تحرك الموكب في
خشوع باتجاه المقبرة. الوقت غروب وأديم ينبئ بدنو فصل الشتاء. سكون
جميل يخترقه صوت يتنامى من بعيد مرتلا بضع آيات بينات. بين الفينة
والأخرى تشهق والدتي المتزملة بياضها الصقيل فتلتف حولها النساء
مهدئات من روعها مذكرات إياها أن الدموع ستهوي كحبات جمر على جثتي.
كنت أتأمل الجميع من فوق محملي: الأنهر المتقاطعة في أسفل الرابية،
الشمس المتسللة في مكر خلف أدغال الخيزران، سور المقبرة المتربع على
المرتفع، وجوه القوم الحزينة وعيني والدتي الشاخصتين في المطلق. كل
شيء يبدو عاديا تماما. لم يكن يزعجني سوى اهتزاز المحمل تحت جسدي
المتخشب، ونباح الكلاب الذي يخترق –من حين لآخر- صوت المرتل وصمت
الشفق. تذكرت كم كنت مسكونة بهذا الحيوان الخرافي المتعدد الأسماء
(موت، منية، ردى، منون..)، فقد كان للأفق لون الرماد، وللجسد عاهة
تستوطن الفؤاد، وللكف قطعة يأس جارحة.
اقترب
الموكب من سور المقبرة، تقدم رجل ودفع الباب الحديدي الكبير فأصدر
صريرا حادا لا يليق بجلال موت زاحف على أكثر من قدم. تعثر أحد
الرجال، فكدت أنزلق من بين الأكتاف لولا أنه استرجع توازنه بخفة،
مفوتا علي فرصة مراقبة ردة فعل الأهل بعد أن تكشف السقطة عن عظام
وجهي المتصلب!
عالمي
رائحة ولون. رائحة طيبة لأرض مسامها لاستقبال قطرات المطر الأولى،
ولون بني يشبه لون الحقول في مواسم الحرث. مددت يدي وتحسست التراب
الذي يدثرني، كان ناعما ودافئا بعد أن خلصوه من الحجارة والطحالب
رفقا بجسدي الصغير.
كنت أبصر
كل ما يحيط بي رغم أنهم حدثوني عن ظلمة القبر ووحشته. وحسبت أن
الأحياء يتحدثون بثقة عن أشياء يجهلونها كل الجهل. ثم أليس للأحياء
نزوع قوي نحو الخوف والسلبية حيال كل ما يتعدى قدرتهم الاستيعابية؟
ابتسمت لفكرة شيطانية راودتني. ماذا لو تحولت إلى دودة كبيرة بحجم
فيل، وارتديت نظارات شمسية ونزلت في أحد المساءات الرمضانية الصاخبة
إلى الشارع الرئيسي للمدينة. فقد لا يخلو الأمر من طرافة. سيختلط
الحابل بالنابل وسيطلق الشباب سيقانه للريح، ستقلب طاولات المقاهي
وستندلق الكافي كريم والكوكاكولا وعصير البرتقال على الأرض، وسيتزحلق
الفارون فوق السوائل ويتكومون الواحد فوق الآخر وقد أصابهم الرعب.
وستتحول طعريجة أحد العازفين قرب محطة القطار إلى شظايا بحجم حبات
فستق تخز أقدام الكثيرين ممن فقدوا نعالهم.
ستتمزق السراويل وتهجر
الأحذية أكعابها وتنفصد الأجساد عرقا وستفر حافلات "الراحة" قبل أن
تدركها الحشود الهاربة.
تأملت هذا
السيناريو فبدت لي سماجته وأدركت أنني حتى بعد فراقي لعالم الأحياء،
لم أفلت من تأثير رواياتهم الكفكاوية.
لم يكن
لقبري ما يوحي بالوحشة والاغتراب، فالأرض ريا كقرنفلة والتراب ناعم،
وجذور الأزهار البرية تداعب جسدي برفق، تماما كما فعلت ذات يوم أصابع
رجل أحببته.
كان المكان
هادئا وساكنا يبعث التأمل. أحسست بنشوة داخلية عميقة، فقد قضيت حياتي
جلها أحلم بمكان لا يقاسمني إياه أحد. أختلي فيه لأمارس عبادتي وطقوس
صلواتي المتنوعة. ولم أتصور أن الموت الذي كان مجرد التفكير فيه يوقف
شعر رأسي سيكون جسري نحو ذلك الحلم.
الآن
يمكنني أن أكتب اشتعالي الهادئ وتأملي الرصين. سأخطط فوق عظامي
مسودات لروايات عديدة، ثم أسلمها لحيوانات الأرض الأليفة لتقتات معها
سما زعافا يسمى بلغة الأحياء: وعيا شقيا. من يدري فقد تخرج جميع
ديدان الأرض في مظاهرة للإطاحة بسلطة حفاري القبور. وتكون الكتابة
بذلك قد أبانت عن جدواها المفترضة. هذا إذا كان هناك جدوى من الكتابة
أصلا.
استسلمت
لاسترخائي اللذيذ بعد أن طلبت من بعض الدويدات تأجيل مهمة النبش
والدغدغة. فتحت الذاكرة وشرعت إفراغها من أثقال وشجون الأيام الغابرة.
وبينما كنت مستغرقة في التخلص من قيم أوهام الأحياء سمعت فحيح يد
تقترب من راسي ثم تنقض على كتفي وتهزني بعنف، فتحت عيني، فكانت
الممرضة تحثني على الاستيقاظ لتناول.. حقنة الصباح.
قال
الطبيب:
- سنضطر
إلى فتح قلبك من جديد.
قلت:
- لماذا؟
ما الذي حدث؟
-
قال:
- لقد عشش
السطربتكوك في أيسر قلبك، وأحدث تقلصا وتكلسا في الصمام القلنسي
الشيء الذي سيضطرنا إلى بتره وتعويضه بصمام اصطناعي.
حملقت
بذهول في أصابعه الرفيعة الناعمة. كانت أظافره مقلمة بعناية. سألت:
أيعقل أن تعبث أناملك هذه في تجاويف قلبي وتنزل فيه تمزيقا وترقيعا
ثم.. أقوم بعدها حية أرزق؟
ابتسم: من
المحتمل أن يكون ذلك معقولا.
- هل سأعيش
بعدها؟
-
لا أملك
جوابا قاطعا.. هذا النوع من العمليات بات يعرف نجاحا ملحوظا.. غير أن
نسبة حظوظك لا تفوق 10 بالمائة.. لأنها عمليتك الثانية كما تعلمين..
هل تستفيدين من خدمات الضمان الاجتماعي؟
-
لا.
- عليك إذن
باقتناء الصمام وجهاز التنفس وكمية من الأدوية والآلات الصغيرة..
وكلفة ذلك تناهز، إذا تعلق الأمر بأرخص صمام، ثلاثة مليون سنتيم.
قلت وقد
استبدت بي الدهشة: ثلاثة مليون سنتيم؟ الأجدر بي أن أقتني مخيخا
للاحتياط فربما طار صوابي قبل أن أجمع الملينات الثلاثة.
اتسعت
ابتسامته، قال: تصرفي.. ما يزال أماك شهران قبل موعد العملية.
هكذا حسم
الطبيب الأمر وهكذا وقع بكلماته تغيري.
انزويت في
المقعد الخلفي للحافلة، لا أعرف كيف قطعت المسافة بين المستشفى ومحطة
الحافلة، فقد كان هناك تحول ما يحدث في علاقتي بالزمان والمكان
والعناصر المحيطة بي. شيء ما لم أدرك له كنها كان يعبث بأشيائي
الصغيرة وكلمات الطبيب تنتعل صندل الموت وتتسلل في صمت إلى كياني.
ماذا لو تمرد قلبي وأضرب عن العمل احتجاجا على فتحه والاعتداء على
أسراره الحميمة؟ ماذا لو أطبق عزرائيل على خناقي وأرسلني بالبريد
المضمون إلى جهنم؟ يا إلهي.. أيمكن أن يحدث هذا؟ ألم أكن مواطنة
صالحة أطيع والدي ورئيس دائرتنا الحضرية وأؤدي الجزية وأحسن إلى
اليتامى والمتسولين؟ صحيح أنني لم أكن أملك ما أتصدق به عليهم، وصحيح
أنني شتمت يوما وفي سرية تامة رئيس مقاطعتنا الحضرية ولعنت آباء
وجدود جميع المسؤولين. لكن النية أبلغ من العمل، وقد كنت كلما نويت
إتيان حسنة أتيت معصية، ولا أعلم حكم الشريعة في ذلك، لكنني أعلم أنه
لو صح تأويل المعتزلة للآيات المتشابهات لوضعت في منزلة بين
المنزلتين، وربما سمح لي بين الفينة والأخرى بزيارة الجنة ومرافقة
حورها العين!
تحركت
الحافلة بتؤدة، انتبهت إلى شرودي، كانت كلمات الطبيب تتدفق في أذني
ككتل معدنية مصهورة، وكانت عيون بعض الفضوليين تحاصرني بنظراتها
المستفهمة. اللعنة! أكان يلزمني اختبار كهذا لأكتشف رعونتي؟ ومن قال
لك إنه اختبار؟ تعتقدين أن القدر تجشم كل هذا العناء ليسوق لك تجربة
تختبرين بها شجاعتك! ماذا لو تركت جلدك فوق طاولة العمليات؟ بماذا
ستنفعك يومها ادعاءاتك وتخرصاتك؟
-
على الأقل
أترك للأصدقاء ذكرى طيبة ونموذجا يحتذى فيقولون: كانت رحمها الله
شجاعة تعشق الحياة، ولم يكن الخوف من الموت يعنى لها أكثر من وهم
تواطأ الأحياء على افتعاله للقضاء على الرتابة والضجر (كذا).
تذكرت أن
تلك كانت معنوياتي عندما أجريت العملية الأولى. صحيح أنها لم تكن
بنفس الخطورة لأن الأمر كان يقتصر على فتح فجوة في الأذين الأيسر
لتوسيع الصمام، لكن الأهم من ذلك أنني كنت يومها في العشرين، وكنت
أشتعل حماسا وتوقدا مقتنعة أنني أملك مفاتيح القارة الجديدة وأن
الثورة على بعد خطوة من قدمي، وكان الموت لا يعني أكثر من أحد أمرين:
الشهادة أو الابتذال. وفي كلتا الحالتين لم يكن لغزا. وكان ذلك
الاطمئنان الجميل وتلك النمطية الساذجة مصدرا لتوازن نعمت به زمنا
قبل أن تلسعني الأسئلة بفظاظتها الجارحة.
كانت
الحافلة تلتهم شوارع الرباط، وكنت ملتصقة بزجاج النافذة أغالب دمعا
بدأ برسم مساربه على صفحة وجهي. لم تكن لي وجهة محددة، ولم تكن بي
رغبة في العودة إلى البيت. ترجلت وسرت في الطريق على غير هدى. تساءلت
ترى لو فتحوا قلبي هل ستفور خوافيه دما أم ماء؟ وقبل أن يكتمل تشكل
السؤال كنت قد انخرطت في لجة المدينة.
لا أعرف
لماذا أذكر الآن طفولتي كأنني طويت العمر جله ولم يتبق سوى النزر
اليسير، لماذا تقتحمني الذكريات بعنفها البغيض؟ ألأنني شخت وابيضت
نواجدي وتوفيت معظم خلايا جسدي أم لأن لي موعدا مفترضا في مكان مفترض
وزمان مفترض مع كائن ميتافيزيقي مفترض، لا طعم له ولا لوان ولا ملامح
إلا رائحة العبث واسم حركي أتهجى حروفه الراعفة : م.و.ت.
الأصدقاء والأمكنة والعلاقات وشقاوة الأيام الماضية تندفع جميعها
إلى
قبو الذاكرة كأنها تحضر مراسيم توديعي. أشرعت رأسي لاستقبال تلك
الوجوه والخيالات المفتوحة على المنصرم. كنت أجوب الشوارع والأزقة
مصيخة السمع لذبيب خطوي عبر السنين. في هذا الزقاق ضربت يوما ابن
الجيران وعلمته كيف يهاب بنتنا صغيرة في مثل سنة. في ذلك الشارع
حاولت سيارة مجهولة اختطافي ولم أكن تجاوزت العاشرة. في تلك المدرسة
تسلمت مفاتيح المعرفة الأولى وفي ذلك البيت استقبلت رجلي الأول، هنا
اندفعت بحماس مترددة في مظاهرة شعبية وهناك شددت على أصابع نساء
عديدات وحلمنا سوية بالقادم المبهج. كل هذا ألهنا وهناك يستحيل ألان
صورا ووجوها سديمة بعضها غاضب وبعضها الآخر غير عابئ بحزني المسربل
بالخوف.
كان الليل
قد زحف على صدر المدينة انتبهت أنني قضيت أكثر من أربع ساعات أتسكع
دون هدف اللهم تلك المشاكسة العابثة لظلال هاربة من وقتي نافرة
كالوعول الجبلية. وفيما كنت أتقدم، كانت الجدران تقلع ثياب الحداد
وتروي حكايات عن "غ "، عن رنين ضحكتها في الزوايا، عن لون تنورتها
وحجم محفظتها وشكل دميتها. وكنت أمرر يدي فوق الطلاء المقشر علني
أقبض على بصمات يد صغيرة داعبت نفس الجدار وهي تركض خلف أترابها
متحمسة للعبة " الغميضة " وربما خطت بالطباشير الملون آخر جملة نطق
بها المعلم، أو أسندت رأسها إلى الحائط في لحظة شرود، ولم لا تكون قد
كتبت يوما بأصابع مرحة شيئا عن ...الموت.
-ما اسمك
يا صغيرة؟
- غزلان
- كم
سنك؟
-
عشر سنوات.
- تذهبين
إلى المدرسة؟
-
نعم. أدرس
بالسنة الأولى ثانوي...بمدينة فاس.
- وما الذي
جاء بك إلى هنا ؟
-
أشكو من
فجوة تسمح بتواصل الدم بين بطيني الأيسر والأيمن، وتعرقل الوظيفة
الطبيعية للقلب.
- هل
أئتمنك على بعض الأمتعة؟
-
نعم..
هكذا نسجت
الخيوط الأولى لعلاقتي بغزلان، وكان أول ما شدني إليها جمالها الصارخ
وأدبها المصحوب بشيء من الخجل. كانت أشبه ما تكون بحورية صغيرة،
حوراء ندية العينين، متوردة الوجنتين، ساحرة الابتسامة قرمزية الدم.
وبعد مرور أيم قليلة أدركت كم كانت هذه العصفورة الصغيرة محبوبة لدى
قاطني المصحة. كان النداء عليها يتردد على امتداد المساحة التي
يحتلها الألم. وكانت هي تنط من غرفة لأخرى عارضة خدماتها، وابتسامتها
الطفولية لا تفارق ثغرها القرمزي. وشيئا فشيئا بدأت أحبها، وبدأ
تعلقي بها يزداد مع ازدياد الأيام التي قضيتها هناك، إلى أن أيقنت
أننا صديقتين إلى الأبد.
مازحتها
يوما قائلة:
- لم لا
تنتقلين إلى الرباط، فمستوى الثانويات هنا مرتفع، وسأتكلف بك إلى أن
تصبحي دكتورة كبيرة.
ردت بنفس
الأسلوب المازح:
- إن فاس
هي عاصمة العلم، وهي التي بنت ثانويات الرباط. ثم.. من مصلحتي أن أظل
هناك، وأن تكون لي صديقة هنا لأسافر إليها كلما أتعبني أهلي.
وأذكر أن
إحدى الزائرات، رأتنا يوما ملتصقتين، بعد أن أسندت الطفلة رأسها إلى
كتفي منصتة باهتمام إلى ما كنت أرويه لها من حكايات وقصص. فهزت
المرأة رأسها بأسى –ربما كان صادقا- وقالت مخاطبة إياي: "إيه، الموات
مساكن كيتمحنو.. الله يشافيها ويخرجها لك بالسلامة" فضممت غزلان،
كأنني تسلمت رخصة تبنيها، وتمنيت أن تخرج لي بالسلامة!
وفي أحد
المساءات، بينما كنت أعيد قراءة رسائل الأصدقاء، أبصرت خيالها الصغير
خلف الباب الزجاجي للغرفة، تقدمت نحوها، كان يبدو عليها التردد
والقلق، ضممت راحتها ودعوتها للدخول:
- ما بك
أيتها المشاغبة الصغيرة؟
-
قرأت اسمك
في لائحة الغد.
- وهي
تعتقدين أننا هنا في فندق لقضاء عطلة، يجب أن أجري هذه العملية كما
يجب أن تجريها أن أيضا.
- هل
تعدينني بالعودة؟
-
طبعا
سأعود، وهل أتيت إلى هنا لأموت؟
-
لكنهم هنا
أيضا يموتون.
- وهنا
أيضا يعيشون.
لم يكن لدي
ما أضيفه، ولم يبد عليها الاقتناع، تسللت بصمت إلى غرفتها ونامت
باركا، وفي الصباح ظلت تتظاهر بالنوم لتتلافى رؤيتي، ولم تغادر
حجرتها حتى أيقنت أنهم أودعوني غرفة العمليات.
بدأت أختلف
على المصلحة بحثا عن غزلان، كانت تحب الشوكولاتة، وكنت في كل مرة
أقتني لها نوعها المفضل. وبدأت هي تترقب الزيارة وتعاتبني برقة كلما
تأخرت. وفي آخر لقاء أخبرتني أنها لم تعد تطيق وجودها بالمستشفى،
وأنها تلح على أن تجرى لها العملية في اقرب وقت لتغادر ذلك المكان
المغلق. وبعد أسبوع عدت لزيارتها، كنت أحمل في يدي قطعة شوكولاتة وفي
الأخرى حبا بحجم شمس صغيرة. ولم أعثر لغزلان عل أثر. وعلمت فيما بعد
أنها تحولت إلى فعل ماض جارح، إلى نورسة تحلق في مفازات الذاكرة..
إلى قلب صغير توقف نبضه تحت مشرط الجراح. فبكى البياض في عيون المرضى
وصدور الممرضين وبكيت حتى انحبس تنفسي. وفي لحظة اختناق قاتل خيل إلي
أنني سمعت صوتا قادما من مقبرة بعيدة يهمس في أذني: لقد عجز الأطباء
عن سد الفجوة لأن البلد كله يشكو من فجوة تسمح بتواصل الدم بين بطينه
الأيسر والأيمن، فأدركت أن كل شيء يشي بالعبث، بما في ذلك هذه الحياة
نفسها.
وتحركت مع
الموكب في خشوع باتجاه المقبرة
الوقت غروب
وأديم
السماء ينبئ
بدنو فصل
الشتاء.
|