جماليـــات صالـون الكتابـة

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خــــــاص

مواقع مفضلـة

مواقع صديقة

مكتبات الموقـع كشك الموقـع صفحـة القصــر منشورات الموقع

شجـرة الدردار

 روايــة

الكتاب : شجرة الدردار - المؤلف : عباس خليفي - المطبعة: دار المعارف جميع الحقوق محفوظة للمؤلف - الطبعة الأولى الرباط 1996

 

القسـم الأول


 - IV -


 

وجداها جالسة قرب المنزل فوق صخرة تحت ظل شجرة لوز، تلمع، تخطف البصر. تجاهلها محمد وقصد المنزل. أما مزيان فقد انجذب نحوها. آية، رائحة أزهارها عطرة، بياض فاتن، عنقها يثير الشهـوة...

أجابته عن تحيته الصباحية وهي لا تكف عن مداعبة خصلات شعـرها المذهب:

- بونجور مزيان.

خرجت الكلمات من بين شفتيها الرقيقتين نغمة موسيقة، نغمة لم يلحنها فنان. طربت أذنه، سُرَّت عيناه، اهتز... رؤيتها تحت ضوء الشمس أجمل بكثير من رؤيتها على ضوء المصباح الغازي ليلة أمس. أي بياض وأي شعر؟! تناسق كبير في الأعضاء، سبحان الخالق! سبحان الخالـق!

لأجل أن يسمع صوتها يسألها عن أي شيء، المهم أن تحرك شفتيها. نسي مزيان نفسه أمامها ، نسي عمه وأخاه وكل شيء.

قالت ماكي:

- أبي في الداخل يسلخ خروفا «قتله» بوحشية وهمجية الشعوب البدائية، «أسَّان ويايا»[25] يتفرجان عليه وأمي في المطبخ.

- وفي بلجيكا؟! كيف تحصلون على اللحم؟

- نشتري اللحم من عند الجزار.

- وكيف وجدت القرية؟ هل راقتك؟

توقفت عن مداعبة شعرها، جمعت ركبتيها، عبست، هزت كتفيها ونطقت:

- لقضاء أسبوع أو أسبوعين، لا بأس... يمكن احتمالهما... لكن شهر، لا، C’est trop!

أخذه العجب. تذكر حركاتها لما دخلت عليهم ليلة أمس: يداها في جيبيها، خطواتها، وطريقة تحيتها له، نعت أبيها إياها بالحمقاء...

- لم أفهم... ماكي!

- تفهـم ماذا؟ C’est simple!، أرغب في العودة إلى بلادي.

- لكن عمي قال إنكم قد عدتم نهائيا إلى المغرب.

- هم وحدهم عادوا نهائيا، pas moi!

هل صدقت ما قاله لك أخوك محمد؟ ألم يقل لك إنها «ملعوقة»؟ غريبة الأفكار والتصرفات. ماذا تحمل الفتاة في دواخلها؟ أي مرض أصابها؟ لا شك في أن بعقلها خلل... لكنها جميلة إلى حد الفتنة. أيمكن لهذه المخلوقة أن تجمع كل هذا؟ لا تستعجل... اعرفها أولا، جادلها، وناقشها قبل أن تحكم، وإن اقتضى الحال جابهها وقارعها بمنطقها، المهم أن لا تستسلم.

- ألا تأتين لندخل إلى البيت؟

يسيران جنبا لجنب، قامتها الرشيقة بطول قامته رغم أنها لم تتم الثامنة عشرة بعد، خطواتها رقصة متناغمة، تمشي متنصبة، مرفوعة الرأس، أطرافها تتحرك بحرية. قوة خفية تجذبه إليها، مغناطيس، تيار لا يقاوم. فما أن احتلا بجسميهما مدخل المنزل حتى ارتفع صوت عمه شعيب مرحبـا.

- مرحبا بابن أخي مزيان.

تجاهلت أباها ومحمد كأنهما غير موجودين، مالت يسارا نحو المطبخ. تعانق مزيان وعمه شعيب، فسمعه يقول له:

- قل لي يا مزيان كيف استطعت أن تكلم تلك الحمقاء وتحلل عقدة لسانهــا؟

- أصلحها الله يا عـم.

قل له إنها ليست حمقاء، قل له إنها فتاة رائعة. لاتخف، فهو عمك. لا شك في أنه متحضر، لا شك في أنه قد تأثر بالأوروبيين أثناء مقامه هناك... في أوروبا يسعدهم أن تتغزل بزوجاتهم وبناتهـم...

- وعمي أركاز؟ ألم يحضر بعـد؟

تراه في الطريق، سيكون هنا بين الفينة والأخرى. مواعيده جد مضبوطة. هيا نجلس.

أمسك شعيب مزيان من يده واتجها معا إلى سقيفة مفروشة بالزرابي والمخدات، طاولة مستديرة فوقها صينية امتلأت واجهتها بلوازم الشاي، وآلة تسجيل ومذياع. أغلب التجهيزات مستوردة من أوروبا. وعند مدخل المنزل حيث كانت تجلس ماكي رأى سيارة ميرسديس حمراء لوحة أرقامها مكتوبة باللون الأحمـر.

«الملعوقة»، الحمقاء، المجنونة، لسانها معقود العودة إلى بلادي! كلمات مرت بخياله متلاحقة.

قال شعيب: ليتني كنت سمعت كلام أمي...

ماذا سيقول لك هذه المرة؟ يبدو أنه لم يسمع كلام أمه أبدا. نظر مزيان إلى وجه عمه متعجبا متسائلا.

- كانت على صواب عندما وقفت في وجهي تمنعني من الذهاب إلى بلجيكا. لو طاوعتها لما رأيتني اليوم أعيش في مشاكل مع أولادي. آراء الوالدين، يا مزيان، يا ولدي، يجب على الإنسان أن يتبعها ويعمل بها حتى ولو ظهرت في البداية مجانبة للصواب...

- سيكبرون يا عـم وتنتهي مشاكلهم، الأولاد زينة...

- أتعرف بماذا تنعتني تلك العاقة المتمردة التي تنحدر من صلبي؟... تقول عني دون أن تستحيي: «متوحش، متخلف، أمي، غير منظم...» هل هناك مغربي يرمي والديه بمثل هذه الأوصاف؟

لم يجد مزيان كلمات ليجيب بها عمه، فيما لازم محمد الصمت.

- اشتغلت هناك سنة ثم عدت إلى هنا كي أتزوج. كانت أولى ثمرات زواجي. كانت في صباها رائعة وجميلة.. لما كنت أسافر وأتركها هنا كانت صورتها لا تفارقني أبدا.. شوقي إليها كان نارا.. لم أطق فراقها.. مللت من حياة الوحدة.. أخذتها معي وأمها كي يؤنساني في وحدتي. أدخلتها لدار حضانة الأطفال، فالمدرسة الابتدائية والثانوية... هي الآن تتحدث بعدة لغات: الفلامانية، والفرنسية، والإنجليزية... تتفاهم مع الألمان والهولانديين، والدانماركيين... زارت كل البلدان الأوروبية تقريبا، اليونان، النرويج، إيطاليا، سويسرا، دون الحديث عن فرنسا وإسبانيا... لكن ياخسارة!

من أين لك أن تقدر عليها يا مزيان؟! احسب أوراقك جيدا.

- تعلم اللغات يا عم شيء جميل ومفيد، مزية وليس عيبا، والسياحة أفيد. إنها فتاة محظوظة.

صـاح بعصبية وصوت عال:

- وأين الريفية؟! وأين العربية؟ أين الأصل؟ تكتب اللغات الأجنبية وتقرأها، لكنها لا تعرف ولو حرفا واحدا بالعربية، هَـهْ؟! «مْوَا كُونِيطِرْ بَارْلِي فرَانْسِيسْ، وي، مْوَا طْرَافَايِّي لاَ بَا، بُّو بَارْلِي بُّولِيتِيكْ، طُّو، سُوسْييطِي، مْوَا وي» ، لكن أختي مينوش أين لها أن تعرف هذا، ورغم ذلك لا تكلمها إلا بالفرنسية.

- وأين كنتم تقضون عطلكم السنوية؟ ألم تكونوا تأتون للمغرب؟

- بلى، هنا في المغرب، وبالضبط في القرية، ولكن ماجدة لم تكن تأتي معنا، لم تكن تأتي بسبب طبيعة عملي. كنت أشتغل هناك في شركة لصنع المشروبات، لذلك كان موعد عطلتي السنوية لا يتزامن مع موعد عطلتها هي، كنت آخذ عطلتي دائما في فصل الشتاء، في الوقت الذي تكون فيه هي مشغولة بالدراسة، وفي فصل الصيف عندما تكون هي في عطلة أكون أنا في العمل، ولهذا أيضا كانت تسافر إلى الدول الأوروبية مع صديقاتها.. لو كنت أعرف أن النتيجة ستكون هكذا لكنت قومت اعوجاجها - محركا يديه علامة على الضرب - وليكن ما يكون.. هل تعلم أن عددا كبيرا من الآباء وصلوا مع أبنائهم هناك إلى حد إيداعهم في الكوميساريا؟...

دخل أركاز، قطع شعيب كلامه في موضوع ماكي وأوروبا، انشغلوا بمواضيع أخرى. وفجأة خيم صمت على الجميع، واستداروا إلى صوت ينبعث من المطبخ:

- ميـرد، ميرد، ميـرد، فوطي موا لابِّي.

قال أركاز:

- ماذري ميا! كاياطي نينيا، كي كارا طينيس إيخا؟![26]

تكهرب الجو فجأة، صعد الدم إلى رأس شعيب، إلى عينيه وأذنيه، وقف واتجه نحو المطبخ. علم مزيان بنواياه، فتبعه. ظهرت ماكي وأمها. وجه أمها اصطبغ بلون أصفر، أما هي فكانت عادية باستثناء مسحة خفيفة من القلق على وجهها.

اتجه شعيب بالكلام لزوجته أولا:

- ماذا هناك؟ et toi, qu’est-ce que t’as? أبمثل هذه الألفاظ يستقبل الناس أفراد عائلتهم؟! أما خجلت من نفسك؟!

رفع يده إلى السماء، لكن مزيان كان أسرع منه، أمسكه واستعطفه. تذكر مزيان مشهدا قديما، مشهدا وقع في مسجد تزرين قبل ربع قرن...

- إنها (أمها) ترغمني، تريدني أن أضع كحلا على عيني، وأن أخلع سروال الجينز وألبس تنورة.. إنها تعرف أنني أتوفر على كحلي وسواكي في حقيبتي.. فيما يخص لباسي، فأنا حرة.

ازداد وجه الأم احمرارا، فخفضت رأسها إلى الأرض.

- بدل أن تساعدي أمك في المطبخ، فتتعلمي منها فن الطبخ... تحدثين فوضى؟

- لا حاجة لي لتعلم طبخكم، سآكل في المطاعـم.

- هيهات! وأين المطاعم هنا؟

- أعد لي جواز سفري.. أحذرك.. أنا لست من الفتاة أو النساء اللائي يعشن حياتهم تحت سلطة الرجل؛ الأب، والزوج، والأخ، ولست أدري... أعد لي جواز سفري.. أنا لم أولد لأكون سلعة كنسائكم وأمهاتكم اللواتي لا شغل لهن إلا الإنجاب...

- جواز سفرك؟! - قال شعيب - نجوم السماء أقرب إليك منه.. إنك تحلمين يا عزيزتي، تجرين وراء السراب.

- أنا بلجيكية الجنسية ولست مغربية...

- إنها تريد العودة إلى بلجيكا - موجها الكلام إلى مزيان - أتقوى على تصديق هذا يا ابن أخي؟ حصلت على جواز سفر بلجيكي، فإذا بها بلجيكية...

- إذا لم تعد لي جواز سفري فسأسجل شكاية ضدك، سأكتب إلى الحكومة البلجيكية.

- من هذه الناحية أنت حرة، اكتبي وسأتكلف بنقل الرسالة إلى ترجيست وإيداعها في البريد، لكن جواز السفر لا، لا يا حبيبتي، لن يصبح أبوك أضحوكة في القبيلة.

- أريد فقط أن أعرف، ما دخلكم في حياتي؟ وما شأني أنا بعاداتكم وتقاليدكم؟ أنا أرفض الخضوع لأي سلطة ضاغطة أيا كان مصدرها. أنا حرة.. حرة.. هل تعرفون ما معنى الحرية؟

- اسكتي يا بنت - قالت أمها - كفي عن مخاطبة أبيك بهذه النبرة المتحدية.

- أنت، أنت التي أغريتني بالمجيء إلى هنا. قلت لي: شهر واحد ونعود.. أنا لا أفهم لماذا تخشون قول الحقيقة. لماذا لم تقولي لي صراحة بأنكم تزمعون العودة نهائيا للمغرب؟! لماذا؟! لماذا؟!...

قاطعها أبوها وهو يضرب الأرض برجليه:

- اسمعي، ماجدة، ابنتي، أنت ريفية ومغربية، من هنا، من هذه الأرض.. هنا رأيتِ النور لأول مرة، وهنا ستموتين.. جواز السفر الذي تحلمين به قطعته ومزقته تمزيقا...

- ولكني بلغت سن الرشد، لم يبق لي سوى ستة عشر يوما...

- أنت هنا قاصرة، وستظلين قاصرة حتى ولو كنت في سن التسعين.

عاد شعيب ومزيان للجلوس مع أركاز ومحمد، وتركاها تغمغم بالفلامانية والفرنسية. لا أحد عرف ماذا كانت تقول، أكانت تسب وتلعن أم ماذا؟

نسي مزيان نفسه في قريته الأصلية. زال الضيق الذي كان يحس به في اليوم الأول. أخذت الأيام تنساب بسرعة. ضيافات.. عشاء عند هذا العم، غذاء عند هذا، وفطور عند ذاك، من بيت لبيت.. لم يعد مزيان ذلك «الأبوهاري». أصبح مزيان بن عبد السلام، ابن القرية، وصاحب ذلك البيت وتلك الأرض. شغلته ماكي وازدادت رغبته الملحة في التعرف عليها أكثر.

قالت له خلال إحدى الجولات بين الحقول رفقة أخويها حسن ويحيى:

- لقد صدمتني الحقيقة التي كنت أجهلها.

- أية حقيقة؟

- قبل المجيء إلى المغرب، كنت أحمل أفكارا عن المجتمع الريفي.. كنت أعتقد أنكم هنا تتمتعون بحرية أكثر ما يتمتع به الناس عندنا «هناك»...

- الحرية؟!

- أقول إن الإنسان الفرد «عندكم» مسلوب الحرية، ذائب في الجماعة. الأنا لا مكان لها، ولا وجود لها إلا داخل الجماعة.. وجود المرء رهين بوجود المدشر والقبيلة.. وفي هذا يتساوى الرجل منكم والمرأة...

ها أنت يا مزيان قد دخلت معها في «حمقها»

- طبعا، الفرد لا يمكن أن يعيش بدون أفراد جماعته.

- أنت تقصد المنافع بلا شك.. أما أنا فأقصد العادات والتقاليد والطقوس والأعراف... باختصار، اقصد كل ما له سلطة على الفرد والجماعة، الأشياء التي تختزل الأنا إلى النحـن...

- أرى أنك تنظرين إلى هذه الأشياء من زاوية خاصة فقط.. أتنكرين أن العادات والتقاليد تساهم في تماسك البنيان الاجتماعي وبقائه؟

سكتت قليلا تفكر. رأى زهرة حمراء في أحد الحقول. أسرع نحوها وقطفها، ثم قدمها لها، وواصل حديثه:

- أتريدين أن يقوم المغاربة بتقليد الآخرين وتقمص شخصيتهم؟ هل تريدين أن نأخذ معايير الأوروبيين وقيمهم؟ أن نتخلى عن جذورنا؟ هل تظنين أن الحضارة الأوروبية «موديل» يتحتم على كل الشعوب أن تتبعه إذا ما أرادت «التقدم»؟

- ولم لا؟ ما دامت كل الشعوب غير الأوروبية تلهث وراءها؟ حضارة أوروبا هي الحضـارة...

- إذن، أنت تنفين دور الشعوب غير الأوروبية في بناء الحضارة البشرية؟ شعوب بلاد الرافدين، المصريو، الهنود، العرب، وغيرهم؟

- لكن لماذا بقيت هذه الشعوب متخلفة ولم تصل إلى ما وصلت إليه أوروبا؟

- الأجدر بك أن توجهي السؤال للأوروبيين أنفسهم. إسأليهم عن الأكتاف التي بنوا عليها حضارتهم؟ وعلى حساب من شادوها؟ المركزية الأوروبية عبارة عن خداع بصري، اعتقاد خاطيء شبيه بالاعتقاد الذي كان يسود قبل كوبرنيك...

- والمرأة؟ لماذا تعتبر المرأة عندكم مجرد شيء من الأشياء التي يملكها الرجـل؟

- المرأة - يا ماجدة، وهذا من حقك أن تفتخري به أمام الأوروبيات - المرأة العربية والمسلمة كانت هي السباقة إلى الحرية. كان ذلك قبل أن تعرف نظيرتها الأوروبية الحرية بقرون. في صدر الإسلام كانت المرأة العربية تتمتع بكامل حقوقها في الملكية والتصرف بأموالها، في اختيار زوجها، وفي إبداء رأيها في المسائل السياسية والقضايا العامة، فجابهت الخلفاء والحكام، وحاربت، وتعلمت، وتثقفت...

- لكن، كيف تفسر وضعها الحالي؟ مهمشة، مضطهدة، مستغلة من طرف الرجل، تكثر من الإنجاب، وجاهلة لا تعرف القراءة والكتابة...

- وفي أوروبا؟

- On est libre chez nous!

- نعم، لكن هل تعني الحرية عندكم استعمال المرأة في إشهار البضائع والسلع الاستهلاكية؟ إذا كانت المرأة عندنا تخضع لسلطة زوجها كما تقولين، فهي في أوروبا تخضع لسيطرة زوجها ورب عملها. أما كثرة الإنجاب، فتلك خاصية من خصوصياتنا... المرأة التي تنجب أكثر عدد من الأبناء تشعر عندنا بزهو وافتخار وأمن.. قولي ماكي: أين يقضي العجزة بقية أيامهم في أوروبا؟

- في دور العجزة! ولماذا هذا السؤال؟!

- تخيلي نفسك منبوذة في دار للعجزة، تخلى عنك الجميع...

- لكنني في عز الشباب!

- أعرف أنك شابة ورائعة الجمال، ولكن...

- قاطعته:

- ميرسي على المجاملة.

- بل هي الحقيقة، أنت فاتنة... لكنك لم تجيبي عن سؤالي.

تجنبت الإجابة عن السؤال الموجه إليها وسألت عن موضوع آخر:

- لكن، كيف تفسر تصرفات أبي معي؟ لماذا يسحب مني جواز سفري ويرغمني على البقاء هنا؟

- ذاك أمر طبيعي... ثم كيف تفسرين تصرفاتك أنت معه؟ أبوك لديه مبررات ودوافع...

- مثلا؟

- أولا أنت ابنته، قطعة غالية منه، يحبك ويخاف عليك، وهذا طبيعي بالنسبة لأب له بنت بمثل جمالك.

- تتحدث كثيرا عن الجمال!

- قد يكون ما ذكرته لك هو المبرر الظاهر. أما المبرر الدفين، فأعتقد أن والدك قد تعرض هناك لضغوطات وإحباطات نفسية واجتماعية لم يتمكن من تفريغها على «أعدائه»، ومن الطبيعي أن يبحث عن موضوع بديل، موضوع يكون في متناول يده، أنت مثلا.

- غير معقول ما تقوله!

- هذا مجرد افتراض لا غير!

- والسبب؟! لماذا أنا بالضبط؟ لماذا لم يختر أمي أو أية فتاة أخرى غيري؟

- لأنك تتشبهين بالأوروبيات، فيرى فيك موضوعا للإنتقام. حاولي أن تتغيري وتتكيفي، وسترين...

- أتغير؟!

- وإلا لن يفهمك أحد. اندمجـي.

- أنت أيضا تريدني أن أكون صورة لهؤلاء النساء، ألبس كما يلبسن، وأفكر كما يفكرن، أنام وأنجب؟! لا، لا، لن أستطيع التنكر. مستحيل. أريد العودة إلى بلادي. لن أتقهقر قرونا إلى الوراء. أنا حرة ولي طريقتي في الحياة. سيبيريا! منفى!

توقفت ماكي عن السير. تأملها مزيان جيدا. كانت قد قطبت ما بين حاجبيها تفكر. رأى مزيان أنها أشبه ما تكون بأنشودة رائعة. كل شيء فيها فاتن وساحر، شعلة متقدة أنوثة. جسدها يثيـر شهـوة الميت. رآها ذاهلة، فأراد أن يقتلعها من ذهولها:

- لن نتركك تعودين لبلجيكا قبل أن نخضب يديك بالحناء، ونضع كحلا في عينيك، وليس قبل أن نسمع دقات الطبول والغيطة في بيت عمي.

انفجرت ضاحكة وقالت:

- ها ها ها... أتزوج؟ لا أفكر في هذا. ليس قبل إتمام دراستي وضمان مستقبلي.

- وماذا تدرسين؟

- أعتقد أنني سأتخصص في دراسة التاريخ أو الفلسفة.

انتهت الجولة بين الحقول. مر الوقت الذي استغرقته كحلم رائع، كلحظة مسروقة من حياته. انتهت الجولة الحلم. وفي الليل عندما آوى مزيان إلى فراشه استعصى عليه النوم. ترك العنان لأحلام اليقظة التي أسرته. وهل هناك أفضل من الليل لتوارد الأفكار والخواطر والأخيلة؟ يستعرض كلام زوجة عمه شعيب ويفكر: «كانت ابنتي ماجدة طفلة عادية، لا ندري ماذا أصابها على حين غفلة.. أصبحت تميل إلى العزلة والانطواء على نفسها.. لا تكاد تنسى الحديث عن بلجيكا وانتقادنا أو توجيه اللوم إلينا...» أما أخوه محمد فقد أسر إليه قائلا: «لقد علمت من زوجتي أن عمي شعيب وزوجته يعتقدان أن ابنتهم قد سكنها جني، جني نصراني، وقد عرفا ذلك من فقيه ساحر، وقد سمعت أن الفقيه طلب من عمي مبلغ أربعة آلاف درهما ليقوم بصرع الجني وطرده من جسمها».

سأل مزيان: وأنت يا أخي ما رأيك في ماكي؟

- تطلب رأيي أنا الذي عشت في الغابة؟

- ولم لا؟!

- إذا كان لابد من ذلك، فسأستمد رأيي من الغابة.

- ليكـن.

- هذيك الملعوقة دبنت عمي، فحال شي شجرة كانت مغروسة في تراب مزيانة قلعوها وداوها لتراب ماشي مزيانة

 

14:40:57

عبـاس خليفـي

 

المحتــوى

القسـم الأول

 I

 II

 III
 IV
V
VI

القسـم الثانـي

I

II
III
IV
V
VI
 

 

L

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ النشر 27 ينايـر 2002.