جماليـــات

إضــــــاءات

حــوارات مقـــــــالات تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

 

 
 
 

ابحث في الموقـع

 

 

 

 

 

حسام الدين نوالي

" تاك.. تِك.." ضد عقارب الساعة (وقصص أخرى)

قصص قصيرة

 

" تاك.. تِك.." ضد عقارب الساعة (وقصص أخرى)

حسام الدين نوالي

 

" تاك.. تِك.." ضد عقارب الساعة

كان الوقت ثخينا يتحرك ببطء، فيما صور كثيرة وأحيانا غير مكتملة تعبر داخل رأسه و تغادر بسرعة: أيام الانتظار لترحيلهم إلى الشرق، زيارته لمدن الرمال الجنوبية.. وصديقه الذي يناديه "الضب" حين يرتدي زيّه العسكري.. وفاة زوجته وابنته في نفس العام، ثم انتظار الحفيد الأول بعد تقاعده، والحزن الذي احتلّه حين مات الجنين في بطن أمّه..

حفيدته الوحيدة في الخامسة، وجهها مدور صغير، وعيناها واسعتان جدا، فيما يبدو جسدها الضئيل رهيباً... تقلّصت حدقتاه وتمتم ما يشبه صلاةً..

"الآن، مرت خمس وثلاثون سنة ونيف على الحرب القذرة، وما تبقى: محنة إشعاع وحطام داخلي.. وخواء." ظل هادئا، وحرك رأسه: "الحرب لم تنته.. مازالت.. وننقلها للقادمين.."

في الصباح، خرج من البيت، سار إلى ساحة وسط المدينة، خطّ على الأرض دائرة كبيرة، وبدأ يدور سائرا على الخط عكس اتجاه عقارب الساعة، ببطء كما لو يقلد مشي حيوان ضخم عجوز، يرتّل نشيدا حزينا، ويحمل لافتة صغيرة، في أقصى يمينها علامة تعجّب، وفي أقصى يسارها ثلاث نقط أفقية، وبينهما فراغ.. كان ملفِتا وغريبا في الساحة، وكان العابرون يلتفتون إليه، يبتسمون.. ثم ينصرفون...

حين عاد في المساء كان متعبا، وكانت وخزات كثيرة مؤلمة تقرص باطن قدميه، أكل قليلا، فتمدّد ونام..

وفي اليوم الموالي، كان هناك على الخط منذ الصباح، عكس اتجاه عقارب الساعة يدور، ويرتّل.. وكان سعيدا..

مرّ يومان، فانضم إليه أطفال في الساحة، وبفرح كانوا يرددون النشيد الحزين.. ومرّة توقّف شاب وشابة، فنظرا إلى الحلقة مدّة، دندنا بإيقاع النشيد وتحدّثا معا لحظة ثم اندفعا ـ يدا في يد ـ ودخلا إلى الدائرة...

بعد أسابيع صارت الدائرة تكبر، وسرّه أنها أضحت تتواصل ـ في خطوات بطيئة وإيقاعية، عكس عقارب الساعة ـ حتى بعد عودته للبيت، فثمّة على مدار اليوم مناوبون.. رسموا على لوح خشبي علامة تعجب وثلاث نقط أفقية، ووضعوا اللوح في مركز الدائرة..

صارت الآن تضم أعمارا مختلفة، ومهنًا وهوايات.. بعضهم يتسلّى.. والآخرون يرددون النشيد في حزن.

?حسام الدين نوالي

مطاردة

كان الوقت عصرا حين وقفت ذات الضفيرة تدق جرس الدار.

أطلّت امرأة في ستينات العمر من نافذة المنزل المقابل.

ـ يا بنيّة.. أهل هذه الدار رحلوا

وجمت البنت. وطأطأت رأسها لحظة فركضت، ثم توقفت كمن تذكّر شيئا. والتفتت. كانت المرأة ما تزال في النافذة تنظر إليها.

صاحت ذات الضفيرة:

ـ إنهم أهلي.. وأهلي يرحلون دوما قبل العصر حتى لا يباغتهم المساء (...).

عودوا غداً

اتسعت دائرة الحضور المتحلق وكبرت، يغمرها خليط الصمت والرهبة.. واتسعت الحدقات مأهولة بالحيرة والانتظار.. كانت مقاطع الحكي موقنة بالسر والسحر، فيما الأبصار المشدودة تهتاج وتتلهّف..

قال الراوي:

(... أيها الكرام.. ها قد وصل بعد ثلاثة أيام مدفوعا بقوة خفية، ومنشداًّ للآتي المبهم، توقف عند منتصف النفق وراح يتأمل.. ثمة مفتاحان وبابان، أحدهما معتم ومحمي، والآخر عتبة العبور الكثيف.. وعليه أن يختار.. أما نحن ـ أيها الكرام ـ فيجمل بنا الافتراق الآن، وسنواصل، فقط عودوا غدا..)

طوى الشيخ الملتحي لبدته وأدخل رجليه في البلغة الصفراء مستعجلا، لمّ الأوراق القديمة الملفوفة والمشدودة بخيط، ثم وضعها مع الأقلام والدواة في كيس، ووضع الكيس داخل محفظة جلدية كبيرة.

بعض الرجال ظلوا واقفين، ربما مشدودين للسحر نفسه.. الآخرون تفرقوا...

أنا اقتربت منه..

كانت ما تزال هناك لحظات قبيل رفع الأذان، وعليّ بعد الصلاة أن أسوي بعض الأمور المستعجلة، وسلسلة الأعمال الصغيرة الروتينية، لآخذ بعد ذلك قسطا من الراحة..

قلت:

"أرجوك.. أمامي الكثير من العمل.. وغدا قد أرحل.. ربما عند الفجر..ولن أكون هنا.. لذا جئت إليك لأني أريد أن ألج الباب الثاني.. العتبة الكثيفة..."

لم يرفع بصره إليّ. ظلّ تفكيره مركّزا، فصمتُّ..

سوّى أغراضه في محفظة الجلد الكبيرة انطلق.. لم يلتفت، وكان يسرع في المسير.

لن تموت وحيدا

"لا يصح للمرء الادعاء بشرف وضمير

بأن الموت نقيض الحياة"

راينر ماريا ريلكه

فرش ورقة الجريدة على الأرض، وضع الكيس البلاستيكي قبالته وجلس. أسند ظهره لشجرة الخروب. التفت خلفه. ثمّ عاد يحدق في البنايات المكدسة عبر شريط أفقي طويل..

لشجرة الخروب على التلة الصخرية سحر خاص، ربما لوحدتها الغامضة وسط هذا الفراغ الموحش جوار المقبرة، أو ربما لشكل أغصانها الممتدة مثل يد عجوز جافّة بمئات الأصابع، يبدو فيها الجذع كساعد هرم تهدّل جلده، وبرزت عروقه خطوطا موحشة...

كسرت الصمتَ حوله كوكبة تحمل تابوتا أبيض اللون تتجه لناحية المقبرة.

ـ لا إله إلا الله

ـ محمد رسول الله...

"لا بد أن الفقيد من أقصى الهامش ـ فكّرـ ، محروم ، وحيد، عاش قذرا؛ فالمشيعون بالكاد يتجاوزون الثمانية."

وضع الكيس البلاستيكي على ورقة الجريدة، ووضع عليهما حجرة صغيرة، واتجه عبر منحدر التلة نحو المقبرة؛ بدت عليه ملامح حزن وأسى، كأنما يعرف المتوفى جيدا.

صلى مع الجماعة على الجسد الميت، واروه التراب، ثم رجع إلى شجرة الخروب، وجلس يتأمّل البنايات المكدّسة...

أخرج من الكيس البلاستيكي حبلا أصفر. ربط طرفه حول غصن مرتفع. شكّل عند طرفه المتدلي دائرة المشنقة. تنهد مريحا رئتيه. التفت ناحية المقبرة، كان المشيعون قد ابتعدوا. زمّ شفتيه. وضع يده على جذع الخروبة. نظر حوله.. ثم ابتعد عبر المنحدر واختفى في البنايات المكدّسة...

 

حسام الدين نوالي

anzar12@hotmail.com

 

 
 

أرشيـف الموقـع

 

 

 

حسام الدين نوالي

anzar12@hotmail.com

 

 

 

جماليـــات

إضــــــاءات

حــوارات مقـــــــالات تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

 

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.