جماليـــات

إضــــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

 

ليلى الشافعي

الوهم والرمـاد

 
 

ليلى الشافعي

ما يشبه التقديم

نـص

 

استيقظت ذات صباح على ما يشبه الدهشة. شيء كالسديم يلفها فتغيم الحدود المؤطرة للأشياء وتفتح العين على قارة جديدة لم تتوقع أن تكون على ذلك القدر من الغموض والغواية.

قال الطبيب إن يدا خضراء تسللت عند الهزيع لتحرث جسدها، فعرشت البذرة وغار جذعها في لزوجة الجدار المدمى. أذهلتها المفاجأة. تحسست قطعة اللحم المكورة أسفل بطنها. خرجت انفعالاتها على شكل صرخة مكلومة تلقفها الطبيب بابتسامة مشجعة.

هي لا تذكر متى داهمتها تلك الرغبة الفجائية في الأمومة. لا تتصور أن الأمر ارتبط بحدث عارض. فقد أحبت رجالا كثيرين عبروا كالمراكب المهاجرة، غير أنها تعلقت برجل بعينه. حسبته مختلفا فمحضته من العشق ما أوقعها في الذهول. وتذكر على وجه التحديد أن الرغبة ترعرعت بين الحنايا يوم كان وجه حبيبها ملبدا بغيوم المسافات. شيء كالشده أصاب تلك القطعة الطرية من جسدها. انتفضت . تقلصت منها الأعضاء، وبدت لها كزهرة بللها الرذاذ فتفتحت وبسطت وريقاتها الندية. رأته يرتعش بين ذراعيها كطفل ممسوس. أحبته هكذا. كم أحبته هكذا. وعندما غادرت، رأت الأرض تفتح مسامها لجداول المياه، فكبرت الرغبة لتصبح بحجم حب أوقعها في الذهول.

حدث ذلك منذ زمن بعيد، بعيد جدا كأنه لا ينتسب لذاكرتها. هي لا تريد أن تذكر شيئا. تريد فقط أن تضع رأسها على صدر دافئ وتنسى. ففي الأمر حكاية قد لا يقدر جسدها الضئيل على تحمل قسوتها الجارحة.

تلقفتها الأزقة بلا مبالاة. كانت الشوارع في ذلك الصباح الخريفي خالية إلا من بعض المارة يغذون السير باتجاه المجهول. تذكرت أنه يوم إضراب عام، وأن الرصاص يلعلع في المدن المجاورة. كم من طفل سيموت هذا اليوم؟ كم من جثت ستتكوم على بعضها عازفة عن الحياة كأنها لم تأت إلا لتذهب هكذا كرؤوس القمح في موسم الحصاد. تحسست بطنها ثانية. هل سيموت طفلي برصاصة طائشة؟ أفزعتها الفكرة فطردتها. فكرت في أن تصنع من الحلم شراعا تهتدي به إلى عالم أقل جنونا. ستنحت بأظافرها صورة لطفلها القادم، بعد ذلك ستورثه بعضا من عنادها ومن بقايا قدرتها على الحلم .

تذكرت أنها لا تجد أحدا تزفه النبأ. كان حبيبها قد هاجر إلى عوالم سرية لا تعرفها. ظل بعيدا كما كان دائما. وأدركت كم كانت غرة يوم حسبته أقرب إلى ذاتها من نفسها.

عبرت الشارع إلى الرصيف الآخر. تناسلت قبالتها ملامح رجال أحسنوا عشقها ولم تحسن مرافقتهم. كانت كمن ينتظر عودة غودو. أو كمن يعشق رجلا لم يولد بعد. تنظر إلى الفضاء الواسع فتبدو السحابات العابرة محملة بالوعد وتنتظر. كل يوم يقربها من ذلك الوعد الغريب في هلاميته والمخيف في غموضه. تذهب وتأتي ثم تذهب وتأتي. تحمل كينونتها برفق خشية أن تقع منها فتنكسر. تقطع المسافات ذهابا وإيابا كحمار اعتاد الدوران حول بئر مهجورة أو كحيوان صغير يؤمن بالحياة ويأمل وينتظر.

أدركت في لحظة خاطفة أنها ستعيش الحدث بمفردها. ستأوي وحيدة إلى فراشها الصامت وستعمل جاهدة على ترتيب أفكارها الهادرة كأمواج المحيط.

فجأة رأت فيما يرى النائم طيفا يتسلل من ثقب الباب ليودعها حزمة أوراق وريشة. استوت في جلستها وهمت بكتابة شيء عن رغبتها في الأمومة. كانت تعلم أن الذاكرة لا تشتغل إلا بالكلمات، لكنها كانت تشك في أن تكون الكلمات قد وجدت من أجلها هي بالذات، لذلك قررت أن تستجمع شجاعتها وأن تكتب بجسدها لغة جديدة عصية على الاحتواء. سأجعل صوتي مسنودا بصداه الخاص. سأكتب بلغة الاختلاف وسأحرف الكوجيطو ليصبح على النحو التالي: "أنا أكتب إذن فلغتي موجودة" هذا ما أسرت به لنفسها في غبش ذلك الليل، مطمئنة إلى أن أطفال الحب يولدون بملامح متفردة.

فردت أوراقها، خطت على إحدى الصفحات جملتها الأولى: "استيقظت ذات صباح على ما يشبه الدهشة..." استوت الجمل اللاحقة بصعوبة بالغة. أدركت أنها تعيش لحظة مخاض عسير. تحسست جسدها، لم تعد النطفة مجرد قطعة لحم مكورة أسفل بطنها. خمنت أن طفلها سيجيء قبل الأوان، لكن شيئا يشبه الأوهام الضرورية للحياة كان يحثها على المكابرة. تعلم أنها ستلد في الألم كما فعلت كل النساء قبلها وكما سيفعلن من بعدها، غير أنها ترغب في وضع جنين لا ينتمي لغيرها. تريده أن يستمد هويته منها، وأن يكون مضمخا برائحة ذلك السائل الذي يجري في عروقها. استولى عليها شعور غامض بأن شيئا ما يحاك في الخفاء. تجمدت أصابعها أمام جملة بدت لها نافرة كالأيل المذعور. أعادت قراءة ما كتبته بوجل ظاهر. لحظتها أدركت أنها لم تكتب سوى حواشي النص واكتشفت أن صوتها كان مسنودا بصدى أصوات أخرى تكاد تتبين مصدرها.

كان النص عاديا إلى درجة الابتذال، كأنها قرأته عشرات المرات قبل أن تكتبه. وكان ذلك الكابوس يشبه إشراقة الصوفي في لحظة صفاء بعد سقوط الأحجبة. وهي تذكر أنها عندما استيقظت كان العالم من حولها صامتا وكان النص بعيدا كأنه لا ينتمي لذاكرتها.

اقرأ شهادة في حق ليلى الشافعـي

أرشيــف

 

 

 

ليلى الشافعي

تصوير: سعيد كوكاز

lchafai@maktoob.com

جماليـــات

إضــــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

 

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.