جماليـــات

إضــــــاءات

حــوارات مقـــــــالات تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

 

 
 
 

ابحث في الموقـع

 

 

 

 

 

محمد بلال أشمـل (إسبانيـا)

الفلسفة والسـلام

خيخون - إسبانيـا 9-10-11 يوليـوز 2003

تقرير عن ملتقى

 

محمد بلال أشمل

الفلسفة والسلام خيخون- إسبانيا 9-10-11 يوليوز 2003

 

تحت عنوان "الفلسفة والسلام"، وبإشراف "مؤسسة خوستافو بوينو" Fundación Gustavo Bueno (مقرها الرئيسي في مدينة أوفييدوOviedo الإسبانية)، احتضنت مدينة "خيخون"Gijón أشغال الملتقى الثامن للفلسفة طيلة أيام ثلاثة (من تاسع يوليوز إلى الحادي عشر منه من العام الجاري)، وكان مداره على موضوع "السلام"، وما يجاوره من مواضيع ذات قرابة، مثل الحرب والدين والعنف والتعصب والتسامح. وأبرز ما ميز الملتقى هو الحضور الفعلي للفيلسوف الأستورياني المعاصر "خوستافو بوينو" Gustavo Bueno (1924-) طيلة أيامه، إذ ضمن له طابعا خاصا بحضور شخصيته، وعمق فكره، وشغبه الفلسفي المدهش؛ سواء في مناقشاته للمداخلات المقدمة للملتقى، أو في مساهمته في المائدة الافتتاحية المستديرة المنظمة بالمناسبة ، أو في محاضرته الختامية البالغة الأهمية من حيث جدة الأفكار التي طرحتها، أو ثراء النظريات التي تنادت بها .

ولقد شهد اليوم الأول من الملتقى المذكور، في فترته الصباحية، فقرة الافتتاح بتلاوة الكلمات البروتوكولية القصيرة المعهودة في مثل هذه المناسبات، ثم توزيع الوثائق والمستندات، تخللته وصلات التعارف والتلاقي بين المشاركين تمهيدا للحوار والمناظرة فيما بينهم.

ومباشرة بعد ذلك قدم المفكر الإسباني "فيليسيسيمو فالبوينا دي لافوينتي" Felicísimo Valbuena de La fuente عرضه القيم حقا حول موضوع "حرب الوسائط حول السلام" فكان فيه موفقا؛ إذ أصاب في تحليلاته المتعددة المقاربات، جوهر العلاقة بين الحرب ووسائطها. غير أن بعض إخفاقه كان في عدم تنبهه إلى أن الحرب المعاصرة، على أقل تقدير، يمكن أن تتبنى أنبل الوسائل من أجل تحقيق أحقر الغايات، مع سعي مروجيها إلى إقناع الرأي العام الدولي بمشروعيتها، ولو ِبليﱢ عنق القانون الدولي، حتى يتواءم مع مقاصدهم، وتأويل سفيه لقيم السلام العالمية، حتى يوافق أغراضهم، وابتكار أخرق لمفاهيم فلسفية وأخلاقية، حتى تبرر مخططاتهم.

أما في فترة ما بعد الزوال، فقد نظمت مائدة مستديرة حول "ديانات الكتاب" شارك فيها "باتريسيو بينيالفير" Patricio Peñalver، وخوستافو بيرينيك" Gustavo Perednik و "خوستافو بوينو" ذاته اعتبر الغرض منها إما إقامة الدليل على تسامح " الديانات" وتعصب المتدينين تارة، وإما تفاضلها من حيث التسامح أو التعصب مع نقد الموقف الديني بآليات الموقف الأنثروبولوجي. والحق أن هذه الندوة كان ينبغي أن تسمى بندوة "نقد المادية للدين"، أو "أفضلية اليهودية على باقي الأديان"، أو "الخلاص المسيحي من ويلات الحرب"، أو "المثال اليهودي للسلام"، أو "الإسلام دين الإرهاب"… وغيرها من الأسماء، إلا "ديانات الكتاب". لقد ظننا أن الندوة ستعالج موضوع السلام في الديانات الثلاث، وما يرتبط به من مفاهيم كالحرب والعنف والتطرف والإرهاب والتسامح والتعايش… فإذا بنا نفاجأ بحديث عن "مثالية اليهودية" و "البديل المسيحي للسلام" و "ضرورة الحرب باعتبارات أخلاقية على الإسلام"… وغيرها من الغرابات؛ مع كثير من الجهل بأبجديات الإسلام، إما عن قصد، أو عن غيره. فلقد ادعى "بيرينيك" أن اليهودية تقدم للعالم المتحضر نموذجا مثاليا للسلام ما أحرى بالناس اليوم اتباعه إذا هم شاؤوا التنعم بقليل من السلام والطمأنينة والحرية. ودعا العالم إلى أن ترك "إسرائيل" تصنع نموذجها بسلام دون إرباك الإرهاب الفلسطيني المدعم بالإيديولوجية الإسلامية لـحماس" و "الجهاد" و "حزب الله" وسائر الكتائب الدموية. أما "بينالفير" فقد مجد "الإيديال المسيحي" القائم على المحبة، ومن ثم على السلام؛ لأن الرب أرسل ابنه لأجل تخليص العالم من الخطيئة وفي ذلك من المحبة ما لا يتفطن له إلا كل ذي عقل سليم، على ما في ذلك من تقصد للسلام، لأن المحبة والسلام صنوان لا يفترقان. والحرب باعتبارها خطيئة الخطايا، لا يقضي عليها إلا إيمان عميق برسالة المسيح، وبمثاليته، وتضحيته التي فاقت كل تضحية. أما الأستاذ "بوينو" فقد أقر النظرية الماركسية بصدد الدين؛ مطبقا إياها على اليهودية والمسيحية والإسلام، معتبرا أن الأمر في نهاية المطاف ليس إلا محض استثمار للأوهام تقوم به الديانات لتحقيق أغراض مادية لفئة اجتماعية معينة، وأن الحل إنما يكمن في العقلانية المادية التي تتعامل مع الحرب باعتبارها واقعة مادية سوسيولوجية لها أصولها النظرية والإيديولوجية، داعيا إلى الوعي بتلك الأصول من أجل القضاء عليها من جهة، وإعداد الشروط المادية الملائمة لعدم ظهورها من جهة أخرى، ومن ثم لاستتباب السلام بجميع أنواعه ومظاهره بديلا عنها. وإذا كان الأستاذ "بوينو" مصيبا في بعض ما قال، فإنه لم يكن كذلك في كل ما قال؛ إذ فاته على سبيل المثال أن هناك من الفوارق التاريخية والعقائدية بين الديانات الكتابية ما لا يسند إقراره، وما لا يقوي اعتباره "أن الدين أفيون الشعوب" كغياب "الإكليروس" في الإسلام، وانغلاق اليهودية كدين قومي، وإمكانية أن يصير الدين "صرخة المضطهدين" أيضا كما صاغته تجربة "لاهوت التحرير" في أمريكا اللاتينية أو كما يمكن أن تصوغه تجربة "اليسار الإسلامي" في العالم العربي. إن المقصود بـ"ديانات الكتاب" هي اليهودية والمسيحية والإسلام، غير أن المائدة المستديرة المذكورة، لم تستدع ممثلا للإسلام، فيم استدعت لباقي الديانات ممثلين لها. وهكذا ظل الإسلام بلا مدافع أمام هجومات شرسة من خصومه الدينيين (بيرينيك و بينالفير) وخصومه الماديين (بوينو) لولا ما تهيأ له من "دفاع" في فقرة المناقشة من لدنا، أو من بعض المنصفين من المؤتمرين لم تغن شيئا عن فداحة الخطب؛ نظرا لاستحكام النظرة العدائية للإسلام في نفوس الحاضرين، وتمكن الادعاءات اليهودية الصهيونية من عقولهم. وإذا كنا قد استمتعنا بعمق التحليلات التي قام بها الأستاذ "بوينو" للأطر العقلية التي تحكم الدين بعامة، فإنا قد نقمنا على هذه الندوة لغياب الموضوعية عنها أولا، وحاجتها إلى "التكوين الذاتي" بصدد الإسلام ثانيا، ونقص النزاهة العلمية والأخلاقية عنها ثالثا.

وبعد الندوة المذكورة وما أعقبها من مناقشات وردود وردود على الردود، اختتم اليوم الأول من اللقاء بمحاضرة الأستاذ "خافيير نارت" Javier Nart أحب عنونتها بعنوان ذا دلالة هو "من استطاع منكم الفرار بجلده فليفعل!!" حشد فيها كثيرا من الأدلة على تفاهة "النظام الأخلاقي" الذي يسند الدعوة إلى النظام الجديد، رائيا أن الأمر ليس إلا محاولة لمحق الإنسان بأعز ما يطلبه وهو الحرية، لأن هذه الأخيرة أضحت تعلة غير مقدسة لاستعباد الناس واصطناع أنبل ما يطمحون إليه للتغرير بهم بشعارات موميائية لا حياة فيها.

أما في اليوم الثاني، فقد شهدت فترته الصباحية تقديم مجموعة من المداخلات من سائرها مداخلة الأستاذ "بيدرو إنسوا" Pedro Insua من قرطبة حول "الحرب والنزعات الإنسانية"، اعتبر فيها الأستاذ المذكور أن العلاقات الدينية السياسية بين [النبي] محمد (صلعم) و"شارلمان" كما تم عرضها من لدن "هنري بيريني" H. Pernne لم تكف عن الظهور مرة تلو الأخرى في مواقع عدة من المسرح السياسي. ويعتقد الأستاذ أن تلك العلاقات تم بعثها في سلسلة الدعم من قبل فرنسا وألمانيا إلى العراق في مجال التسلح. إن صعود الإسلام في فترة بداية الخلافة وانتشارها في شبه الجزيرة العربية إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، افترض تقسيم البحر الروماني إلى قسمين: قسم شمالي مسيحي وقسم جنوبي مسلم؛ بحيث أنه تسبب في سقوط الامبراطورية الرومانية على يد البرابرة الذين كانوا الأساس في القضاء على النسيج الامبريالي الروماني –وضمنهم [النبي] محمد (صلعم) –حين تم تقطيع وحدة البحر الأبيض المتوسط الغربي. صحيح إن الوندال كانوا يهددون الوحدة الرومانية للأبيض المتوسط، حسب أطروحة بيريني، ولكنهم "المحمديون" من سيغلقون نهائيا المنابع الثرة التي كانت تنتفع بها الامبراطورية الرومانية بالإبقاء على جهتين، واحدة مسلمة في الجنوب، والثانية مسيحية في الشمال. على إيقاع هذه العودة إلى التاريخ، وقراءة الصراعات التي دارت بين مختلف القوى السياسية والعسكرية في العالم الإسلامي والمسيحي، واعتمادا على أطروحة "بيريني"، حاول الأستاذ "إنسوا" تحليل مختلف "الأورتوغرامات" التي تمخضت عن القرن XVI كإجابة على هذا الصراع المضاعف بين القوى المذكورة، والذي سيحدد الملامح الفكرية والإنسانية لمتنوع الآراء والنظريات حول فكرة "السلام"، التي يعتقد الأستاذ "إنسوا" أنها ما تزال تؤثر سياسيا في أيامنا هذه بمناسبة حرب العراق.

أما مداخلة "رومان غرسية فيرنانديث" Roman Garcia Fernandez فقد تعرض فيها إلى "مفهوم السلام وتياراته في القرن الحادي والعشرين"، حيث ذهب إلى القول إنه باسم مفهوم السلام، أو تحت المصطلح السلمي، عادة ما يجمع ما لا نهاية من المواقف التي تبدأ بحفظ السلام بوساطة الدبابات (نظرية الردع)، أو تنتهي بالنظريات البوذية الأكثر انسجاما؛ حيث تدعو بعضها إلى عدم سحق نملة عابرة. وهذا يقتضي ضرورة القيام بتصنيف المفاهيم والمواقف السلمية، سواء تلك التي تنتمي إلى الماضي، أو هذه التي ظهرت في الحاضر.إن مفهوم السلام يشتغل باعتباره مفهوما قابلا للازدواج أو للصرف كما يقول "خوستافو بوينو". إنه مفهوم لصيق بمفهوم آخر هو مفهوم الحرب. وهذه المفاهيم شهدت تغيرات تاريخية عظيمة منذ "تحويل" مفهوم "السلام" إلى مفهوم "الحرب" حيث أصبح مفهوم السلام يقدم كما لو كان مفهوما سلبيا. وبمقتضاه يكون السلام هو غياب الحرب، كما ذهبت إلى ذلك نظريات القرن العشرين؛ التي تنطوي على القول إن النزعة السلمية تتضمن نوعا من التناقض تقطع مع فكرة الانسجام المسبق لكي تندرج في سياق الإقرار بأهمية الصراع. إن الصراع الآن هو منبع الاحتمالات، ومع ذلك فإن الأمر لا يفترض قبول العنف كوسيلة لحل الصراعات، أو على الأصح، رفض أن تكون الصراعات الحربية كذلك. ولأجل هذا، فإنه من المطلوب أن لا يكون مفهوم السلام بمثابة مفهوم "البداية"؛ ولا قطعا بمثابة مفهوم "النهاية"، على غرار اشتغال الميتافيزيقا الأرسطية، والتي وصلت تأثيراتها حتى "هيجل" و"ماركس". إن الحرب ضرورية للحديث عن السلام، ورغم ذلك فإنه من المطلوب وجود "وضع طبيعي للسلام". بيدَ أن غياب الحرب لا يقتضي غياب وضعيات صراعية أيضا، ومن ثم وجود وضع سلمي عام في النهاية. إن المفهوم البنائي والإجرائي الجديد، بعيدا عن وثوقية النزعة السلمية الأصولية، أو النزعة السلمية البرغماتية، المحددة من لدن "سكريستان" Sacristán ، تلتقي مع الإشكاليات الأخلاقية التي يطرحها القرن الحادي والعشرين، حيث تفترض كثير من الصراعات الاختفاء الفعلي للنوع البشري. من جهة أخرى، ُيظهر كثير من المحللين السلميين، أو أصحاب الاقتراحات السلمية، قدرا كبيرا من الإجرائية لأجل حل عديد من الصراعات والبحث عن أسبابها وتفسير عللها على تعثر منهم أحيانا في ملاءمة اقتراحاتهم مع طبيعة الوضع الدولي أو الإقليمي الذي تتفجر فيه تلك الصراعات.

أما محاضرة الأستاذ "إينيغو أونغاي دي فيليبي" Inigo Ongay de Felipe فقد دارت حول موضوع "الحرب والسلام وعلم سلوك الحيوان"؛ إذ ذهب إلى القول إنه ضمن المقاربة المادية الفلسفية، تظهر كلمتا "الحرب" و "السلام"، كأفكار فلسفية وليست كمفاهيم علمية. وهذا يعني في البداية أنهما يسلكان في جميع الشعاب المعرفية وينفلتان منها أيضا. ولهذا فإن النقد الفلسفي هو من له الأهلية لتنظيم تلك الشعاب المعرفية لإعادة تشييد البنيان المتعالي لفكرتي "السلام" و "الحرب". وبعيدا عن الادعاء بإعادة صياغة فكرة عامة حول ""السلام" أو "الحرب"، حاول الأستاذ "دي فليبي" الانشغال بسعي أكثر تواضعا هو القيام بنقد للمقاربات التي تناولت فكرتي "السلام" و"الحرب" ضمن مجال محدد هو مجال العلوم الاجتماعية وعلم سلوك الحيوان، منتهيا إلى نتائج تناظر في سمتها العام ما يحدث في المجتمعات الإنسانية.

أما في فترة ما بعد الزوال فقد تم تقديم مجموعة من المداخلات من بينها مداخلة الأستاذ "إيرنيستو نيري" Ernesto Nieri (من إيطاليا) حول "السلام والأمبريالية في فكر ليلو باسو"، حيث سعى صاحبها، ضمن مقاربة نقدية فلسفية وسياسية قانونية، إلى تناول فكر "ليلو باسو" Lelio Basso بصدد فكرة السلام والحرب، باعتباره أحد أبرز وجوه اليسار الإيطالي والأوروبي الذي صاغ المادة الثالثة من الدستور الإيطالي الذي بموجبه، حدد وبفعالية وبكيفية تكاد تكون شاعرية، مفهوم "التساوي المادي" في المجتمع بين المواطنين. ففي نظر الأستاذ "نيري"، لقد اعتبر "باسو" أن الإنسان شخصية في سبيلها إلى التطور والاكتمال، وليس محض موضوع للحقوق كما هو الأمر لدى الليبراليين. هذا الرأي بصدد المواطن، هو ذاته ما تم تطبيقه على فكرتي "السلام" و"الحرب". إن السلام الحقيقي في نظره، هو تلك المرحلة التي يستطيع العمال فيها القضاء على أي عائق يحول دون تطور شخصيتهم الإنسانية؛ إذ السلام في نظره ليس "فيتيشيا"، كما هو الأمر عليه لدى بعض "المتسالمين" في أيامنا، بل هو مرحلة ينبغي إدراكها بوساطة الصراع والتخفيف من قساوة الشغل. ويرى الأستاذ "نيري" أن إعادة النظر في فكر "باسو" ضروري في أيامنا لتعرية وفضح دعوة "بوش" ضد الديكتاتوريات، والتي هي في الحقيقة لعبة تخفي آليات امبريالية أكثر بشاعة من سابقاتها، وأكثر جنونا من النزعة المتسالمة التي تفضل الصراخ بشعارات فارغة من العمل، على بلورة مفاهيم وتصورات حول السلام، متحولة في نهاية المطاف إلى حليف طبيعي للإمبريالية.

وأما في اليوم الثالث والأخير، فقد تم تقديم سلسلة من المداخلات في الفترة الصباحية وما بعد الزوال، حيث عرض الأستاذ "فيليبي خيمينيث بيريز" Felipe Giménez Pérez موضوعا حول "المادية والسلام" زعم فيه أن جملة التصورات السائدة حول "السلام" تسير على "رأسها"، ومحاولته تسعى إلى جعلها تسير على "رجليها" فالرجل يرى أن السلام هو الاستراحة الضرورية بين حربين، و لا ينبغي لنا التفكير في السلام كما لو أنه، جوهريا، منفصل عن الحرب ومختلف معها. ليس هناك نظام سياسي وديبلوماسي للعلاقات بين الدول، ونظام عسكري. إن الحرب امتداد للسياسة بوسائط مغايرة. وفي العلاقات الدولية، هناك صيغتان اثنتان: صيغة السفير وصيغة المحارب، و كلاهما ضروريان. إن الحرب شكل من العلاقة بين دولتين، وأمام التصور السياسي المثالي للعلاقات بين الدول، يوجد التصور السياسي المادي، المدعو عادة بالتصور السياسي الواقعي، وبمقتضاه لا صلة للعلاقات الدولية لا بالأخلاق ولا بالحق بل بالمصلحة الوطنية الخاصة، أو بالمصلحة الأنانية المقدسة. إن مصلحة الدول هي فوق أية مصلحة، سواء كانت أخلاقية أو حقوقية أو ما شابه. وإذا كانت المبادئ المطلقة غير موجودة في نظر المادية، فهي أيضا غير موجودة في الحياة السياسية والاجتماعية بين الدول، وفي السياسة الداخلية، بل وفي السياسة الخارجية التي لها الأولوية على السياسة الداخلية. ولهذا فلا وجود بالمطلق للسلام كغياب للصراع. واختتم الأستاذ "خيمينيث" مداخلته بكون السلام محض كذبة كبيرة وليس علينا أن نصدقها حتى لا نمسك عن العمل من أجل إيقاف الحرب.

أما عرض الأستاذ "خواكين روبليس لوبث" Joaquin Robles López (مرسية) فقد تناول موضوعا حول "فكرة السلام في السياق العلمي"؛ عالج فيه مفاهيم السلام في مختلف السياقات العلمية، كالبيولوجيا، وعلم سلوك الحيوانات، والأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا، والتحليل النفسي، مبينا قصور كل واحدة من تلك العلوم أثناء معالجتها الخاصة لهذا الأمر، ومبرهنا، في نفس الوقت، كم يقوم كل تحليل سياسي للسلام بخلط ثمار تلك العلوم متجاهلا حدودها، أو امتياز بعضها على الأخرى، وكيف يصبح، من ثم، خطابا إيديولوجيا غير فلسفي مشوب بكثير من النقائص. كما قام الأستاذ "لوبز" بتحليل الأفكار الأساسية والفرعية لمفهوم السلام كأفكار ملائمة من الناحية السياسية لغايات إنسانية.

أما عرض الأستاذ" أنطونيو مونيوث باييستا" Antonio Muñoz Ballesta ( مرسية) فقد كان حول "الهدنة: نقد واقعي ومادي للحرب وللسلام". فانطلاقا من الموضوعية التاريخية والسياسية، وانطلاقا من إعادة النظر المادية للفكر الفلسفي لـ"ماكيافيلي"، و "هوبز"، و" بالطازار أيالا"، و"سبينوزا" و" هيجل" و "كلاوسيفيتش"، و "كارل سميث"، و "رايمون أرون"، و "سيجموند فرويد"، و "فرانسيسكو خافيير كوندي"، و "ألفارو دورس"، و "ماشك"، و "خيرونيمو مولينا"، وأمام مثالية "كانط" و "بوبيو" وغيرهم، تتحدد من بين أشياء أخرى، جملة من الأطروحات، أولاها أن الحرب والسلام فكرتان تنتميان للفلسفة السياسية أو لما هو سياسي، وليس لفروع أخرى للفلسفة، مثل الأخلاق أو الميتافيزيقا. وثانيها، يتعلق بأفكار تخرج من رحم تعارضات مفاهيم متعددة للعنف والنظام، كما هي شغالة في ميادين مختلفة للمجتمع والدين والتقنية والعلم والقانون الدولي… إلخ. وثالثها أنهما فكرتان تظهران دائما إما كمفاهيم مقترنة بعضها ببعض، أو يظهر فيها السلام كمفهوم حدودي. رابعا إن "الحرب" و"السلام" أفكار تظهر لنا كما نفهمها حاليا، كما لو أنها تترتب عن فكرة "الأمة السياسية"، ومرتبطة بـ"الدول الحديثة". خامسا إنه من منطلق المادية الفلسفية، يتم تصنيف المفاهيم السابقة للحروب السياسية إلى حروب قذرة، وجهاد، وحروب البترول، وحروب المخدرات، وحروب عادلة، وإرهاب، وحرب شاملة. سادسا، إنه من المطلوب إعادة بناء الليبرالية الحقيقية على أساس أفكار "السلام" و"الحرب"، وعلى َعمدِ الفلسفات المعاصرة المتمحورة حول فكرة "الديموقراطية"، كما هو الشأن لدى "هابرماز"، و"هيلر" وغيرهما.

أما في فترة ما بعد الزوال من نفس اليوم فقد تليت مجموعة من المداخلات من سائرها مداخلة الأستاذ "إليسيو رابادان فيرنانديث" Eliseo Rabadán Fernández ( من قنطبرية) حول "وقع حرب الإمبرياليات على السياسة والاقتصاد داخل سياق السلام الأمريكي"، حيث حاول فيها تحليل الوضع السياسي الدولي على ضوء النظرية السانطيكتيكية للسلطة السياسية، مع اعتماد أبحاث الاقتصادي "ميشيل شوسودوفسكي" Michel Chossudovsky كمرجعية في الموضوع؛ والتي تعتبر أن البحث عن جوهر الصراع في السلطة السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية يقتضي، في الوقت الحاضر عدم الذهول عن حقيقة المواجهة القائمة بين المحور العسكري الأنجلوأمريكي، والمحورالعسكري الفرنسي الألماني داخل ما يسميه الأستاذ "رابضان" بـ"السلام الأمريكي" الذي لا ينطوي على ملامح اقتصادية وجيواستراتيجية فقط، بل حتى على ملامح عسكرية تقتضي منا تحليلها انطلاقا من الزاوية السياسية. ويرى الأستاذ "رابضان" أنه لتحقيق ذلك، لا تكفي المقاربة المورفولوجية للنظرية السانطاكتيكية، بل لا بد من اصطناع التحليل السيمانطيقي الذي يسعى إلى تحديد بنيات الاستراتيجيات والمخططات في لعبة العلاقات بين الدول المعنية. وعلى سبيل المثال، يضع الأستاذ "رابضان" وقع هذه الاستراتيجيات السياسية على دول وسط أمريكا والمناطق القوقازية والشرق الأوربي. ولتحقيق ذلك، يستخدم الأستاذ "رابضان" العلاقات السياسية التي يمكن أن تقيمها كل مجموعة سياسية مع أخرى، ضمن توزيع للقوى والمصالح على نواة واحدة هي الدولة العظمى، أو النواة الأساسية الفاعلة في تشغيل الصراع من أجل الهيمنة. وهذا ما يطلق عليه اسم "السلام الأمريكي". وينتهي الأستاذ "رابضان" إلى أن "السلام الأمريكي" يتطلب استعدادا فعالا للحرب الاقتصادية التي تلعب فيها السلطة السياسية دورا عظيما.

أما مداخلة الأستاذ "ميغيل أنخيل إيانييز" Miguel Angel Iáñez فقد تمحورت حول "الحرب كصفقة اقتصادية دولية" حاول فيها الأستاذ "إيانييز" تقديم مدى أهمية أن يكون لبلد غير ديموقراطي -بكيفية جذرية- مثل الولايات المتحدة الأمريكية، ترسانة عسكرية و اقتصادية. إن هذه الترسانة لا يمكن أن تكون غامضة من حيث أدوارها وغاياتها مثل غموض الأسباب النهائية والماقبل النهائية للأزمة الاقتصادية للنظام الرأسمالي المتعدد الجنسيات. ومن ثم فإن تقديم أسباب من طبيعة دينية - هي في الواقع غير كذلك- لـ" استغفال" الرأي العام الدولي ليس مبررا بعد. بل ليس هو كذلك حتى من زاوية جنائية مثل ما هو حال الذين يتصرفون في المصائر السياسية والاقتصادية للناس بكيفية جنونية، أكثر من الديكتاتوريات التي ظهرت من قبل. هناك أكثر من مؤشر على كيفية أن ""الجشع" اليانكي عرف كيف يقيم مشاريع مع "السخاء" العربي. وهكذا فهناك أكثر من دليل على وجود العلاقات المالية بين "آل بن لادن" و "آل بوش"، على الأقل منذ 1958. أيضا من المعروف كيف نشأت الميليشيات المتطرفة الأصولية الإرهابية العربية داخل الحرم الجامعي اليانكي. ومع ذلك فمنذ مدة، فإنا نصاب بأكثر من ارتباك لما نجد كيف أن النزعة التبسيطية الأكثر رجعية وإجرامية تمضي إلى تمويه هذه الدلائل بتهمة معاداة السامية.

أما مداخلة الأستاذ "طوماس غرسية لوبث" Tomás Garcia López ( من مجريط) فقد تمحورت حول "السلام الدائم للحاضر"، حيث يرى الأستاذ "غرسية لوبز" أنه انطلاقا من مراجعة تاريخية سريعة للمؤلف الكانطي "السلام الدائم"، فإن مداخلته سعت إلى تحليل نقدي للآراء الحالية حول السلام بمناسبة حرب العراق؛ التي ظهرت في وسائل الإعلام خلال شهور فبراير ومارس وأبريل، أي خلال شهور الإعداد والتخطيط والاستغلال لهذه الحرب، وأيضا خلال شهر ماي شهر "الورود" الذي اختلطت فيه بإسبانيا، الدعوات إلى السلام الدائم مع عيد العمال وزيارة البابا ذات البعد السلمي والإكليروسي. في هذه المداخلة قدم الأستاذ "غرسية" جهازا تحليليا يصبح فيه مفهوم "السلام" ونقيضه مفهوم "الحرب"، مفهومين متأملين كما لو كانا مفهومان مزدوجان مرتبطان بدورهما بمفاهيم أخرى مرتبطة ومزدوجة أيضا مثل مفاهيم الإنسان/ المجتمع، الحرية/ السلطة، التسامح/ اللاتسامح… حيث يمكن تحصيل كثير من المواقف الإيديولوجية المتعلقة بالسلام من خلال وصلها وفصلها، ومن ثم المضي إلى تصنيف تلك الآراء المذكورة وإصدار حكم مناسب عليها.

وعقب المداخلات السابقة، فسح المجال لفقرة المستجدات التي تم فيها الإخبار بالملتقى الفلسفي الذي سينعقد في مرسية أيام 10، 11 و 12 سبتمبر المقبل حول "الفلسفة والجسد". وكانت فقرة الاختتام من نصيب الأستاذ "خوستافو بوينو" G. Bueno الذي ألقى خلالها محاضرة مطولة عنونها بـ"العولمة والحرب"، طرح فيها ما يمكن عده "البيان الفلسفي للعولمة" مع شطح منه كثير عن حقيقة الحال، ولا سيما فيما يتعلق بدعوته إلى"استئصال" الجذور الأساسية للإرهاب من الإسلام دون أن يبينها ولا أن يسميها.

ويشار إلى أن فترة المناقشة التي كانت تعقب كل محاضرة أو عرض، كانت من الحدة والقوة ما يغيب فيها العقل، وتحضر فيها الأهواء، وتنشط داخلها النزعات العرقية، و تطأطئ برأسها الانتماءات الدينية. وقد راجت في هذا الملتقى من الترهات والأكاذيب والادعاءات حول العرب والمسلمين ودينهم بخاصة ما لا تطيقه النفس، وما لا يحتمله العقل حتى من غير أن يكون الواحد منتميا إلى القدر التاريخي للأمة العربية الإسلامية، إذ تهيأت له أقساط قليلة من الموضوعية والإنصاف؛ لأن الأمر يتعلق بأخطاء في العقيدة، وسوء فهم للفقه، وتأويل مغرض للتاريخ، وجهل مروع بأبسط أصول الدرس الأنثروبولوجي مما لا تليق برجال العلم عامة، فبالأحرى برجال الفلسفة. غير أن ما شفع للملتقى المذكور، وغطى على آفاته، وخفف من ثقل هفواته- على الأقل في نظرنا- حلاوة التفلسف التي ذقناها، والجمالية الرمزية والروحية التي استعذبناها للمكان الذي جرى فيه (كنيسة قديمة)؛ إذ ساقتنا إلى أحوال ومقامات عقلية ووجدانية قلما تتحقق إلا بحضرة فلاسفة كبار من طراز الأستاذ "خوستافو بوينو"، الذي عزز انطباعنا عنه بأنه "فيلسوف مشاغب"، حمل الكثيرين على الغضب منه لما كان يصر على نقد ما اعتبروه من المسلمات مثل "اليسار" و "التقدم" و" التسامح" و "التعصب" و "الحوار" و "الإرهاب" و "العولمة" و "الذاكرة الجماعية"… وغيرها من المفاهيم التي جمد الفهم فيها، حسب رأيه،على نتف مكرورة من "الكليشيهات"، واستقر الفكر فيها على فتات يابسة من "المسلمات" لا تغني عن العمل ولا عن العقل شيئا. والحق أن الأستاذ "بوينو" حملنا على الإعجاب من جدة الأفكار التي طرحها، والأزمات العقلية التي فجرها بعصبية المفكر الغيور على الحقيقة، ولكن أيضا بحكمة الفيلسوف الصادق في حكمته.

وإجمالا يمكن القول إن الملتقى الثامن حول "الفلسفة والسلام" المنعقد في "خيخون"، كان ملتقى للحرب بالمعنى الفعلي؛ إذا اعتبرنا صراع الأفكار، وقتال الأهواء، وملتقى للسلام بالمعنى الإرادي إذا اعتبرنا روح السلام والرغبة في التعايش السلمي. أما الفلسفة في خضم كل ذلك فلم نر إلا أن الأستاذ "خوستافو بوينو" وفاها حقها، وأخلص لمبدئها، فاقتدر على أن يضع المقدمات النظرية الأولى لفلسفة السلام، ويشيد بحكمته سلام الفلسفة، أما غيره فكانوا في وادي الأهواء يهيمون.

محمد بلال أشمل

خيخون- إسبانيا

achmobi@yahoo.es

 

 
 

أرشيـف الموقـع

 

 

محمد بلال أشمـل

achmobi@yahoo.es

 

 

 

جماليـــات

إضــــــاءات

حــوارات مقـــــــالات تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

 

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.