وانقطاع الرجاء، ماذا تفعل؟ كيف ستعيده إلى الدرس؟ كيف وهي الخجولة التي لا تحب أن تفرض نفسها على أحد! إلى أن كان صباح اليوم الرابع من أيام الانقطاع تحدوها الرغبة ، ويسندها الإصرار، تغلبت على خجلها واستجمعت شجاعتها وسألته بصوت متهدج تخنقه العبرات ( هل غيرت رأيك؟ هل كففت عن…) انحبس صوتها وغطت وجهها الدموع…. فأجابها بسرعة كلا! لم أغير رأيي وإنما أردت أن أتأكد من صدق رغبتك في التعلم..سنواصل اليوم الدرس.

ما أسرع انكسارها وما أقرب رضاها عن الدنيا وإقبالها عليها متى رأتها تبتسم لها إنها الرومانسية مفرطة الحساسية.

ظل إبراهيم يتعهدها بالعناية والاهتمام، وجهها إلى قراءة الأدب العربي القديم من حماسة أبي تمام وشعر ابن الرومي والمتنبي وأبي فراس الحمداني، حذّرها من قراءة الشعر الحديث إلا شوقي وعدد قليل منهم، أراد بذلك أن تقرأ ما قرأه الشعراء الجدد قبل أن يستقيم لهم الوزن، لتبني ذاتها الشاعرة على الأصالة، فمتانة تركيب الجملة الشعرية، والتمكن من ناحية اللغة لن يتوفرا للشاعر دون العودة إلى الينابيع الأصلية للشعر، بدأت تقرأ وتحفظ -عن ظهر قلب - كل ما يحدده لها كواجب يومي، كانت تضع الدفتر في جيبها أثناء أدائها لأعمال البيت وتخرجه بين الفينة والأخرى لتقرأ منه.

ثقافتها :
كما تعهد إبراهيم فدوى، تعهدت هي نفسها، فكانت قارئة نهمة، بدأت تستيقظ في الساعات الأولى مع الفجر وتبدأ الدرس مستغلة الهدوء قبل استيقاظ القاطنين في البيت وأصبحت الدراسة عالم الخلاص من كل منغصات الحياة، كان يمنحها القوة والنشاط طوال اليوم.

بات الشعراء عالمها الجديد، وغدا الشعراء يعيشون معها، يشاركونها الحياة، كانت تعيش مع كل واحد فترة إلى أن تأتي على شعره وتستنفد ما عنده تنتقل إلى شاعر آخر بدءاً من شعراء العصر الجاهلي إلى الشعراء الأمويون والعباسيون، كان أبو فراس أكثرهم قرباً من فدوى، فهو حاضر في قلبها ووجدانها حتى راحت تنسج قصائدها ولفترة طويلة على منوال شعره، نظمت وقتها ما بين حفظ القصائد ودراسة النحو والصرف حتى أتمت دراسة وفهم النحو الواضح بأجزائه والبلاغة الواضحة، ثم قرأت البيان والتبيين للجاحظ، والكامل للمبرد، أمالي القالي، العقد الفريد، الأغاني، قرأت كتب العقاد (الفصول، ساعات بين الكتب، مطالعات في الكتب والحياة) قرأت لطه حسين وقرأت سلسلة فجر الإسلام وما تلاها لأحمد أمين، قرأت لمصطفى صادق الرافعي ومي زيادة، تأثرت بأسلوب محمد حسن الزيات بعد أن قرأت ترجمته لآلام فرتر.

حفظت العديد من المقطوعات الأدبية والخطب التاريخية لشوقي والنشاشيبي.

بدأت تقرأ دون منهجية وفي كافة التخصصات، أصبحت شديدة الالتصاق بعلم النفس من جهة والرواية من جهة أخرى، وانجذبت بفعل طبيعتها التشاؤمية إلى الشخصيات القلقة المتسائلة باستمرار: هل قدر الإنسان في السماء أم في دمه؟ هل تأتينا الجبرية من الخارج أم كما يقول علم النفس الحديث: هي جزء كامن لا ينفصل عن النفس؟

كانت تجد متعة في القراءة في الفكر الإسلامي، وفي كتب المعتزلة وجدلهم حول الجبرية والحرية والعدل والثواب والعقاب، ظهر أثر هذه القراءات فيما بعد في قصيدتها (لا مفر)

لو أني رجعت صغيرة
لو أني رجعت وملء يدية
تجارب عمري وخبراتية
وما لقنتني الحياة الكبيرة
وما علمتني السّنون الكثيرة
لعُدتُ برغمي لأخطائية
ونفس حماقاتية
لكنت أواجه نفس المصير
ونفس الضياع
وذات الحبال تروح تلف عل كتفيّة
وتمضي تحزُّ وتقسو عليه
وما من خلاص،وما من مفر

بدأت تكتب وإبراهيم يصحح لها الأخطاء، وتتقبل ذلك بحرص شديد ورغبة في تقويم كتاباتها، تعهدها شقيقها أحمد بتعليمها علم العروض لتتعاضد الموهبة مع العلم، بدأ يشتد عودها وبدأت تعتمد على نفسها تكتب وإبراهيم يقرأ لها، أحياناً يكتفي بالابتسام والربت على كتفها دون أن يعلق على ما قرأ .

انتقل إبراهيم للعمل في إذاعة صوت فلسطين من القدس، أخذ فدوى معه وهناك عاشت حياة مختلفة تماماً، شهد لقائها بمجتمع مدني منفتح من شعراء وأدباء وسياسيين، ارتادت نوادي الأدب والثقافة ودور السينما، اتجهت نحو الانطلاق والخروج من قمقم العادات والتقاليد. بدأت تكتب أغاني كأغنية العيد وغيرها للإذاعة، اتجهت لتعلّم اللغة الإنجليزية لتتمكن من الاطلاع على الآداب الغربية، لكن سرعان ما ترك إبراهيم القدس وغادرتها معه إلى نابلس.

بعدها انتقل إبراهيم للعمل في الجامعة الأمريكية ببيروت وهنا عاشت فدوى يتماً حقيقياً لبعد إبراهيم عنها، مما جعلها تكتب قصيدتها السابق ذكرها (إلى أخي) وكانت رثاء لحالها في بعد إبراهيم وتعاتب فيها أنيس المقدسي الذي كان سببا في التحاق إبراهيم للعمل بالجامعة الأمريكية، فغيَّب الفرح من حياتها لأنه بوجود إبراهيم يشرق وجه الله.

عاد إبراهيم من بيروت ثم سافر إلى العراق التي لم يمكث فيها إلا عام ليعود مريضاً ثم يموت.

وتُطوى أجمل الصفحات من سجل حياة فدوى، ذهب السند والعماد.

هنا ولأول مرّة يعترف والدها بشاعريتها فيطلب منها الكتابة في الشعر الوطني لكنّها ترفض ذلك لماذا؟ لأنه يمنعها من المشاركة في العمل السياسي النضالي، كيف تكتب تجربة لم تعشها؟ كيف تصف نضالا لم تتذوق طعمه؟ لكن نكبة عام 1948م فجرّت وطنيتها المخبوءة في إحدى زوايا التمرد الذي يسكنها فتكتب قصائد منها: بعد النكبة – مع لاجئة في العيد – رقية من صور النكبة – نداء الأرض. وغيرها من القصائد، حتى جعلت دواوينها من الرابع وحتى السابع وقفاً على الشعر الوطني.

بعد عام 1950 بدأت تنطلق للعمل السياسي فكان سفرها لعدة عواصم أسيوية وأروبية وحضور مؤتمر السلام بالسويد ضمن وفد أردني عام 1956.

في عام 1962 توجهت إلى أكسفورد والتحقت بدورتين لتعلم اللغة حتى أجادتها قراءة وكتابة ومحادثة، درست الأدب الإنجليزي،وكانت حصة الأدب الإنجليزي أكثر الحصص متعة وإثارة بالنسبة لها، فمن خلالها أخذت فكرة واضحة عن الحركة الأدبية في الخمسينيات ومطلع الستينيات، شاركت في النشاطات المدرسية المختلفة، شاهدت عدّة مسرحيات على مسارح إكسفورد، اطلعت على أعمال الأدباء والفلاسفة فتأثرت بأحدث مدارس الفلسفة الغربية في أوائل القرن العشرين.

التهمت كتب الأدب الغربي بشراهة لتكتنزه في الذاكرة والوجدان، قرأت لشكسبير وجون أوزبون وييتس وبايرن، قرأت لإليوت وكيتس، تشيخوف وهيجو ونيتشة وهمنجواي وغيرهم، ظهرت، ثمار هذه الثقافة الواسعة في كتاباتها الشعرية والنثرية، فكانت كتاباتها تتميز بحسن السبك ومتانة التركيب، إضافة إلى ما أنتجته هذه الثقافات من مخزون ثري وظفته في قصائدها عبر التناص الذي يسلسل التفكير الإنساني ويجعل صفة التواصل سمة بارزة بين النصوص في عصورها المختلفة، حيث يستحضر نصها النصوص السابقة ويحاورها، بعد أن تتزاحم في ذهنها إذا ما لامست أو اقتربت في نصها من هذا المعنى المخزون أو ذاك، لذا يُعتَبر كلَّ نصٍّ – مع التناص - بوابة مشرّعة لنصوص أخرى تغزوه وتلتحم معه في نسيج الدلالة والصياغة لينتج لدينا نصٌ دسمٌ، نلمح من خلاله تلك النصوص الغائبة وقد ذابت في ثناياه. ولأن التناص يشكل علاقة تفاعلية بين نصين أو أكثر، ويقع من المبدع سواء بإرادته أو عفوياً، كان لابدّ للمتناص من مصادر يستمد منها مادته المتناصة.

توظف فدوى التناص في خطابها بصور متعددة؛ فهناك الإلماعة؛ وهي إشارة عابرة إلى شخصية أو أسطورة بهدف استدراج مشاركة القارئ أو استدعائها، وهناك الاغتراف الصريح سواء من نصوص دينية أو أدبية، أو شخصيات. وقد يأتي التناص لديها بالتوافق بين النص والمتناص، وأحياناً تظهر المفارقة في اختلاف الموقفين بين عصرين من خلال توظيف الشاعرة للمتناص بالضّد، وأحياناً تتشابك وتتلاحم مع النص في الدلالة، رغم تباعد المسافات الزمنية بين النصين. وتتمثل مصادر التناص لديها في:

- النص الديني: الإسلامي:
- يشمل القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف
- العهد القديم (التوراة)
- العهد الجديد (الإنجيل)
- التراث الإنساني: شعر قديم، أقوال مأثورة (عربي وغربي)
- التراث الشعبي: أمثال شعبية وحكم
- الأساطير على اختلافها من بابلية وأشورية، وفرعونية

·التناص من النص الديني
· القرآن الكريم
يشكل النص الديني المحور الرئيس في تناصاتها إذ يعتبر من أكثر المصادر التي استقت منها نصوصها الغائبة، ويعتبر النص القرآني الينبوع الأول الذي نهلت منه الشاعرة تناصاتها حيث حفل الديوان الرابع بمفرده باثني عشر تناصاً من القرآن الكريم، تسعى الشاعرة من خلالها إلى نشر عبق النور القرآني، وتميل في تناصاتها للإتكاء على الإشعاعات التي تحملها إيحاءات الدلالة للفظة القرآنية، فلا تجد في دواوينها الثمانية أي اقتباس لآية قرآنية كاملة، وإنما كانت تكتفي بتوظيف جزء من الآية، أو إشارة لفظية توحي بمضمون الآية، كما في قولها:

بالحب سألتك حبي ذاك الساذج –

حبّي ذاك النضر

أيام يقيني مصباح

درّي يتوهج في الصدر([1])

وتقول: يارب البيت / مفتوحاً كان الباب هنا

والمنزل كان ملاذ الموقر بالأحزان / مفتوحاً كان الباب هنا والزيتونة

خضراء، تسامت فارعة / تحتضن البيت

والزيت يضيء بلا نار / يهدي في الليل خطى الساري([2])

تربط الشاعرة بين الأيام السعيدة وإشراقات سورة النور فهي تحيى أجمل أيام حياتها في ظلّ ذاك الحب الأخوي الصادق، حبّ البراءة والطهر، تشبّه أيامها في حمى أخيها بالكوكب الدري، وقد استلهمته من قوله تعالى: " الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكلّ شيء عليم "([3])

ويمتد استيحاء الشاعرة من هذه الآية الكريمة عبر نحو خمسين سطراً شعرياً أضيء أحدها باسم السورة حيث تقول:

يا مطفئ مصباحي أنت / بصواعق برقك ورعودك

أشعْلهُ، إرفعهُ، قرّبْ لي / وجهك من دائرة النور

فغياب حضورك يحبسني / في العتمة في شرك الديجور([4])

إن هذا التغلغل في النص القرآني يكشف لنا عن إرث ديني عميق استقرّ داخل نفس الشاعرة، لقد جعلت من اسم السورة ومكونات الآية من (زيت وزيتون، نار ونور، وكوكب درّي) شعلة تضيء لها ظلمات النفس والحياة التي تحيا رغم فقدها لأخيها، فقد يتبدّل حالها بفعلهم، وتضاء أمامها طريق الهداية.

ويستمر تشرب الشاعرة للنص القرآني في تناص متآلف، في حديثها عن حرب الأشقاء في أيلول، إذ تقول:

أيلول / مهرجان الموت في الذروة عمّانُ – / استحالت فيه تابوتاً وقبراً

والطواغيت سكارى منتشون / بالذي فاض به بحر الجنون / فشباك الصيد ملأى

ألف مذبوح وألفان وآلاف – / ألا هل من مزيد / هات يا بحر الجنون ([5])

لقد استحالت عمّان جهنما تفتح أبوابها فتستقبل كلّ مَنْ سقط في ميدانها لكن إن كان لنزلاء جهنم الآخرة ذنوباً وآثام ارتكبوها بكفرهم، فما الذنب الذي ارتكبه المناضلون الفلسطينيون لتتحول عمّان لمدافن تضمّ رفاتهم.

هنا تستحضر الشاعرة الآية القرآنية " قال لا تختصموا لديّ وقد قدمت إليكم بالوعيد، ما يبدّل القول لديّ وما أنا بظلامٍ للعبيد، يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد"([6])

لقد تلظّت شهوة الموت في عمّان فحولتها لجهنم، حتى بات الموت فيها نصراً وعيداً، تتوازى مع فرحة جهنم فكلاهما (عمّان وجهنم) طامع في المزيد.

أما التناصات الواردة على سبيل الاختلاف فلم ترد إلا في أربعة مواضع منها، قولها:

قلنا وصلنا واسترحنا / ولسوف ندخلها كراماً آمنين / وهنا سنلقي عبئنا

وهنا سينسى روحنا المكدود – / أحزان السنين / ………

كان الجفاف نصيبنا ولغيرنا خصبٌ وظلّ ([7])

حيث يرد التناص على سبيل التخالف مع الآية القرآنية " إن المتقين في جنات وعيون، ادخلوها بسلام آمنين "([8])، يدخل المتقون جنّة الرحمن بسلام وأمن، لهم فيها ما يشتهون من جنات وعيون، واجدين ما وعدهم ربهم، أما نحن فلا نجد ما وعدنا به، لقد وهمنا أننا سندخل الوطن بكرامة وأمن، لكن تأتي المفارقة إذ سرعان ما صدمتنا الحقيقية لقد أدركت الشاعرة أنّها واهمة، فلم تجد فيه إلا همّاً إضافياً ولم تجد فيه سوى ألق سرابي، وقفر.

· العهد القديم:

تتناص الشاعرة مع العهد القديم بإيرادها ألفاظ ومعتقدات، تنسجم والديانة اليهودية.ففي التأكيد على وسم بني إسرائيل بالكذب كما ذكرهم العهد القديم تقول:

تقول لسجّانها: لا أصدّق، كيف / أصدّق مَنْ جاء من صُلْبهم؟

تظلّون يا حارسي أنبياءَ الكذب ([9])

في حرب نفسية يعمد إليها المحتل محاولاً هدم الشموخ الفلسطيني تصل عائشة – القابعة خلف القضبان – معلومات كاذبة، ينبئها حارس السجن بأن المقاومة قد خمد أوارها، واستسلم مقاتلوها، ولم يعد هناك مَنْ يُطالب بحقوقه، في محاولة منه لتأكيد مقولة رئيسة وزرائهم جولدا مائير " يموت الكبار وينسى الصغار "، ولكن عائشة؛ الضمير الجمعي الفلسطيني لا يُزعزعها كذبة، فلا تصدق ما يقول، لأنّ شبابنا واعٍ وقوي، تغلي في عروقه النقم، فترى بعين قلبها ما تؤمن بحتمية حدوثه، إذ لا بدّ من ثورة عارمة تعصف بالمحتل لأننا شعب

ما مات منا واحدٌ أبدا إلا تلا فينا وليداً سيدا

تواجه عائشة سجانها بحقيقته، إنه من صُلب قوم كاذبين " تظلون يا حارسي أنبياء الكذب" وتضع في الهامش آيتين وردتا في التوراة وتحملان نفس المعنى " قال لي الرب يتنبأ الأنبياء باسمي، لم أرسلهم ولا أمرتهم ولا كلمتهم بالرؤى الكاذبة ومكر القلب يتنبأون "([10]) و " ها أنا على الذين يتنبأون بأحلام كاذبة "([11]) لقد كانوا يتكلمون بلسانهم ويدّعون أنه كلام الرّب "وقد قال الرّب عنهم في آية أخرى: لم أرسل (هؤلاء) الأنبياء بل هم جروا. لم أتكلم معهم بل هم تنبأوا … هم أنبياء خداع قلبهم " (21 –23 و26) لم تنج حتى الآن أية جماعة دينية من التسمم بآراء عدد من مثل هؤلاء الأنبياء، لذا كان أنبياؤهم كُثر لأنهم أدعياء ليست فيهم نبوة حقيقية، وكما كشف الرّب زيفهم، كذلك الشعب الفلسطيني الذي اكتنزته الشاعرة في شخص عائشة لا ينخدع بأقوالهم. ولاسم عائشة مدلول إضافي؛ فهي الإسلام والإيمان في مقابل كفرهم،وهي الفقيهة (الحميراء) مقابل جهلهم، وهي أحب زوجات الرسول لنفسه حقاً، في حين أن محبة الله لهم وقولهم بأنهم شعب الله المختار هو محض ادعاء.

ويعتبر العهد الجديد، المصدر المعرفي الثاني الذي لجأت إليه الشاعرة تمتح تناصاتها من حكاياته المادية والروحية، فكانت روح المسيح المعذبة هي الأكثر تردداً في خطابها الشعري، إذ تجد نفسها صنواً للمسيح بعذاباته ومعاناته، تستدعيه عبر اسم الصفة الذي بات علماً يدلّ عليه وهو الفادي، فتسحبه من عمق التاريخ ليصبح عبد الناصر الفادي لهذا العصر حيث تقول:

الفادي / في احتدام الدم والنّار وطغيان الجنون

بسط الفادي نبيُّ الحبِّ كفيّه علينا / وافتدانا

آه ما أغلى الفداء! / واشترانا / آه ما أغلى الثمن!

وعلى وخز مسامير الألم / وعلى حز سكاكين العياء

أسند الرأس وأرخي / هدب جفنيه ونام

وبعينيه رؤى الحبّ وأحلام السلام ([12])

في هذه الأسطر الشعرية، تضفي الشاعرة على عبد الناصر صفات المسيح ليمثل مسيح القرن العشرين، معلنة منذ البداية إنه الفادي، وإن كان لصفات السيد المسيح الإنسانية – من فداء وحبّ وأحلام بالسلام – صدى في شخصية عبد الناصر، فكذلك تتمثل عذابات السيد المسيح بأعمق تجلياتها في أسباب إنهاء حياة عبد الناصر، إلا أن الخلاف بينهما يكمن في الطرف الآخر مصدر المعاناة والألم، حيث كانت اليهودية مصدر معاناة المسيح، في حين كان الأخوة هم مصدر معاناة عبد الناصر من خلال حرب أيلول عام 1970م، وما وقع فيها من قتل واضطهاد للمجاهدين الفلسطينيين، الأمر الذي لم يقو عبد الناصر على احتماله، فخرّ صريعاً ليفتدينا ([13])، كما افتدى السيد المسيح قومه.

التناص من التراث الغربي

وفي تناص مع التراث الغربي تستدعي شخصية الفيلسوف الإغريقي هيرقليطس من خلال نظريته القائلة: " بأن النار هي أصل الوجود " فتقول: أمن عنصر النار أعماقية؟

أروحك يا نار بي ثاوية؟ / فما هذه العاطفات الحرار /لها في الجوانح أي استعار ([14])

تتأمل الشاعرة النار ونفسها فتجد لوناً من التشابه بينهما، إنّ الثورة الكامنة في أعماقها تشبه نضنضة النار، فتتساءل في تناص خفي مع هيرقليطس عمّا إذا كانت النار هي أصل الإنسان بدلاً من الطين، فهي ترى أنها تسكن جوانحها، وتستعر داخل جسمها روحاً وقلباً وكأنها خلقت منها، وإن كان الجان قد خلق من مارج من نار، فإن الشاعرة تكاد تشاركه في أصوله إشارة منها بتفوقها على البشر في الأحاسيس والمشاعر الفوّارة التي تعتور أعماقها.

التناص من التراث العربي:

للتناص من التراث العربي لدى فدوى صور مختلفة، فمن تناص اسم؛ يمثل لدى المتلقي بُعداً إنسانياً أو تراثياً، ويحمل قيمة شعرية معينة غير دلالته الحقيقية التي يرد فيها، إلى تناص قول يحمل تجربة إضافية تنضاف إلى تجربة الشاعرة فتزيد من تكثيفها وشعريتها، أو التناص من المعتقدات الدينية أو الشعبية المتجذّرة في النفوس، ثم التناص من الأساطير.

التناص باستدعاء الشخصية

يهدف التناص باستدعاء الشخصية المحمّلة ببعدها التاريخي والفكري إلى أن تؤدي دوراً محدداً في إنتاج الشعرية، سواء أكانت الشخصية تتشابه في موقفها مع الموقف الحاضر، أم كانت بينهما علاقة ندّية، فمن علاقات التشابه بين الشخصية التراثية صاحبة الموقف، وبين شخصيات هذا العصر تتضح الصورة المراد رسمها.

ويتم استدعاء الشخصية بوسائل ثلاث:

أ- استدعاء الشخصية باسمها:

من ذلك قولها: قابيل الأحمر منتصبٌ في كل مكان

قابيل يدّقُّ على الأبواب / على الشرفات / على الجدران

يتسلّق يقفز يزحف ثعباناً ويفحُّ / بألف لسان /قابيلُ يعربد في الساحات / يلفُّ يدور مع الإعصار، يسدّ – / مسالك / ويشرّع أبواباً لمهالك / يحمل في كفّيه غَسولَ الدّم

- توابيت النيران / قابيلُ إلهٌ مجنون يحرق روما / والموت كبير يتنامى ([15])

إن الموت الذي غطى ساحات الأردن في حرب أيلول، وظلم الإنسان لأخيه الإنسان، جعل الماضي يطفو على سطح الذاكرة الشاعرة، ويتراءى لها فتستدعي زمنين إضافيين، ليتسعا لحجم المأساة من ناحية، ولتعلن أن ظلم الإنسان لأخيه بدأ منذ بدأت الخليقة ولا زال مسلسله متواصلاً إلى اليوم، وقد يمتد للغد.

هنا تستدعي شخصية قابيل من عمق الذاكرة، وقد امتدت يده الغادرة لقتل أخيه دون ذنب اقترفه سوى أنه أكثر منه إيماناً. باستدعاء الشاعرة لشخصية قابيل عبر اسمه، أعادت إلى الأذهان تلك القصة، وصورت عملية القتل بمشهد حيّ، لم يَعُدْ فيه قابيل علماً مفرداً، وإنما أصبح رمزاً لجيشٍ كامل من القتلة، يخترق هذا الزمن السحيق زمناً آخر تمنح الشاعرة من خلاله الدلالة امتداداً، فلم يقف القتل عند قابيل الأول، بل امتدّ عبر نيرون المجنون؛ حارق روما، جاعلة اسم قابيل رمزاً للظلم والقتل والغباء والعجز، إذ حين عجز قابيل عن أن يكون مؤمناً كأخيه قتله، وبعد أن قتله عجز عن معرفة كيفية مواراة سوأته، فتضاعف عجزه، وأصبح جثمان أخيه يشكلّ عبئاً ثقيلاً عليه، وكذلك الأخوة وقد امتدت أيديهم إلى إخوتهم فقتلوهم، وما فعلوا ذلك إلا عن عجز وضعف.

وتستدعي شخصية هند بنت عتبة في قولها:

ليت للبرَّاق عيناً .. / آه يا ذلَّ الإسار!

حنظلاً صرت، مذاقي قاتلٌ / حقدي رهيب، موغلٌّ حتى القرار

صخرةٌ قلبي، وكبريتٌ وفوَّارةُ نار / ألف " هند " تحت جلدي

جوع حقدي / فاغرٌ فاه، سوى أكبادهم لا / يُشبعُ الجوعَ الذي استوطن جلدي

آه يا حقدي الرهيبَ المستثار / قتلوا الحبّ بأعماقي، أحالوا

في عروقي الدّم غسليناً وقار!!([16])

في تناصات متلاحقة أفرزها الإحباط وموت الأمل في صحوة عربية، وعدل دولي ينصف المظلوم، تتحول الأنا الفلسطينية عن طبيعتها، وتخرج من ذاتها لتتلبس شخصية هند بنت عتبة، وقد قسا قلبها بعد مقتل أبيها وأخيها، فامتلأت حقداً على قاتلهما؛ حمزة بن عبد المطلب (عمّ الرسول صلى الله عليه وسلّم) فدفعت العبد وحشي ليقتله في موقعة أحد، وتنكبّ عليه آكلة كبده إمعاناً في التشفي، لإطفاء النار المشتعلة في أعماقها، وها هي الشاعرة ترى في ظلم الاحتلال وقسوة ممارساته ناراً تؤجج حقدها عليه، ورغبتها في الانتقام منه مستدعية بذلك قصة هند بنت عتبة، وتصل بها إلى درجة الذوبان والامتزاج بالنص الحاضر، إلا أن المفارقة بين الموقفين تكمن في أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن ظالماً لهند كي تصب جام غضبها عليه وعلى أتباعه، في حين أن العدو الإسرائيلي يمارس علينا – ظلماً – أشدّ ألوان العذاب.

في موقف آخر تستدعي شخصية المعتصم بالله، لتبرز جانباً من المفارقة بين موقفه وموقف القادة العرب في العصر الحاضر، فتقول:

ويدوّي صوت جنديٍّ هجين / لطمةً تهوي على وجه الزحام:

(عرب، فوضى، كلاب / ارجعوا، لا تقربوا الحاجز، عودوا يا كلاب)

ويد تصفق شباك التصاريح – / تسدّ الدرب في وجه الزحام

آه ، إنسانيتي تنزف، قلبي / يقطر المرّ، دمي سمٌ ونار

(عرب، فوضى، كلاب ..)! / آه، وامعتصماه! / آه يا ثار العشيرة.([17])

تقف الشاعرة أمام شباك التصاريح، تنتظر السماح لها بعبور الجسر لزيارة الأهل في الأردن، فيتحول الشبّاك أمامها لبوق تُكال عبره الإهانات والاتهامات بالتخلّف والهمجية، وتجعل أقوال الجندي بين قوسين تعبيراً عن اشمئزازها ورفضها لهذا القول الذي تحاول إعادته مرّة أخرى، فلا تقوى على إتمامه، هذه اللطمة الموجهة للجمع العربي تعود بذاكرة الشاعرة إلى عصور تجلّت فيها النخوة والحميّة، فتستدعي من الموروث العربي حادثة الرومي في السوق وقد لطم العربية على وجهها، فما كان منها إلا أن صرخت مستنجدة بالخليفة العباسي (وآمعتصماه) فتصل الصرخة لمسامع المعتصم، فيهب ملبياً " لبيك أخت العروبة " ويجهز جيشاً يتجه إلى عمورية فيفتحها ثائراً للكرامة العربية .. كيف لا وهو خليفة المسلمين وولي أمرهم، وحين تستدعي الشاعرة الحادثة عبر استدعائها لاسم المعتصم إنما تريد أن تذكّر العرب بأننا بحاجة لمثل المعتصم الذي يثأر لعشيرته، ولكن تبدو المفارقة واضحة عندما تقول في (حكاية أخرى أمام شباك التصاريح) مظهرة حال الفلسطيني وقد أصبح يتيماً بفعل الخنوع والذلّ العربي فتقول: أي وربي لم أعد أفهم شيئاً غير كوني

في زمان اليتم والحكم اليهودي المقدّر / ليس لي " معتصم " يأتي فيثأر

لا ولا " خالد " في اليرموك يظهر([18])

لقد أصبحت توقن أنه ما من سبيل لوجود مثل هذه الشخصيات العظيمة في زمن العجز والتخاذل العربي، وإن كان أئمة الأمس قد يمموا وجوههم نحو الحق والواجب، فإن أئمة الكفر اليوم يمموا وجوههم نحو أمريكا، لذا لم يعُد لنا أمل في معتصم أو خالد، بعد أن تجردوا من الكرامة والنخوة العربية، فلا ننتظر نصراً ما دام هذا هو حال زعمائنا

ب – استدعاء الشخصية التراثية من خلال ذكر أقوالها

تخرج الأحداث القديمة من عمق الذاكرة متدافعة لتلتقي على ساحة الأحداث المعاصرة، وتنثال في تناصات متتابعة تعمل على تكثيف المعطى الفني من خلال دقة التعبير، والمزج بين القولين، مختصرة المسافة بين الصوتين حاملي الموقفين، والشاعرة حين تستدعي الشخصية عبر القول لا تستدعيها مجردة، وإنما تأتي مصحوبة بقراءة جديدة للقول، وهنا " تتحول الشخصية التراثية عند توظيفها داخل القصيدة الشعرية إلى وحدة حيّة لا يقتصر دورها على الجانب الدلالي فحسب بل تساهم مساهمة فاعلة في التشكيل الجمالي "([19]).

وتتناص مع التراث العربي عندما يتحقق للشاعرة جزء من أمانيها، فتعود إلى يافا، إلا أنها عودة منقوصة، لا تزال يافا تقبع في الأسر، تدوسها النعال الهمجية، تقف على أبواب يافا وتبكي أطلالها قائلة: على أبواب يافا يا أحبائي / وفي فوضى حطام الدور.

بين الردمِ والشوكِ / وقفتُ وقُلتُ للعينين: يا عينين

قفا نبكِ/على أطلالِ مَنْ رحلوا وفاتوها/ تنادي مَنْ بناها الدار/وتنعي مَنْ بناها الدار ([20])

تقف الشاعرة على أبواب يافا الجميلة، وقد تحولّت دورها لحطام مما أحدث فوضى مكانية وآلام نفسية، عادت بالشاعرة كثيراً للوراء، لتحاور قول امرئ القيس في طلليته:

قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ بسقط اللوى بين الدخول فحومل ([21])

بعد أن زهد الشعراء في الوقوف على الأطلال والتغنّي بها، وبات مَنْ يصف الأطلال كمن يغرس قدميه في صخر الجاهلية – دون أن يحقق غاية – جاءت فدوى بوقفتها الطللية مكسوة بحضارة القرن العشرين، وقد استثمرت طللية امرئ القيس في الوقوف على أبواب يافا، هنا تحاور الشاعرة في اقتباسها النصوص " وهذا تنويع جديد على نفس الموقف، يؤكد أن العملية ليست مطلقا مجرد عملية اقتباس … وإنما هي عملية تفجير لطاقات كامنة في هذا النص، يستكشفها شاعر بعد آخر، كلٌّ حسب موقفه الشعوري الراهن "([22]) فما أن تشدو " قفا نبك " حتى نسمع صدى الصوت القادم من أعماق الماضي الغابر، وتتجلى أمامنا صورة الملك الضليل، وقد وقف على أطلال المحبوبة بعد أن فارقت المكان. مستدعية بذكر (يافا) مواضع ذكرها الشاعر ؛ من دخول وحومل، مازجة الحاضر بالماضي الذي سحبته لتمنح يافا بُعداً زمنياً، مع ما لها من خصوصية تغاير مواقع ترحال محبوبة امرئ القيس، فتلك المواقع زالت بغياب عُمّارها، ولا أمل بعودتهم، لكنَّ يافا باقية تتمتع بجمالها وحيويتها، برغم ما أصابها من دمار وخراب، لأنها تحيا على وعدٍ بلقاء الأحباب وعودتهم إليها، وتخرج الشاعرة طلليتها من بدائية الماضي – حيث كان للشاعر غلامان؛ أحدهما يحمل سلاحه، والآخر يحمل طعامه، لذا خاطبهما بـ(قفا) – منطلقة نحو حضارة الحاضر فتستبدل العينين بالرفيقين، فللشاعر الحق في أن " يُخضِع أقوال شاعر قديم إلى رؤيته المعاصرة، فلا يعيد الأقوال إعادة حرفية وإنما يعيد قراءتها بشكل يتناسب مع فكرته ومنطلقاته التي تخدم الرؤية الكلية للنص وهذا تكتيك يقوم على التفاعل بين النصوص وليس إعادتها كما هي في الأصل "([23]) على ألا يظهر أثناء توظيفه للأقوال نتوءات تناصية، وإنما يجعلها نسيجاً متجانساً داخل النص، ثم في استدعائها للعينين وطلبها منهما البكاء إشارة إلى أنهما أولى من الغرباء، فلا أحد يكتوي بالنار التي تحرق الفلسطيني إلا أعضاء جسده الفلسطيني.

وتستدعي شخصية السيدة أسماء بنت أبي بكر من خلال مقولتها المشهورة " أما آن لهذا الفارس أن يترجل " حيث تقول شاعرتنا في مرثية الفارس:

آه ما آن له أن يترجل / والتَوت فوق أساها الفرس الثكلى
وتاهت مقلتاها / في الخضمِّ الآدميِّ الهادر المسحوق – / مَنْ يفدي فتاها

مَنْ يفكُّ الفارس الغالي المكبل / من إسار الموت، مَنْ يرجعه

- العاشق المدنف للصهوة للساحة / مَنْ يرجعه؟

والتَوتْ فوق أساها الفرس الثكلى / وعرَّت حزنها آهاً فآها

مَنْ يفكّ الفارس الغالي المكبل / آه ما آن له أن يترجل ([24])

تعتبر الشاعرة أن حرب أيلول هي السبب المباشر في موت الرئيس المصري جمال عبد الناصر، فهو الفارس المصلوب، كالمسيح،وكعبد الله بن الزبير، تستدعي شخصية أسماء بنت أبي بكر، وقد هتفت بمقولتها المشهورة – التي قالتها حين رأت ابنها معلقاً في الميدان بعد أن قتله الحجاج – وهي الأم المسلمة القوية الإيمان التي دفعت بابنها للجهاد، وشجعته حين قال لها أخشى أن ينكلّوا بي! قالت له: "إن الشاة لا يضيرها سلخها بعد ذبحها "، قولان مشهوران وحادثة وشخصيات متعددة؛ فمن (أسماء، عبد الله، الحجاج، معاوية) اكتنزتهم الشاعرة في سطر شعري دعم الدلالة، وأثرى مضمون النص لديها، ينضاف إلى ذلك رمز المسيح وقد جدّلته الشاعرة برمز عبد الله بن الزبير، فسحبت الحادثة على مدار ألفي عام منذ المسيح فالعصر الأموي، فالعصر الحاضر من خلال التشابه بين المواقف مع ما ينبثق من مفارقات بحتمية اختلاف الظرف التاريخي، إلا أن ثلاثتهم (المسيح – عبد الله – جمال) تجمعهم رسالة الحق، بينما تجمع قاتليهم صفة الظلم والغدر، مما أوجد التلاحم بين النص الغائب والنص الحاضر.

وتستحضر شخصية عربية أخرى تميزت بالجد والصرامة تعبيراً عن إحساسها بحاجتنا لمثلها في هذا الزمن الصعب – رغم قسوتها -، إنها شخصية الحجاج بن يوسف الثقفي، تقول في شهداء الانتفاضة:

رسموا الطريق إلى الحياة / رصفوه بالمرجان، بالمهج الفتيّة بالعقيق

رفعوا القلوب على الأكفّ حجارة، جمراً، حريق / رجموا بها وحش الطريق /-: هذا أوان الشدّ فاشتدّي! /ودوّى صوتهم/في مسمع الدنيا وأوغل في مدى الدنيا صداه

هذا أوان الشدّ ! / واشتدّتْ وماتوا واقفين / متألقين كما النجوم
متوهجين على الطريق، مقبّلين فم الحياة :([25])

لقد رأى شباب الانتفاضة أن لا سبيل للحياة الحرّة الكريمة بغير الحرية، فرسموا طريقهم وعزموا أمرهم مضحين بكل غالٍ ونفيس، متخذين من قول الحجاج شعاراً حافزاً لهم، هنا تورد الشاعرة قول الحجاج كما هو بعد شرطة ونقطتين في إشارة لإيراده دون تدخل منها حيث قال في خطبة ألقاها على أهل العراق في جدٍّ وصرامة:

هذا أوان الشدّ فاشتدّي زِيَمْ قد لفها الليل بِسَوَّاقٍ حُطَمْ ([26])

لكنَّ الحجاج الذي طلب من الحرب أن تشتد، مع كلّ ما في طلبه من قوة وجدّية؛ لم يتلقَ استجابة، بينما تعمد الشاعرة لإظهار سرعة تفاعل الشبان مع القول، فدوّى صوتهم في مسمع الدنيا محولين قلوبهم لحجارة وجمر يحرق العدو، مرددين القول مرَّة أخرى، معلنين تبنيهم له، ليعيدوا جزءاً منه " هذا أوان الشدّ " لتشتد المعركة ويموتوا كالشجر واقفين في شموخ، متلألئين كالنجوم في سماء شعبهم، يعلمونهم كيف يكون في الموت حياة، والشاعرة حين تستحضر مقولة الحجاج توظفها امتصاصياً فتقرئنا قوله قراءة حداثية ثانية، مدللة بذلك على أن " التناص ينحو منحى مورفولوجياً يوائم عملية نقل النص إلى حاضنة حضارية جديدة"([27]) ومستفيدة من دلالاتها الماضية، محمّلة إياها دلالات جديدة تتناسب وجو الكفاح المسلح الذي يحياه الفلسطيني.

ج – استدعاء الشخصية بالفعل الدّال عليها
من أمثلة ذلك ما فعله الكرّامون في الوارث:
في قصيدة " إلى السيد المسيح في عيده " تستند الشاعرة على قصة السيد المسيح للتعبير عن عذابات فلسطين والفلسطينيين، والقصيدة منذ العنوان وحتى الخاتمة تكتنز في أحشائها الطقوس المسيحية مع معاناة المسيح كاملة، وقد كست دوالها بسمت القداسة، فتبدأ بآيات من الإنجيل كمقدمة لقصيدتها، ثم تعود وتجعلها في متن القصيدة بعد أن تصف الحال.

ومن خلال المطابقة بين معاناة السيد المسيح ومعاناة القدس (مسيح القرن العشرين) بأرضها وبشرها. تشرح الشاعرة المفارقة بين ما تعانيه القدس من سير على درب الآلام وجلد تحت صليب المحن والنزف، وبين صمت العالم وقد عمي عن الحق بـ" قد تركوا الطريق المستقيم فضلّوا تابعين طريق بلعام بن بصور الذي أحب أجرة الإثم "([28]). لقد اتبعوا الباطل ونصروه، وتركوا المظلوم بلا نُصرة، والظالم في الحالتين واحد، فما تعانيه القدس، وما عاناه السيد المسيح إنما هو بفعل بني إسرائيل، وهنا توظف الشاعرة آية أخرى من العهد الجديد؛ كانت قد أوردتها في المقدمة ولأن الصفة البارزة لبني إسرائيل هي الغدر ونكران الجميل والكفر بالنعم. تكرر الشاعرة مضمون الآية في ثنايا نصّها، فتقول:

قَتَل الكرّامون الوارثَ يا سيّدُ - / واغتصبوا الكرم
وخُطاةُ العالم ريَّش فيهم طيرُ – / الإثم / وانطلق يُدنّس طهر القدسْ
شيطانياً ملعوناً، يمقته حتى الشيطان ([29])

هنا تتناص الشاعرة مع الآيات " … ولكن أولئك الكرّامين قالوا فيما بينهم هذا هو الوارث هلمّوا نقتله فيكون لنا الميراث. فأخذوه وقتلوه وأخرجوه خارج الكرم. ([30])، حيث يضرب الله مثلاً لبني إسرائيل بكرمة نقلها الرب من مصر وغرسها في أرض كنعان وأعطاهم المن والسلوى وفجّر لهم من الصخر عيون ماء فعرف كلٌّ مشربه، ووضع لهم نظاماً دينياً وأعطاهم المواعيد المباركة، وكان لهم في أرض الموعد كهنة وطقوس دينية، وأيام أعياد، وبين وقت وآخر يُرسل لهم الأنبياء مؤيدين بدلائل النبوة، فيكذبونهم ويعذبونهم، فأرسل لهم المسيح (ابن الله) وبدلاً من العبادة والتسابيح تجرءوا عليه وقتلوه، وهكذا رفضوا الله في شخص المسيح وبصلب المسيح ثبت أن الإنسان عدواً لله "([31]). هذه هي أخلاق بني صهيون منذ وُجِدوا وحتى اليوم، فقدس الأقداس رمز الطهر والقداسة تُعَذَّب بأيديهم، فتبكي الشاعرة في قاع الليل وتدعو في أنين صوتها " رحماك أجز يا سيد عنها هذي الكأس " في توحد تام مع السيد المسيح وقد أخذت موقعه حين دعا في آخر صلاة " يا أبتاه إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس ولكن لتكن لا بإرادتي بل بإرادتك "([32]) والسيد المسيح إذ يشبه آلامه بالكأس فلا يجعلها نهراً ولا بحراً ليخفف عن نفسه، ولأن آلامه خاصة به كما الكأس خاص بشاربه، فيطلب أن تعـبر عنه (تجيز عني) هذه الكأس أي أن يتفادى الآلام التي كانت موشكة أن تأتي([33]) وكذا الفلسطيني يستصغر معاناته ليكبر عليها، فيشتد أزره كيما يواصل رحلة النضال ويبقى الأمل يملأ النفس، إنّ المسيح الذي عُذِّب وأوذي ليفدي البشرية لابد أن يفدي القدس لأنها مظلومـة مثله، والظالم لديه في كل يوم مسيح يُعذَّب ويُصلب.

وفي إشارة للضعف الإنساني القابع في أعماقها، العاجز حتى عن الدفاع عنها تجعل من مأساة السيد المسيح رمزاً لمأساتها الوطنية فتقول:

وتصرخ من قاع معبدها: يا رجالي افتدوني! افتدوني! افتدوني
بقطرة ماء!
فتُسـقى بخـلِّ التشـفيِّ
وتُشبـحُ فـوق صليـب العقـوق .([34])

تستحضر الشاعرة – المطاردة من بني قومها - المسيح رمز الفداء لتتماس معه مجسدة من خلاله معاناتها مع المجتمع الذي تعايشه، حيث صُوبت إليها سهام الاتهام بالتواطؤ ومحاولة التطبيع إذ وافقت على لقاء موشيه ديان في تل أبيب، وتحاول الشاعرة أن تلبس ثوب القداسة علّه يستر عُريها، لكنّها تبقى عارية من الحماية، وحين تطلب من رجالها أن يفتدوها تورد ثلاث جمل طلبية متلاحقة وبلا فاصل (افتدوني ! افتدوني ! افتدوني) بما يوحي باللهفة ورجاء نهوض مَنْ يُبرئها من هذه التهمة ([35]) فلا تجد إلا التخاذل والتشفّي وبينما تطلب النجـاة والافتداء بالمـاء، كرّعوها الخلّ فوضعوا نقطة النهاية ليُسدل الستار ويستمر الاتهام، مثلها في ذلك مثل السيد المسيح الذي أُجبر على شرب الخلّ أثناء صلبه " بعد هذا رأى يسوع أن كلّ شيء قد كمل، فلكي يتم الكتاب، قال أنا عطشان * وكان إناء موضوعا مملوءاً خلاًّ، فملأوا اسفنجه من الخل ووضعوها على زوفا وقدموها إلى فمه * فلما أخذ يسوع الخلّ قال قد أُكمل ونكّس رأسه وأسلم الروح "([36]). تختتم أسطرها بالتوحد مع السيد المسيح فكلاهما يُصلب بلا ذنب ودون أن يجد مَنْ يفتديه أو يدافع عنه.

أمّـا استدعاء الشخصية من خلال الفعل الدال عليها (آلية الدور) في التراث الإنساني فيتمثل في قولها: حلمـتُ … / رأيـت قصـائـد قـلبي التي لم أقـلهـا

تمـوت واحـدة بعـد أخـرى / حـزنـت … وقمـت إليهـا
ألملمهـا جثثـاً ورفـات / بكيـت عليهـا وغسّلتهـا بـالـدمـوع
وسلّمتهـا لمهـبّ الـريـاح / رجعـت بخفـي حنيـن / بكفيـن فـارغتيـن .([37])

تنكفئ الشاعرة إلى ذاتها، فترثيها إذ دخلت الحياة بيدين فارغتين وتخرج منها بخفي حنين وكفين فارغتين، لقد امتد العمر بالشاعرة لتكتب في ديوانها الأحدث (اللحن الأخير) مراثي للنفس، وسني العمر، إنها ترى آمالها وأحلامها تنتهي واحدة تلو أخرى فلا تملك سوى البكاء عليها، لقد تراءى لها مشهد النهاية وهي تخرج من الدنيا كما دخلتها، إن كان للآخرين امتداد بأبنائهم، فإنها تخرج من الدنيا وقد أُسدل ستار على وجودها، هنا تجد الشاعرة نفسها تستدعي من عمق الموروث الإنساني شخصية الأعرابي وقد عاد لقومه بخفي حنين بعد أن أضاع ناقته ومتاعه الذي عليها لطمعه في الخفين، توظف الشاعرة القصة عبر سياقها مستفيدة من مميزاتها في دعم النص الحاضر، ينضاف إلى ذلك أن سحبها للشخصية التراثية من الزمن الماضي، إلى الزمن الحاضر جاء مظهراً التوافق والتشابه بين الموقفين والشخصيتين فكلاهما أضاع الكثير مقابل اللاشيء.

مع الأدب العربي الحديث
ما أن ترى الشاعرة بوادر نصر تلوح بالأفق، بعد أن نهضت الشجرة، ونزلت الأمطار محمَّلة بالثورة التي جاءت عبر مخاض، حتى تهتف منشدة نشيد الحرية حتى تنطلق بالقول:

* حريتي! حريتي! حريتي / * سأظل أحفر اسمها حتى أراه
يمتد في وطني ويكبر / ويظل يكبر / ويظل يكبر
حتى يغطي كلّ شبر في ثراه / حتى أرى الحرية الحمراء تفتح كلّ باب
والليل يهرب والضياء يَدُّك أعمدة الضباب / حريتي! / حريتي !([38])

إن شبان الانتفاضة الذين هبّوا من رقدتهم، وأصبحوا فدائيين، يروون ثرى الوطن بالدماء الزكية، ليشتروا له الحرية، هؤلاء الشبان بعثوا الأمل في النفوس، فأزهر أغنية محفورة في كل شبر من ثرى الوطن، وتكبر معه لتصل كلّ الأبواب المغلقة فتفتحها لنور الحرية، ففي قولها: (حتى أرى الحرية الحمراء تفتح كلّ باب،) تسحب المتلقي لقول أمير الشعراء أحمد شوقي:

وللحرية الحمراء باب بكلّ يدٍّ مضرجةٍ يُدَقُ([39])

يشيرالمعنى في النصين للثمن المبذول من أجل الحرية، ففي وصف الحرية بالحمراء، تأكيد على أنها لاتُنال إلا بالدم، وتدعم هذا المعنى في موضع آخر فتقول:

لكنّ للثـأر غـداً هبـّةً جارفة الهول، عصوفاً عمم
فالضربة الصماء قد ألهبت في كلّ حرّ جـذوة تضطرم
لن يقعد الأحرار عن ثأرهم وفي دم الأحرار تغلي النقم!([40])

تتناص مع الشاعر نفسه وفي ذات القصيدة في:

وللأوطان في دم كل حرّ يد سلفت ودين مستحق([41])

فالأحرار لا ينامون عن حقهم، ولا يهدأون ما دامت الأوطان لا تنعم بالحرية، لذا يملأ الأمل قلب الشاعرة ووجدانها، أمل دافق بعودة الحق على يد هؤلاء الأبطال.

ولها في التناص مع الشاعر المهجري إيليا أبي ماضي لقاءات كثيرة منها:

قوله في قصيدة الدمعة الخرساء([42])

أكذا نموت وتنقضي أحلامنا في لحظة وإلى التراب نصير
وتموج ديدان الثرى في أكبدٍ كانت تموج بها المنى وتمور
حيث تقول :

ذاك جسمي تأكل الأيام منه والليالي / وغداً تلقى إلى القبر بقاياه الغوالي
وَيْ! كأني ألمح الدود وقد غشَّى رفاتي / ساعياً فوق حطام كان يوماً بعض ذاتي
عائثاً في الهيكل الناخر، يا تعس مآلي!([43])

نجد المعنى عند كليهما واحداً إلا أن إيليا تناول في سطرين شعريين المعنى الذي تناولته فدوى في خمسة أسطر.

وفي قصيدة الفراشة المحتضرة لإيليا ([44]) نجد المعاني التي تناولها تتناولها فدوى في قصيدة الشاعرة والفراشة([45]).

وإن كان لإيليا ملحمة الطلاسم التي يقول فيها:

جئت، لا أعلم من أين، ولكنّي أتيت / ولقد أبصرت قدّامي طريقاً فمشيت
وسأبقى ماشياً إن شئت هذا أم أبيت/كيف جئت؟ كيف أبصرت طريقي/لست أدري! ([46])

فلفدوى قصيدة بعنوان (في ضباب التأمل) تقول فيها:

لم جئت للدنيا؟ أجئت لغاية هي فوق ظني؟
أملأت في الدنيا فراغاً خافياً في الغيب عني؟([47])

وقد تناصت معه بكافة الصور؛ سواء بالمعنى أو اللفظ أو كليهما، ويكون التناص أحياناً بالعنوان، وأحياناً أخرى بالوزن والموسيقى.لقد غطت في تناصاتها مساحة زمنية واسعة غاصت بها في بحور التراث الإنساني عبر العصور الممتدة من الجاهلي، وحتى العصر الحديث مع ما بينهما من عصور وما زخر به شعرها من تناصات لهذا الزمن الممتد.

وتلتقي فدوى مع الأدباء الغربيين في أكثر من موقف سواء مع نيتشة أو إليوت ، مع هيجو وهمنجوي وغيرهم، وهنا يصح أن نأتي بصورة من صور التناص مع إليوت على سبيل المثال لا الحصر.

بين الأرض اليباب ل ت. س. إليوت وأردنية فلسطينية في إنكلترا لفدوى
التقت فدوى مع ت. س. إليوت في أكثر من قصيدة إلا أن قصيدة أردنية فلسطينية في إنكلترا من أكثر القصائد اكتنازا للثقافة الإليوتية. كتبت فدوى قصيدتها وأهدتها لصديقها الغريب، وجعلتها في قسمين، كل قسم يمثل حركة موسيقية متميزة مما منحها فرصة التنقل في المشاعر بين :الدهشة حين ظن أنها يهودية إلى الاستغراب والاشمئزاز من الضبابية التي يحياها الإنسان في الغرب واستسلامه لبرامج غسل الأدمغة بواسطة الإعلام الموجه، وصولا إلى استعراض الوضع الفلسطيني.

لقد تناص إليوت مع الآنسة جسي وستون في أكثر من موضع يقول " إن كتاب الآنسة جسي وستون (من الطقس إلى القصة الخيالية) عن أسطورة الإناء الطاهر لم يوعز إليّ بعنوان القصيدة فحسب بل وبهيكلها والكثير من رمزيتها العارضة"

وإن كانت الآنسة جسي اختارت لكتابها اسم (من الطقس إلى القصة الخيالية) فإن فدوى جعلت السؤال عن الطقس مقدمة قصيدتها للولوج في قصة حقيقية.

تبدأ فدوى قصيدتها بعبارة ( الطقس كئيب وسماؤنا أبدا ضبابية) حاول الآخر أن يفتح بها الحوار، ثم أتبعها بسؤال عن موطنها (من أين أسبانية) فتجيبه (كلا أنا من ..الأردن) نقاط وضعتها تعبيرا عن ترددها وكأنها تنبهت إلى ما يجب أن تقوله، وحين قال لها عفوا من الأردن؟ لا أفهم) صرّحت بهويتها الحقيقية وقالت ( أنا من روابي القدس- وطن السنى والشمس) فتصدم لفهمه المغلوط وجهله بالانتماء الحقيقي لمدينة القدس ونَسْبِهَا لليهود، فنجدها تصرخ ويتخيلها المتلقي كما لو أنها تضرب رأسها من هول الصدمة فتنطلق بحماس ممزوج بالصدق تقول ( يا، طعنة أهوت على كبدي – صمّاء وحشية) يلتقي هذا الجزء مع إليوت، إذ بدأ أرضه اليباب بالحديث عن أشد الشهور قسوة متمثلا في إبريل؛ حيث يتفتح الليلك، ثم يتبع الحديث عن الطقس بالسؤال عن موطنها، هو لم يذكر السؤال إلا أنه يفهم ضمنا من خلال إجابتها حين قالت (فأنا لست روسية إذ أنني ألمانية الأصل من ليثوانيا) وتنطلق فتاة إليوت من حديثها عن موطنها للحديث عن طفولتها، أما فدوى فتنكفئ إلى الداخل وتبدأ بالحديث عن حقيقة قضية الوطن الذي تنتمي إليه ومعاناة الشعب الذي تنحدر من سلالته، إنها تحمل القضية في عقلها وبين ضلوعها.

وكما كانت فكرة الحب عند أهل الأرض اليباب فكرة مليئة بالغدر والخيانة، كذلك كان الكذب والخداع الذي يسيطر على الغرب نتيجة التزييف في حقائق التاريخ لتتناص معه عكسياً ، وتلتقي فدوى مع إليوت بوصفه المدن بالزائفة لتجعل الضباب يغشى سماء المدينة فيطمس الضياء تقول هيهات! . كيف تعلم؟ / هنا الضباب والدخّان في بلادكم / يلفلف الأشياء.. يطمس الضياء../ فلا ترى العيون غير ما / يُراد للعيون أن تراه..

وكما أن إليوت لم يقدّم لنا حلاً واكتفى بتتبع خطوات الفتاة بعد رحيل حبيبها عنها، كذلك فدوى شرحت للآخر حال شعبها، وما آل إليه ثم عرجت على حقيقة التزييف، وحالة الغش الإعلامي الذي يحياه أهل هذه البلد.

كان عنصر القنوط والعذاب النفسي هما المسيطران على إليوت في الجزء الخامس والأخير من رائعته؛ حيث يقول ( هنا لا يمكنك الوقوف أو الاسترخاء أو الجلوس) و ( ترى هل في مقدوري أن أبعث شيئاً من النظام في هذه الأراضي) كذلك فدوى تختم قصيدتها بقولها :

هيهات! . كيف تعلم؟ / هنا الضباب والدخّان في بلادكم يلفلف الأشياء.. يطمس الضياء.. / فلا ترى العيون غير ما
يُراد للعيون أن تراه..

بدأت فدوى قصيدتها بالحديث عن ضبابية الطقس وأنهتها بالحديث عن ضبابية الفكر، فتجسد الضباب مسيطرا على كل ما في المدينة كذلك كانت أرض إليوت تغرق في يبابه وضبابية العلاقات القائمة بين أهلها.

تعتبر قصيدة فدوى قصيدة الثقافة لذا تحتاج لقارئ ضمني يفهم ما بين السطور وإن كانت كلماتها سهلة خالية من التعقيد؛ بحيث يمكن للإنسان البسيط قراءتها إلا أنّ المثقف والإنسان العادي، كلٍّّ منهم يفهم القصيدة بحسب ثقافته.

وهناك تعالقات كثيرة في نصوص فدوى مع إليوت؛ كما في (نبوءة العرافة) حيث وظف كلّ منهما أسطورة العرافة سيبيل التي أحبّها أبوللون إله الموسيقى والتنبؤ عند الإغريق والرومان، فمنحها القدرة على معرفة المستقبل وحياة مديدة تعادل ذرات الرمال التي كانت تحملها في قبضة يدها، لكنها نسيت أن تطلب منه القدرة على تجدد الحيوية في داخلها، فذبلت تدريجيا ووهنت صحتها إلى حد أنها باتت توضع في قاروره، فصار الموت أسمى أمانيها.

فدوى والإبداع
يعرّف فرويد المبدع بأنه إنسان محبط في الواقع لأنه يريد الثروة والقوة والشرف والحبّ، لكنّه تنقصه الوسائل لتحقيق هذه الإشباعات ومن ثمّ فهو يلجأ إلى التسامي بها، وتحقيقها خيالياً، ومن خلال قوة تأثيراته في المتلقين لفنّه يحصل الفنان على بعض هذه الإشباعات أو كلّها. وقد ساوى فرويد كثيرا بين فهمه للإبداع الفني، أو الأدبي، وبين تصوراته الخاصة حول الأمراض النفسية.

أمّا بيكاسو فيعرّف المبدع بأنه: وعاء مليء بالانفعالات التي تأتيه من كلّ المواقع، من السماء والأرض، من قصاصات الورق، ومن شكل عابر، أو من نسيج عنكبوت… والمبدع يودع ما يرى أو يسمع أو يقرأ ليتخفف من وطأة الانفعالات وازدحام عقله بالرؤى.

وقريباً من ذلك، يرى الدكتور علي الجسماني أن الفعل الإبداعي يرتبط في الغالب بتوتر نفسي وضجيج وجداني، وتهيج انفعالي يكاد يغشى كيان المبدع كلّه. فيعمل المبدع في أحضان الكون مضيفا على فنّه أو أدبه إشعاع ذاته بما في محتواها من اللاشعور، فهو يبدع وكأنه بإبداعه يترجم ما تتملاه حواسه وينقله إلى الملتقى فتهتز نفسه لذلك الأثر المنقول إليها اهتزاز الوتر بفعل أنامل موسيقار مغنّ.

كما يرى الدكتور الجسماني أن المبدع يبدع حين يحسّ بحالة (النحن) تلّح عليه وتلحق. فهو وإن تكلم بضمير (الأنا) لكنّ أناه هذه لا حدود تفصلها عن سائر الأنوات الأخرى في محيطه الاجتماعي فهو دائماً بحاجة إلى (النحن) وإحساسه بهذه الحاجة يُعَدُّ من دواعي إبداعه.

وكما أشرنا سابقا فإن فدوى انفصلت عن مدرستها وهي في الصف الخامس الابتدائي تماما كما اقتطع حبلها السرّي من رحم الأم، إلا أنّ بذرة الرفض الكامنة في أعماقها جعلتها تثور ثورتها البيضاء المسالمة في الظاهر، الطافحة إصرارا وغليانا في أعماقها، ثقفت نفسها، بداية أخذ أخويها إبراهيم وأحمد بيدها، لكنّها سرعان ما أدركت ضرورة الاعتماد على النفس فهيأت نفسها على مواصلة الدرب .

أبدعت ثمانية دواوين، إضافة إلى ثلاثين قصيدة من شعر البواكير لم تضيفها إلى دواوينها، جمعها الدكتور يوسف بكار في كتاب أسماه (الرحلة المنسية)، كما وثقت للأحداث التي مرت بها في حياتها عبر كتابين : الأول: رحلة جبلية رحلة صعبة.

الثاني: الرحلة الأصعب.
وما بين الصعوبة والوعورة في رحلتها عاشت فدوى حياتها، وكما ذكرنا فإنّ القلق والضغط سواء أكان اجتماعيا أم نفسيا هما التربة الخصبة للإبداع، وبتتبع سيرة فدوى نجد أنها وقعت فريسة لهذين العاملين، اللذين أنتجا شعرا صادرا عن نفس مأزومة، فظهرت أوجاعها وأحزانها وقد عكستها مرآتها الشاعرة مسطورة في قصائد تنضح بعذاباتها وشقوتها ووحدتها الصامتة، مما جعلها تطلق على زمنها اسم (زمن القهر والكبت) جامعة في هذه التسمية خلاصة ما تعانيه.

والقلق الذي تحياه فدوى من النوع الذي يرتبط ارتباطا إيجابيا بالتفاوت الكبير بين الذات المدركة والذات المثالية، لأنّ المرء يزداد قلقا كلما ألحت عليه الذات المثالية في التطلع إلى الأفضل في الأداء، وكلما كان أرهف حسّاً تاقت نفسه إلى تجسيم معاناته ومعاناة الآخرين.

فثمة قانون (دولبوف) في التوتر مفاده في علم النفس أن التوتر يحدث لدى الإنسان عندما لا يكون هناك توافق بين ما يسعى إليه الفرد وبين المنبه الذي يثير الفكرة أو الذي يؤدي إلى السلوك وأن خفض التوتر إنما يتحقق بتحقيق هدف التوافق بين الشخص وواقعه." وهذا ما يبدو بوضوح لدى فدوى فهي في حالة عدم مصالحة مع نفسها أو توافق بين ما تريد وما هو واقع. تقول " أخذت أحسّ أن المساعدات المستأجرات في البيت أكثر حرية وسعادة مني، وظللت أعجز وأضعف من أن أفرض نفسي على الأشياء والأمور التي كانت تجري من حولي. كنت على وعي بمهانة هذا الوضع وبعجزي عن تحطيمه والخروج من إطاره. هكذا قام خصام لا هدنة فيه بين نفسي المقهورة بالكبت، وبين الواقع المتجهم الذي أحياه مما أوجد في نفسي انفصاماً شقها إلى نصفين: نصف كان يبدو للأعين مستسلماً خاضعاً ونصف كان يرعد ويبرق تحت السطح ويكاد يدمر نفسه، وظللت أعاني درامية التيار الذي يجري تحت سطح الماء الساكن وكأنني واحدة من شخصيات تشيكوف."([48]).

إلا أنها ممتنة لتلك القيود التي قيدتها فخلقت في نفسها قلق وتوتر دائبين مؤمنة بأن الأزمات تصنع المعجزات فتقول " أما بالنسبة لوضعي الخاص فقد صرت فيما بعد أشعر بالامتنان تجاه الذين أرادوا خنقي بالقسوة وسوء المعاملة، فلولا فظاظتهم لما نمت قدرتي على التشبث بما كنت أصبو إليه من مطمح أدبي، ولو أنهم حاولوا قتل تطلعاتي بالمحبة واللين لأطفأوا فيّ الشرارة الكامنة، ولو كانوا استعملوا اليد الحريرية في محاولة خنق تطلعاتي بدلاً من اليد الحديدية لأفلحوا ونجحوا فخيوط الحرير الرقيقة الناعمة تكون عادة أقدر على الخنق فحين كنت أقع تحت ممارسة ضغوطهم عليّ كنت أشعر أحياناً أنني تحطمت فعلاً، وأغرق في بحر من اليأس ولكن هذا التحطم كان يصل بي إلى نقطة بالذات عندها كان يحصل شيء آخر فحين يصل المرء إلى قاع هوة اليأس، تدب فيه شرارة الحركة لتدفعه إلى العمل على الخروج من الهوة، وهكذا كان الصراع بيني وبين القوى المضادة يشتد من جديد ليؤكد لي فيما بعد صحة النظرة الدياليكتيكية للحياة." ([49])

بقدر حاجة المبدع إلى النحن وافتقاره له يظهر عجز هذا المبدع عن التأقلم والعيش مع الجماعة، ففدوى محرومة من الحياة الاجتماعية الجماعية، رغم أن البيت يعج بساكنية من أخوة وأخوات وأعمام وعمّات بأبناء وأحفاد إلا أنّ اغترابها النفسي عنهم جعلها تنزوي وحيدة في أحد أركان البيت، لا تقيم علاقات مع أيٍ من أبناء عمومتها، بل كانت علاقتها بهم سلبية تقوم على شيء من الغيرة.

كانت نفسية المبدع في داخلها تجعلها دائما في وضع تقييمي لنفسها ولأوضاعها، غير راضية عن حالها ووضعها، تطمح بأفضل مما تجد، تقول "لم أكن يوماً براضية عن حياتي أو سعيدة بها، فشجرة حياتي لم تثمر إلا القليل وظلّت روحي تتوق إلى إنجازات أفضل وآفاق أرحب"([50])

وهي تلخص صعوبة الحياة التي واجهتها في مقدمة كتابها رحلة جبلية حيث تقول " إنّ البذرة لا ترى النور قبل أن تشق في الأرض طريقاً صعباً، وقصتي هنا هي قصة كفاح البذرة مع الأرض الصخرية الصلبة، إنها قصة الكفاح مع العطش والصخر – لكنها تدرك – أن الكفاح من أجل تحقيق الذات يكفي لملء قلوبنا وإعطاء حياتنا معنى وقيمة."([51])

تعلن عن هدفها من هذه الحرب التي أشعلتها من وراء ستار، حرباً ضد منظومة العادات والتقاليد، فكل ما تريده هو كسر تلك القوالب التقليدية الجامدة، هذه القوالب التي تتحكم في حركات البنت وسكناتها فتضعها في قمقم لا يمكنها الخروج منه أما هي فتقول " كنت توقاً مستمراً إلى الانطلاق خارج مناخ الزمان والمكان هو زمان القهر والكبت والذوبان في اللاشيئية، والمكان هو سجن الدار"([52])

لذا نجدها ككل المبدعين تلجأ إلى العمل، فالانطلاق لا يتحقق إلا بالعمل تقول " لقد أدركت أن العمل هو الوجه الآخر للحلم والإرادة…وقررت أن أتعامل مع هذه العملة ذات الوجهين الإرادة والعمل."([53]).

ولأن العلاقة بين القدرات الإبداعية والسمات الشخصية هي علاقة دينامية تفاعلية نفسية؛ فإن الشاعرة حين تجيش في نفسها عوامل التوتر والقلق، وتحتبس في صدرها بواعث التعبير عمّا يعتمل في بواطن ذاتها، لذا نجد كل قصيدة لديها هي تعبير عن تجربة مرّت بها، لقد نصحها إبراهيم ألا تغرق في أحزانها قائلا لها إنّ الناس لا تهمهم مشاعرنا الخاصة، ومع ذلك ظلّت محاولاتها الشعرية تدور في إطار ذاتي لفترات طويلة، لا تسجل إلا آلامها ومشاعرها الخاصة، وهي ترجع ذلك إلى طبيعتها الحزينة الانطوائية والتي جعلتها تستغرق دائما في الانكفاء على الذات.

في قصيدة إلى( صورة) تظهر معاناتها ويحسّ المتلقي بخفقات قلب الشاعرة وأزماتها الانفعالية تقول فيها:

اذهبي، واعبري الصحاري إليه
فإذا ما احتواك بين يديه
ولمحت الأشواق في مقلتيه
مائجات أشعة وظلالا
مفعمات ضراعة وابتهالا
فاحذري، لا تبوحي
لا تبيني تأثرا وانفعالا
واكتمي عنه ما يزلزل روحي
منه، واطوي هواي عن عينيه
يظهر اضطرابها وخوفها من الإعلان عن مشاعرها.

كما ظهر تأثير معاناتها منّ التهميش والذوبان واللاشيئية وسيطرتهم على فكرها، ظهر ذلك في التستر وراء اسم مستعار تنشر قصائدها من خلاله، اختارت اسم دنانير تلك الجارية في بلاط الرشيد، ولم تستأنس باسم واحدة من الشاعرات الحرائر أمثال الخنساء وعاتكة وغيرهن.

يُذكر في علم النفس التحليلي عن الشاعر بأنه يصبح بالخلق الإبداعي طبيب نفسه، وأنّ شعره إفراغ لشحناته الانفعالية يتخفف منها فيفيد ويستفيد، أي أنه ينفع الآخرين بإبداعه وينعش ذاته بارتواء عاطفته عمّا عبّرت عنه قريحته الفياضة. كذلك نجد فدوى لا تجد من البشر من تشكو إليه ويخفف عنها ليس لها إلا أفكارها وأوراقها فتأخذ من شعرها دواء تستطب به من أزماتها، فتخفف عن نفسها وتسعدنا بما تكتب فتَسعَد وتُسعِد.

يقول علماء النفس إنّ التجديد لدى المبدع لا يكون مقصودا بحد ذاته، بل يُعبّر عن هذا القلق العام وعن النزوع الشامل نحو التغيير وهذا ما نجده عند فدوى، كانت استجابتها للتجديد أسرع مما يتوقع، جاءت استجابتها للتجديد في نظام القصيدة سريعة، حتى إنها سبقت في تطبيقه نازك الملائكة التي نظرت له، إن سرعة الاستجابة لديها ناتجة عن قلق عميق يعتريها، إضافة لرغبة في الولوج إلى شكل جديد لم يكتبه شقيقها إبراهيم وهو الذي اتهمت لفترة بأن ما تقوله من شعر إنما هو من نظمه.

تعلن عن سر رغبة التجدد التي تسكنها فتقول " كانت هناك بذرة صغيرة تأبى الاكتفاء بذاتها وتنزع إلى التجدد والتغيّر، تنزع إلى أن تصير شيئاً آخر، فهي تأبى الثبوت والاستقرار، كنت أحسّ بتلك البذرة تتحرك في داخلي كدينامو لا يهدأ، وكنت أحسّ في الوقت نفسه بالقالب الفولاذي الذي أقبع داخله يعمل على خنق تلك البذرة لتصبح فيما بعد بركاناً يمكن أن ينفجر في أية لحظة ليطيح بالقاعدة والأساس الذي قام عليه ذلك القالب اللعين"([54]).

والشاعر المبدع يرى أن الوزن الشعري ينطوي على دلالة شعورية يستعذب من خلالها الكشف عمّا يعتمل في نفسه وعمّا يجول في خاطره، والشاعرية الأصيلة ليست صياغة للحقائق المقررة وإنما هو استكشاف لهذه الحقائق بلغة تؤثر تأثيرا مباشرا في المستمع أو القارئ، كذلك نجد قصائد فدوى منها ما يحمل موسيقى مؤثرة يقع المتلقي تحت سيطرتها، حتى يجد نفسه متفاعلا معها ومشاركا إياها في الموقف وكأنه يحيا الجو النفسي الذي تحياه الشاعرة نفسها، فيصبح كلاهما؛ المبدع والمتلقي وقد توحدا في معاناة نفسية متفاعلة.
ظلت تهتم بالديباجة الكلاسيكية والكلمة الرنانة حتى عام 1940 بعدها شعرت أن هذه الديباجة تعيق التدفق والانطلاق ويكبل الجيشان العاطفي في داخلها إلى أن هداها الدكتور مندور إلى أدب المهجر فوجدت أن هذا الشعر قريب من تكوينها النفسي وتركيبها الذهني، كذلك كان الحال مع شعراء أبولو كناجي والشابي، بدأت تدير ظهرها للديباجة وأصبح همها الجمال مع البساطة والصدق بعيدا عن التكلف.

ساهمت في تطوير شكل القصيدة العربية المعاصرة فتخلت عن البيت ذي الشكل التقليدي والإيقاع الرتيب.

وتظل النفس المبدعة وفعل الإبداع كلّ منهما يؤثر في الآخر فكثيرا ما تصنع الحياة القلقة والمضطربة مبدعا، كما يمكن في المقابل أن يؤثر الإبداع على حياة المبدعة الأنثى فتصبح إنسانة مضطربة وقلقة.

فدوى تعزف لحنها الأخير وتمضي
تقول لغة العامة المكتوب يقرأ من عنوانه، وفي لغة النقد نقول إن العنوان هو سمة العمل الأدبي وعتبة النص وهو مفتاحه.
بالنظر إلى ديوان فدوى الأخير وانطلاقا من صفحة الغلاف نجده يوحي بالأفول والتلاشي من العنوان وحتى النهاية، رغم ما حاولت هي أن تضفيه عليه من شعاع من أمل يشق طريقه وسط الزحام، إلا أن هذا الأمل بدا باهتا منكسرا لا وجود له إلا في الخيال وأرض اللا وجود، وإذا تتبعنا شكل ديوانها الأخير - والذي صدر في الألفية الثانية وبعد ثمانية عقود عاشتها يوما بيوم وساعة بساعة –إذا تتبعناه - نجدها تضفي على الغلاف لونا قاتما، وإن كان أخضر بلون زيتون بلادها إلا أنّه داكن، في حين طبعت من صورتها الظل أو ما يعرف بالنيجاتيف، وكأنها تقول صرت ظلا يسير على الأرض بلا حجم ولا مقاس محدد، الورق المستخدم من الدرجة الثالثة في الورق: أسود، وخشن وكأنه بقايا من بقاياها، ثم نصف النخلة التي تظلل كوكبا كان في فترة زمنية ليست بالقصيرة يشع نورا وبهاء، أما جذور هذا الجزء المتبقي من النخلة إنما هو مقطوعة من النوتة الموسيقية، هذه المعاني وغيرها أودعتها فدوى في هذا الديوان لتشركنا معها في رحلة النهاية التي بدأت تلملم لها أوراقها، وتهم بمغادرة المكان الذي ما هان يوما عليها منذ كانت طفلة تفكر في الانتحار – فتعزف من خلاله آخر ما لديها من ألحان، بعد أن أشركتنا من قبل في رحلة المجيء للحياة وما تلاها من أحداث عاشتها في حياتها على المستويين الشخصي، والوطني، وتطبع على الغلاف الخلفي جزء من قصيدة تحمل نفس اسم الديوان (اللحن الأخير)

إذا ما انتقلنا للحديث عن عدد القصائد المضمنّة في هذا الديوان نجدها تسع عشرة قصيدة، لقد أرادت أن تجعلها عددا أحاديا مفردا لتؤكد أنها هكذا كانت دائما، حتى وهي منخرطة في الحياة الاجتماعية والوطنية مع الجموع كانت الوحدة تسكنها وتعشش في أعماقها، علما بأنه كان لها أن تجعل القصائد عشرين، خاصة أنها كانت تملك في زمن تجهيز الديوان للطباعة أكثر من قصيدة من بينها قصيدة (هذا الكوكب الأرضي) وقد قرأت عليّ جزءا منها تقول فيها:

لو بيدي / لو أني أقدر أن أقلبه هذا الكوكب
أن أفرغه من كلّ شرور الأرض / أن أقتلع جذور البغض
لو أني أقدر لو بيدي / أن أقصي قابيل الثعلب
أقصيه إلى أبعد كوكب / أن أغسل بالماء الصافي
إخوة يوسف /وأطهرّ أعماق الأخوة
من دنس الشر.
لو بيدي /أن أمسح عن هذا الكوكب
بصمات الفقر /لو أني أقدر لو بيدي
أن أجتث شروش الظلم / وأجفف من هذا الكوكب
أنهار الدم.

لكن هكذا فدوى دائما تحب أن تجعل أعمالها انعكاسا لنفسيتها وأحوالها.

بتتبع قصائد الديوان وبحسب ترتيبها لهذه القصائد نجد أول قصيدة تتصدر الديوان هي قصيدة (بعيداً جداً) رغم أن البعد في حدّ ذاته يوحي بالمرارة والألم، إلا أنها أضافت له وصف (جداً) لتزيد من هذه المرارة، وفدوى التي تجمع المتناقضات من قوة وضعف، شدّة ولين، تحاول ألا تستسلم لهذا البعد وعدم الوجود، لقد حاولت محاورته وادعاء حيازته لتكسبه وجودا :

لكن يبقى الأمل المنشود
بعيداً جداً
يستوطن أرض اللا موجود
إنها تحاول أن تصنع شيئا للوطن ولكنّه يظل وطنا صعبا مفقودا.

ويتجلى التناقض في أبهى صوره مع قصيدتها الثانية (حوارية) البحر هنا معادل موضوعي للحب، لازال الحب يجذبها رغم أنها تقف بمركب العمر على المنحدر، الحب كان ولا زال إكسير الحياة لدى فدوى، حبّها لا يعرف زمنا ولا يعترف بتقدّم السن، فصحراء العمر وخريفه أكثر احتياجا لماء الحياة وما يبعثه فيها من حيوية، هي تريده وفي الوقت ذاته تخافه، لذا فإنّه يمثل لها التناقض والغموض:

أنت الثراء البهاء الهناء
والنشوة المشتهاة
وأنت التوتر، أنت التمزّق
أنت اختلاط العقول
وأنت الصراع وأنت الضياع
وأنت القويُّ العتيُّ
واللا أمان والقاهر المستبد
……..

أربع صفات إيجابية مقابل ثماني صفات سلبية مما يجعل الخوف منه أكبر ضعفين من أمانه وحنانه؛ لكنّه عبقر الشعراء، وهو المبدع الذي استطاع أن يجذبها ويجعلها تدخل في جسده بمحض إرادتها فتقول له (لبيك لبيك) لقد أصبحت تطلب منه أن يأخذها إليه وتقرّ بأنّه (سيد الأرض) فلا مفرّ منه.

في القصيدة الثالثة (وردة ديسمبر) تحاول الشاعرة أن تضيء بالأمل دهاليز النفوس المظلمة فالأمل بفرح آتٍ يخترق لديها حتى أشد الظروف قسوة وصعوبة، ديسمبر جهم وصقيعه قاصم ومع ذلك:

كان القمر
على طرف الكون يزحف واهي الخطى
نحو كهف المغيب
وريح الشتاء تعرّي الوجود
وتفرغه من هبات الحياة
…..

ومع ذلك كان التوهج وبشاشة الربيع وابتسامات قوس قزح، مما جعلها تتعلم:

وعلمتني كيف تصبح دنيا المحال / البعيد المنال حقيقة
وكيف تحول هشاشة هذي الحياة
فتغدو الحياة صديقة.

وتستمد الوجود من الغياب وتحيا بأمل كان في يوم من الأيام:

نقطة الضوء بعمري أنت
نبراسي المضيء / إبق لي ارجوك
إبق الضوء والنكهة والمعنى
وأحلى صفحة في سفر شعري
توّجت آخر عمري!

لقد رحل ومع ذلك تبقيه في ذاكرتها لتستمد منه الأمل والضياء، ورغم أنها تعلم أن من مات لا يعود لكنّها ترجوه لتحيا على أمل فتقول (رجاء لا تمت).

ويأتي (السؤال الكبير) تسأل وهي تعلم الإجابة إنّه الحب بالحب يصبح صوت الحبيب أفقا، وجناحي نورس، ويجعله معراجا إلى ملكوت باهر الضوء، وهو فرح الطفلة بثوب العيد الذي حلمت به واحتفظت به تحت وسادتها، بل هو فرح الصحراء بالغيث، وهو الملاذ من الضياع، إنّه الأمن والأمان إنه الوطن، وتستمر الأسئلة والجواب في بطن الشاعرة تحتفظ به ولا تختم به بل تنهي بسؤال:

ما الذي يجعل من صوتك نهرين
يفيضان بأعماقي حنيناً وشجن.

بعد الكمّ الكبير من الأسئلة يطل الحب برأسه؛ إنّه حب قوي وصارخ، مَنْ يقرأه يظن أنّها ابنة العشرين ربيعا، لكن وكما كانت دوما تقول إنّه القلب الذي لا يمكنه أن يحيا بدون حب، هذه العاطفة السامية تملأ قلبها ووجدانها بكل صنوف الحب وأشكاله حب أخوة، وحب بنوّة، حب صداقة، هذا ما استطاعت أن تفسرّه لكن يبقى في داخلها أكثر مما قالت يبقى لديها ما لا يمكن وصفه بالكلمات:

يا سيدي قلبي / هذا حبّي الظاهر لكن
في قلبي شيءٌ آخر / يختبئُ وراء الصمت
ليتك تفهمني في صمتي
في صمتي رؤيا تتسع وتكبر
والكلمات تضيق!

وكما أنّ بشار بن برد يعشق بأذنه قبل العين، كذلك فدوى تظل حاسة السمع لديها هي رسولٌ للقلب، كيف لا وهي صاحبة الأذن الموسيقية التي جعلتها ترى بأذنها، فحين يأتيها صوته يمنحها الفرح، بل يمنحها ما هو أهم من ذلك؛ يشرّع لها أبواب الشعر، إنه يحيي موات أرضها ويحولها إلى جنّة و.

يرفعني فوق غمامة صيف
أتكاثر فيها أتندّى / أنطلق وراء مدار الأرض
كياناً روحانياً، طيف!!

وتغني للحب أنشودة ترجع معها إلى أيام الطفولة البريئة حيث كانت روحها تهفو لحب أبوي، وتحنّ لحب الأمومة، فلا تجد سوى حبّ الأخ، ثم يأتيها الحب من الخارج، تحاول الشاعرة الخروج من ميتافيزيقيا الكون المتجمد لتحيا بكنف الحب الذي تشعر معه بالأنس، فيعود بها للطفولة وحياة اللهو ونطّ الحبل….الخ، تتوسل إليه أن يأخذها تحت جناحيه، يستبدل الأمن والسلام بظلمة الأيام التي عاشتها.

في هذه القصيدة تختزل الشاعرة السنين وتعود وهي أم الثمانين تعود لعشرة أعوامها تتحدث عن ثالوث زمني، يتمثل في :الزمن القبلي عندما كانت طفلة تتنسم عبير الحب المفقود لدى الأبوين، وزمن التفتح وهو زمن المصالحة بين الزمن والطفلة التي أصبحت وردة تحطّ عليها الأطيار وترشقها نبال النظرات، وزمن يمثل حلقة الوصل بين الزمنين ويتحدث عن الطفلة التي يقع عليها فعل الزمن السابق، ويربطها بالزمن اللاحق، ثم يتبع هذه الأزمان الحديث عن الحب وحلاوته فتكرر عبارة ( ما أحلى الحب وما أبهاه) أربع مرات ثم توردها مشطورة مرتين (ما أحلى الحب) وقد سحبت حلاوته على عمرها المتأخر وقد أحيى العظام وهي رميم:

ما أحلى الحب وما أبهاه! / يحيا بين يديه رميم
تندى أرضٌ، تخضرُّ عظام / فيه الزمن المسحورُ يقاس
بدقات القلب المبهور / لا بالساعات يُقاس ولا
بتوالي الأشهر والأعوام / ما أحلى الحب!

تترنح الشاعرة ما بين غياب الوهم وصحوة الحقيقة فالحب الذي تنشده لا وجود له، وكلما مدّت يديها لتمسك به لم تجد إلا السراب والفراغ، لقد صور لها خيالها شيئا عظيما وفاضلا، لكنها لم تجده لأنه كالمدينة الفاضلة يوتوبيا التي لا وجود لها إلا في عقول الفلاسفة والمفكرين الذين عاشوا على وهم اسمه فضيلة فهو اسم ليس له مسمّى، وهو فراغ وما من أحد / ما من أحد!.

ويستمر التقاء الأضداد في نقطة النهاية، فهو المقتل وهو الخلاص، هو الحلم الرحيب وهو الصليب:

فيك عانقت وجودي / فيك كم طال ارتحالي / في أقاليم الضياع.
إنّه الغاية وهو الوسيلة، هو الجنّة والجحيم:
كم ظللني / شجرُ الجنّة في ظلك فيهِ
كم تقلّبت على نار الجحيم

هذه المتناقضات أوصلتها إلى القطيعة وخط اللا عودة:

لا تحاول / صرت لي أيّ غريم
كلُّ شيء عاد لا شيء سوى بُغضٍ عنيف! / طلعت نبتتُه السوراءُ من حبٍ عنيف!
انتهى الحبُّ، ومن حيث انتهى الحبُّ / ابتدا البغضُ ولا رجعة بعد اليوم
كل شيء انتهى ولم يبق إلا البغض مع الإصرار بعد العودة (كلاَّ لا تحاول).

وهنا تشع (ومضة) من قصة حب قديم مرّت بلا أثر، لقد أصبحت فراغا وزمنا ميتا، جعلها تدرك أنها تحيا خارج الموت البطيء، الذي يسير باتجاهها لكنّه لم يصل بعد.

إن الحزن الذي تخلّفه قصة حب قديم؛ وإن كان يفتّح في القلب الجراحات إلا أنه يروي الشعر، ويردّ الوهج الباهر للعمر، إلا أن هذه القصة ضنت على الشاعرة حتى بجراحاتها وآهاتها، ولم يسفر عنها سوى فجيعة صمت الشعر.

في (إنّه اللحن الأخير) القصيدة التي حمل الديوان عنوانها تجعل الشاعرة الشعر والحب قرينين من الجن، إنهما أمران خارقان، فالشعر والحب معيذا قلبه من هجمة العمر ووطء السنين، إنها أسيرة الشعر فله عليها سطوة السيد والمولى والأمير.

وهي تدافع عن قلبها فتقول:
ما الذي يملك أن يفعله الحبّ للحبّ وللشعر
وللمعنى الجميل

وتقول:

ما الذي يملك أن يفعله خافق ينبض بالشعر وللشعر عليه
سطوة السيد والمولى والأمير.

نلاحظ أنها تورد الحب والشعر بلا صفات أما المعنى فتتبعه بصفة (جميل) ليصل إلى مرتبة تسمح له الاقتران بالحب والشعر، إنها قضية جدلية بين الحب والشعر يظلان بمقتضاها قرينين للجنّ، وتختتم بقولها:

إنّ هذا قدر العمر وهذا / آخر الإيقاع في اللحن الأخير
إنه اللحن الأخير.

في (صورة ذاتية) تعرض لحياة حافلة وشوط طويل قطعته عبر سنين عمرها، حصدت منها خبرة - وهذا شيء جميل – إلا أنها أرهقتها، فالخبرة لا تأتي على بساط من الراحة والرغد، لكنّها رغم ما عانته في هذه الحياة ورغم ما أرهقها لم تتمكن من هزيمتها، كما لم تتمكن سهام القدر من تحطيمها، إلا أنّه آن لهذا الجسد أن يستريح ويلقي عن كتفيه كل ما علق فيها من أحمال وأكدار.

وتصل في الحب إلى النزع الأخير فترثيه في (مرثية لشيء جميل) لقد كسا الحب مساحة واسعة من حياتها، صبّحها ومسّاها، وكان فلسفة وجودها إلى أن:

صحوت على / حلم كابوسيّ جهم ذات صباح
الوجه الأسطوريّ الطفل بديع القسمات / طعنته سكين الأقدار
وسقته كأس الموت المرّة / مزقت الخدين الورديين
هشمت الرأس اليانعة النضرة.

لذا فهي ترثيه بأجمل ما يكون الرثاء معددة مناقبه باكية أيامه الجميلة:

يا أجمل ما ظل بعمري / معنى عمري وقوام حياتي / أكذا تغتالك صاعقة القدر الهوجاء
أكذا تذروك رياح القدر المشئوم - / رماداً وهباء
يا أجمل ما خلق الله / يرحمك الله يرحمك الله!

ويشدّها الحنين إليه، والاستسلام لسطوته، فتفر منه إليه مقنعة قلبها بأنّه قدرها الذي لا مفرّ منه، فهي الفراشة الضعيفة التي لا تستطيع بجناحين من طينة الشمع أن تفر من وهج حرارة الشمس التي تملأ الدنيا من أقصاها إلى أقصاها.

أما قصيدة (حصاد مرّ) فهي ثمرة من ثمار الحب الضائع تنكفئ الشاعرة فيها لأعماقها، وتستعرض ما جنته من الحب؛ لقد صافحت الهواء، واتبعت اللا أحد، وأحيطت بالفراغ، والآن تحصد المرّ، فما صوره الوهم لها أنه شيء عظيم وقمم مرتفعة، تكشفه المعرفة والحقيقة التي أزالت بوهجها الذهبي زيف وهم عاشت عليه لتستيقظ حواسها فلا ترى ولا تسمع إلا حلما مكسورا، وحصادا مرّا لنهاية عمر.

عندما التقيت الشاعرة وكانت تهمّ بطباعة ديوانها الأخير طلبت منها أن تسمعني بعض ما ضمنته في هذا الديوان فقالت فيه قصيدة جميلة جداً أرثي بها نفسي، وقرأت عليّ جزءا من القصيدة ألقتها بإحساس عميق وكأنها جزء منها، حتى ظننت أنها قد تطلق اسمها على الديوان، في قصيدة (حلم) يتعاضد الحلم مع الحقيقة ليطيحا بأمانيها، ترثي بها نفسها وأحلامها، وتأسى لما لم تقله بعد، فمهما اتسع العمر يبقى هناك ما لم يُقل، وشاعرتنا تعتبر أنّ أفضل قصائدها هي التي لم تكتبها بعد، وترثي فيها حياة حافلة انتهت لفراغ وعدم فـ:

بكيت عليها وغسلتها بالدموع / وسلّمتها لمهب الرياح
رجعت بخفي حنين / بكفين فارغتين.

وتسلّم حياتها وقصائدها لموت لا رجوع بعده للحياة.
في قصيدة (مواساة) تقف إلى جانب قلبها ضد حبٍّ مات وتحرّض القلب على خداع الحزن بالضحك :
لا تأس إن مات حبك / اضحك على الحب واخدع
بالضحك حزنا عصيّ.

تنهي الشاعرة ديوانها بقصيدة عنوانها (كوكب) تتوجه من خلالها إلى الكوكب بأسره وقد بدأ يتلاشى في مدى غير متناهٍ، ويجمع المتناقضات؛ لقد أمسى ضوءه الباهر نهرا، منفصلا عنه ولكنه لم يزل مجراه يجري باتجاهها، إنها تتصيد الأمل والضياء من بين براثن التلاشي والظلام، لذا جعلته يسير في اتجاهها.

هكذا يظل حزنها متلفعا بدثار من أمل، ويظل أملها يكتنفه الضباب.

أخيرا نقول إن الديوان الثامن عقد منتظم اللآلئ، وكأنها قصيدة واحدة تضم مقاطع، وكل مقطع يتناول فكرة تنتظم في النهاية مع سابقتها والتي تليها.

كما أنها جميعا تدور في محور قصص الحب التي عاشتها في بداية حياتها، ولا زالت حلاوة لحظاتها تغزو حواسها لتتراوح هذه القصائد ما بين ذكرى جميلة لهذا الحب، وبين ضياعه هباء، ثم موته وتلاشيه، ولكن الأمل باق.

إن كانت البدايات لا سابق لها، فإن النهايات لا لاحق لها، فيسدل الستار على قصص حب وأمل بهت وتلاشى.

لو قارنا بين قصائد ما قبل الديوان الأول وقصائد الديوان الأخير نجد نقاط اتفاق ونقاط اختلاف فمن نقاط الاتفاق أنها في قصائدها الأولى كانت ذاتية وإن لم تكن تتحدث فيها عن الحب بصراحة، كذلك قصائد الديوان الثامن؛ حيث عادت فيه لذاتيتها الفردية تسترجع فيه أنوثتها وقصص حبها،

في قصائدها الأخيرة أصبح نفسَها قصيرا حتى إن بعض القصائد لم تزد كلماتها عن العشرين كلمة.

في اللحن الأخير رغم انطلاق فدوى للحداثة نجد بعض العبارات القديمة تتسلل إلى قصائدها الحديثة.

في ديوانها الأخير أكثرت من توظيف ثلاثة أبحر هي المتدارك والمتقارب والمديد، بينما نجدها في الرحلة المنسية تتنقل بين عشرة أبحر كان السريع أكثرها ترددا يليه الطويل والكامل، بذا تكون معظم قصائدها في الديوان الثامن يغلب فيها النظم على البحور الصافية بينما في الرحلة المنسية يكثر النظم على البحور الممزوجة.

أما آخر قصائدها فهي بعنوان (وحشة) فيها نجد بدايات فدوى وقد تجاذبتها النهايات، فكما بدأت وحيدة في سجن البيت الأثري الكبير انتهت وحيدة في سجن أرستقراطي كبير، إلا أن السجان اختلف، فسجانها في بداية حياتها من الإخوة ورجال العائلة، أما في النهايات فإن سجانها المرض والاحتلال، فلكلّ منهما على القلب ثقله.

وما بين السجنين وبالذات منذ حضرت مؤتمر السلام بالسويد عام 1950 وحتى التسعينيات عاشت فدوى حياة الانطلاق والترحال بين العواصم العربية والغربية، طافت الفيافي، وقطعت البحار.

كانت فدوى في شبابها تخشى الموت وما يليه من أحداث ففي قصيدة(خريف ومساء) تقول:

آه يا موت! ترى ما أنت؟ قاس أم حنون
أبشوش أنت أم جهم؟ وفيُّ أم خؤون؟!
يا ترى من أي آفاق ستنقض عليه؟
يا ترى ما كنه كأس سوف تزجيها إليه؟
قل، أبن، ما لونها؟ ما طعمها؟ كيف تكون؟
ذاك جسمي تأكل الأيام منه والليالي
وغدا تلقى إلى القبر بقاياه الغوالي
وي! كأني ألمح الدود وقد غشىّ رفاتي
ساعيا فوق حطام كان يوما بعض ذاتي
عائثا في الهيكل الناخر، يا تعس مآلي!

لكنها عاشت وامتد بها الأجل إلى أن أصبحت تتمنى الموت وتنتظره بقبول ورضى، تماما كالعرافة سيبيل تقول في قصيدتها الأخيرة والتي تحمل عنوان:

وحشـــــــــة
ركض الوقت وخلَّفني / وحدي مع ظلي في الدار
القانون الكوني تلاشى / بـدده عبـث الأقـدار
لا جاذب يمسك أمتعتي / لا جاذب يبقيها في الدار
داري ما عادت داراً لي / أو مصدر أمن واستقرار
طارت أمتعتي صارت / داري ملـكاً للأغيــار
طار المقعد طار خواني / طـار الكرسـي الـدَّوار
لا أب لا أم / وحـدي مع ظلي في الـدَّار
لا أخـوات ولا أخـوة / تملأ في الـدَّار فـراغ الـدَّار
لا شيء سوى الوحشة والغم / وركام الأشــهر والأعــوام
يثني ظهري يثقل خطوي / يطـفيء في أفقـي الأنــوار
ركض الوقت وخلّفني / وحـدي مع ظـلِّي في الـدَّار
أخشى الغدَّ أخشى المجهولَ / الآتي من غيــب الأقــدار
توحشني، كم ذا توحشني / سـاعة أمي الأثريـة والصور التذكارية / توحشني مكتبتي أنس حياتي
في الأزمات وسوء الحال / توحشـني صحـبة عـودي
صَمَتَ العود انقطعت فيه الأوتار / يوحشــني عبـق القهــوة
العبق العطري الفواح / يغــرقني في بحـر النشـوة
كلَّ مساءٍ كلَّ صباح / ركـض الـوقت وخلّـفني
وحـدي مع ظلي في الـدَّار / ربـي لا تجعـلني عبئـاً
تسـتثقله كلَّ الأجيـال / انتظر بلوغي أرض الصمت
انتظر الموت / طـالت دربـي يا ربـي
قصّرها واختصر المشوار / يوجعني الحكم الصهيوني
وأوامر منع التجوال/ يـوجعني لا بل يقتـلني
في وطني قتل الأطفال

…لكن .. وبعد هذه الحياة الحافلة ارتقت شاعرة فلسطين الأولى وأميرتها للعلى، ارتقت في يوم الجمعة الثاني عشر من الشهر الثاني عشر للعام 2003م، كعادتها تودّع العام لكنّ في هذه المرة لن تستقبل الذي يليه، تركته لمن خلفها علّهنّ يواصلنّ ما انتهت إليه على الدرب بعد أن عزفت سيمفونية اللحن الأخير، عزفتها بعد قصة كفاح امتدت عبر أكثر من سبع وثمانين سنة، وقفت فيها بكل صلابة –رغم رقتها ووداعتها – وقفت تحارب في أكثر من جبهة وأكثر من خصم، حاربت منظومة العادات والتقاليد، حتى زُحزحت صخرتها الجاثمة على صدرها وصدور الفتيات البريئات أمثالها، تحدّت الجهل الذي فُرض عليها وانتصرت عليه، سطرت بكلماتها المنظومة والمنثورة مسيرة المرأة وحياة شعب بأكمله، شعب تقلبت عليه الدهور والحكومات، لذا لن أقول كما يقول الكثيرون بأننا خسرنا فدوى، فكل ابن آدم لا بدّ ذاهب نحو النهاية، لكننا كسبنا فدوى عبر سبعة عقود، وستبقى مع شعبها بكلماتها ونضالاتها ما دام في الأمة طفل يرضع من لبن الوطن الغالي، لقد كانت فدوى من أغلى مكاسبنا، ويكفي هذا الوطن فخرا بأنها إحدى بناته المناضلات بالكلمة والفعل، لقد أثبتت للعالم قاطبة أنّ المرأة الفلسطينية مثلها مثل الرجل في التضحية والعطاء.

صفــاتها
إنَّ كلَّ منْ يقترب من فدوى – سواء وقف على حدود كتاباتها أم التقاها شخصيا – يلمس رقتها وبساطتها، صدقها وعفويتها، صراحتها ووضوحها، ينضاف إلى ذلك أنها ودودة تقدّس الصداقة وتحترم كلَّ من تصادق، حتّى إنّها كانت تعتبر الصداقة أفضل من الحب؛ فهو وإن كان يحمل كلّ المشاعر التي تتجلى في الحب من حبٍّ وإخلاص ووفاء إلا أنها تسمو بالأصدقاء عن الأنانية وحبِّ الامتلاك. ظلّت فدوى حتّى آخر لحظة في حياتها تحترم أصدقاءها وتكن لهم كلّ حبٍّ واحترام، فها هي تذكر ابنة جيرانها وصديقة طفولتها؛ علياء التي معها وبها تنسمت عبير الحرية والانطلاق بين الحقول، في المواسم والأعياد ومزارات الأولياء والدراويش، تقول " كان الإحساس بالحرية والانطلاق بعيدا عن جو البيت الأثري المختنق بالمحظورات وبالأوامر والنواهي التي لا أول لها ولا آخر، كان ذلك الإحساس بالحرية يملؤني بفوحان الحياة" فكانت وفاة علياء تمثل صاعقة شديدة حلّت بفدوى، كما يظهر حبّها لصديقاتها ووفاؤها لهن ما تحمله لصديقتها عناية النابلسي التي عرفت معها مذاق الصداقة، وأحبته تقول " كانت رفيقة مقعدي الدراسي تلميذة في مثل سنّي اسمها (عناية النابلسي) وكانت أحب صديقاتي إلى نفسي. ولقد بلغ من شدة تآلفنا أن ابتدعنا طريقة غريبة لتأكيد صداقتنا، فلجأنا ذات يوم إلى وخز ابهامنا، ولعقت هي قطرة الدم التي نفرت من أصبعي، كما لعقت قطرة الدم على أصبعها، وكان هذا توقيعا على أخوة دم لا انفصام لها" يمكننا تلمس شدة الوفاء لهذه الصديقة إذا عرفنا أن هذه الصديقة ورغم افتراقهما لا زالت تقبع في إحدى زوايا قلب فدوى تقول: "لم ألتق بعناية منذ أيام المدرسة فقد تركت نابلس بعد زواجها في سن مبكرة. ولكن عناية تلك البنت الصغيرة، لا تزال هناك، في زاوية دافئة من القلب، لم تغب عن مكانها أبدا".

أكثر ما تكرهه في الصداقة هو الغدر والحسد اللذان يفسدان قداسة تلك العلاقة تقول: " الذي عرف الفجيعة في الصداقات والذي عانى مراوغة الأصدقاء يقدّر نعمة الصداقة التي تنبت على أرض من الثقة والصدق والاطمئنان، إذ لا صداقة حقيقية مع التحفظ والتوجس والحذر"

من الصفات البارزة في شخصية فدوى حساسيتها المفرطة، وعفة نفسها، فكم تمنت أن ترتدي ثوبا صنعته خياطة ماهرة، فلم ترتدِ إلا ما تصنعه لها أمها، بينما ابنة عمها شهيرة كانت ترتدي أفخر الثياب، تمنت لو اشترت لها أمها حلقا ذهبيا أو دمية لم تصنع من بقايا القماش، كانت تتمنى لكنّها تعف عن الطلب. حتّى بعد أن كبرت وكانت في ضيافة شقيقها نمر في لبنان، أقيم حفل عشاء استقبالا لها ولكنها رفضت الذهاب، استغرب نمر وحاول أن يعرف سرّ إعراضها عن حفل يقام على شرفها؟ تقول مات نمر وهو لا يعرف أنني كنت بحاجة لشراء بلوزة جديدة أذهب بها للحفلة، ولهذا امتنعت عن الذهاب. هل تجد أكثر من ذلك عفة وحفظا للكرامة؟

أما صراحتها فتتضح مما كتبته في كتابيها حيث كانا صورة للصدق والصراحة حتى في أدق الأسرار العائلية، كحديثها عن عمتها الشيخة، وعن المجتمع الأبوي الذي سيطر على ذلك البيت الأثري القديم الذي عاشت فيه هي والأسرة الممتدة من الأعمام وأبنائهم وأحفادهم.

حياة فدوى حافلة بالمفارقات
من المحطات الفريدة في حياة فدوى أن هذه الحياة كانت حافلة بالمفارقات، فالموت يمنحها شهادة ميلاد، والحب يحرمها من تحقيق ذاتها عبر التعليم، القبضة الحديدية أكثر فائدة لها من اليد الحريرية؛ من الطبيعي أن يتساءل القارئ العزيز عن تفسير لهذا القول الذي يعتبر بالنسبة له لغزا محيرا. وله علينا أن نشرح الأمر:

الموت يمنحها شهادة الميلاد:
في عام 1950 كان عليها استصدار جواز سفر وهذا يلزمه شهادة ميلاد، لكنها لا تملك هذه الشهادة فماذا تفعل؟
اتجهت إلى أمها فهي الأكثر معرفة بذلك التاريخ، قالت لها أمها " أنا أدلك على مصدر موثوق يمكنك به التيقن من عام ميلادك: فحين استشهد ابن عمي كامل عسقلان كنت في الشهر السابع من الحمل." ضحكت وقالت لأمها دليني على قبر ابن عمك كامل. فلم يبق أمامي إلا أن استخرج شهادة ميلادي من شاهدة القبر، ذهبت في صباح اليوم التالي مع والدتها إلى قبر كامل لتجد أنه استشهد عام 1917، هذا هو العام الذي ولدت به، ولكن في أي شهر كان مولدها؟ وتسأل أمها فتقول لها " كنت يومها أطهي "عكوب" هذه شهادة ميلادك الوحيدة التي أحملها.. لقد نسيت الشهر والسنة. ولا أذكر إلا أنني بدأت أشعر بآلام المخاض وأنا أنظف أكواز العكوب من أشواكها" ، وهذا نبات يظهر فيما بين شهر شباط ونيسان، تقول فدوى "بكل ما أحمل من طبيعة النزوع إلى الغيبيات، رحت أستطلع وأبحث عن السمات الخاصة بمواليد بروج هذه الأشهر الثلاثة: وجدت أن سمات مواليد برج الحوت –من 20 شباط إلى 20 آذار – تنطبق بشكل غريب على طباعي وميولي. ووضعت نفسي في برج الحوت.
أما المفارقة الثانية فتتمثل بالحب ذلك العاطفة السامية التي ظلت فدوى متعطشة لإشباعها بكل صنوفها، من حب أبوي، لحب أخوي، لحب الذكر لأنثاها، وحين ابتسمت لها الحياة ووجدت من يهتم بها ويتابع خطوها في الذهاب والإياب، ذلك الشاب المراهق الذي لم يتجاوز السادسة عشرة من العمر يرسل لها بفله ملفوفة بورقة، أرسلها لها مع طفل، ولمّا كان بيتها يقع في شارع السوق شاهد أحد التجار متابعة الفتى لها وإرساله الزهرة لها فوشى لأخيها يوسف، ويوسف شاب مراهق يحاول فرض سيطرته لإثبات رجولته، دخل البيت مناديا عليها وسألها عن الفتى فأجابته بكل صدق إنه صبحي! قال لها لو لم تقولي الصدق لقتلتك. والآن يحظر عليك الخروج من البيت إلا للقبر.
بذا يكون يوسف قد وضع العقبة الأولى أمام فدوى، حرمها من المدرسة وحرّم عليها الخروج من البيت، لم يحاول أيٌّ من أفراد العائلة تغيير هذا القرار الصارم، ظلت في البيت عدة أيام تساعد أمها في أعمال البيت، إلى أن كان صباح أحد الأيام حيث عاد والدها ووجدها في البيت، سأل أمها لماذا لم تذهب هذه البنت إلى المدرسة؟ فقالت له مشاكل البنات هذه الأيام كثيرة ومن الأفضل بقاؤها في البيت. اكتفى بهذا التبرير ولم يحاول الاعتراض عليه.
حتّى إبراهيم -أكثر أخوتها حنوا عليها- لم يحاول إلغاء هذا القرار، واكتفى بأن يعوضها عن ذلك بتعليمها الشعر.
هكذا تحول الحب إلى لعنة؛ لكنّها - رغم ما سببه لها من آلام وتغيير لمسيرة حياتها - ظلّت تعيش على ذكراه وتسعد به، ، وظلت تعتبره الحب الحقيقي الوحيد في حياتها.
ثم هي نفسها تلك الفتاة المتعطشة لمحبة الآخرين واهتمامهم بها تُطلب للزواج فتعزف عنه وتعتبر الحبيب مجرد باعث لقصيدة تكتبها فيه.
وفي مفارقة ثالثة يأتي نشر إحدى قصائدها بحماس من يوسف ذلك الأخ المتسلّط الذي حكم عليها بالإقامة الجبرية، وعمد إلى زعزعة ثقتها بنفسها، هو نفسه يأخذ منها قصيدة للشعوب هبة ويعرضها على الشاعر عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) الذي ينشرها باسم فدوى فتفاجأ بها.

أعمالـها :
من صور الإبداع التي منحت فدوى قوة البقاء في الساحة الأدبية أنها جعلت الكلمة المنثورة تتعاضد مع الكلمة المنظومة في رسم صورة لحياتها، مما جعل سيرتها سواء على مستوى الذات الفردية، أم الجمعية تمتد عبر تسعة دواوين وكتابين تشرح فيهما سيرتها الشخصية، والأنثوية والوطنية.هذه الأعمال هي:

رحلة جبلية رحلة صعبة
الرحلة الأصعب
الديوان الأول: وحدي مع الأيام 1952م
الثاني: وجدتها 1957م
الثالث: أعطنا حبّا 1960م
الرابع: أمام الباب المغلق 1967م
الخامس: الليل والفرسان 1969م
السادس: على قمة الدنيا وحيدا 1973م
السابع: تموز والشيء الآخر 1989م
الثامن: اللحن الأخير 2000م
التاسع: ويضم ثلاثين قصيدة كتبت قبل الديوان الأول جمعها الدكتور يوسف بكار في كتاب يحمل اسم الرحلة المنسية وذلك لأنها لم تنشر من قصائده الثلاثين سوى قصيدتين نشرتهما في ديوانها الأول وهما: قصيدة سمو وظلت تحمل نفس الاسم، وقصيدة للشعوب هبة وأعادتها تحت اسم بعد الكارثة.

تكريمها:
كرّمت فدوى في حياتها، واهتمت بها معظم المحافل الأدبية عربية وغربية ومنحت العديد من الجوائز منها:
جائزة الزيتونة الفضية لحوض البحر الأبيض المتوسط- باليرمو- إيطاليا 1978م
جائزة عرار السنوية للشعر، رابطة الكتّاب الأردنيين –عمان 1983م
جائزة سلطان العويس من الإمارات العربية المتحدة 1989م
وسام القدس من منظمة التحرير الفلسطينية 1990م
جائزة المهرجان العالمي للكتابات المعاصرة، ساليرنو – إيطاليا
جائزة البابطين للإبداع الشعري، الكويت 1994م
وسام الاستحقاق الثقافي التونسي، تونس 1996م
جائزة كفاكس للشعر، أثينا – اليونان
جائزة الآداب، منظمة التحرير الفلسطينية 1997م
الدكتوراة الفخرية من جامعة النجاح الوطنية بنابلس، وكانت أكثر الجوائز تأثيرا في نفسها وإيثارا على قلبها.
كما كرّمت بعد وفاتها بدءا من تناولها عبر أقلام كبار الكتاب والنقاد العرب والأجانب، ثم السهرات الثقافية التي أقيمت على مائدة أدب فدوى، وحتّى حفلات التأبين التي غزا فيها أدب فدوى عددا كبيرا من المدن والقرى الفلسطينية والعربية في الداخل والخارج، أهمها حفل تأبين أقامته جامعة النجاح الوطنية بتاريخ 24/2/2004م ليصدر عنه كتاب يتحدث عن حياتها ويحمل شهادات لعدد من أصدقاء الشاعرة ومحبيها والمهتمين بأدبها.

سلام الله عليك يا فدوى، سلام عليك وأنت الصخرة الصلبة التي تحطمت عليها صخور البشر .

---------------------------------------------------------------
هوامـش
[1] الأعمال الكاملة، فدوى طوقان، أمام الباب المغلق:339.
[2] الأعمال الكاملة، فدوى طوقان، أمام الباب المغلق:341.
[3] سورة النور، آية 35.
[4] الأعمال الكاملة، فدوى طوقان، أمام الباب المغلق:340.
[5] الأعمال الكاملة، فدوى طوقان، مرثية الفارس:466.
[6] سورة ق، الآيات :28 –30.
[7] الأعمال الكاملة، فدوى طوقان، رجوع إلى البحر: 300 - 301.
[8] سورة الحجر، آية :45 -46.
[9] الأعمال الكاملة، فدوى طوقان، في المدينة الهرمة:448.
[10] الكتاب المقدس، سفر إرميا، الإصحاح 14 :1096. إلا أن هناك تحريف حيث إن الآية الصحيحة " فقال الرب لي بالكذب يتنبأ الأنبياء باسمي "، الآية رقم 14.
[11] السابق، آية 23 : 1101، إلا أن هذه الآية وردت بـ(هأنذا) بدلاً من (ها أنا).
[12] الأعمال الكاملة، فدوى طوقان، مرثية الفارس:467.
[13] بموته خفت حدّة المواجهات وسارت في طريق المصالحة.
[14] الأعمال الكاملة، فدوى طوقان، نار ونار:78.
[15] الأعمال الكاملة، فدوى طوقان، نبوءة العرافة:462-463.
[16] الأعمال الكاملة، فدوى طوقان، من صور الاحتلال:408 -409.
[17] الأعمال الكاملة، فدوى طوقان، من صور الاحتلال الصهيوني-آهات أمام شباك التصاريح:408.
[18] الأعمال الكاملة، فدوى طوقان، حكاية أخرى أمام شباك التصاريح:534.
[19] أشكال التناص، أحمد مجاهد :8.
[20] السابق:394.
[21] المعلقات العشر – دراسة ونصوص، فوزي عطوي، الشركة اللبنانية للكتاب – بيروت، 1969م :24.
[22] الشعر العربي المعاصر، د.عز الدين إسماعيل، المكتبة الأكاديمية – القاهرة، 1992م :26.
[23] التناص في نماذج من الشعر العربي، د.موسى ربايعة :35.
[24] الأعمال الكاملة، فدوى طوقان، مرثية الفارس:467-468.
[25] الأعمال الكاملة، فدوى طوقان، شهداء الانتفاضة:540 –541.
[26] تاريخ الأمم والملوك، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ج6، دار سويدان – بيروت، 1384هـ/1964م :203.
[27] المثاقفة الإليوتية، خلدون الشمعة، مجلة فصول، مج15، ع3، خريف 1996م :121.
[28] العهد الجديد، رسالة بطرس الثانية، الإصحاح الثاني، آية 15 :598.
[29] الأعمال الكاملة، فدوى طوقان، الى السيد المسيح في عيده:386.
[30] العهد الجديد، سفر مرقس، الإصحاح الثاني عشر، الآيتان 7 –8 : 119 –120. تنويه ورد في نص الشاعرة ( أخرجوه من الكرم).
[31] أنظر تفسير إنجيل مرقس، :248 –250.
[32] العهد الجديد، سفر لوقا، الاصحاح 22 ، آية 42 :214.
[33] انظر تفسير انجيل متى : 433 .
[34] الأعمال الكاملة، فدوى طوقان، مطاردة:497.
[35] تقول الشاعرة : إن مقابلتها لديان كانت بناء على توصية من رجالات الوطن، ولم يكن تصرف فردي منها، ومع ذلك لم يدافعوا عنها حين اتهمها الشاعر معين بسيسو بالتطبيع ( في مقابلة شخصية مع الباحثة ) .
[36] العهد الجديد، سفر يوحنا، الاصحاح 19، الآيات 28-30 :286.
[37] اللحن الأخير، فدوى طوقان، حلم:67-68.
[38] الأعمال الكاملة، فدوى طوقان، حرية شعب:428.
[39] ديوان أحمد شوقي، مداخلة وتحقيق د.إميل . كبا، ج2، دار الجيل – بيروت، 1995م :379.
[40] الأعمال الكاملة، فدوى طوقان، بعد الكارثة:109.
[41] ديوان أحمد شوقي، د. إميل. أ. كبا:379.
[42] ديوان إيليا أبو ماضي – شاعر المهجر الأكبر، دراسة الشاعر زهير ميرزا، دار العودة –بيروت :363.
[43] الأعمال الكاملة، فدوى طوقان، خريف ومساء:12.
[44] ديوان إيليا، دراسة زهير ميرزا :522.
[45] الأعمال الكاملة، فدوى طوقان، الشاعرة والفراشة:14.
[46] ديوان إيليا أبو ماضي، دراسة زهير ميرزا :191.
[47] الأعمال الكاملة، فدوى طوقان، في ضباب التأمل:49.
[48] رحلة جبلية، 95-96.
[49] رحلة جبلية، 100.
[50] رحلة جبلية، 9.
[51] السابق، نفسه.
[52] رحلة جبلية، 10.
[53] ) السابق، 11.
[54] ) رحلة جبلية، 99.

 

 

 

 

أرشيـف الموقـع

 

 

 

 

فتيحة إبراهيم صرصور

fis2020@hotmail.com

جماليـــات

إضــــــاءات

حــوارات مقـــــــالات تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

 

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.