جماليـــات

إضــــــاءات

حــوارات مقـــــــالات تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

 

 
 
 

ابحث في الموقـع

 

 

 

 

 

صابر الحباشة (تونـس)

أبو نواس ماداحا

مقاربة نصيـة

دراسـة

 

أبو نُواس مادحا: مقاربة نصّية
صابر الحباشة - تونس

 


 
من الخطير الانطلاق من حكم مسبق في تناول شخصية أدبية ما، فيكون "تحليل النص" قائما على الإسقاط و التقويل، حتى أنه يفقد صفة التحليل بما هي عملية أقرب ما يكون إلى الاختبار والتجريب العلميين، فالمسلمات الشائعة تفضي إلى استخراج ما يتلاءم مع فحواها، وكأن النص ليس له من قيمة إلا أن يكون منصوبا للإذعان لتلك الأحكام وللتدليل على وجاهتها، من هذه الأحكام ما يعرف عن أبي نواس من تشعيه للخمرة وانغماسه فيها والإفراط في الانتصار لها، مما ذهب ببعضهم إلى نفي صفة الشعرية عن أغلب نصوصه غير الخمرية وتحديدا إلى إكساب قصائده المدحية سمة الزيف والتكلف والمغالطة، ومثل هذه الآراء تنطلق من اعتبارات غير نصيّّة غالبا لذلك يسهل الاعتراض عليها وذلك بكشف احتيالها و اعتسافها عبر مقاربة النصوص مقاربة منهجية تنطلق من النص نفسه لتستخرج منه الحكم النقديّ ولا تسلّط الحكم النقدي الجاهز في تمحّل وتمحّك.
 
ولمقاربة هذه المسألة من زاوية عملية تطبيقية، نقترح شرحا للنّصّ الموالي لأبي نواس مأخوذ من ديوانه بتحقيق أحمد عبد المجيد الغزالي من الصفحتين 468 و469.
  1-
النّصّ
ظِلُّ جَنَاحِهِ (أبو نواس(
لِمَنْ طَلَلٌ لَمْ أَشْجُهُ وشَجَانِي
               
و هاج الهوى أَوْهاجُه لأوانِ
َبلََى فَازْدَهَتْنِي للصِّبَا أَرْيَحِيَّةٌ
                     
يَمانيَّةٌ إنَّ السماحَ يماني
ولَوْ شِئْتُ قَدْ دَارَتْ بِذِي قَرْقَلٍ يَدِي
           
من اللمس –إلاّ من يَدَيَّ- حَصانِ
ولكنَّنِي عاهدْتُ مَنْ لاَ أَخُونُهُ
                   
فأيَّ وَفِيٍّ - يا يَزِيدُ- تَرَانِي
وَخَرقٍ يُجِلُّ الكأْسَ عنْ مَنْطِقِ الخَنَا
                       
ويُنْزِلُهَا مِنْهُ بِكُلِّ مَكَانِ
ترَاهُ لِمَا سَاءَ النَّدَامَى ابْنَ علّةٍ
                   
ولِلشَّيْءِ لذُّوهُ رضِيعَ لَبَانِ
إذ هو لقَّى الكأسَ يُمْنَاهُ خانَهُ
                 
أَمَاوِيتُ فيها وارتعاشُ بَنَانِ
تمَنَّعتُ مِنه ثمَّ أَقْصَرَ باطِلِي
             
وَصمَّمتُ كالجَارِي بغير عِنَانِ
وعنسٍ كَمرْدَاِة القذَافِ ابتذلتُها
               
لبِكْرٍ منَ الحَاجَاتِ أو لِعَوَانِ
فلمَّا قَضَتْ نفْسِي مِنَ السَّيْرِ ما قَضَتْ
               
على ما ابتلت من شدَّةٍ وَليَانِ
أخذْتُ بحَبْلٍ مِنْ حِبَالِ مُحَمَّدِ
                   
أمِنْتُ به مِنْ نائبِ الحَدَثَانِ
تغطَّيْتُ مِنْ دَهْرِي بِظِلِّ جناحِهِ
             
فعيْنِي ترى دهري وليس يراني
لو تسأل الأيام ما اسمي لمَا دَرَتْ
             
و أين مكانِي مَا عرفْنَ مَكَانِي
يذِلُّ صِعَابَ المُشْكِلاَتِ مُحَمَّدٌ
                   
فأصبح ممدوحا بكلِّ لِسَانِ
يجِلُّ عن التشبيه جُودُ مُحَمَّدٍ
                   
إذا مَرِحَتْ كَفَّاهُ بِالهَطَلاَنِ
فكفُّكَ معروفُ السَّمَاءِ وكفُّهُ
                 
تجُودُ بسحِّ العرْفِ كُلَّ أوانِ
فإن شبَّتِ الحرْبُ العَوَانُ سَمَا لها
               
بصوْلَةِ ليْثٍ في مَضَاءِ سِنَانِ
فلا أحَدٌ أسْخَى بمُهْجَةِ نفسِهِ
               
على الموت منه والقَنَا مُتَدَانِ
خَلَفْتَ أبَا عُثْمَانَ فِي كُلِّ صَالِحٍ
                 
وأقسَمْت لا يبنِي بِنَاءَكَ ثََانِ

أبو نواس (الديوان) تحقيق عبد المجيد الغزالي ص-468 و469.
شرح الألفاظ
  1/
لم أشْجُهُ: لم أحزنه، أَوْهَاجُه: جمع وهَج: الشدّة والتوقّد
  2/
أزهدتني: أسخفتني، أريحية: الارتياح للندى والجود، السماح: الكرم
  3/
القرقل: قميص وفي لسان العرب "ضرب من الثياب، وقيل هو ثوب بغير كُمَّيْن.
قال أبو تراب القرقل قميص من قمص النساء بلا لبنة وجمع قراقل".
  5/
خرف: كريم، سخيّ
  6/
ابن علّة: ابن ضرة
  7/
أمَاوِيت: جمع أمات وأموت وأمات وكلها جمع أمت والأمت الضعف والوهن،
فأماويت جمع الجمع.
  9/
العنس: الناقة القوية، مرداة القذاف: الخشبة التي تقذف بها السفينة.
  17/
العَوَان: الحرب التي قوتل فيها مرة بعد مرة.
2-
التحليل
التقديم
 
هذه قصيدة نونية تقع في تسعة عشر بيتا نظمها على البحر الطويل أبو نواس
واسمه الكامل الحسن بن هانئ الحكمي أحد فحول شعراء العرب وُلد بالأهواز تقريبا
عام 130هـ أو 145هـ وتُوُفِّيَ حواليْ سنة 198هـ، اتّصل بوالبة بن الحباب
اتصالا مُزريا وتأثَّر به كثيرا، قرّبه هارون الرشيد وكان نديما للأمين، مدحَ
الرشيدَ والأمينَ والبرامكةَ والفضلَ ابنَ الربيعِ وأبناءَه والخصيبَ وأهمّ ما
في شعر أبي نواس أبياتُه التي حاول فيها أن يُضارع الوليد بن يزيد، بعديّ بن
زيد- بطريق غير مباشر ذلك أنّه اتخذهما راعيا له.
(...)
ومدائحه التي تبدو فيها الصنعة بوضوح قليلةُ القيمةِ بعكس مراثيه التي نجد فيها عاطفة عميقة وفَنًّا مؤثّرا يجعلنا نغتفر بعض ما فيها من نقائص تختلف فيها عن الأسلوب والمبالغة المعهوديْن في الشرق"، هذا رأي محرّر مادة أبي نواس في دائرة المعارف الإسلامية، أمّا طه حسين فيقول إنّه "إنّما مدح الخلفاء والوزراء والأمراء ليتّخذ مدحهم وسيلة إلى مدح الخمر، أو قُلْ ليتّخذَ مدحهم وسيلة إلى شرب الخمر والاستمتاع بها وبما يستتبع من اللذات.(...)"
...
فماهي خصوصيات شعر المدح في القرن الثاني للهجرة ممثلا في شخص أبي نواس شاعرا وفي هذا النص قصيدة؟
2-
تقسيم النّصّ :
 
لقد خضعت هذه القصيدة على مستوى البنية الخارجية إلى التقسيم الثلاثي التقليدي في قصائد المدح الرسمية والمرجح أن تكون قيلت في محمد الأمين ابن هارون الرشيد في فترة خلافته التي امتدت بين 193هـ و197هـ.
  1/
القسم الأول: من البيت(1) إلى البيت (2) وهو قسم ذاتي فيه ذكر سريع للطلل في بيت واحد ثم إنشاء مقدمة خمرية محشوة بمعان فخرية كما هي تمهد لقسم المدح تمهيدا.
  2/
القسم الثاني: مداره على البيتين (9) و(10) وهو قصير غير متكافئ كميا مع القسمين الآخرين ويتعلق بذكر الرحلة ووصف الراحلة.
  3/
القسم الثالث: يمتد من البيت (11) وهو بيت التخلص إلى البيت (19) أي إلى نهاية القصيدة وهو القسم المدحيّ.
3-
التحليل:
    (
ب1) ذكر الشاعر في البيت الأول الطلل لا يقف عنده وقفة مطولة مشوبة بالتذكار والحنين، بل هي وقفة عجلَى سرعان ما تحول عنها متبعا هذا البيت الوحيد الفريد بمقطع في وصف مشهد خمري توسع في ذكر أحد نداماه يتميز بالتخرُّق في البذل عليه وعليهم. فالطالع الطلليّ قد ورد في قالب إنشائي يتمثل في أسلوب الاستفهام الإنكاري، كما حضر الأسلوب الخبري عبر النفي و الإثبات ممّا يفيد التردّد والتذبذب فهذه المراوحة في البيت ذاته بين أسلوبي الإنشاء والخبر واعتماد النفي والإثبات متواليين، إنّما هي علامة على نفور أبي نواس من الإغراق
في العوالم الطللية الموحية بالوحشة والشدّة وانصرافه عنها إلى عوالم الخمرة الطافحة أُنسا وليونة وترفا.
 
وقد عجّل الشاعر مغادرته هذه الأجواء الطللية البائسة (في نظره)، بحيث أنّه لم يُعْنَ لا بتحديد المكان ولا بتخصيص الزمان فقد أورد الإطار الزماني والمكاني خلوا من التعريف أو التوضيح، فهذا الإطلاق عبر التنكير (طلل- أوان( يفيد التجاهل والإعراض، في حين يفيد تفصيل القول وتدقيقه في سائر أبيات المقدمة العناية البالغة والاهتمام الشديد.
 
فضلا عن أنّ التكرار في إعادة الجذور (و.هـ.ج)، كان دون فضل معنى أو زيادة بيان اللهمّ إلاّ ترسيخ معنى النفور وتثبيته في أذهان السامعين وقد احتال لذلك بالتكرار وبقرع أسماعهم بالحروف الشجرية (ش/ج) (وقد وردا 6 مرات فهذا الاندفاع وهذه الحماسة في خدمة الأغراض الرسمية لا سيّما المدح يوافق فيهما أبو نواس الشعراء السابقين له في هذا المضمار وقد اقتفى أثارهم فنظم القصيدة على بحر
رصين هو الطويل موظّفا قوّة الإيقاع (باعتماد الحرف الحلقية (هـ/ء)) مع اعتماد التوازي بين المصراعين أي أن المطلع قد جاء مصرعا كما جعل العروض والضرب مشبعين بالنون المكسورة مما يعمّق تطريب السامعين وإشجاءهم.
 
فقد ازدوجت في هذا البيت رغبة الشاعر في إرضاء الذوق الكلاسيكيّ الذي اعتاد المقدمات الطللية فواتح للقصائد المدحية، وإرادته العدول عن هذا المسلك بالتصرّف في هذا السَّنَن التقليديّ المتوخّى عادة في المدح، لذلك حضرت المقدّمة الطللية في هذه القصيدة مختزلة إلى حدّ الابتسار في بيت واحد، وهذا التصرف الكمي معبر في حد ذاته عن موقف الشاعر الذي يحاول التوفيق بين تصوّره الشخصي لبنية المِدْحَة وبين السُّنَن المرتضاة السائدة إنشاء وتقبّلا عصرئذ.
  (
ب2) ثم يَضرب أبو نواس الذكر صفحا عن الطلل منتقلا عبر أداة التصديق (بلى) المقدمة الحقيقية التي عقدها لوصف عناصر مجلس أُنس خمريّ انطلق فيها من آثار الخمرة الحسنة على شاربيها، فهي راحٌ تُريح النفوس لما يقترن بمعاقرتها من بذل المال والإنفاق على اللذة، فكأنّ حالة الانتعاش التي بعثتها الخمرة في الشاعر قد اشتركت مع زمان مستعاد عبر الخيال هو زمان "جهل الفتوة واللهو" أي الصبا، في استحصال نشوة عارمة جعلت الشاعر يفخر بنفسه ولا سيما بانتمائه إلى
اليمن فهو- كما هو معروف- مولى للجراح بن عبد الله الحكمي الذي انحدر من سعد العشيرة، القبيلة العربية الجنوبية.
  (
ب3) ويعمد أبو نواس في البيت الثالث إلى طرح افتراض ممتنع وذلك باستعمال حرف الشرط (لو) ويتعلّق هذا الافتراض من الوهمي بمعنى افتخار الشاعر بإتيان النساء وقد جعل كلامه عليهن كناية (ذو قرقل) مجازية نقلت فيها صفة المرأة إلى المذكّر.
  (
ب4) يتضافر في البيت الرابع أسلوبَا الاستدراك في الصدر والاستفهام
الإنكاري في العجز، تثبيتا لخصلة الوفاء عند الشاعر ويتكثف إيغال أبي نواس في الإيهام بمصداقية ما يُخبر به عن نفسه بأنْ جعلنا ونديمَه (يزيد) شهودا نصدّق ما وسَمَ به نفسَهُ من وفاء وذلك باستحضار نديمه عبر النداء.
  (
ب5) ينتقل الشاعر في البيت الخامس على وصف النديم ملتفتا (إذ يتحدّث عنه بضمير "هو" وقد كان اتخذه في (ب4) مخاطبا أي استعمل له ضمنيا ضمير "أنت") وقد استعمل أبو نواس واوَ رُبَّ التي تُفيد التعظيم وقد أضمر الموصوفَ (النديم  وحضرت عنه الصفة، فهو متخرِّق في البذل، مُحْتَفٍ بالخمرة أيّما احتفاء، إذ يجعل من بدنه لها مستودعا أمينا ، كما ينزهها عن الاصطدام بالفحش والبذاءة (ذلك أنّ الفم والشفتين تستقبل الخمر وهي كذلك تنطق بالكلام) فمجلس الخمرة  من المهابة والجلال بحيث يحرم فيه قول السوء (وهذا معنى جاهلي يتمثل في مقابلة
إهلاك المال بحفظ العِرْض).
  (
ب6) ويصف أبو نواس نديمه في البيت السادس بأنّه يساعد سائر الندامى ويقف سدا منيعا أمام كل ما يسوؤُهم راعيا لهم، حفيظا على كلّ ما يشكِّل متعتَهم ولذّتَهم، وقد استعار الشاعر له صورتي [ابن الضرّة] كنايةً عن العداوة الشديدة لكلّ ما يسوؤُهم و[رضيع لَبان] كنايةً عن حُسن القيام بلذائذهم وخدمتها في تفانٍ.
  (
ب7+ ب8) يواصل أبو نواس في البيت السابع وصف النديم معتمدا مظهرا آخر في الوصف يتمثل في إصراره على إرغام الشاعر على احتساء الخمرة (لقَّى فلانًا الشيءَ: طرحه إليه فالنديم يرتعش من فرط السكر ولكنه يلحّ في أن يواصل الشاعرُ الشربَ حتّى أنّ امتناعه بطُل وصار لاغيًا فلا بُدَّ له ولا مناص من الرضوخ لإرادة النديم القاسرة  (وزن الفعل "لقَّى" يفيد معنى الإرغام، و لعلّه يذكّرنا بضرب من المحاكاة الساخرة لاستعمال قرآنيّ في غير هذا السياق،هو قوله
تعالى:﴿و ما يُلقّاها إلاّ الذين صبروا و ما يُلقّاها إلاّ ذو حظّ
عظيم﴾سورة فُصّلت، الآية 35 ).
القسم الثاني (الرحلة(
  (
ب9+ ب10) يخصّص الشاعر لقسم الرحلة بيتين فحسب وقد انتقل إليه باعتماد واو رُبَّ، فاختصر القول على الراحلة فهي قويّة تشبه في صلابتها ومتانتها الخشبة التي تقذف بها السفينة، وهي راحلة مقتدرة على قضاء حاجات الشاعر سواء المستجدّة منها أو المعتادة المتكرّرة.
 
ويشير أبو نواس إلى المسير إلى الممدوح ومشقّته (وهذا معنى باهت شاحب لم يَرْقَ إلى ما أنجزه الجاهليون في هذا السياق(

.القسم الثالث: (المدح(
  (
ب11) ينتقل الشاعر مُسرعا إلى الغرض عبر الإشارة إلى وصوله إلى الممدوح الذي جعله كائنا حاميا قد بسط صِلاَتِه للنّاس (ومنهم الشاعر) يجَنِّبُهُمْ بها نوائبَ الدهر ومصائبَهُ وفي ذلك تمهيدٌ للمعاني المدحية المنتشرة في كامل القسم )العقل- الجود- البأس- النسب)
.

  )ب12+ ب13) يصوِّر أبو نواس في بيت القصيد (ب12) ممدوحَه في صورة طائر يغطّي الشاعر بظِلِّ جناحه من الدهر حتى أن الشاعر متنعما بالظل الظليل، يرى دهره ودهره ليس يراه، وفي ذلك قمّة الاعتراف للممدوح وذُروة الاعتزاز به في آن:
فصورة الممدوح طائرا هي استعارة دلالتها الحافّة العلُوُّ والارتفاع والقوة ثمّ إنّ لجوء الشاعر إليه باعتباره مكانا أمينا أكسبه قدسية الحرم وجلله بمهابة المشعر الحرام. وقد وظّف الشاعر الصورةَ ذاتها على نحوين: نحوٍ يُفيد اعترافَه بمِنَّة الممدوح عليه كما بيَّنَّا، ونحوٍ ينصرف فيه عن الاستخذاء والمهانة (المفترضين في علاقة الإجارة) إلى علاقة انصهار رحمي إذ انتماء الشاعر للممدوح يُشاكل التحامَ الفِرَاخِ بأمّهاتها من الطير، فضلا عن أنّ عبارة "الظّلِّ " تنضَحُ بالدلالة الإيجابية الناجمة عن المجال التداوليّ للثقافة العربية الإسلامية ، كما جاء في القرآن:﴿و اخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة﴾(سورة الإسراء، الآية24)، أو في الحديث:(سَبْعٌ يُظِلُّهُم الله بظلِّه يومَ لا ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ... (الحديث) (حديث شريف). فالظلُّ يعني الأمان والطمأنينة وكذلك العطف والرحمة.
 
وتبدو صورة الشاعر في العجز يختلس النظر إلى الدهر، والدهر عنه عَمٍ، فهو يُدرك الدهرَ والدهرُ لا يُدركُه ممّا يجعل صورةَ الشاعر تفارق الوجود المادّيَّ المحسوس لتلتبس بالوجود الميتافيزيقي الإلهي الخارق، فضلا عما في ذلك من تشف من الدهر وهو عدو لِلَذّات الشاعر ومتعه لدود.
 
فكأنّ الظِّلَّ أصبح رِدَاءً يقِي الشاعرَ من عيون الدهر (أي مصائبه) بل إنّ عينَ الشاعر (وهي كناية عن سائر الحواسِّ فهي أجلُّها وأشرفُها) –بواسطة الممدوح- أصبحت مُغلَّبة على حدَثان الدهر وقد وجد أبو نواس في ممدوحه الحماية والدفء والراحة واللِّوَاذَ.
  (
ب13) ويواصل الشاعر جدلية الخفاء والتجلّي في البيت الثالث عشرَ، فهو رقيب على الدهر والأيّام، أمّا هي فلا تستطيع إليه سبيلا، فهو محتجب في مكان يصرف عنه السوء بأسره وقد امّحت جميع القرائن التي يمكن أن تُوقِع به فليس له جسمٌ يحتويه مكانٌ و لا اسمٌ ينطِق به لسانٌ، وفي ذلك كناية لا عن خمولِ ذِكره بل عن شدّة امتناعه عن الأيّام واستحالة قبضِها عليه، فضلا عن إصابته بسوء أو مكروه، فهو عندها في مقام المعدوم.
  (
ب14) ويمدح أبو نواس ممدوحَه برجاحة العقل وصلابة التفكير وحصافته، فهو يقتدر على إيجاد الحلول لكل ما يعرض من مشاكل مما استوجب اعتراف الناس له بالفضل فطفقوا يكيلون له المدائح وضروب الشكر.
  (
ب15) ويصف الشاعر الممدوح بشدة الجود والكرم حتى لا يضاهيَهُ مُضَاهٍ، فلا يجد واصفوه من يُضارعه في بذله، فهو ليس له شبيهٌ ولا نظير وقد استعمل صورة مائية تتمثّل في هطول المطر تجعل جودَ الممدوح غزيرا مدرارا كالغيث.
  (
ب16) ويستدرك الشاعر استدراكا معنويا في (البيت 16) إذ غيث السماء قد ينحبس أو هو متباعد الأوقات، في حين أنّ جود الممدوح لا يتوقّف عن السَّيَلان، فكأنَّ النفع والخير لم يعودا متّخذين الغيث نموذجا أعلى لهما، بل لقد تفوَّقَ جود الممدوح (الإنسان) على جود الطبيعة (الغيث) وفي ذلك مغالاة وتناهٍ في المدح، وضربٌ من التشبيه المقلوب.
   (
ب17) وينتقل أبو نواس من المدح أثناء السِّلم (ب14- 15- 16) إلى المدح عند الحرب (ب17) فالممدوح شجاع يلقي بنفسه كالأسد في أَتُونِ الحرب العَوَان وهي أشدّ الحروب.
  (
ب18) ويلبس الشاعر معنى البأس معنى الكرم، فهو قد جعل إقدام ممدوحه على الحرب وعدم تهيُّبه لها نوعا من التكرم والبذل هو أعزُّ وأندرُ لأنّه ليس بذلا للمال وهو مخلوف، بل هو بذل للنفس وهو ما لا يكون إلاّ مرّة واحدة، وهنا يُلمع إلى معنى الشهادة إذ الحرب متعلّقة بأعداء الإسلام (خارجين أو داخليين) غير أنّ الشاعر قد أطلق ذكر الحرب إطلاقا تهويلا لها وتعظيما.
  (
ب19) يكِنُّ أبو نواس لأبي الممدوح تعظيما له وتوقيرا وجعل خلافة ابنه له تامّة الشروط وفي هذا نوع من المدح السياسيّ، فهو كأبيه يعرف مواطن الصلاح فيأتيها ويُعْرض عن الفساد على أن للممدوح فضلَ إحسان يتمثل في أنّه متوحِّد في ما يأتيه من أعمال حسان (كنّى عنها بالبناء) مما يجعل مضاهاتها أمرا ميؤوسا منه، فقد آلى الممدوح على نفسه أن يبلُغَ في ما يصنع من أعمال الخير والبِرِّ والصلاح، الغايةَ و المُنتهى، فكأنّه ذو حافز أخلاقيّ ووازع دينيّ باطنيّ يقودانه و يجعلانه يبلغ أقصى حالات الكمال الإنساني
.

 

 
 

أرشيـف الموقـع

 

 

 

صابر الحباشة

saberh778@hotmail.com

 

 

 

جماليـــات

إضــــــاءات

حــوارات مقـــــــالات تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

 

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.