إن المسحة الروحانية التي تطبع
المجموعة الشعرية
"الوهج
العذري " و التي يمتزج فيها الحب كفعل إنجاز بالشعر يجعل تصنيفها ضمن
الأدب الصوفي مشروعا و أكيدا وهذا الأمر حرص الشاعر نفسه على أن
يقنعنا به بإهداء المجموعة إلى شيخه الصوفي أبي حفص وإهداء بعضها إلى
الحلاج وندماء الوجد الصوفي وعشاق الحقيقية الإلهية حيثما كانوا من
جهة ؛و بالمقدمة التوجيهية التي خاطب بها المتلقي حتى يضمن ألا يضلّ
القصد في الفهم و التأويل ويوجّه قراءته بحصرها في مسار الرؤية
الصوفية بقوله : "و لسلطان الروحانية الأثر الأعتى في هذه الرحلة
التي أشق فيافيها على جناح يصفق وجدا ، وما انبسطت مقابضي إلا بعد
الذوبان تحت هذا الأثر الجامح ، و هذا التحول الذي صادف من ساعات
تهويمي شرودا هداه من تيه ، و سلوى أضرمها ذكرا ،و انفرادا غمره أنسا
"1 غير أن لجوءنا للنص الموازي للإمساك بالخيوط الأساسية و الأدبية
للدلالة باعتباره "مايصنع به النص من نفسه كتابا و يقترح ذاته بهذه
الصفة على قرائه ،و عموما على الجمهور ،أي ما يحيط بالكتاب من سياج
أولي و عتبات بصرية و لغوية "2 أحدث لدينا تخييبا في أفق الانتظار
ذلك أنه يصدر المجموعة بقصيدتين وطنيتين وتتخلل المجموعة نصوص سياسية
بالدرجة الأولى وأقصد بذلك "رسالة أمي من سراييفو" و" لا تسألي موعد(
العناب) " و "أنا الفجر " و "عصفورة الفجر" مما يضطرنا إلى إعادة
النظر في "المقدمة " لنقع على الكلمات المفاتيح التي نلج بها فضاء
الدلالة .وهكذا نهتدي إليها بوساطة المعالم التالية : " فيها بغضي
،فيها- أخيرا- حضوري الغائب عن كل أداء فاضح يناهض القيم التي أومن
بها في الشعر، و في غيره"3.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن الشاعر تعمّد التغييب التام للنص
الموازي كإشارة نصية تساعد على حل مغاليق النص عندما يتعلق الأمر
بالنصوص الوطنية –السياسية- .
و بناء عليه ،فإن قراءتنا
للمجموعة ستركز على هذا البعد في تعالقه الوظيفي بالبعد الأول
وذوبانها فيه حيث تعتبر هذه الملفوظات
" دعوة
للمتلقي لكي يقف على المقاصد ، وعلى اختلاف المواقف الخطابية …و
إشارة إلى أن تشكيل خطاب ما يفترض مجموعة من الخيارات التي قد يصعب
تبريرها أو الإفصاح عنها من قبل المؤلف ،وذلك مجال لتحرك المتلقي بكل
حرية للقبض على تجربة أو خلفية أو محددات تاريخية (سياسية أو
اجتماعية )تحكمت في إنشاء المعنى لأن النص الظاهر ليس في حقيقة الأمر
سوى مزاحم لنص يسري بين سطوره" 4 .
1-انفتاح النص الشعري: تعدد مستويات الدلالة
يأتي
النص الشعري في " الوهج العذري " حمال أوجه ؛ و هذا لتعدد مستويات
الدلالة فيه وتعالقها وظيفيا حيث تولد الرؤية الدينية الصوفية من رحم
الحاضر
؛ذلك أن
وعي الوجود في المجموعة من خلال تتبع المكونات الدلالية للعلامات
اللغوية الأولية يتكئ على ثنائيات تعمل على إبرازها ثلاثة أقانيم
تتراسل فيما بينها في علاقات ثنائية يمكن أن نمثل لها بهرم طرفي
قاعدته هما الأنا الشاعرة والآخر الجماعي و قمته الوطن:

واتجاه الأسهم يحدد طبيعة العلاقة
بين هذه الأقطاب حيث ترد كالآتي
: /الأنا
الشاعرة/ vs/الآخر الجماعي/ ،/الوطن/ vs/الآخر الجماعي/ ويبدأ تشكل
هاتين الثنائياتين المتضادتين انطلاقا من النص الثاني إذ يمثل النص
الأول على صعيد البنية السطحية ملفوظ حالة اتصال الأنا الشاعرة
بموضوع القيمة "الوطن " ويتم وصف هذا الوضع بوساطة الجمل الاسمية لما
تدل عليه من وصف للحالة في ثباتها واستقرارها وفي خضم هذا الاتصال
تشهد الأنا الشاعرة ميلادها دربي الجديد على هداك جيادي لهفى تعاجل
طلعة الميلاد لما له من أواصر القربى مع ميلاد الوطن الحر الذي يعانق
حاضره ماضيه معلنا الاستمرارية الحضارية العقائدية ثم انتحيت ..إلى
المآرب ..جمة و تلاقت الأمجاد ..بالأمجاد ويصبح" يوليو " رمزا للأداء
الاتصالي المتعدي باعتباره الفاعل الممتلك لعناصر الكفاءة التي سمحت
له بالدخول في وصلة مع موضوع القيمة "الحرية "
(يوليو)
الشهيد على رباك تبتلي و إلى مداك تغربي و معادي
كم لي
من النجوى أبث حفيفها خفــاقة في وقفة الإنــشاد يا أخضر الآمال ..يا
وهج الرؤى عيناكغاياتي..ودرب جــهادي
غير أن
هذا الملفوظ ما يلبث أن يتحول إلى ملفوظ حالة انفصال في النص الثاني
ويتحول من ثم" حد الوردة و السيف" إلى" وشم على زند الضياع "لتظهر
ثنائية /الأنا الشاعرة /vs/الآخر الجماعي / ذلك أن هذا الأخير نكث
عهد يونيو الشهيد و قطع كل صلة بالإرث الحضاري المستعاد فاستحال شفقا
مذبوحا كما استحال الحاضر(زمن الاستقلال) زمنا عاتيا مستعجما طوّح
بالأنا/ الشاعرة في وهاد الاغتراب و المنفى
مالي..
معفرة تربي ..و أجنحـتي عرى مراوحها الخذلان و النــدم؟
سقــط
المتاع ولا سقط كمدخـر غدرا تغذت به الأفكار و الشبـم
…
ياغربة الروح في أوطاني
انكسرت أشطارها
..اتسخت
جراءها الهمم
و أمام
ردة الآخر/ الجماعي تؤسس الأنا/ الشاعرة برنامجا سرديا أساسيا تحاول
بوساطته استرجاع الرمز المسلوب " يوليو " تعلن عنه في النص الثالث
"عروس الكآبة"حيث تحاول الدخول في وصلة من جديد مع قمة الهرم (موضوع
القيمة) وتنفصل عن الآخر /الجماعي (المعارض)بتعهدها بإحباط برنامجه
الرامي إلى إفراغ الرمز من محتواه .ومن هنا تبدأ رحلة الأنا الشاعرة
بالبحث على الهوية والانتماء كقيمتين حضاريتين مسلوبتين :
أعيدي حديث الأمس ملهمتي الوجدى أعيدي بقاياه سأقرأها وردا
…
وهاتيه
..من ذكراك ..تشربه الرؤى سأمعن في نجواه ..دونكه
وعدا
…
أنا الحزن
..يعدو في دمائي..موقفا أروع به المـرتد و الزمن النكدا
ومن فيك
يرتاد الدنى مدلهمة ومن كنت..روعى..في مذاقته شهدا
كاني-وقدكنت-الذي هو لم يكن فلاكائن كوني إذا لم أكن حشدا
أعري أمانيهم لينفضها الضحى على
مسمع الأشهاد أستفرغ الجهدا
هم صادروك اليوم ..أمس..وطالما
عنوت لهم..طوعا..فكانوا لك الضدا
وتبدأ
الأنا الشاعرة رحلتها بوضع كفاءتها موضع تساؤل ، فلأن كانت ممتلكة
لصيغتي الكفاءة الافتراضية { إرادة الفعل و وجوب الفعل } فإنها تفتقد
البعد التحييني لها {معرفة الفعل وقدرة الفعل }
ليل المرابع ملء الصمت أوعاك فأية
الأرض أستهدي لألقاك؟ ولا يطول انتظارها لتنكشف لها
"صيغة معرفة الفعل" تمكنها من رؤية بعين البصيرة مالا يمكن أن يراه
بالبصر ممثلة في فعل الحب ببعده الصوفي حيث يذوب المحب في المحبوب
ويفنى فيه فلا يرى أنّى ولىّ إلا صورته ولا يسمع سوى نداءه ولا يلهج
لسانه إلا بذكره وتثمر هذه المعرفة صيغة /قدرة الفعل / ممثلة في
الشعر أو " البوح العذري "بتعبير الشاعر كفعل إنجاز تتجسد من خلاله
علاقة المحب بالمحبوب نصيا يبقيه في اتصال بموضوعه لتقتفي الأنا/
الشاعرة أثر الحلاج في رؤيته لوجوب البوح بفعل الحب كممارسة خطابية
تحوّل ما هو مضمر إلى ماهو ظاهر :
الحب ما دام مكتوما على خطر وغاية
الأمن أن تدنو من الحـذر وأطيب الحب ما نمّ الحديث به كالنار لا تأتي
نفعا وهي في الجمر
4
وفي هذا المستوى ،يتداخل المعطيان
الدلاليان الديني والوطني ويتشابكان مشكلين وجهين لحقيقة واحدة هي
الهوية والانتماء ذلك أن الوطن في الوهج العذري ما هو إلا الإرث
الحضاري المنبثق من فجر التاريخ أو إسلام عصر السيادة ، المتدثر
بدثار الحقيقة الإلهية
. وردة
الآخر الجماعي بإفراغها مفهوم الوطن من هذا الزخم الحضاري ولّد في
الأنا الشاعرة شعورا باللاّ انتماء لقيم مستعارة وافدة ومن ثمة
جنوحها إلى الاغتراب كدرع تحتمي به من التغيير و التشويه.
وتجسّد مرثاة المجاهد
"محمد بو ضياف "الهوة بين الأنا الشاعرة كذات محافظة على إرث الماضي
وبين الآخر الجماعي كذات خائنة له مصمّمة على مواصلة القطيعة :
أنا المغرّب
..في
الأزمان ..طائلة قد كان لي قدرا.. أن تهدري رغـدي
يـا
قبلة الحزن..راع الليل أجنحتي و عربد الذعر..في روحي..و في جسدي
من لي
بارض ..غوى التاريخ طلعتها قد زاغ من صرخة العناب..معتـــقدي
…
قد ذبحوا
..إثرك ..الأوطان يا أبتي وروّعواطفلك..المزروع ..فــــي البدد
وقلدوه
وسام النــــار..خــارطة يسلو بـــــها ..حيث لا سلوى.. لمكتمد ماذا
أقول.. لبنت النجم؟ قد وقعت عشيــقة الجمر .. لا تحنــو على أحــد5
تؤدي هذه القطيعة مع الآخر
الجماعي إلى البحث عن معادل موضوعي يعيد للأنا الشاعرة توازنها و
انتماءها فيتلمسه في
"تراتيل
المشكاة الخضراء "حيث يعانق الحقيقة الإلهية ويتأسى تبعا لذلك
بالحلاج شهيدها وشاعرها حيث وهب روحه قربانا لحبه ولاغترابه الفكري
بانعدام التواصل مع الغير ؛لذا تؤسس الأنا الشاعرة من نفسها متلقيا
متفاعلا ومتجاوبا مع خطابه الصوفي كسابقة prolepse تعلن عن دخوله في
وصلة مع الحقيقة الإلهية ؛ إذ إن العقيدة حقيقة والحقيقة نور و النور
هو الله.
أنا ذاك
..لاأني..أنا
في وحدتي أوحى اغتراب مبادئي بمواجــدي
…
كتب القصيد علي كـل صغيرة وكبيرة
..فهوت
رحاب معابــدي وركبت من صهواتها النار التي ضويت بها في العاشقين
مراشدي
عذبت
مواردها ..تعانقها الرؤى صــوفية..شربت منـاهل عــابد يأتي بها
الحــلاج منقطع الهوى ويلــوح معلمها البعيــد لقـاصد …
كوني
..أكن
..وكما تكوني..كائن أنا في دروب العشق أتلو شاهدي و سأخلع النعل
المسافر في دمي وأحــل..في وصلي..جميع معاقدي6
عند هذا المقام يشهد الهرم
الوجودي تعديلا في الرؤية حيث تغدو قمته
"الحقيقة "
عوضا عن
"الوطن
"غير أن هذا التعديل لا يعني البتة أن العلاقة التي تحكمهما
هي
علاقة تناقض وتعارض وإنما هي علاقة احتواء واشتمال حيث إنّ الحقيقة
تحافظ على مفهوم الوطن كقيمة مطلقة تسبح في عذريتها و قداستها ،وتعصمها
من التحول إلى مجرد موطن يقيم به الإنسان ويتخذه محلا .
ورحلة الأنا الشاعرة في بحثها عن
الحقيقة ما هي إلاّ بحث عن الوطن المخدوع لاستعادة الانتماء و الهوية
.
2-جدلية
الزمن :/الماضي/VS/الحاضر/
لقد أعادت الأنا الشاعرة صياغة
الزمن بأن جعلت من الماضي الإقنيم الأصل و الوحيد وما المستقبل إلا
صورته المكررة ، كونه امتدادا لمبادئه وقيمه،ويظهر هذا جليا بتوظيفها
المكثف لأفعال طلبية تتواتر بعينها في المجموعة تؤلّف تشكّلا خطابيا
يفيد العودة و المعاودة
.[تعالي،أعيدي ،تدن،انزلي،ضمّي،عودي ]
لذا تظهر الأنا الشاعرة على امتداد المساحة النصية للمجموعة
- إما
مناجية "الحقيقة " طالبة منها التدني و التجلي ليكون الأداء اتصاليا
منعكسا بأن تستفيد من الاتصال في شكل تملك APPROPRIATION و متعديا
بأن تمنح الأنا الشاعرة موضوع القيمة في شكل تمليك ATTRIBUTION
عودي لأكتب من رؤياك ملحمتي عودي
فيومك أهواه ..
و يهوانيَ7
-وإما
واصفة ملفوظ حالة الاتصال القائم بينهما منذ "فجر التاريخ" أو إسلام
عصر السيادة ، ومن ثمة يذوب الماضي في المستقبل و تحتضن القبلية
البعدية متخطية بذلك الحاضر بمآسيه . ويعدّ الوصف هنا أداة إجرائية
حيوية ذلك أنه " وجه للثبات …ومن كان يستدير باستمرار صوب ماض ما
يزال متوهجا قائما سوف يتشبث بوجه الأشياء و يصر على حمايتها من داء
التغير . و لا يحصّن العالم ضدّ التغير مثل النعت "1و بناء عليه ،فإن
تغييب الأنا الشاعرة "للآن " وإٍسقاطه من حساب الزمن ،هو شكل من
أشكال بغضها له ورفضها تواجده كحقيقة موضوعية تمتد إلى وعي الشاعر و
تحفر في أعماقه لذا يتحول في الوهج العذري إلى مجرد "وهم" أو سراب
مفرغ من كل دلالة إيجابية وقيمة روحية فتنكفئ على الماضي في انتظار و
ترقّب للمستقبل :
وتمضي بأيدينا الدمى لسرابها
فقــاقيع عصر في هشاشتها يقرا يـرانا بنو الدنيا ذرا سرمدية وتسبح في
فرعائنا النشوة السكرى غدا ..
يرتدي التاريخ حلَّة دربنا وترقص في عينيه..فرحتنا الكبرى8 ومما يعضد
هذا المعطى الدلالي للزمن ورود بعض العناوين الفرعية للنصوص طلبية
إنشائية (لا تكتئب ،ابتسم لي ،صل فؤادي) مرسلتها هي الحقيقة (موضوع
القيمة )إلى الآخر/الجماعي ليمارس القول قوة عليه يحمله على فعل
الفعل faire-faire ليلتقي الإقنيمان –القبل و البعد - بدخوله في وصلة
معها ومن ثمة يتأسس فاعلا/ عاملا يسعى لتحويل ملفوظ حالة الانفصال
إلى ملفوظ حالة اتصال لأن الزمان " لا يوجد إلاّ مع تجدد الحال ، و
يجب أن يستمر ذلك التجدد و إلا لم يكن زمان أيضا " 9 أتراك الذي
يداوي المواجع
كــلما سكّن الأنين المضاجع
و يبشّر بالعهـــود الرّواجع قل
نعم و على هديل السّواجـع
ابتسم لـي 10
غير أن فعل الإقناع هذا لا ينجح ،
وتبقى القطيعة بين الماضي والحاضر قائمة مما يعمّق جرح الأنا الشاعرة
،و يزيد الهوة بينها وبين الآخر الجماعي اتساعا بسبب
انعدام صيغ الكفاءة لديه التي
يعريها آخر نص في المجموعة
"عصفورة
الفجر ":
من يرعوي عن نسيج الرعب يغزله من
خيط مشتعل الأحشاء ملتــــهب تنسد عن أفقه الآفــــاق تائهة مكسوفة
الضوء ضوء الوحي و الكتب
عدي هنا من ضحاياهم عقيدتنا و
كبّري ما استبان الحق من ريب عدّي الضياء صريعا في مساربهم من ها هنا
مرّت الأزواج للنهب و آنسي كبدي الجرحى إذا انقدحت عيونها بدم
المقتول منسرب
11 و في
هذا المقام تأخذ رمزية " الجرح " بعدا خاصا في الوهج العذري لما
ينطوي عليه من تكثيف دلالي و دينامية تحيل إلى الغائب ؛ فهو حنين ضفة
الماضي إلى ضفة المستقبل حيث انبعاثه وشوق الروح لعالمها المضيّع "هو
الانفصال و التقارب والتنافر و رفض الاستمرار و الجرح ندامة لا تشفى
و نافذة على لأعماق مغلقة و مطل على الانعتاق " 12 وهكذا تبقى الأنا
الشاعرة مشدودة لوهج الماضي تحنّ إلى رؤاه العذرية ،مقاومة الإفلاس
الحضاري و الثقافي للحاضر على صعيد الممارسة الخطابية .
3-
الممارسة الخطابية :استعادة الانتماء
ما لا
يمكن تجاهله في الوهج العذري هو الطاقة الخيالية الإبداعية الخلاقة
التي يتميز بها الشاعر ؛حيث يتفنن في نسج صوره بالتوحيد بين ما هو
مرئي و لا مرئي وبالمجانسة بين ما هو مادي وما هو روحي ،الأمر الذي
يؤدي إلى رمزية الصور وتوظيفها لصالح الخطاب الغائب أو المتضمن .
ويحرص الشاعر على الاستفادة من
الرمز و النهل من ظلاله الدلالية باعتماده على الاقتصاد اللغوي الذي
" يكثف
مجموعة من الدلالات و العلاقات ،في بنية دينامية تسمح لها بالتعدد و
التناقض ، مقيما بينها قنوات تواصل و تفاعل . وهو لذلك علاج لنقص
المنطق ،و ضيق البنى التي ترفض التناقض ،كما أنه علاج
لجمود
المعطيات و المفهومات الثابتة . الرمز إشارة إلى احتمالات تفلت من
التعبير المعقلن ،و إلى غائب لايحيط به التعبير المباشر " 13 وقد وظف
شاعرنا الأنوثة بأبعاد ثلاثة :الأم و الطفولة والروحانية كرمز ،حرص
على أن يفك شفراته ليضمن القراءة السليمة للمتلقي منذ اللحظة الأولى
و تفاعله معه .
غير أن ما يهمنا أكثر هو توظيفه
للرمز في علاقته برحلة البحث عن الهوية والانتماء ذلك أن ما استرعى
انتباهنا و نحن نقرأ المجموعة هو استقاء كل رموزه من الثقافة
الإسلامية ؛فالحقد الدفين حاضر في هند بنت عتبة
لا تسألي موعد العناب
..عن جسد عضته آكلة الأكباد ..في القدد14 والردة و النكوص حاضران في
زوج أبي لهب
الذاهبين إلى عنق الزجاج على أعقاب نائحة حمّالة الحطب 15 وإسلام عصر
السيادة حاضر في موسى بن نصير وطارق بن زياد
يروي
صداي الفاتحان تواردا موسى ..من التاريخ ..وابن زياد16 والقيم التي
يؤمن بها في الشعر و غيره حاضرة في شعر حسّان بن ثابت و غزوة بدر
و نصحو
على "حسان "ينفث روحه ترف من العلياء عائدة غضرى فنهفو إلى "بدر"
..تلم شتـــاتنا ونرتد من "حسان "ألوية طهرا17 ما من شك في أن هذه
الرموز وغيرها النابتة في أرض العروبة والإسلام قد
وظفت عن
وعي وقصد فلا شيء مجاني في اللعبة الأدبية حيث تعمل الأنا /الشاعرة
بوساطة اللغة على خلق معادل موضوعي تستعيد به هويتها الحضارية و
مرجعيتها الثقافية ،وما يعضد هذا التوجه هو إغراقها في التعبير
بالمثنى كخاصية أسلوبية تتميز بها لغة الضاد ومن ثمة يكتسي الرمز في
الوهج العذري قوة الهدم و البناء ؛يهدم الواقع الكئيب و يبني مستقبلا
سعيدا لأن اللغة الشعرية تتجاوز ما هو كائن إلى ما يكون ، تتخطى عتبة
الحاضر /المكان لتعانق الآتي من عمق التاريخ ؛لذا كانت رحلة الأنا
الشاعرة نحو الانعتاق تسافر في معراج روحي يرقى بها إلى مصاف النجوم
و ينتشلها من سجن المكان .
اقرأ كتابك في شعاع مواعدي أنا
شاعر نسج الضياء قصائدي
أنا ذاهب
..و الراح في جنباتها عذري ..و ذعري..و انتشاء عوائديللممكنات إذا
استحال نوالها لمستحيل ..إذا تأبّط ساعدي من منتهى بدئي ابتداء
نهايتي في ملتقى دربي حقيقة واردي18 وفي هذا المستوى تبرز السيمات
المنظمة لدلالة المجموعة الشعرية في تقابلها و اختلافها مما يؤدي
بالتحليل إلى وصف علاقاتها بواسطة إنشاء أنموذج شكلي للدلالة يمثل
البنية الأساسية للدلالة حيث إن المعنى يقوم على أساس اختلافي فلا
يمكن تحديد ه إلا بمقابلته بضده وفق علاقة ثنائية متقابلة 2وهذه
الثنائية المتقابلة تتجسد في النص في شكل/علو/vs/سفول /حيث تشكل
الرموز التي تتعلق بالماضي تشكلا خطابيا يرتبط بالفوقية وما يرادفها
من إشعاع (النجم، المنار ، الشمس ، الربوة ، الطير ،الفلك ،الفجر
،الضوء ،الطهر ،الشعاع ، الصدر …)كما تشكل الرموز التي تصف الحاضر
/المكان تشكلا خطابيا يرتبط بالتحتية وظلالها أي الظلمة (الليل،
التراب ،الوحل، الأرض ،الظلام ،المساء،الغروب،القبر….)وهنا لابد من
الاستفادة من شعرية العنوان كونه علامة
–فعل signe-action يثير الإمكانات
التأويلية التي يحتملها النص الإبداعي و تأسيسا عليه فإن العنوان
الرئيس للمجموعة يشتغل على مستويين :
-المستوى الأول تصرح به الأنا الشاعرة حيث يرادف الوهج إشعاع الماضي
في انسيابه و فعاليته الحضارية و ما نسبته الى العذرية إلا تأكيد على
تمنعه من التغير و الابتذال و واحتجابه عمن لا يملكون الكفاءة
المعرفية التي تسبح بهم في أنوار الروحانية
أما
المستوى الثاني المتخفي فالقراءة التصحيفية له تكشفها باستعمال جناس
القلب ليصبح الوهج وجها والعذري ذعرا يحيل إلى وجه الحقيقة المذعور
نتيجة ردة الآخر الجماعي ،وقد نبّهت الأنا الشاعرة إلى هذه القراءة
بما زرعته من إشارات نصية على امتداد المجموعة .ومن ذلك ما جاء في
قصيدة "لا تسألي موعد (العناب)
وضعت في حزني المشبوب إذ خدعوا و
عفروا في رماد الغدر وجه أبي
إن امتلاك الأنا
/الشاعرة فعل الإنجاز الخطابي يخول لها الانتقال من مجرد فاعل حالة
إلى فاعل عامل يمارس فعلا تأثيريا acte perlocutionnaire قادرا على
إحداث آثار ثانوية في المتلقي "و يوسّع أبعاد العقل بما يضمّه إليه
من أصقاع الحلم و اللاوعي ،يزرع في الوجدان البشري نارا ما ، يهزّ
فيه أشواقا نائمة و يزرع في أحداقه واقعا يختبئ وراء الواقع"19
تتضح هذه الوظيفة المنوطة بالشعر
في آخر قصيدة يختم بها الشاعر مجموعته حيث يفصح عن الثورة التي
تفجرها الكلمات عندما تمتلك الكفاءة المطلوبة
قولي أقل ما يقال اليوم مستترا
وما يدار لديهم صاخب الجلب
مني المعاصم فاستهدي بها فننا
يروي هديلك للأقمار و الشهب
20
و ما يمكن أن يقال في ختام هذه
المداخلة المتواضعة أن الوهج العذري يحمل طاقات إبداعية من حيث الشكل
أو المضمون لا يمكن الإلمام بها في عرض كهذا؛
لذا بات من الضروري التنبيه إلى
وجوب الاعتناء بمثل هذه الأعمال الأصيلة
التي تشي بحس جمالي راق يتدثر فيه
الذاتي و الوطني بدثار اللغة الصوفية
.
الهوامش و المراجع
1-ياسين بن عبيد
:الوهج العذري / المطبوعات الجميلة /دت ص5
2-جميل حمداوي :السيميوطيقا
و العنونة /ع3/1997 /ص103فضاء
الدلالة ؛ خاصة وأن الشاعر
3-الديوان/ص4
4-آمنة بلعلى :الحركية
التواصلية في الخطاب الصوفي /منشورات اتحاد الكتاب العرب
/دمشق2000ص107
5-الحسين بن منصور
الحلاج:الديوان/تحكامل مصطفى الشيبي/وزارة الإعلام/العراق1974/ص36
6-الديوان :ص 44
7-الديوان/ص17
8-الديوان :ص19
9-ابن
سينا:"الشفاء-الطبيعيات-(السماء الطبيعي)"ف11ص74
10-الديوان:ص52
11-الديوان:ص57
12-خالدة سعيد :حركية
الإبداع/دار العودة بيروت /ص125
13-المرجع نفسه : ص191
14-الديوان:ص44
15-الديوان:ص57
16-الديوان:ص10
17-الديوان:ص18
18-الديوان:ص16
19-خالدة سعيد :حركية
الإبداع ص92
20 – الديوان ص 56
|