الخوف شعور
إنساني يرافق البشر حتى يغدوا آلهة في عصر يمكن تسميته بـ"الضوئي"
بالمعنيين التكنولوجي والمجازي؛ أعني عصراً يتحقق فيه كلٌّ من تفوُّق الإنسان
النيتشوي وفوضويّة باكونين. حتى أنصاف الآلهة كالمسيح اختبروا هذا
الشعور. ألم يقل الناصري وهو على جبل الزيتون ليلة اعتقاله: "أبتي،
أبعد عني هذه الكأس"، أي الموت الباكر. إنه خوف أنصاف الآلهة، لا
الهروب من مشيئة القدر وإنما مواجهتها بيأس وكرامة. إن اختبار الخوف
وحده يمنح الإنسان ذلك التساؤل الهاملتي القاسي: "نكون أو لا نكون".
إلى هنا أعلم
أن حسين عجيب سيضحك ساخراً وهو يقرأ الفقرة السابقة. سيسرّ إلى نفسه
قائلاً: أخي الصغير، ما علاقة الخوف بكل ذلك! تكلمْ كما يتكلم الماغوط
لا كما تكلم زرادشت. حسناً، أخي الكبير. إن الخوف، الذي تتكلم عنه أنت،
محصورٌ في بعده السايكولوجي، فهو خوف يلازم "المقهور" الذي يستمر في
نوم اليقظة إذ يزوره، بين حين وآخر، كابوسه المثلَّث الأطياف،
الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. فهو، اجتماعياً، خائف من انتهاك تابو
العادات والتقاليد والمعتقد، وخائف، اقتصادياً، من الفقر والحرمان،
وخائف، سياسياً، من حريّة الرأي. أعتقد أنه خوف أنصاف البشر، إذ
يقولون: يا ناس، أبعدوا عني هذه الكأس، أي العقاب بشتى أشكاله
الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. هؤلاء هم ساكنو الطابقين الأولين لمبنى
الخوف، إذا استعرت منك التشبيه.
كذلك البشر
اختبروا الخوف. هم أمثالنا يا حسين. إنهم يقولون: يا ناس، أبعدوا عني
هذه الكأس، أي التابو بتجلياتها الثلاثة، هي الأخرى، الاجتِقْصاسية.
فساكنوا طابق الخوف الثالث، هؤلاء، يقفون أمام احتمال العقاب وجهاً
لوجه. إنهم خائفون، نعم، لكنهم لا يشعرون بالقهر، يرتفعون بالخوف،
كشعور، من مستواه السايكولوجي إلى مرتبة المعرفي. يرتقون بالخوف من
الطابع الغريزي، الأنصاف بشري، إلى طابعه الواعي لنفسه. هكذا يتحوّل
"الخوف من العقاب" إلى "مواجهة التابو" بيأس وكرامة. أقول "بيأس" لأن
هذه المواجهة ستكون أليمة لأولئك البشر. ربما السجن وربما الاغتيال،
ربما الإبعاد عن بلادهم وربما مصادرة حقوقهم السياسية (منعهم من
التنظيم والتصويت، إلخ) أو/و الاقتصادية (حرمانهم من الوظيفة، إلخ)
أو/والاجتماعية (عزلهم عن العلاقات، إلخ).
إن ما اختبره
أنصاف الآلهة فهو الخوف من المجهول، المستوى الثالث للخوف بعد
السايكولوجي والمعرفي أو إنهم ساكنوا الطابق الرابع لذاك المبنى.
يُعتبر التابو والعقاب بالنسبة إليهم من مخلفات المرحلتين الأنصاف
بشريّة والبشرية. يجلسون على جبل الزيتون، أو في السجن، أو في بلاد
أخرى كلاجئين أو... ويفكرون بالمصير الأوحد للبشر ويشعرون بالخوف
لموتهم الباكر فلن يتحقق، ربما، هذا المصير وإلى الأبد. لذلك قال
الناصري على الصليب: "أبتي، أبتي، لماذا تخلّيتَ عني!". كان يشعر
باليأس لأن المصير البشري، الذي شارك في محاولة صياغته، قد يمسي قيد
المجهول. فالخوف، الذي يشعر به أنصاف الآلهة، هو "الخوف على"، وليس
"الخوف من". إنه المستوى الوجودي/الكينوني للخوف.
أما الآلهة
فهم على السطح ولا يعرفون ما هو الخوف. إن المشاعر كلها، السايكولوجية
والمعرفية والوجودية غريبة عنهم.
|