جماليـــات

إضــــــاءات

حــوارات مقـــــــالات تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

 

 
 
 

ابحث في الموقـع

 

 

 

 

 

ياسر منجـي (المغـرب)

" نوار " يغازل " أرتيميدوروس " من مشربية (روح الحضارة).

دراسـة

 

" نوار " يغازل " أرتيميدوروس " من مشربية ( روح الحضارة ) .

ياسر منجـي

 

" نوار " يغازل " أرتيميدوروس " من مشربية ( روح الحضارة ) .

_______________

طقوس العبور : التكاثف الحضاري و مفتاح الشخصية :

المتتبع لمسيرة كفاح الفنان " أحمد نوار " ( مواليد 1945 ) ، لا يلبث أن يقع على واحدة من أهم الخصائص المميزة لهذا الفنان العاشق للمخاطرة ، المفتون بتذليل الصعاب .

هذه الخصيصة يمكن التساهل بشأنها على مستوى البلورة اللغوية ، فيمكنك ببساطة أن تسميها : ( تحدي الذات ) ، إلا أن سبر الأغوار [ النوارية ] على مستوى تحليل الأعمال ، جنبا إلى جنب مع تصيد بوارق الدلالات في سيرته الشخصية ينذر بالصعاب و يطرح جانبا كل محاولة نزقة تهدف للتبسيط .

و طبقا " للعقاد " في عبقرياته حينما طرح مفهوم ( مفتاح الشخصية ) ، فإن لكل شخصية من عباقرة التاريخ خصلة هي بمثابة مفتاح لمغاليق هذه الشخصية ، و مناط لكل ما يصدر عنها و ينتسج على منوالها من بدوات و أفعال ، و لو كانت مستغلقة على الإيضاح مستعصية على المحاولات الأولية للفهم .

و مفتاح شخصية " نوار " كما أفهمه من خلال تتبعي لسيرة حياته و تحليلي لمناطق التحولات المفصلية – خاصة فيما يتعلق باختياراته المصيرية – فضلا عن أسلوبه الفني و ما طرأ عليه من تقلبات صياغية ، كل ذلك إنما يكمن – في اعتقادي – في تلك الخصلة السالفة الذكر ( تحدي الذات ) ، " فنوار " هو من ذلك الصنف من المبدعين الرافضين لسلطة ( الاعتيادي ) و الناقمين على الرضوخ ( للمتوقع ) و الخارجين على قانون ( السائد ) ، الساعين دوما إلى طرق أبواب المجهول و المباغت و الصعب من الخيارات ، و في ذلك الصدد فإنني أراه أقرب ما يكون شبها بالبطل " الكسندر اليخين " Alexander Alekhin * ( 1892- 1946 ) بطل العالم الأسطوري في تاريخ الشطرنج في إصراره التام على انتزاع الفوز من خلال أسلوب مهاري معجز ، ضاربا عرض الحائط في العديد من أدواره بالقواعد التقليدية و منحيا جانبا الأساليب المتواترة ، مجبرا خصمه على النزال في أرض مجهولة غير قياسية بحيث تكون الكلمة الفاصلة لجلاء البصيرة .

و من أظهر الاختيارات التي تجلت فيها هذه الصفة [ النوارية ] و لعلها تكون أول هذه الاختيارات المصيرية في ذات الوقت ، اختياره لموضوع مشروع تخرجه . فكما كان فحول شعراء العرب يتحدون بعضهم بعضا بقصائد على نفس الوزن و الروي و القافية و الموضوع فيما عرف بالمعارضات الشعرية ، اختار " نوار " أن [ يعارض ] فحول عباقرة النهضة في واحد من أصعب و أعقد موضوعاتهم الأثيرة ( يوم الحساب ) ، مركزا بالتحديد على معارضة " ميكل آنجلو " الرهيب بمساحة صرحية غير اعتيادية 10م طولا ، 275سم ارتفاعا . و إمعانا في التحدي أبى إلا أن يغزل وشيه على مسام هذا الصرح بسنون أقلام الرصاص ، متحديا الوقت المتاح للإنجاز و مستبدلا قوانين المساحة التصويرية لعجينة اللون بعنفوان الخط الجرافيكي و مقصيا الوهج اللوني بإحلال سلم التدرج المونوتوني لنغمات الرمادي المنبسطة ما بين ( أبيض الورقة ) و ( أسود 6B ) .

· " ألكسندر ألكسندروفيتش أليخين " : روسي الأصل فرنسي الجنسية حصل على درجة الدكتوراه في القانون ، حصل على بطولة العالم عام 1927 و دافع عن لقبه ضد عدد كبير من الأساتذة التاريخيين في فن الشطرنج من أشهرهم " بوجوليوبوف " . أثر إدمانه للكحول على موهبته الفذة قليلا مما سهل انتزاع اللقب منه على يد الهولندي " ماكس إيوي " عام 1935 بفارق نقطة واحدة ، إلا أن هذه الهزيمة أظهرت بوضوح معدن المقاتل " إليخين " حيث أقلع عن الخمر و التدخين نهائيا و مارس الألعاب الرياضية مستعيدا اللقب عام 1937 و محتفظا به حتى وفاته . كان شطرنجيا بمعنى الكلمة ، دائم العكوف على تطوير أسلوبه لدرجة أن الشطرنج قد وجد مفتوحا بجواره عند وفاته ، أطلقوا عليه في الغرب لقب ( الإسكندر الأكبر اليخين ) Alexander The Great Alekhin .

وربما تكون فترة خدمته العسكرية خلال واحدة من أصعب الحروب في تاريخ مصر الحديث ( حرب الاستنزاف ) خير دليل على تمسكه في أحلك المواقف بطبيعته المتحدية ، ففي الوقت الذي صبغت فيه النكسة بظلالها أرواح الشباب بتجاعيد اليأس و الشعور بالعبثية ، كان هو يبذل الحد الأقصى من الجهد في سبيل أن يظل مميزا و في الطليعة من الأفراد القلائل ذوي الإنجازات المشار إليها خلال تلك الفترة الحالكة ، و ليكتسب شهرته كقناص أسطوري .

و كإداري مسئول ، اكتسب خلال فترة رئاسته لقطاع الفنون التشكيلية صيتا ذائعا كبناء لا يعرف الكلل ، باعثا القطاع من حالة مغمورة متردية إلى حيز نشاط غير مسبوق ، رابطا إياه بفعاليات الإعلام من جهة و بالإفراز المتواتر من جهود شباب النخبة من خريجي الكليات الفنية من جهة أخرى ، حتى صار في حكم المؤكد أن جهود " نوار " لا تعرف سقفا .

و كأنما كان " نوار " يستعيد ( طقوس العبور ) لدى الثقافات القديمة ، حين كانت العشيرة تدفع بشبابها الذين ناهزوا مرحلة الرجولة نحو اختبارات عسيرة بعضها شديد الخطورة ، بهدف إكسابهم شرعية الانتماء إلى صف المحاربين المنافحين عن وجود العشيرة و المطلعين على أسرارها ، فتكون عين التحقق هي ذاتها عين المعاناة .

و ربما يكون [ التكاثف الحضاري ] – و هو ذاته الذي يرمي بظلاله على اختياره لعنوان معرضه الأخير ( روح الحضارة ) – بوصفه أميز السمات التي تصبغ أسلوبه الفني ، علامة أخرى على إمعانه في ( تحدي الذات ) ، فالمتتبع لإنتاج " نوار " الفني عبر مشواره الطويل يخرج بمنظومة رمزية من المفردات التي يؤثر دمجها ضمن الكل البنائي لأعماله ، منها : الطائر ، البطل الشهيد ، النجمة الثمانية بتنويعاتها ، الهرم ، المنظومة الإلكترونية ، و غيرها من المفردات التي تنتمي كل مجموعة منها إلى نسق حضاري مستقل بذاته على المستوى الزمني إلا أنه متقاطع مع سوابقه و لواحقه على المستوى التاريخي و الجغرافي بالانتماء في فترة من الفترات إلى الهوية المصرية وريثة الكم الأكبر من حضارات العالم .

فلا تلبث هذه المفردات أن تتحول إلى دور ( العامل ) في نظريات النحو العربي ، فتحيل إلى محمولات اكثر تعقيدا على المستوى الرمزي بما يومئ إليه من رصيد أسطوري كثيف واسع الدلالة . فتحدي نوار لذاته هنا يتعدى المستوى الصياغي و التقني إلى تحد من نوع مزدوج ، فمن ناحية تأتي صعوبة إلقاء الذات في خضم هذا الكم المتلاطم من مفردات التراث للخروج بجديد مبهر من لبنات قد تكون مألوفة لدى العين ( الاعتيادية ) فما تلبث

( عين الصقر القناص ) أن تحيلها إلى نظام مكتف بذاته قادر على انتزاع الدهشة لجدته و طرافته . و من جهة أخرى تلك القدرة الواعية على الإفلات من الوقوع في براثن الحضور الكاسح لهذه النظم الحضارية و التي قد تستحيل أدوات هدم شرسة إذا ما شرعت في استخدامها يد غير فطنة ، مما يودي بجهود كثير من أنصاف الموهوبين الذين يستترون بعباءة الغوص في باطن التراث .

و إحالته في معرضه الأخير إلى واحد من أعمق نواتج التراث الفنية و أكثرها شهرة على المستوى العالمي و أغزرها تحليلا على المستويات الأسلوبية و التقنية و الرمزية على السواء – ألا و هي وجوه الفيوم الشهيرة – ربما يفصح بجلاء عن مدى جرأة " نوار " في تطويع موضوع شهير لدرجة أن الذهن الاعتيادي لا يجرؤ على مجرد التفكير في تناول مثل هذا الموضوع الذي أصبح في حكم الثوابت التي قصاراها العون على استنباط الدلالات و إضافة رافد للزيارة المتحفية .

إلا أن الذات [ النوارية ] المفتونة باستدعاء الحد الأقصى من الصعاب أمام نفسها أبت إلا أن تتسنم ذروة الخطر ، فكان أن سبقت له محاولة في هذا الصدد تناول فيها ذات الموضوع من خلال مجموعة من أعمال الرسم بالحبر الصيني عرضت ضمن معرض بمجمع الفنون بالزمالك عام 2000 .

ثم ها هو يعيد تمثلها تصويريا من خلال معرضه الحالي بقاعة الزمالك للفنون .

ما باغتني حقا هو استمرار ذلك الوجود المتكاثف المتعدد المستويات للمفردات البصرية التي قد ينتمي كل منها إلى نسق حضاري مغاير إلا أنها لا تلبث بتأثير موهبة طاغية أن تستحيل إلى منظومة متناغمة من وجود ( عياني ) متسق قادر على الحضور ( بالفعل ) بعد أن كان مستعصيا حتى على التشكل ( بالإمكان ) كما يقول الاصطلاح الفلسفي للمتكلمين العرب .

إلا أن المستعصي على النسيان ، تمثل في واحدة من لوحات المعرض – و أتصور أن هذه اللوحة جديرة بتحليل استقصائي في دراسة مستقلة – لا أعتقد أن الصدفة كانت من وراء اختيارها أيقونة دالة لملصق المعرض . فها هي إحدى جميلات كنز الفيوم قد نضت عن روائها الذاهب لفائف الأكفان ، طالة من مشربية بنائية لمساحات محبوكة بعناية صارمة ، تؤطرها في فراغ سديمي لتنويعات تنويمية لنواتج الأزرق و الأسود . و أبى الحضور الشفيف لطائر " نوار " إلا أن يعير أحد جناحيه لكتف الغادة الحسناء ، هل هو " هيبنوس " إله النوم ذي الجناح الواحد و شقيق " ثاناتوس " إله النوم لدى الإغريق ؟ أم هو التراث العالمي الذي كرس رمزية الجناح في العديد من ثقافاته للدلالة على معاني الروح بما تشمله من مكابدات و أشواق الرحلة الأبدية عبر مغاليق الزمن ما بين عالمي الحياة و الموت ؟

ثم ما تلبث ( غادة الفيوم ) أن تتماهى مع شرقية و مصرية ( بنت البلد ) في أحد عصورها الرومانسية فتستعير لثامها ( برقعا ) يكرس ( اليشمك ) الهرمي المقلوب ، مانعا البوح بسر الخلود من خلف أستار الأبدية ، ربما ليوقظ ذلك الأسى القديم و اللوعة التي ما زالت جمرتها حاضرة تحت رماد السنين الآلاف ، حين عمد زوج إحدى السيدات اللاتي عثرت على مومياواتهن بالفيوم إلى تسجيل لواعج الفراق في جملة واحدة خطها أسفل القناع الجنائزي على وجه المومياء : ( وداعا أرتيميدوروس ) .

و لكن ، ها هي " أرتيميدوروس " تستيقظ كطائر " فينيكس " ، نافضة عن رفاتها غبار الحقب السالفة و مستعيدة روائها القديم ، سامحة " لنوار " أن يتغزل في مفاتنها من خلال مشربية ( روح الحضارة ) .

ياسر منجي

القاهرة في 3/6/2005

 

 
 

أرشيـف الموقـع

 

 

 

ياسر منجي

lucifer_yass@yahoo.com

 

 

 

جماليـــات

إضــــــاءات

حــوارات مقـــــــالات تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

 

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.