يروق للمجرى الظن بأنه لم توجد الأنهار إلا لتمده بالمياه
إن
عقلا بلا منطق كمدية بلا نصل، إنه يجرح يدا تستعمله
الإنسان أسوأ من الحيوان حينما يكون حيوانا.
هذه
الأبيات الثلاثة لطاغور، شاعر الشرق، إنما أستشهد بها الآن، أمام
مجموعة من الأصدقاء الجدد، أحاول الوصول إلى لغة حوار مشتركة،
إلى فهم واحد أو متقلب، ولا أقول إلى آفاق.
فأوروبا التي تنكر ثقافة الآخرين أو تجهلها، تظن أنها المجرى
الوحيد، أو على الأقل المجرى الأساسي، تظن أيضا أن الأنهار
البعيدة، أو حتى الصغيرة، لم تتكون إلا من أجل أن تصب في قرن
مجراها. كان هذا ظن أوروبا وفكرها حين نظرت إلى أمريكا الشمالية
بتلك النظرة قبل قرنين، وكان هذا ظن أوروبا وفكرا قبل ستين أو
أربعين سنة، حين نظرت إلى روسيا تلك النظرة. والآن تكرر أوروبا
الخطأ ذاته في نظرتها إلى الشعوب الأخرى وإلى ثقافتها، وحتى في
لحظات النشوة والتسامح. تسامح الأب، وتنظر إلى الآخرين نظرة
فلكلورية، بحيث لا ترى في الشعوب الأخرى، في الثقافات الأخرى،
إلا الجانب الطريف الخيالي، أما الجوانب الأخرى فإنها لا تراها
أبدا، أو لا تراها بوضوح كاف.
لاشك أن الشعوب الأخرى، الثقافات الأخرى، لم تستطع أن تقدم ذاتها
بالمقدار الكافي أو بالطريقة الصحيحة، لكن مع ذلك فإن مسؤولية
أوروبا في ذلك لا تقل عن مسؤولية الآخرين.
الإنسانية كل، ثقافة متكاملة، لكنها متنوعة، والأنهار لا تصب في
مجرى واحد وإنما في مجاري متعددة، ولذلك كان لكل نهر مجراه، مهما
كان صغيرا، يمكن لروافد أن تلتقي، أن تجتمع، سواء في مجرى واحد،
أو في البحر المحيط، لكن يبقى لكل نهر مجراه، ولكل مجرى مناخه
ومعالمه ولونه، وهذا ما يجب على المثقفين أن يقدموه بصدق ووضوح،
وأن يعرفوا الآخرين عليه. هذا بيت طاغور الأول، أما البيت الثاني
فإنه يمكن أن يأخذ معنى مجازيا في لقاءنا هذا.
فالعرب الذين تعرفهم أوروبا ليسوا هم فقط شيوخ النفط والأمراء
الماجنين المتفسخين التافهين، وليسوا هم فقط العمال المضطهدين
البائسين الذين عجزت بلادهم عن استيعابهم ولم توفر لهم العمل
فجاءوا يتقبلوا أي عمل وأي أجر فقط من أجل أن يبقوا على قيد
الحياة، والعرب ليس هم هؤلاء «السياسيين»، بين قوسين، الذين
جاءوا هنا بمسدساتهم ومتفجراتهم ليصنعوا خلافات بينهم عجزوا عن
تصفيتها هناك. صحيح أن هذه الأنماط موجودة، تملأ أحياء باريس
الراقية والفقيرة. لكن إلى جانب هؤلاء هناك المثقفون والثقافة،
صحيح أن المثقفين لم يستطيعوا أن يعبروا عن وجودهم بوضوح، ولم
يسمعوا صوتهم، لكن الخطأ ليس خطأهم وحدهم، وإنما في بنية المجتمع
المعادية، المقاومة، البعيدة، الكسولة، والتي تريد أن ترى من
العرب وجها واحدا، أو وجهين، وجه أمراء النفط على موائد القمار،
أو وهم في أحضان الداعرات والبيوت المشبوهة، أو وجه هؤلاء
الفقراء المعزولين المنبوذين الذين لا يعرفون النهار وضوء الشمس،
لأن عملهم يبدأ في ساعات الليل المتأخرة ليجمعوا القمامة وليروا
مدن أوروبا وهي تغرق في النوم والظلمة.
فإذا غاب أحد هذين الوجهين أو ابتعد فلابد أن تظهر أداة من أدوات
القمع العربية، والموجهة بالدرجة الأولى إلى العرب الآخرين، على
أرض غير عربية، ومن خلال التلفزيون وأدوات الإعلام، الأخرى،
الصاخبة التافهة، يظهرون وجها آخر للعرب: المتوحشون، المملوءون
حقدا أسود، المتعصبون، والذين لا يعرفون إلا القتل، وقد جاءوا من
أماكن بعيدة لأخذ الثأر.
هذه
الوجوه، للعرب، موجودة، وتحزننا وتغضبنا قبل أن تحزن الآخرين
وقبل أن تغضبهم، ونحاول أن نعمل كل ما نستطيع من أجل إلغاء هذه
الوجوه أو الحد منها؛ فنحن نحارب أمراء النفط في الوقت الذي
تحتضنهم فيه أوروبا وتيسر لهم كل شيء، ونحن نحاول أن نحمي إخوتنا
العمال والمهاجرين ونؤمن لهم فرصة للعمل والكرامة هنا وهناك قدر
ما نستطيع، ونحن نحتقر عمليات
....[*] العربية التافهة
والجبانة التي تجري على أرض الآخرين، في الوقت التي تعجز قوى
وعناصر القمع العربي أن تجريها على أرضها.
لكن
يبقى السؤال الأساسي قائما: لماذا لا تعرف أوروبا، أولا تريد أن
تعرف هذه الوجوه للعرب؟
لاشك، نحن المثقفين، سببا أساسيا، لكننا لسنا وحدنا السبب؛
فأوروبا، كما يقول طاغور، عقلت كل منطق، وهذا العقل وحيد الجانب،
يرى الآني، يرى المصلحة، يرى المباشر، أما ما وراء الآني، وما
وراء المصلحة، وما بعد المباشر، فإنه يفضل أن لا يراه، أو أن
يؤجل رؤيته إلى أقصى حد.
طبيعي يبقى الحوار بيننا مقطوعا أو ناقصا، وتبقى أوروبا ترى ما
تحب أن تراه أو أن يخدم مصلحتها أو غرضها، لكن ما يحب الإنسان أن
يراه أو ما يخدم مصلحته اليوم قد لا يكون كذلك في وقت آخر، في
مرحلة أخرى، ويجب أن يدفع دائما ثمن الخطأ. وهذا ما يحصل دائما.
هذا
ما قاله طاغور في بيته الثاني، أما بيته الثالث، الأخير، فهو أن
الإنسان أسوأ من الحيوان حين يكون حيوانا.
ونحن، العرب، نواجه هذه الحالة الآن، نواجهها على مستوى الأنظمة،
وإلى حد كبير على مستوى الأحزاب أو الجماعات، فعمليات القمع التي
وصلت إلى الحد الأقصى، حد حذف الأفراد والجماعات، وعمليات
التصفية الفنية التافهة، والتستر وراء الشعارات الكبيرة من أجل
المصلح الصغيرة، والتحول إلى مجرد مستهلكين ما هو يومي في
السياسة والاقتصاد والسلاح، إن هذه الحالة التي وصلنا إليها،
والتي تثير الشفقة والتساؤل والسخرية، هذه الحالة هي مشكلتنا نحن
المثقفين، ونريد من الآخرين أن يفهموا هذه الحالة وأن يساعدوا كل
من يريد تغييرها.
المثقفون العرب في الوطن والخارج، المواطنون العرب في الوطن
والخارج يواجهون وضعا مأساويا صعبا ومدمرا لهم وللآخرين: حالة
القمع، حالة الاستبداد، حلة الغنى الفاحش إلى جانب الفقر المدقع،
حالة الانفصام والجنون، حالة مواجهة القوى الكبرى.
هذه
الحالات ليس من السهل تلخيصها بكلمات حقيقية أو التعبير عنها
برواية أو مجموعة من القصائد. إنها حالة مركبة ومعقدة وطويلة،
وهذه الحالة ما يواجهها المثقفون العرب وما يحاولون التعبير عنها.
هذه
مجرد مقدمة للوصول إلى لغة حوار واحدة أو متقاربة، وإني أعبر عن
سروري أن أتيحت لي هذه الفرصة، فإني أريد، معكم، أن أضع أصبعي
على الجرح، وأن أضع ملحا فوق الحجر، يزداد الألم. يزداد الإحساس
بالألم، ومن ثم نحاول أن نقترب أو أن نبتعد، لا يهم، لكن نتحاور
بلغة واحدة أو متقاربة.
وفي
هذا اللقاء أريد تركيز الأضواء على قضية من أبرز القضايا التي
تشغلنا وتعذبنا وتطاردنا سواء في الوطن أو المنفى، القمع، وحول
هذا المحور أيضا تدور روايتي «شرق المتوسط».
لا
أريد أن أتبنى إحدى المقولات الرائجة التي تعبر عن «الاستبداد»
جزء من بنية الشرق وتاريخه.
ولا
أريد أن أعتبر الاستعمار الذي ساد وسيطر على المنطقة العربية
لفترة طويلة، السبب الوحيد الذي أفرز وراكم هذا الكم الهائل من
القمع، مارسه أولا بنفسه ثم جاءت بعده الرواية لكي تمارسه.
إن
حالة القمع التي نواجهها اليوم هي حصيلة لمجموعة من العوامل
والتراكمات، بدأت من التحريم الديني والوجدانية، وتطورت عبر
مراحل تاريخية عديدة، لتصل إلى تشابك وتداخل القيم والمفاهيم
والمراحل، خاصة في مراحل انتفاء مفهوم الدولة، ثم جاء الاستعمار
ليستغل ويفرز الجوانب السلبية في هذا التكوين، وليعطي للتطور
نسقا يلائم مصالحه وبقاءه، بشكل مباشر أو غير مباشر، لأطول فترة
ممكنة.
إن
القمع، كحالة، مادامت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية ضمن مستوى
معين من التطور، هذه الحالة تتعزز وتتسع في ظل غياب مفهوم الدولة
أو في ظل تداخل مفهوم الحاكم والأجهزة بالدولة، بحيث يعني الواحد
منهما الآخر، ومادام حق الحرية منحة من الحاكم نفسه، أما في حال
الوصول إلى الدستور والقانون والحرية ومفهوم الدولة عبر الانتزاع
المستمر والتنظيم المستمر، وعبر اليقظة الدائمة، والدفاع عن الحق
باعتباره حقا عاما وخاصا في نفس الوقت، فإن القمع سوف يتراجع
ويتقلص.
|