- تسألني أين كنت وتلومني
لأني لم أبحث عنك؟
- نعم - أكد مزيان - لماذا
تخليتم عني؟ ثم إذا كنت قد نسيت من أنا فأين كنتَ أنت طوال
هذه المدة؟ ربع قرن من الزمـن؟!
تغيرت ملامح وجه محمد، غطته
كآبة سودءا.. تنهد وقال:
- مهلا عليك يا مزيان، لا
تبالغ في اللوم والعتاب، قد تعذرني إذا عرفت الحقيقة، هل
تعرف أين كنت؟
- ذلك هو ما أود معرفته..
يهمني جدا أن أعرف.
سأل محمد بصوت حزين:
- ومن أين أبدأ لك؟
- ابدأ من أي نقطة، المهم أن
أعرف.
كانا يجلسان تحت شرفة بيتهما
يتناولان طعام الفطور، استوى محمد في جلسته، وضع كأسه وأسند
ظهره إلى الجدار، أدخل إلى رئتيه نفسا عميقا حتى انتفخ صدره،
انطلق بصره بعيدا في الأفق، خيم سكون ثقيل قبل أن ينفتح فمه.
- أعتقد أن أبي كان صائبا في
قراره عندما تخلى عنك في ذلك المسجد في تغزوت...
قال مزيان مستنكرا:
- تركتموني طفلا صغيرا كفرخ
بلا زغب، تركتموني للجوع والبرد والضياع؟!
لم يدر محمد بما يجيب، تضاعف
حزنه، حرك رأسه يمينا وشمالا، تجنب النظر إلى مزيان وأخذ
يحكي:
آخر الصور التي أحتفظ بها في
ذاكرتي لأبي وأمي صور ضبابية فقط لكنها موجودة، ذلك أني كنت
طفلا صغيرا، وفي حالة مَرَضية لا يمكن لي أن أصفها لك مهما
حاولت، انتهى بنا المطاف بعد عذاب أليم إلى إحدى البراغي في
قبيلة بني...
- مهلا! مهلا! ما معنى
البراغي؟
- البراغي جمع برغة، يعني
النوالة، هكذا يسمونها في «بني حسان». كانت أحوالنا...
لايمكنك يا أخي أن تتصور حالتنا، طربوش أبي الأحمر بهت لونه،
جلبابه تقطع، وأصبحت تنتابه حالات خرف كثيرة. تقوست رقبته
وأقسم السعال ألا يفارقه حتى يزهق روحه. أما أمي فلو أتيحت
لك الفرصة كي تراها فكن متأكدا من أنك لن تعرفها، ستنكر أنها
هي، سيستحوذ عليك الفزع الشديد من منظرها وستولي فارا. كن
متأكدا من أنك لن تعرفها، ستنكر أنها هي، سيصيبك الرعب من
منظرها وستدبر فارا.. كنا نقتات بأي شيء نعثر عليه في
الغابة، بالضار والنافع، بل بالضار.أكثر من النافع.. وهنت
قواي وذهبت في غيبوبة، فقدت الإحساس بما هو حولي، حتى الشعور
بالألم فقدته... ولما فتحت عيني بعد ذلك وجدت نفسي في دار «القشقاشي».
قيل لي بأنهم عثروا علي شبه ميت في تلك النوالة، وأنه لو
تأخروا في العثور علي لكنت مت. انصرف أبي وأمي وتركاني كما
تركناك في ذلك المسجد. أخذ الناس يسألونني عن إسمي، يسألونني
عن إسمي وإسم أبي وقبيلتي و، و، و، لم أكن أعرف بماذا
أجيبهم. كيف لطفل في مثل سني أن يعرف! كل ما تذكرته هو إسمي
محمد. ولما كنت مجهول الأب والنسب أصبح الناس يلقبونني «بابن
الغابة»...
- ابن الغابة؟ !
- نعـم! ذاك هو اللقب الذي
أُعرف به في بني حسـان.
- ولماذا أطلقوا عليك لقب
ابن الغابة.
- لأننا أقبلنا على بني
حسـان من الغابة التي مكثنا داخلها مدة، وبعدما شفيت عدت
للعيش ثانية في الغابة، قضيت بها أكثر من عشرين سنـة.
- وماذا كنت تفعل في الغابة
كل هذه المدة؟!
- العمــل!... تعاقدت مع
القشقاشي. اتفقنا على أن أرعى له ماعزه. أجرتي تيس أو عنزة
كل سنـة بالإضافة إلى جلباب كل سنتين وخبزة في اليوم.
- نِعْـمَ الاتفـاق!
- كنت مضطرا للعمل في أي عمل
كي أعيش، انقضى العام الأول. انتظرت انقضاءه بشغف كي يكون لي
تيس، فإذا بالقشقاشي يأتيني محاولا التحايل علي ومساومتي.
كان يريد أن يدفع لي أجرتي نقدا وليس تيسا أو عنزة كما
اتفقنا. حاول معي بكل الوسائل.. حبب إلي الدراهم، ولكني
إنسان بدوري وابن فلاح. ولدت في بيت كان فيه ماعز وبقر ودجاج
وبغل، لذلك كنت أتطلع بشوق كبير إلى اليوم الذي يكون لي فيه
تيس. قلت للحاج القشقاشي: ماذا سأفعل بالنقود وأنا أقضي كل
أوقاتي بين الجبال والغابات؟ قال لي: سأحتفظ بها لك عندي.
رفضت فأعطاني تيسي، وفي السنة الموالية أعطاني عنزة.
- وبدأت تروثك تنمـو؟!
- أنصت لي ولا تقاطعني،
المهم هو حياتي بين الغابات. كانت جد مفيدة بالنسبة لي،
جعلتني أخبر الطبيعة وأعرفها عن قرب...
تفحص مزيان هيأة أخيه جيدا،
فلاحظ أنه أتيس، كفاه ثَفِنَتَانِ، صوته أجش، لكن وجهه صورة
طبق الأصل لوجهه هو، وخاصة قوة الأسنان وبياضها.
- عرفت الطبيعة، درستها
دراسة مدققة، حفظت المنطقة بجبالها وشعابها وأوديتها
وخوانقها وجداولها، بأشجارها وحيواناتها وطيورها، صرت أعرف
متى يورق هذا النوع من الأشجار أو ذاك، أنواع الثمار،
فوائدها الغذائية للماعز وللأبقار، هل هي مفيدة أو ضارة،
سامة أو غير سامة، هل تغير طعم الحليب واللبن أم لا، أصبحت
أعرف أنواع الأعشاب المداوية، النوع الذي يصلح لكل مرض، أعرف
موعد تكاثر الوحوش والطيور... تكونت بيني وبين هذه البيئة،
بجمادها وأحيائها علاقة وطيدة، فصرت أفهم أصوات الطيور
والحيوانات... باختصار فقد صرت إنسانا خاصا، لا أعرف المراء
والمداراة، أرعد وأجهم إذا أثارني أحدهم كما ترعد وتتجهم
الطبيعة في الشتاء، وأنشرح وأفرح كما تنشرح الطبيعة في
الربيع، رفاقي كلب وناي وقطيع من الماعز. لم أكن أغادر قبيلة
بني حسان إلا مرة واحدة في السنة، في شهر شعبان، أغادرها إلى
ضريح مولاي عبد السلام، أتبرك به وأدعوه كي ينير لي الطريق
ويدلني على قبيلتي.. يهديني إلى معرفة قبيلتي...
- وهل حقق لك المولى عبد
السلام أمنيتك؟
- لا تتعجل! مولاي عبد
السلام غير بعيد عن قبيلة حسان. يحج إليه الزوار من كل مكان،
يقال أن الشخص الذي يزوره سبع مرات متتاليات ينال أجرا
كبيرا، أجرا يعادل الحج، يقصده الفقير لطلب الغنى، والعقيم
لطلب الذرية، والعليل للاستشفاء، والمظلوم لأخذ حقه من
الظالم، يقصده ذووا الحاجة المتعسرة... أما التجار فيتخذون
موسمه مناسبة للبيع والشراء.. أما أنا، فلا أكتمك يا أخي
مزيان، سأبوح لك بسـر.
بقي مزيان مشدوها يتابع حديث
أخيه، ذهب القنط الذي سكنه بالأمس كما ذهبت الرغبة الملحة في
مغادرة القرية.
- أي سر تريد البوح به يا
أخي محمـد؟
- لولاه، لولا مولاي عبد
السلام - نفعنا الله ببركته - لما اجتمعنا أنا وأنت ثانية في
بيتنا هذا، يجب أن نعترف ببركته.
- تقصد أنه هو الذي جمعنا
ببعضنا؟
- ما في ذلك أي شك.
- كيف؟ هل زارك في المنام
ودلك على بيتنا وقبيلتنا؟
- إذا كان الناس يزرونه سبع
مرات كي تقضى أغراضهم فأنا زرته حوالي عشرين مرة. لم أكن
أطلب منه سوى شيء واحد، هو أن يرشدني إلى أهلي وقبيلتي، أن
أعرف لقبي كي يكف الناس عن تسميتي بـ«ابن الغابة».
مولاي عبد السلام يعمل ما
فيه مصلحتك يا مزيان من غير أن تعلــم.
- قل لي يا أخي مزيان،
أخبرني كيف سيكون حالك وماذا تفعل إذا وجدت نفسك على حين
غفلة متبوعا بعجوز في السبعين من عمرهـا أو أكثــر؟
- ماذا تعنــي، تتبعك؟!
- يعني أينما ذهبت تقتفي
أثرك، تجري وراءك، تراقبك بعينيها كي لا تفلت منها
- أين ومتى حدث هـذا؟
- في مولاي عبد السلام! قل
لي كيف سيكون رد فعلك؟
- تصَنَّعَ مزيان الجدَّ
وقال:
- قلت إنها فتاة في
السبعين... سأطلب منها عنوانها وأبعث بمن يخطبها لـي.
ضحك محمد حتى استلقى على
قفاه وبانت أسنانه المتراصة، ثم عاد لجديته وقــال:
- قلت لك إنها عجوز في
السبعين، موشومة الوجه واليدين، مقوسة الظهر، أطرافها ترتعش،
تستعين على المشي بعصا طويلة، بشرتها كمشتها السنين ورسمت
فوقها خرائط من التجاعيد، لكن نظراتها ظلت حادة وثاقبة.
- لقد شوقتني يا أخي محمد،
إنها كاملة الأوصاف، أتعرف عنوانهــا؟
- يظهر أنك تحب المزاح يا
مزيان.
- لكنك لم تقل لي من تكون
تلك العجوز؟
- لقد أدخلت الرعب إلى نفسي
لما وجدتها تتبعني في ضريح مولاي عبد السلام، أينما أذهب
تتبعني ولا تريد فراقي، أجري، فتجري ورائي مستعينة بعصاها،
أندس بين الناس في الازدحام فتندس ورائي، أتظاهر بالحاجة
للدخول إلى أحد المراحيض فإذا بي أجدها أمامي تنظر إلي نظرات
خاصة، لصقة عجيبة! حيرتني وأخافتني.
- لماذا تحار وتخاف؟ إسالها
عن مرادها وتخلص منها، فربما كانت معجبة بك وبشبابك!
- يبدو يا مزيان أنك نسيت ما
حكيته لك عن طبعي، قلت لك إني عشت بين الغابات وليس لي تجارب
كثيرة في الحياة. خفت منها، وسوس لي الشيطان في رأسي، قال
لي:
«احذر هذه العجوز، فهي ساحرة
خطيرة، جنية متقمصة جسد إنسان، تريد الاقتراب منك لتسحرك
وتسكنك». كدت أن أصيح بأعلى صوتي أستغيث، لم أقدر. قلت مع
نفسي: ما هذه المصيبة يارب؟ ماذا تريد مني هذه العجوز؟ أي شر
ينتظرني منها؟ ما السبيل إلى التخلص من شباكها؟ أجئتُ لزيارة
مولاي عبد السلام طالبا بركته أم أتيتُ لأجد نفسي متبوعا
بعجوز في السبعين؟ نفذ صبري وصبرها لم ينفذ. توجهت إلى صاحب
الضريح، رفعت كفي إلى السماء أطلبه وأتوسل إليه أن يخلصني
منها ومن شـرورها.
- وهل استجاب لدعائــك؟
- يئست وتعبت من الجـري،
فقلت في نفسي: ما لي خائف منها إلى هذا الحـد؟ كيف يمكن
لعجوز أن تخيفني؟ قوتها وهنت، وأنا في كامل قوتي وشبابي،
سأتوقف وأرى ما تريد، شريطة ألا أتركها تمسني بيديها، وإذا
حاولت أن تفعل فالويل لها مني، سأصرعها.
سأل مزيــان: تصرعها؟!
- ذلك ما كنت نويت فعله.
اتجهت إلى مكان فسيح أستدرجها إليه، شمرت على ساعديَّ وقفت
انتظرها في كامل الاستعداد، أطرافي ترتعد. اقتربت العجوز،
عيناها لا تفارقني، استحوذ علي خوف لم أشعر بمثله أبدا حتى
يوم كنا ننام في المقابر والأسواق. اقتربتْ مني حتى صارت على
بعد خطوتين، توقفت واتكأت على عصاها بيديها، سكتت تسترد
أنفاسها المقطوعة وعيناها تلمعان.
- شَكْ ذَ مْحَمَّذْ؟!
.
- ذكرتني بالأرض، سألتها عمن
أنا، وعن اسم قبيلتي، وعن الطريق التي يجب علي أن أسلكها...
كشفت لي عن إسم القبيلة والدوار، حفظتهما عن ظهر قلب، نقشا
في ذاكرتي نقشا.. عدت إلى بني حسـان في اليوم نفسـه.
- ولم ترافقها؟
- والثروة؟ ثروتي، ماذا أفعل
بها؟ ثروتي التي كونتها هناك.
- عن أي ثروة تتحدث؟
- خلال مقامي الطويل في بني
حسـان، اجتمع لي تسعون رأسا من الماعز، صار قطيعي أكبر من
قطيع الحاج القشقاشي.. ورغم ذلك لم تتغير نظرة الناس إلي.
بقيت في أعينهم ابن الغابة، وبقي الناس هم الناس... تخلصت من
الماعز. بعته بثمن زهيد، وأسرعت بالمجيء.
- ومتى حدث هــذا؟
- قبل سنتين فقط. فكرت في أن
أسوق الماعز إلى هنا، ولكني خشيت أن أتيه في الطريق، أو
أستغرق زمنا طويلا وأتأخر عن الوصول.
- لا، لن تستغرق أكثر من سنة
أو سنتين.
- أنت تخلط الجد بالهزل يا
مزيان. لو كنت فعلت ذلك لما تكمنت من مقابلة ذلك الدراز الذي
حمل إليك الرسالة، هذه هي القصة.
- لكن لماذا لم تكتب إلي فور
عودتك؟
- لم أتذكر إسم القبيلة التي
تركناك فيها - تغزوت - إلا عندما سمعت إسمها من الدراز..
الاعتقاد الذي كان لدي هو أنك قد مت.
- فعلا كنت مت، والفضل في
عودتي إلى الحياة يعود إلى أبي السي علي.
أطرق مزيان لحظة يفكر، ثم
ســأل أخاه:
- وأبي؟ وأمي؟ لم تحك لي
عنهما أي شيء!
زم محمد شفتيه، هز رأسه
وقال:
- لا أعلم عنهما أي شيء،
سألنا عنهما كثيرا، هناك من قال لعمي شعيب أنه رأى أبي في
الناضور، وهناك من قال أنه شاهده في تطوان، وهناك من ادعى
أنه رآه في مراكش... ذهب عمي أركاز لهذه المدن... سألوا
وبحثوا عنه، لكنهم لم يعثروا على أي أثر له...
- أتعتقد أنهما لا زالا على
قيد الحياة؟
- لا أدري، وأنت؟
- لدي إحساس خاص.
- نهض الأخوان، وكان الوقت
يقترب من منتصف النهار موعد ذهابهما لبيت عمهما شعيب لتلبية
دعوته لهما.
- أتعرف يا أخي محمد أني قد
اشتقت كثيرا لعمي شعيب وأني متلهف على رؤيته في أقرب وقت
ممكن؟
لفَّهُ محمد بنظرة خاصة،
وأجابـه:
- هل اشتقت لعمي أم لماكي؟
- إليهما معا.
- ذلك ما لاحظته منذ الأمس،
لكن قبل أن نذهب لبيت عمي أريد أن أطلعك على شيء، سأريك
أرضنا أنا وأنت، الأرض التي تركها لنا أبونا.
اخذ محمد يشير بأصبعه إلى
الحقول المزروعة بالفول والجلبان والشعير وهو يتحدث. أما
مزيان، فكان يتابعه بعينيه فقط، ذهنه كان مشغولا بالتفكير...
من كان بوسعه أن يصدق؟ حتى
الأمس فقط، من كان يصدق أنك تمتلك أرضا هنا في هذه القبيلة؟
هل كنت تصدق أن لك هنا أخا
وأعماما وأخوالا؟!
- تحركا وأخذا الطريق لبيت
شعيب. أثناء سيرهما سأل مزيـــان:
- احك لي عن ماكي بنت عمي.
الحقيقة أن ماكي بنت غريبة
الأفكار والتصرفات. إنها كالنصرانية تماما. عمي شعيب قلق جدا
من سلوكاتها. يعيش معها في صراع ومشاكل، لا تشبه بنات القرية
في شيء، دائما ينعتها بالحمقاء... باختصار، إنها غريبة بين
أهلها.
- لكنها جميلة، أليس كذلك؟
- من هذا الجانب أنا متفق
معك، ولكن يا أخي مزيان عليك أن تعلم أن تكـون الفتاة جميلـة
ليس هـو أن يكون لها وجـه جميـل، وقد رشيق، وشعر ذهبي، وشفاه
رقيقة حمراء، وأنف صغير، وعينان حالمتان...
- الله، الله.. أتمم أخي
محمد.. أتمم لا فض فوك...أرى أن الغابة قد علمتك أشياء
كثيرة.