من الصعب على القادم إلى بغداد، بعد غربة طويلة، ان يصدق
مالذي حل بشارع الرشيد او شارع النهر او غيرها من المراكز التي
كانت بمثابة قلب بغداد النابض. بنايات آيلة إلى السقوط، وأعمدة
متآكلة، وأرصفة مهدمة، لقد خاضت هذه
الاماكن حربها مع الزمن دون يد تنتشلها من قسوته. الذي يجتاز
تلك الشوارع إلى مقاهي المثقفين مرورا بسوق السراي ثم
شارع المتنبي، سيشهد أكبر هزيمة للمكان على يد الاهمال المتعمد
الذي اختطته الدولة نهجا مقابل البذخ الخرافي الذي أشادت به
القصور الرئاسية قلاعا للترف والتبذير.
يوم الجمعة يشهد أكبر تجمع للمثقفين في مقهى الشابندر بشارع
المتنبي، حيث تصطف بسطات الكتب على
الارصفة والاكشاك، عارضة بضاعة لانعرف من يشتريها. المثقفون
أنفسهم باعوا كتبهم وهم يجاهدون كي يعيشوا على الكفاف، ولكن زحام
سوق الكتب لم يخفت إلا في فترات محدودة، بينها اوقات الحرب
والغارات. فهذا السوق بين أماكن لأخرى، يلبي توقا للمعرفة لم
يخفت عند العراقيين رغم كل ما مروا به.
يوم الجمعة يتحول في مقهى الشابندر، الى مناسبة لقاء وتحاور لمن
لم يعتزل الحياة الاجتماعية، كما حال الكثير من الاسماء الادبية
المعروفة. ولكن زحام هذا المقهى يدل على ان الثقافة العراقية حتى
في سنواتها العجاف، لم تعجز عن وضع الماء في طاحونتها، وتوليد
اجيال جديدة تنتمي إلى مختلف الاختصاصات.
الذي يعود بعد إنقطاع طويل عن العراق، يجد ما يشبه المصالحة
بين المثقفين وحياتهم الشحيحة، أنهم هنا وسط الحر، وعلى تخوت
متواضعة، يتنفسون دخانا يتصاعد مع زفرات الصيف والاحاديث وتبادل
الكتب، وتناقل أخبار الثقافة والسياسة. وفي هذا المقهى تقام
المعارض أو تعقد حلقات النقاش، لكن المثقف لم يكن يجرؤ في السابق
على تجاوز حده، فهناك دائما هاجس الخوف من أعين الرقيب.
المثقفون العراقيون، يعيشون اليوم فراغا مدوخا، والكثير منهم خرج
من عزلة قاتلة تحمل في منطوياتها قصة اعتقال او فصل أو ملاحقة
أدت ببعضهم إلى رهاب يعانون فيه من الخارج، وهم يعيشون شكوكا
مبرحة وخوفا من الحديث عن الماضي أو المستقبل.
بعد عزلة طويلة مع الخارج، تأتيهم الصحافة العالمية
لتحاورهم، وتحاصرهم الفضائيات العربية لتخلق قصصها التي تحوي
الكثير من التلفيق.
تعود المعارضة العراقية ومعها مشاريعها الصحافية،
وتشرع بحركة تنافس على الاقلام والاسماء المعروفة، كلها
تخطب ودهها وتراهن على امكانياتها في تحريك مشاريعها الجديدة.
هناك أكثر من أربعين صحيفة صدرت إلى اليوم في بغداد وحدها،
والكثير من تلك الصحف أصدرها صحفيو الداخل من الذين تمتعوا
بحماية النظام ودعمه المالي. بعض تلك الصحف وريقات صغيرة تقتات
على الاشاعات سواء ضد الاميركان او أزلام النظام، وهي تراهن على
فقدان مقياس المحاسبة والنظر الموضوعي عند القاريء العراقي،
فالعراق لم يتعود على صحافة المعلومة الموثقة المرتبطة بقوانين
تضمن تداولها بنزاهة دون تحريف. بعض الصحافيين يخرجون ما بجعبتهم
من قصص مثيرة عن حياة صدام ورجاله، وتواريخ التصفيات بينهم،
وصحافة اخرى تستعيد ماضي الملوك السعيد في العراق، واخرى تمجد
ثورة تموز وزعيمها عبد الكريم قاسم. الكثير من المطبعات أقرب إلى
صحافة التابلوييد تؤرجح القاريء بين كفتين: أسرار السياسة وصور
النساء وأخبار نجوم السينما. وبعضها يقارع الاميركان بالاشاعة
والمقالات التحريضية. خليط غير متجانس لايمكن التكهن بطبيعة
القراء الذين تجذبهم. وعلى فضول العراقيين في هذه الفترة الحرجة،
وتعودهم على تقاليد مط
العة الصحف، إلا ان أكثرهم يتحايلون على هذه الرغبة برشوة بائعي
الاكشاك مقابل قراءة الصحف وقوفا.
اختبارات ثقافة مابعد صدام تظهر بوادرها في الصحافة الوليدة،
بين هامش حرية مسورة بالخوف من المجهول، وتدرب على
الافصاح عن الوجه المشرق والمنوع للثقافة العراقية.
كيف نخلق لغة جديدة غير التي اوجدتها ثقافة البروبغاندا
ومفردات الارتزاق والتكسب، هذا ما يتفق علية اكثر الكتاب الذين
يطمحون الدخول في سوق منافسة حرة بين
هامش حرية مسورة بالخوف من المجهول، وتدرب على الافصاح عن الوجه
المشرق والمنوع والثري للثقافة العراقية.
تبدو المرحلة التي مضت على قسوتها، فاصلة في عمر الثقافة،
حيث أصاب منها القمع والاغراء مقتلا، ولكنه لم يستطع اطفاء
جذوتها الكامنة تحت الرماد. في هذا السديم المدوخ لتقاطع الرؤى
والافكار والاولويات، يجد المثقفون أنفسهم في حومة البحث عن
الملفات القديمة التي أخفوها في الادراج، الكثير منهم يريد أن
يقول مالم يقدر على قوله في السابق، القصائد التي لم تنشر
والروايات التي اضطر إلى تحويرها
ومسخها كي تمر من بين يد الرقيب سالمة، الاحداث التي يريد
كتابتها عن العراق الذي كان معلقا من رجليه، والافكار التي
أرقته، والخوف الذي سكنه والكرب والحروب التي مرت ببلده. ومع كل
عناد الثقافة العراقية وقدرتها الوصول إلى منابع الثقافة
العالمية.
غير ان المثقفين أنفسهم يتطلعون إلى عالم جديد يصلهم عبر
وسائل الاتصال الحديثة، الانترنيت الذي منع عنهم واغلقت الكثير
من مواقعه حتى عن الذين سمحت لهم السلطة بحيازته. المجلات والكتب
التي لم يسمح بوصولها إلى العراق، والكثير من الطموحات التي
يضعها المثقفون بين مصدق ومكذب لوضعه الجديد. كان الاستنساخ
والاقراص المدمجة من بين وسائلهم لتهريب ثقافة الخارج، وتجد
اليوم على بسطات الارصفة بقايا تلك الكتب التي استنسخت سرا
أوالاقراص المدمجة للافلام والكتب والقواميس.
مر
الزمن من هنا
في زحمة شارع المتنبي او مقهى الشابندر أو كاليري حوار،
لايستطيع العائد إلى بغداد التعرف على وجوه الاصدقاء، سيكون من
الصعب على من مضى زمنا طويلا في الغربة ان يحزر من من الجالسين
كان صديقه يوما قبل ان يحدق بالوجوه طويلا. فالوقت مر على الوجوه
والقامات دون رحمة. فجأة يكتشف ان الذي يقف امامه، هو نفسه الذي
كان مترجما وأديبا ومشروع مثقف من الطراز الرفيع، لم يبق منه سوى
هيكل سقطت أسنانه وأغبر شعره ورثت ثيابه. كان يهرب إلى الكحول كي
يستعيذ به من صحوة العقل، كما يقول. زرقة عينيه تحولت إلى زجاجة
دون حياة. انه فزع لايعرف هل يضحك ام يبكي بعد ان التقى
القدامى.هكذا نحدق ببعضنا غير مصدقين. ذاك المسرحي الذي نط
أمامنا وهو يبتسم بهدوء وكانه يمثل دورا لطالما اجاده طوال
الفترة المنصرمة كي يحافظ على نفسه، كان يزفر الهواء ويضحك بحزن
ويقول: هل حقا وصلتم بغداد؟ كنا غير مصدقين ان بمقدورنا العيش
إلى هذا اليوم الذي نرى فيه العراق مرة اخرى.
الصديقة التي التقيناها في مؤسسة جديدة للصحافة، قدمها احد
الزملاء فيما يشبه مفاجأة لم تخطر في البال،
كانت صحافية في عشرينياتها عندما غادرنا العراق، جميلة
ورشيقة مثل موديل، أختفى شعرها الاشقر تحت حجاب صارم وغزتها
السمنة، لم تدلنا عليها سوى عيناها التي إمتلأت بالدموع. كانت
تسرد قصة مغادرتها الكتابة مرغمة شأنها شأن الذين كسروا اقلامهم
وقبعوا في بيوتهم.
مقهى حوار يختلف عن الشابندر، فهو بيت عربي فيه جمال خاص رغم
فقره، يقع خلف معهد الفنون الجميلة،
وتتناثر طاولاته ومقاعده حول حديقة وشجيرات قليلة، وعلى
كل جدرانه وزواياه تنتشر اللوحات والتماثيل والتكوينات التي
صنعها الفنانون أو طلبة أكاديمية الفنون الجميلة.
يشهد الكاليري الملحق به، معارض متكررة للتشكيليين،
إضافة إلى الندوات والحوارات. اكثر مرتادية من الجيل
الشاب ومعظمهم من التشكيليين والمسرحيين ونرى بينهم مجموعة من
الطالبات او المشتغلات في مهنة الكتابة. ومن النادر ان ترتاد
المقاهي الادبية الكاتبات من الجيل الاكبر. انهن الان يقبعن في
بيوتهن أو يعشن مجتمعات ثقافية جد محدودة، فلم تعد حريتهن مثلما
كانت، كما يتردد بينهن. ومع ان بعض المظاهر توحي بعودة الحياة
الاجتماعية إلى الخلف، حيث زادت نسبة الحجاب بدرجة كبيرة، غير ان
المعاين لبغداد من الداخل، يجد ما يوحي بتطور غير منظور ، تطور
وجل وحذر من إستشراء الروح العسكراتارية والمد الديني الاصولي
والفقر الذي يغير الامزجة وطريقة التعامل مع النساء. في الحياة
الثقافية وحدها وخاصة تلك التي تكونت خارج توقعات السلطة وخططها،
بقي المثقفون الطليعة التي لم تخترقها افكار التخلف والمحافظة،
فهم يدركون قبل غيرهم اهمية وجود المراة كعنصر فاعل في العملية
الابداعية. في شارع المتنبي باغتني شحاذ وانا اقلب الكتب، فسمعت
شابا يطالبه الابتعاد ويقول ان امراة تشاركنا تقليب الكتب ظاهرة
نريد ان تعميمها، مع انني شاهدت بعض النساء مثلي مشغولات بالشراء
ولم يتعرض لي في الزحام رجال مثلما كنت أسمع عن حكايات الشارع
العراقي العنيف الذي لايرأف بالمرأة. كل الروايات عن العراق تبدو
مضخمة بل مشوهة، ولعل القنوات التلفزيونية العربية منها
والاجنبية، تتقصد إظهار العراق على اقبح صورة، بحثا عن الاختلاف
والغرابة.
إرث
الثقافة الصدامية
السؤال الذي يتردد بين المثقفين العراقيين اليوم، كيف بمقدور
الثقافة العراقية تجاوز الارث المبهض الذي خلفته سنوات الثقافة
الشمولية؟ وتعريف نوع هذه الثقافة وآليات عملها، يتطلب مكاشفة من
عيار مختلف عن المجاملات والتسويات. بعض المثقفين يصرون على ان
أكثر الكتاب والفنانيين تورطوا على نحو لايقبل التغاضي عنه او
المرور عليه بالتستر او التناسي،
وبعضهم يرى ان فتح هذه الملفات ضروري ولكن من منطلق مبدأ
التسامح. وفي كل الاحوال لايملك المجتمع الثقافي العراقي اليوم
الفرصة المناسبة للشروع بالمراجعة، فالتوتر السياسي يصل إلى
أقصاه، وكل الناس مشغولة بالمستقبل المجهول في ظل الاحتلال
الاميركي ووجود عناصر النظام الصدامي في كل مكان،
وهذه العناصر تزرع الخوف تلقائيا عند الناس وتوحي
بإمكانية عودة الوضع في حالة انسحاب القوات الاميركية.
مثقفو السلطة بمن فيهم ذلك الذي غير جلده
وأصبح معارضا او ذاك الذي بقي كما هو، تجدهم في الكثير من
الملتقيات والمقاهي. سامي مهدي الذي خدم النظام طويلا، شوهد في
مقهى الزهاوي، المكان الذي إعتاد الجلوس فيه، في حين غادر حميد
سعيد إلى مدينته الحلة معتكفا في داره. اختفى عبد الرزاق عبد
الواحد، مداح صدام، ويقال ان خالد علي مصطفى يظهر بين آونة واخرى.
رعد بندر الذي حمل راية عبد الرزاق عبد الواحد وزاحمه على هبات
صدام وعدي، غاب عن الساحة، في حين ظهر بعد نهاية الحرب لؤي حقي
حاملا مسدسه، وذهب إلى مؤسسة السينما والمسرح التي رأسها في
السابق. ولؤي حقي الذي سمي شاعر أم
المعارك ومداح الرئيس، من الجيل الجديد الذي سيّر مرابد النظام
وأستولى على الكثير من الاموال والامتيازات في ظل صراعات خاضها
مع منافسيه، وهو من المجموعة التي نصبها عدي بديلا لاتحاد
الادباء السابق. في الايام الاخيرة اعتقلت القوات الاميركية لؤي
حقي بعد ان ذهب الفنانون اليهم يشكون تهديداته وابتزازه لهم،
ويقال ان إعتقاله كان بسبب مرتبته الحزبية والاستخباراتية لا
لأسباب ثقافية.
المثقفون العراقيون أقل الناس ايمانا
بعودة صدام، في حين نجد الخوف من إحتمال ظهوره يشكل هاجس الشارع
العراقي، والسؤال الذي يتكرر: ماشكل انتقامه هذه المرة، وما
صيغته؟.
الخوف من عودة النظام السابق، ساعدت بعض
مثقفيه السابقين على الظهور العلني بعد أن أدركوا ان الساحة
مفتوحة على إحتمالات كثيرة في ظل غياب سلطة عراقية. معظمهم خلع
ثوبه القديم وبدأ بخطاب الشتيمة المغالية للعهد الذي خدمه،
وبعضهم بدأ بخطاب مهادن ظاهره شيء وباطنه آخر، انهم
منشغلون بترتيب فرصهم الجديدة للتمتع بالامتيازات التي اعتادوا
عليها ولكن من جهات جديدة.والحق ان دربتهم على المبادرة والقيادة
والتحرك السريع لإحتواء النشاطات، تساعدهم على تحقيق مطامحهم، في
حين تعلم المثقفون المعارضون المواقف السلبية، الخوف من تصدر
النشاطات، العزوف عن الظهور او تنظيم الفعاليات. لعل فترة القمع
أستطاعت ان تشلهم، فبدا اللاكتراث والتسليم بالامر الواقع،
سلاحهم الوحيد لمجابهة حوشية الثقافة ومرتزقتها.
لكن أحاديثه تدور حول ثقافة السلطة وثقافة المستقبل، وكل
واحد فيهم يروي قصة عن نفسه، ومثل كل الناس الذي يلتقيهم العائد
إلى الوطن، يعرف ان الكل تعرض إلى الظلم حتى الذين تعاونوا مع
النظام. هناك مايشبه الهم المكتوم الذي تراه على وجه جيلين في
الاقل من المثقفين الذين ضاعت منهم فرص الثقافة السوية،
وعاش أكثرهم تحت حدود الفقر، يسكنهم هاجس الضيم والسخط
على المثقفين والاعلاميين العرب الذين تمتعوا ببركات صدام على
حسابهم. والظاهرة التي تثير الانتباه ان الكثير من المثقفين
العراقيين كانوا على إنقطاع عن صداقاتهم القديمة، وهم يلتقون هذه
الايام كمن يلتقي من عاد إلى الوطن بعد غيبة، يتعانقون ويحدق
أحدهم بالاخر غير مصدق مافعله الزمن به. كان أكثرهم يتجنب تهمة
التجمع او تداول الافكار، وخاصة بين من كان يحسب على الاحزاب
اليسارية التي قمعت بقسوة.
سمعنا في كاليري حوار عن قائمة ظهرت بأسماء الكتاب الذين كانوا
ذراع السلطة الضارب. الجيل الجديد أكثر حماسا لتعريتهم
ومحاسبتهم، والاكبر سنا يطالبون بالتريث كي لاتتعرض تلك القوائم
إلى نوايا تصفية الحسابات او الانتقاءات العشوائية كي لاتحشر
أسماء من أضطر مرغما على المسايرة.
في اليوم الثاني لظهور القائمة، جرت عملية
سطو مسلح على مقر إتحاد الادباء في بغداد، وسرقت ملفاته التي
تحوي الاسرار بما فيها المراسلات مع جهاز الاستخبارات والامن
وبينها الاوامر بتجنيد المثقفين أو التجسس عليهم.
إرث الثقافة
الصدامية راسخ في العراق حتى بعد تفكك سطوة هذه السلطة منذ زمن
طويل قارب العشر سنوات،ولا يعني هذا الارث أيديولوجيا بعينها،
ولا حتى أيديولوجيا البعث، بل سلوكيات وتصورات وافكار تشكل
إتجاها مزج الخوف باللاثقة من ثقافة جادة، وجعل ثقافة الاعلام
والتلقين والتصنع والبهرجة الفارغة، تتفوق على الثقافة الرصينة.
الشعور بالعبث لايتمثل عند المثقف العراقي بتصور فكري او سؤال
وجودي، بل هو خيار للهرب من مواجهة الواقع الذي يلح على العقل
ويخترق حيثياته، وقد إحتاج منهم هذا الحال تسويات مبهضة من أجل
المحافظة على الحياة: مورد الرزق، الهرب من الملاحقة، في وقت
كانت الحرب،حرب الداخل والخارج مستعرة على كل الجبهات. كتاب محمد
خضير (كراسة كانون) الصادر في 2001من بين نماذج الكتابات التي
يحاول كاتبها التوصل إلى تسوية مع فكر السلطة وتوجهاتها، متجنبا
اسلوب تملقها او مديحها،فهو مجموعة مقالات عن التشكيل تذكرنا بما
كتبه جون بيرغر المفكر الانكليزي في كتابه(وجهات نظر)، ولكن على
نحو يقل عن مستوى كتابة محمد خضير نفسه، ويمزج فيه انطباعاته عن
أعمال غويا وبيكاسو مع ماتوحيه له حالة الحرب والغارات على
العراق. محمد خضير الذي أصدر أفضل مجموعة قصصية عراقية إلى اليوم
وعنوانها (المملكة السوداء)، يطرح نفسه في كتبه الاخيرة كمتأمل
في الادب والفن والحياة، وعدا عمله (بصرياثا) الذي كتبه عن
مدينته البصرة، بقيت اعماله الاخرى تتهرب من مواجهة الواقع
باستثناء بعض القصص التي ترد فيها اشارات إلى الحرب وخراب
العراق، واكثرها تستخدم الخيال العلمي والفانتازيا، مع ماتضمره
من موقف رافض للحرب والقمع. (كراسة كانون) كان نتاج لقاء مع صدام
حين استدعى فيه معظم القصاصين، وبدا يحدثهم عن الرواية وفنها
ودورها،في معركة العراق مع أميركا والغرب،و بعد أن اصبح هو
روائيا واصدر بعد (زبيبة والملك) روايتين. دفع مبالغ طائلة لهم
مع وعد بأستمرار العطاء مقابل روايات توجه الناس وتدلهم على حكمة
القيادة العراقية. بالطبع كتاب محمد خضير لايحسب بين كتب
البروبوبغاندا الرسمية، ولكنه يوحي بالتلفيق والتصنع، ومن المؤسف
ان يضطر كاتبا مهما مثل محمد خضير على ان يستسلم في السنوات
الاخيرة إلى ما لم يستسلم له خلال عقدين من الزمن.
هناك في الثقافة العراقية لحظات استراحة
للكثير من الكتاب، فقد تعبوا بما يكفي كي يقروا بحاجتهم إلى
تقديم القليل من التنازلات، مقابل حياة يأسوا فيها من الخلاص.
مشهد الثقافة العراقية لايمكن الالمام به
خلال اسبوع او شهر من عمر العائد إلى بلده، انها تحوي الكثير من
الالغاز والفجوات التي لايمكن إدراكها بسهولة، مثلما تحوي الكثير
من المواقف والخيارات الصعبة التي تحتاج إلى الكثير من التأمل
ومن زوايا لاحصر لها.
|