مازال وهم صراع الأجيال يستأثر باهتمام ثلة من
الكتاب على اختلاف مشاربهم وخلفياتهم وأذواقهم،
ويستقطب مزيدا من المريدين رغم تغير مفهوم الكتابة
والأدب في زمن انتشار أشكال التخييل الجماهيري،
وتوطد العلاقات الافتراضية بين الكتاب بفضل تقدم
التقنيات والوسائط وفي مقدمتها الانترنيت. فمن
الفينة إلى الأخرى تطالعنا الصحف السيارة بتأجج زند
صراع الأجيال. يرى المبدعون الشباب في كتاباتهم ثورة
على المواضعات الأدبية، ويتهمون النقد بالتقصير
إزاءها وعدم قدرته على وضعها في سياقها الحقيقي
ومقاربتها بالأدوات المناسبة،" إلى حد أن يذهب بعضهم
إلى أنه أكبر من النقد أو أن الناقد الذي يفهمهم لم
يوجد بعد !حيث ينبغي أن تكرس لأدبهم مواهب نقدية
خاصة؟ (1) في حين يرى الجيل الآخر أن أدب الشباب
مفعم بالحماس والاندفاع والمغالاة، ويحكم عليه بقلة
التجربة والمراس وانتفاء المتعة وانحسار المسحات
الفنية، ويضجر أصحابه بكثرة الملاحظات والنصائح حاثا
إياهم على ضرورة الاستفادة من تجارب الأجيال
السالفة. وكثيرا ما يتحول النقاش بين الطرفين إلى
تراشق الاتهامات وترديد العبارات المسكوكة، في حين
يغيب الحوار الحقيقي الذي بإمكانه نفض الغبار عن
النازلة قبل إصدار الأحكام عليها، وينظر إلى النص في
منأى عن سن صاحبه ونحيزته ومزاجه وشلته.
وفي هذا السياق
أستحضر عبارة لبيير بورديو " ليس الشباب إلا كلمة"،
كان قد عنون بها دراسة مضمنة في كتابه قضايا
سوسيولوجية. يظل الكاتب- وإن حلب من الدهر أشطره-
شابا في أعين قرائه مادام قادرا على مواكبة مستحدثات
المشهد الثقافي، والإسهام فيه بجدته المعهودة وحماسه
الوقاد، وتجديد الأسئلة التي تتعلق بالكينونة
والكتابة والعالم. وبالمقابل، يستطيع الشاب المبدع
أن يفرض ذاته وينتزع الاعتراف به ويلفت الأنظار إلى
مؤهلاته الإبداعية إن افترش مدر القراءة، وألح على
طرح الأسئلة عوض اجترار الأجوبة والحقائق الجاهزة،
وأكب على صقل قدراته اللغوية وتطويرها، وقهر آفة
الغرور التي قد تخذله عن الإجادة وتشله عن العمل. إن
عبارة بيير بورديو تعيد الاعتبار إلى الجدة والحيوية
والإنتاج أيا كان مصدرها. وهكذا قد يكون الشيخ شابا
والشاب شيخا. كما أنها تشكك في فكرة صراع الأجيال
التي تستند إلى مسألة السن وبداية التورط في شرك
الكتابة.
لقد أصبح الأدب -بمقتضى السن- عبارة عن أجيال موزعة
حسب معيار العقود الزمنية ( جيل الستينات، وجيل
السبعينات، وجيل الثمانينات…) وليس وفق معايير فنية
مضبوطة. ولا يوجد أي مبرر علمي أو فني يمكن أن يعلل
مثل هذه التصنيفات الاعتباطية التي أصبحت -مع مر
الزمن- تقليعة يروجها من يركب موجة الحداثة الوهمية.
ولا يمكن لورطة الكتابة أن تعتبر مبررا لتمييز
الأجيال. فهناك من تريث في النشر لمدة سنوات أو لم
تسعفه الظروف على ذلك. وبمجرد أن تتاح له فرصة نشر
ما جادت به قريحته يدرج اسمه ضمن أسماء المبتدئين،
في حين أن إنتاجه يشهد له بعلو كعبه ورهافة حسه وسعة
خياله وتحكمه في ناصية اللغة. ومن أنداده كتاب
أسعفتهم الظروف على " ولوج عالم الكبار" في حين
أدركتهم الشيخوخة وهم في ريعان شبابهم، ولم يبق لهم
إلا أن يتغوّروا في المرتبة المقعرة (2) بعد أن
أصبحوا عبئا على المطابع والقراء.
توجد في كل هذا القطر أو ذاك ثلة من الكتاب التي
تبدد وهم صراع الأجيال بمد العون إلى الشباب لصقل
مواهبه وتأكيد مشروعية طموحاته وأحلامه، والانخراط
في جمعيات أو مجموعات أدبية تتضافر فيها مختلف
الحساسيات والأعمار لإدراك أهداف محددة سلفا،
والاحتفاء بأدبية النص دون النظر إلى سن صاحبه و
قناعاته الإيديولوجية وفلسفته في الحياة. فبفضل
هؤلاء مازالت منارة الاسكندرية مضيئة.
********
1-طراد الكبيسي، " قراءة أولى في شعر الشباب" مجلة
الأقلام ملف خاص بالشعراء الشباب، العدد
الرابع،1977،ص93 ع1.
2-
المرتبة المقعرة ، قصة ليوسف إدريس، مجموعة النداهة،
سلسلة رويات الهلال، العدد249، ط1، 1969، ص-ص70-71. |