جماليـــات صالـون الكتابـة

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خــــــاص

مواقع مفضلـة

مواقع صديقة

مكتبات الموقـع كشك الموقـع صفحـة القصــر منشورات الموقع

شجـرة الدردار

 روايــة

الكتاب : شجرة الدردار - المؤلف : عباس خليفي - المطبعة: دار المعارف جميع الحقوق محفوظة للمؤلف - الطبعة الأولى الرباط 1996

 

القسـم الأول


 - V -

 

ها أنت قد عدت إلى عملك. سافرت شخصا وعدت شخصا آخر تماما. ذهبت تحمل الهموم والمقالق، وعدت تحمل الإسم والحب والذكريات... في الحافلة تفكر فيها، في العمل، في الشارع، وفي كل الأمكنة تحاصرك صورتها...

تحدثها، تناقشها.. تعيش معها في الحب، في المستقبل والأولاد والبيت، تخطبها.. تتزوجها، تؤثت قصرك بأفخم الأثات.. بالآثاث التي تليق بمقامها.. تلبسها أجمل الملابس.. عش أحلامك. تتجول وهي جنبك في شوارع المدن التي رايتها والتي لم ترها بعد.. تركبها أجمل السيارات وأفخمها.. تسافر بها في البواخر والطائرات.. تزور الجزر البعيدة التي لا تعرف فصلي الخريف والشتاء.. رايتها في فصل الربيع الأخضر فلا تريد أن تعيش في غير الربيع.. تنام في أفخم الفنادق وتتعشى على ضوء الشموع وأنغام الموسيقى الهادئة.. عش حياتك.. حتى الأحلام حياة.. انثر الأوراق النقدية بسخاء وبلا حساب على الخدم الذين ينحنون احتراما لك ولزوجتك الجميلة.. لن تخسر شيئا.. غير أثات بيتك مرتين أو ثلاثا في السنة.. أي آراء هي آراؤك؟ أي أفرشة، ولوحات، ومزهريات، وثريات، ودواليب، وحجرات، وأضواء... والأهم، الأهم من بين كل هذا ماكي التي تتحرك داخل هذا القصر. بدونها ليست للاشياء قيمة. تراها في كل الأوضاع: ونائمة، جالسة، واقفة بقامتها الرشيقة، تعطي الأوامر للطباخين والخدم... عش حياتك في هذا الترف بالمجان.. عش حياتك بلا مرض ولا مشاكل تثير الأعصاب.. أنت تكره المشاكل وتبغضها. أجمل ما حملته معك من سفرك هو الأحلام.. احلم ولا تضيع الفرصة....

بعد أسبوع فقط من عودتك إلى الرباط حضر أبوك السي علي. جاء مباشرة بعد توصله برسالتك التي أخبرته فيها بما حدث.

- اِحك يا مزيان يا ولدي؟ كيف حدث؟ ولماذا أخفيت أمر الرسالة عني؟

- أخفيتها لأني لم أكن أصدق ما جاء فيها. لم أشعر حتى وجدت نفسي مسافرا إلى بني عمارت وحصل ما حصل.

تحكي لوالدك ووجهك إلى الأرض...

- لا بأس يا بني. حسنا فعلت. أنا واثق من أنك لن تواخذنا على أننا لم نخبرك بالحقيقة منذ البداية. فلا شك أنك تعرف السبب يا بني. بأي شيء كانت ستنفعك الحقيقة؟

تستمع لوالدك السي علي أكثر مما تتكلم. لم يكن لديك ما تقوله له.

- كنت أحمل هما ثقيلا يا بني، يجفوني النوم كلما تذكرته، ناران، الشرع والعاطفة، لقد عرفت الآن والدك الحقيقي؟ أليس كذلك؟

- كان اسمه عبد السلام.

- حسنا، مزيان بن عبد السلام،... مزيان بين علي، لا فرق. بالنسبة لي ستبقى دائما ابني، ونفس الشيء لأمك حليمة. أنت ابني، ولكني لست أباك، أنت...

رددها السي علي ثلاث مرات إلى أن اختنق صوته. قمت تعانقه وتقبله على جبينه وفوق عمامته.

- نعم يا بني. أنت ابني، ولكني لست أباك.

- حاضـر يا أبي، حاضـر.

هل يمكن لك أن تنكر ذلك؟

- لقد حان الوقت با ولدي كي تغير إسمك ولقبك وبطاقتك.

- حاضر يا أبي، سأفعل.

أوراق! الأبوة في القلب، وفي الذاكرة، في الدم...

- قل معي يا ولدي، يا مزيان، قل...

- أقول ماذا؟

- قل: باسم الله الرحمن الرحيـم...

أجهشـا معا بالبكاء.

- قل با سم الله الرحمن الرحيم«وما جعل أدعياءكم أبناءكم، ذلك قولكم بافواهكم، والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل، أدعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله، فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين.» صدق الله العظيـم.

- منذ الآن يا بني أنت مزيان بن عبد السلام.

لم تفتر أعينكما عن البكاء.

- لا تدع أحدا ينسبك إلي. لا تسمح لأحد بذلك. هذا أمر الله، وأمره نهي.. غير بطاقة تعريفك، ولا تنادني بكلمة أبي.

- حاضـر يا أبي.

- منذ الآن.

- حاضـر يا أبي، أمرك.

أي الناس يستطيع مناداة أبيه باسمه ولو في خفاء؟! لن تسمح لك نفسك بذلك ولو في الرسائل التي تكتبها إليه.. أبوك هو أبوك.

- مقدمك إلى بيتنا كان فيه خير كثير. سعدنا بك. لم تنقطع الخيرات عنا. أنت نفسك شاهد على ذلك...

كنت قد استعْمَمْتَ كل إخوة السي علي، واستخولت كل إخوان وأخوات حليمة. الكل يناديك بـ «مزيان بن أخي، مزيان بن أختي»...

حضور والدك إلى الرباط كان بداية لتحقيق أحلامك الكبيرة. لو لم يأت في ذلك الظرف بالذات لكانت حياتك قد اتخذت مسارا آخر...

- قل يا ابني. إني أرى أنك لم تستفد من تجربتك التجارية! كأنك لم تبع ولم نشتـر أبدا! إلى متى ستظل تصنع وتعطي لغيرك لينتفع بما تصنعه؟!

لم أفهم ما كان يقصده. تعلمت الصنعة على يد المعلم الوكيلي كي أصير صانعا وإلا فلماذا أخذني إليه بنفسه؟ ثم إني أصنع وأبيع؟

- يجب أن تستغل هذه الموضة التي غزت العالم.

- عن أي موضة تتحدث يا أبي؟!

- الهيبي! هؤلاء الخنافيس الذين يملأون الشوارع، ألا تفتح عينيك؟!

- هل تريد أن أصير هيبيا مثلهم؟!

ابتسم في البداية على جوابك، ثم قال بجد:

- أعوذ بالله، حاشا أن أكون قد ربيت هيبيا في بيتي، لم تفهم؟! كيف لا تفهم؟! ألا تنتبه لما يلبسه الهيبيون ويعلقونه على أكتافهم؟ من المفروض أن تكون أنت أول من ينتبه لذلك؟ هل رايت واحدا منهم لا يعلق شكارة جلدية تغزوتية؟ الذكور كالإناث، كل الصناع في تغزوت أصابهم الهوس. كنت أتساءل: أين تذهب تلك الأعداد الهائلة من الالشكارات المطرزة التي يصنعها الصناع؟

- لكني أصنعها وأبيعها للبازارات يا أبي.

- وهل صنعها كبيعها؟ اِسال التجار بكم يبيعونها، كما قلت لك هي موضة وتزول.. يجب أن تستغل الفرصة. تاجر في الشكارة، أنا ساجمع لك من هناك، وأنت تبيع هنا.

واقتلعك أبوك من صمتك سائلا:

- هل تحتاج إلى أموال؟

لا، لا،...

- إذن لا تتأخر فتضيع الفرصة منك.

وانتقل الحديث إلى ما هو أهم، إلى ما يشغل بالك:

- شيء آخر أود محادثك في شأنه.. بعد أن عرفتَ والدك، فحتى إذا ما صار لك أولاد لن تكون هناك مشكلة.

- الأولاد؟، قلتَ تسأل نفسك.

- هل فكرت في الزواج؟

صوته لم يخترق أذنيك فقط، بل هزك هزا عنيفا.

الزواج والأولاد؟! في الأحلام أنت تزوجت وولدت، وأولادك كبروا، ذكورا وإناثا، تخلقهم حسب المواصفات واللون والجمال...

- لم تجبني، هل فكرت في الزواج؟

- لا. نعم. لا، ثم نعـم!

قلت له بين الحيرة والاضطراب:

- ماذا تعني بـ «لا»، «نعم»، «لا»...؟

- أريد القول: امهلني قليلا وسأخبرك في الوقت المناسب.

عاد أبي إلى تغزوت بعد أن فتح لي عيني على التجارة. عملت بنصيحته، ففتحت محلا لبيع الشكارات الجلدية. لم تكن البضائع تستريح من السفر.. ما أن تصل من تغزوت إلى الدكان حتى تطير إلى أوروبا. الوضع الاعتباري للهيبي تحدده الشكارة، والقديمة منها بالخصوص. أما إذا كانت مقطعة، ومتسخة، فآي، ثم آي...

ابتكر طريقة خاصة لجعل الشكارة تبدو قديمة. يراها الهيبي، فيعتقد أنها تعود إلى عهد عاد وثمود، إلى ما قبل العصر الحجري بمليون سنة أو أكثر! تطلى الشكارة الجديدة بالزيت، وتعرض للشمس أو ترقد في روث البهائم، تمسح بالكحول وماء جافيل، فتبدو «رائعة».

لم تكن هذه الطريقة ترضيني، يعز علي أن أرى قطعة جميلة تتحول إلى شيء يثير النفور والاشمئزاز، ولكن الأوروبيين هكذا!! قال لي صديقي الهولاندي وزبوني «فان ديرك»: تدبر الأمر مسيو مزيان، اجعلها تبدو قديمة، ضعها في الاصطبلات أو في أي مكان شئت.. ما يهمني هو أن تزودني بالشكارة القديمة، أفهمت؟ كيف؟ تدبر الأمر!

كل الشكارات يمكن أن أقوم بتوسيخها وتدنيسها ما عدا شكارة المعلم الوكيلي معلمي وأستاذي. لن أغير من جمالها وفنيتها ولو أغناني الهولاندي بإعطائي أموال هولاندا كلها.

انطفأت الرغبة في الدراسة. أطفأتها ماكي والأموال. بدأت أتردد كثيرا على بني عمارت بمناسبة وبدون مناسبة. لم يعد «الأبوهاري» هو الأبوهاري. أصبح مزيان بن عبد السلام الأزرق صاحب ذلك المنزل. صار ابن القرية، ويتحادث بالريفية، لا يحتاج إلى أحد كي يرشده إلى بيتهم.

و«ماكي» تتغير. لم يعد أحد يناديها بهذا الإسم، بما في ذلك حتى أخويها حسن ويحيى. تغيرت طريقة حديثها لباسها. بدأ لونها يميل إلى لون اللوز.. حتى طريقة كتابتها للرسائل صارت تأخذ طابعا خاصا. أحلى اللحظات لدي كانت هي تلك التي أجلس فيها لاقرأ ما تكتبه لي. أسمع صوتها يحدثني. أشعر بفرحها، بحزنها.. كتبت تقول في إحدى الرسائل الأولى:

«أنا حزينة أشد ما يكون الحزن. لم تعد لدي رغبة في الحياة. فقد قام أبي بإحراق الكتب التي جلبتها معي من هناك، وكسر آلة الكمان التي كنت أعزف عليها من حين لآخر لأبدد الرتابة»

أضافت تقول في الرسالة:

«أتساءل: لماذا يحرق أبي كتبي؟! ولماذا يكسر كماني؟! لماذا يفعل كل هذا وهو الذي كان أدخلني منذ صغري إلى معهد للموسيقى؟ ولماذا كان يدفع واجبات الدراسة هناك ويشتري الآلة كيف تستطيع يا مزيان أن تفسر الفرح الذي كان يشعر به عندما كان يستمع إلى اساتذتي يثنون علي وعلى مهارتي وإجادتي في عزف القطع الموسيقية؟ ما الذي غيره هنا؟ ما الفرق بين أن أعزف الموسيقى هنا أو هناك؟»

تتكرر الزيارات لبني عمارت.

قال لي أخي محمد:

- لو تأخرت قليلا لوجدتها قد تزوجت! كثيرون هم الذين يرغبون في الزواج منها، لكن عمي يردهم. رد الأول، وهو شاب جميل يعمل في ألمانيا، رد الثاني لأنه مزواج مطلاق، ورد الثالث لأن أمه «واعرة»....

أسرعت إلى بيت عمي شعيب، وجدتها في المطبخ تساعد أمها. ترتدي تنورة فضفاضة طويلة، ورأسها معصب بمنديل مزركش...

- هذه هدية بسيطة إليك يا ماجدة.. ساعة يدوية وبعض الكتب التاريخية.

تلقت الهدية وشردت بذهنها.

- ألم تتعملي بعد إتقان فتل الكسكس وتهييء البغرير؟ ماجدة؟!

- لقد ذكرتني بعادة كنت نسيتها تماما، الهدايا!... لم أتلق ولو هدية واحدة منذ مدة، ولو وردة!

- لقد تغيرت كثيرا.. ماجدة.. تغيرت، لكن جمالك ازداد عما كان عليه.. لقد وافقك جو البلد.

- حتى السجناء يخرجون من سجنهم منتفخيـن!

- قيل لي: أنه جاءك خُطَّاب.

- سمعتُ بذلك - ضحكت ثم اضافت - لقد تشيأت.. أصبحتُ بضاعة يتعامل بها من غير إرادتها... لا أدري ماذا سيقول اصدقائي وصديقاتي الأوروبيين لو جاءوا ورأوني على ما أنا عليه الآن!

- سيقولون إنك صرت أجمل مما كنت.

- وأنت يا مزيان؟ كيف ستعامل أولادك في المستقبل؟

- كما تريدين أنت.

- وماذا تفضل؟ ولدا أم بنتا.

- سيكون عندنا أولاد كثيرون وبنات كثيرات.

- كم؟ - ضحكت ثم اضافت - ثمانية، عشرة؟ عشرون؟

لم أغادر القرية هذه المرة حتى قضي الأمر. كلفت عمي أركاز بالمهمة. قال لي عندما أخبرته برغبتي:

- أومري! شوفرينا برا إلشوفرينو!... مرابيوسا، طرانكيلو[27].

تم الأمر، وعرجت على تطوان. كنت على موعد هام هناك.... فرصة. اشتريت قطعة أرض فوقها منزل على الطريق المؤدية إلى المضيق...

بعد مدة كنت سأنفجر بالضحك داخل أحد المكاتب لولا أن سألني أحد الموظفين:

- هل هناك أمر؟

مددت له شهادة طبيب المصحة وشهادتي التلقيح ونسخة من عقد الزواج.

- أريد تسجيل هذين التوأمين.

توأمان دفعة واحدة.. مسكينة زوجتي ماجدة التي كانت تريد بنتا لا غير.

سألني الموظف: اسم الطفل الأول؟

- اكتب: عبد السـلام.

- والثاني؟

- علـي.

- اسمك أنت؟

- مزيان بن عبد السلام.

- أم الطفلين؟

- ماجدة بنت شعيب.

تحققت الأحلام كلها تقريبا ماعدا شيء واحد ظل يشغل فكري باستمرار: أين أبوك عبد السلام؟ أين اختفى؟ ولماذا لم يظهر حتى الآن؟


[27] (بالإسبانية) يا رجل! بنت الأخ لن تكون إلا لابن الأخ!... رائعة! اطمئـن

 

14:26:16

عبـاس خليفـي

 

المحتــوى

القسـم الأول

 I

 II

 III
 IV
V
VI

القسـم الثانـي

 

 

 

 
 
 
 

 

L

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ النشر 27 ينايـر 2002.