تقديـــم

بعيـدا عن المألـوف...

بقلم: د. حسن المنيعي

يعد الأستاذ محمد أسليم من أعز الأصدقاء ومن الأدباء الفاعلين في الساحة الثقافية ببلادنا. وإذا كان اسمه قد اقترن بترجمة بعض الكتب التي أنجزها باحثون مغاربة أو مستشرقون أمثال جلبير غرانغيوم، فإن لديه أبحاثا قيمة عن الأجناس الأدبية الكبرى نشرها في كتابه «ذاكرة الأدب» الذي عالج فيه بإسهاب موقف الإسلام من الشعر، ومساهمة الرواية في التحليل النفسي والإثنولوجي، وكذا الخلفية الأنثربولوجية للأشكال الماقبل/مسرحية انطلاقا من التجربة المغربية.

وعلى خلاف الدراسات المتداولة عن هذه الأشكال - والتي تعالجها باعتبارها مجرد نقلات تراثية يعمل المسرحيون على تفعيل قوالبها في كتابتهم الدرامية - فقد خلص الأستاذ أسليم في دراسته إلى الاستنتاج التالي، وهو «أنها تقع في صلب ما يمكن تسميته بإثنولوجيا المسرح». ولهذا حرص على تفكيك وظائفها النفسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية ومدى اندماجها في السياق الثقافي العام.

ومما لا شك فيه أن هذه المعالجة ترتبط بتخصصه في مجال علم النفس التحليلي الإثنولوجي الذي دفعه إلى الاهتمام بأسرار الوجود والكشف عن خفاياه كما يتجلى ذلك في رائعته «حديث الجثة» التي تدعونا من خلال محكيها إلى عقلنة «فعل الموت» انطلاقا من تأمل ذاتي، ومن خلال رصد عميق لحالات إنسانية معيشة.

إضافة إلى هذا العمل، كتب محمد أسليـم ثلاثة نصوص سردية وهي على التوالي: «كتاب الفقدان»، «سفر المأثورات»، «بالعنف تتجدد دماء الحب». وقد كشف فيها عن عوالم إنسانية رحبة، كما أعلن فيها عن مواقف صريحة من الذات (ذات الكاتب)، والآخر، والحب، والمرأة، وأخلاقيات المجتمع، وكذا مؤسساته التي تسعى إلى تدجين الفرد واستبلاده كما تفعل مؤسسات الإشهار التي لا تخرج عن دائرة التحايل والابتزاز واللصوصية.

إن مثل هذه الآراء وغيرها يحبل بها كتاب «بالعنف تتجدد دماء الحب». وهي رواية تقول ما لا تستطيع قوله بعض الروايات. وهذا ما جعل محمد أسليم يخرج عن المألوف ليسرد علينا أحلامه وأحزانه وأشواقه الدفينة، وإلا أبحَر بنا في مدارات عملية كما هو الشأن في كتابيه «أبحاث في السحر» و«السحر من منظور إثنولوجي». وإذا كانت ترجمة هذين العملين قد وضعتنا أمام معلومات فائضة وفريدة عن السحر باعتباره مجموعة من الممارسات الخفية والشعائر التي يخترق الإنسان من خلالها قوانين الطبيعة، فإن عملية رصد مواصفاته لدى الشعوب، وكذا تفسيراته العلمية لم يكن مجرد إسهام ثقافي عابر بالنسبة لمحمد أسليم، وإنما هو حصيلة اهتمام كبير قاده، قبلا، إلى إعداد أطروحة جامعية في الموضوع لا يمكن في اعتقادي أن يكون كتاب «هوامش في السحر» إلا فيضا من موادها المتجمعة أثناء عملية التحري. لهذا يمكن تلخيص معطيات العمل كما يلي:

في البداية طرح الأستاذ أسليم مسألة وجود ممارسة السحر أو عدم وجودها، أي فعاليتها أو غيابها. ومن الملاحظ أنه لم يقف عند المعالجة الأنطولوجية للقضية، وذلك لتبني طرح ليفي ستروس القائل بأن الإيمان بالخفي خاصية لا تميز المجتمعات البدائية - والمتخلفة عموما - من خلال تقديم أرقام مثيرة حول الممارسات السحرية والتنجيمية بفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية.

أما عن قراءة هذا السؤال، فقد اندرجت على مستويين تناول الأول دلالة تواتر طرحه من قبل المبحوثين المغاربة، حيث تم الانتهاء إلى أن ما يكمن وراء هذا التردد هو التصدع العميق الذي أصاب الإنسان العربي، وضمنه المغربي، نظرا لمثاقفته مع الغرب. أما الثاني، فقد خلص إلى أن ما يحرك ذلك الطرح هو سعي المبحوثين لتحديد موقع الباحث. وباختبار جملة مواقع هي على التوالي: الباحث، عديم النية، المريد، والساحر، تـمَّ تأكيد طرح جان فافري سعادة القائل بأنه «في إثنوغرافيا السحر يجب دائما [على الباحث] أن يحتل موقعا ما»، مع ملاحظة أن تقمص الباحث دور الساحر يتيح له الحصول على مادة إخبارية هامة.

بعد ذلك انتقلت الدراسة إلى تناول السحر في سياقين أحدهما عائلي والآخر اجتماعي، مع الحرص في الحالتين معا، على إظهار ملابسات جمع المادة الخبرية انطلاقا من التعامل مع السؤال نفسه: «هل السحر موجود أم لا؟»، أي انطلاقا من احتلال موقع ما في شبكة السحر، وتوظيف إطارين مرجعيين: الأول تحليل الخطاب السحري بطريقة تبدو للوهلة الأولى على هامش نظريات تحليل الخطاب المعروفة، لكن تأملها يفضي إلى أنها تندرج ضمن هرمنيوطيقية ما؛ وهي تلك التي اعتمدها بول رابينوف في كتابه «إثنولوجي في المغرب». أما الإطار النظري الثاني، فينتمي إلى حقل التحليل النفسي الإثنولوجي، ويتمثل في نظرية جورج دوفرو المسماة بـ «نماذج السلوكات السيئة»، القائلة - باختصار شديد - إن الجماعة تلزم الفرد باتباع معيار، لكنها تمده أيضا بقواعد أو نماذج لخرق هذا المعيار.

في القضية الأولى يعرض المتن الخبري حكاية رب عائلة، أب أولاد وبنات، تعرض لسحر امرأة أرملة كان من القوة بحيث جعله يضرب صفحا عن مقتضيات الشريعة وأحكام القانون الجنائي، ويقيم علاقة جنسية «معترف بها» خارج مؤسسة الزواج. إلا أنه بتحليل هذه المادة، تم الانتهاء إلى أن الجماعة بكاملها قد تواطأت على إخراج هذه الوضعية، مسخرة في ذلك قصص الإسلام وأساطيره المتعلقة بالسحر (قضية سحر الرسول، أسطورة الأصل الرباني للسحر وأسطورة الأصل الشيطاني للسحر)، وكل من التعارض الوجداني بين القانون

والخرق، بين الحداثة والتقليد.

أما في القضية الثانية، فإن الأخبار المجموعة تعرض حالة مواطن بسيط وقع في حب فتاتين، تعلق بهما معا إلى حد العجز عن التخلي عن إحداهما. ولتفسير هذا العجز، استدعى الخطاب السِّحري لإضفاء «شرعية ما» على هذه العلاقة المزدوجة، مقدما نفسه ضحية لسحر الفتاة الأولى. وبتحليل خطاب كافة أطراف الأزمة السحرية، خلصت المعالجة إلى أن وظيفة السحر، في هذه الحالة، هي ترميز التعارض الوجداني القائم، لدى صاحبنا، بين الحداثة والتقليد، بين القانون والانتهاك، ممثلين في خليلتيه معا.

وفي ختام هذه الدراسة انتقل بنا محمد أسليم من المغرب إلى السياق الجزائري، وذلك بعرض مؤلف باحثة جزائرية تناولت الممارسات السحرية في المجتمع القبائلي. إنه عملٌ يستمد طرافته من تفنيد الأطروحة السائدة التي تقدم المرأة المغاربية باعتبارها ضحية لتسلط الرجل، وتقديم أطروحة مضادة هي: أن «المرأة المغاربية تعيش حالة حرب متواصلة ضحيتها الرَّجُل، وتمتلك، بواسطة السِّحر، سلطة إعادة تشغيل العالم بكيفية تجعله يشتغل بـ «المقلوب»، حيث تأخذ المرأة وضع المتسلطة القادرة وحدها على نفح الرَّجُل بالحب أو الكراهية بينما يأخذ الرَّجل وضع الخاضع الدَّليل المنصاع دون أن يملك أي سلاح للدفاع عن نفسه». وذلك باللجوء إلى الممارسات السحرية في كافة أطوار حياتها، منذ مرحلة العزوبة (بما تقتضيه من بحث عن زوج) مرورا بمرحلة الزواج وما تتطلبه من حفاظ على هذا الزوج من أن يقع تحت طائلة سطو امرأة أخرى، وانتهاء بطور الشيخوخة حيث تتحول المرأة إلى حماة تسعى إلى امتلاك الكلمة الأولى والأخيرة في حياة أبنائها الزوجية.

هذه خلاصة لمحتويات كتاب «هوامش في السحر» الذي يدرس فيه محمد أسليم حالات كونية غريبة تجعل من عالم السحر عالما يمتزج فيه المحتمل واللامتوقع، ويُوَنِّسُ بين التقليد والحداثة. وإذا كان هذا العمل يندرج في مجال التحريات العلمية الرصينة، فإنه ينضاف إلى أعماله السردية المتميزة التي تضعه في حقل المعاصرة نظرا لارتكازها على الذات وعلى معرفة بالزمن الراهن.

د. حسن المنيعي

8/12/1999

 

 

محمد أسليـم

هوامش في السحـر

 

المحتــوى

بعيدا عن المألوف. تقديم بقلم د. حسن المنيعي

هل السحر موجود؟

الأب المسحور (أو بين مطرقة الزوجة وسندان الخليلة)

حب هذه وحب تلك (أو بين الحداثة والتقليد)

حرب النسـاء (السحـر والحـب)

 

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.