يواصل (موسى حوامده)
تجربته الشعرية التي ابتدأها في (شغب) من حيث الإصرار على الواقع بمعناه
الصريح منبعاً للقصيدة، فهذا الواقع يبدو عند حوامده خصباً متنوّعاً وفيه
من عناصر الشعر ومفارقاته وأبنيته قدر غير نهائي، أنه منجم للإبداع، إذا
ما عرفنا كيف نتفاعل معه ونستند إليه، موسى حوامده هو ابن هذا الواقع،
مثلما هو متابع لتفاصيله وجراحه من خلال عمله الصّحفي، وهو يفيد من هذه
المرجعيّة وذاك المنجم فيلتقط صوراً ومشاهد ووقائع كثيرة، ويعيد إنتاجها
بأدواته الفنية لتضحي مشاهد شعرية جميلة.
يحاول حوامده في سائر نصوص
(أستحق اللعنة) أن يعالج ذلك الواقع بعيوبه وفضائحه ومفارقاته، مثلما
يسعى إلى المحافظة على حرارته ولمعانه، إنه ينقد زيف الواقع بسخرية حادة
وبالتركيز على التضاد الذي ينتج ثنائيات جارحه تكثف بعضاً من ملامح
الحقبة التي نعيشها من واقعنا العربيّ.
فالواقعية هي السمة الأكثر
بروزا في هذه المجموعة ، وهي سمة افتقدها الشعر الحديث ، ونأى عنها
بعيداً، امتداداً لمزاج العصر الأدبي الذي ابتعد فيه النّص عن الواقع ولم
يعد محاكياً له ولا منطلقاً منه ، لكن القصائد التي بين أيدينا تختلف مع
ذاك المزاج وتدلنّا بقوة أن واقعنا لم يزل يحتاج إلى الشعر وفيه ما فيه
من بؤر ومواقف حادّة يمكن للشاعر الموهوب أن يستند إليها فيما يكتب ،
ولعل التجربة الصحفية الطويلة إضافة إلى جملة من الصفات الشخصية لموسى
حوامده هي التي قرّبته من الروح الواقعية ، وفتحت المجال أمامه ليرى في
نسيج الواقع مكمناً لولادة القصيدة.
لقد انتقل حوامده في أغلب
قصائده من ذاتية الشعر إلى موضوعية القصة ، فأكثر القصائد تمتاز
بالموضوعية ، ففيها صور ومشاهد وحيوات لا صلة للشاعر بحدوثها او تفاصيلها
سوى انه راويها او شاهدها ,فهو راوٍ مشاهد ، أو راو كلي للمعرفة-مثلما
نقول في تحليل السرد وهذه الموضوعية أمدته بسمة إضافية وجعلت بصوته بعض
اختلاف في ظل هيمنة ضمير المتكلم وسائر مستلزمات الذاتية في الشعر الحديث
،انه يكتب لا بصوت الشاعر وإنما بصوت السارد الذي يبني عوالمه من حيوات
مفترضة ، ومثل هذه السمة لا تنفصل عما يشيع في نصوصه من روح قصصية عالية
، وفرت لتلك القصائد كثيراً من مستلزمات الوحدة والتآلف بين أجزاء النّص
، مثلما أمدّت النص ببعض سمات القص ، كالتشويق والإرجاء ووجود العنصر
السائد ، فضلا عن السمات الأساسية المعروفة.
وفي بعض النصوص يداخل
حوامده بين الذاتية والموضوعية فتقف القصيدة على الحد الفاصل بينهما ، أو
الحد المشترك بينهما ، وفي مثل هذه المواضع تتسع مساحة الشعر وتبدو
القصيدة مختلفة ومدهشة :
[محبوسة في البحر
/
لا شمس ترفعها بخارا/
لا ريح تنثرها سماء/
لا برق يخلع قلبها
/
لا برق يخطف لُبَّها
/
فتظل قاحلةً
بلادي ]
وبوجه عام يحافظ شعر موسى
حوامده على نكهته المحلية القادمة من الروح الشّعبية الواقعية أو التي
تتأسس على موضوعة الوطن ، ويبدو الشكل الشعري عنده استجابة تلقائية لهذا
المضمون في اندفاعه التلقائي وبساطته ، وهو في ذلك كله ينأى بنفسه عن
موجة (شعر العولمة) او الكونية الذي ولد في ظل هيمنة النظام العالمي
الجديد ودعاواه الباطلة ، أنه يحافظ على خصوصيته من خلال روحه الشعبية
ونكهته المحلية ، في ظل ضياع المعالم والملامح إستجابة لمتطلبات (العولمة).
ومثل هذا الاتجاه الذي
يلتفت إلى تفاصيل الحياة الواقعية ، والى ما في تلك الحياة من مشاهد
شعبية محلية ، هو ما ابتدأه الشعر القديم على يدي ابن الرومي وأبو
الشمقمق وهو ما واصله أو حاوله العقاد في (عابر سبيل) وأبدع فيه صلاح عبد
الصبور حين كتب (الناس في بلادي) فهو اتجاه راسخ وإن لم يكن الاتجاه
الغالب على الشعر العربي ، ولعل هذه الميزة تجعله اتجاها مفتوحاً وقابلاً
للإضافة في كل حين ، فالواقع متغير متبدّل ، مثلما هو خصب وغنيّ ، وفيه
تفاصيل وحيوات تصلح للكتابة دائماً إذا ما وجدت الشاعر الموهوب ، ليس
بأدواته اللغوية والفنية فحسب ، وإنما باتصاله مع ذلك الواقع ، ومعرفته
عن قرب.
إنها مجموعة جديدة ، تنضاف
إلى شعرنا الحديث ، بصوت مختلف ، وبروح تفارق المألوف في الشعر الجديد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*شاعر
وناقد وأستاذ للأدب الحديث في جامعة فيلادلفيا الأردنية والمقالة نشرت
مقدمةً للطبعة الأولى
.
|