محمد أسليــم

شـريعـة الإنسـان المنذور للموت

شذرات للحياة والمــوت

(نص قيد الكتابـة)

1 - معنى الإنسان المنذور للمـوت:

«تألم وتكلَّـم

انقل بصرك حيثما شئتَ

لن ترَ إلا ظـلاما

من العتمة أتيتَ

وإلى السَّديـم تعـود».

 

هذا شعار الإنسان المنذور للموت. يخاطب به نفسه كلما حدَّثته نفسه بالكلام. يتخذه بوصلة، ثم يبحر في لجة هذا الوجود.

لكن لنحدد، أولا، ما نقصد بالإنسان المنذور للموت.

هو المرء الذي أشرقت في بواطنه الحقيقة التالية: الحياة خدعة، والإقامة فيها وهم، وما يفعله «الأحياء» لا يعني إلا «الأحياء» وحدهم، والإنسان وحيد في هذا الكون، والبشرية غارقة في هذيان عظيم، أكبر من أن يسعه الكون، وأن ما درب التبانة بمحور لهذا الكون، فأحرى أن يكون الإنسان محورا له. هذه الحقيقة لا تشرق في موعد محدد. قد يهتدي إليها المرء ولم يكمل عقده الثاني بعد، كما قد لا يهتدي إليها إلا بعد أن تميل به شمس العمر نحو الغروب. متى أشرقت على امرئ هذه الحقيقة أدرك أنه منذور لا محالة للموت، وصار حيثما ولَّى وجهه تراءى له الموت، أيا نقل بصره وجدَ المحوَ قابع في محط البصر. إن انعطف بعينيه نحو الآفاق البعيدة تراءى له الموت قابعا، بعيدا، كما يتراءى هلال رمضان للصائم، وإن حرك بصره من حواليه وجَدَ الموتَ مَحَطَّ سقوط بصره، ثم استخلص أن «الحياة لا تعدو مجرد موعد مع الموت، وأن على المرء أن يكون على الأقل في الموعد مرة واحدة»[1].

معرضا عن كل ما حوله، لا إعراضا عن «رؤية» «الناس» المحيطين به، بل لأنه أنى ولَّى وجهه لا يجد أحدا، لا يجد إلا نفسه، ينثر نظراته ويشرئب بعنقه كل يوم مئات المرات، في الطرقات، والشوارع، والأزقة، والحانات، عساه يجد إنسانا واحدا، فلا يرى إلا نفسه. لماذا؟ لأنه كان في الأصل منذورا للموت. ولما علم أنه منذور للموت، ولَّى ظهره للحياة، وجعل من «حياته» احتضارا في انتظار حتفه، واتخذ من الألم لسانا، ومن الحزن لباسا، ومن الاكتئاب منظارا. وحالما فَعَلَ ذلكَ انحفرت هوة أبدية بينه وبين الذين يحيطون به. اعتبرهم أحياءً، كأنهم خالدون، فيما استبق هو موته. ومتى تواصل حيٌّ مع ميت؟ لذلك فهو لا يرى الناس من حواليه إلا بهيآت أشجار وأغصان، ووديان، وأعشاب، وأحجار، لأنهم غارقون في وهم الحياة، وما الحياة الحقيقية إلا تلك الكبرى التي إليها المآل...ولذلك فهو لا يقول أبدا: «أنا» ولا «نحن».

2 - ما يجدر بالإنسان المنذور للموت أن يفعله:

من يزعم أنَّه حيٌّ فاعتبروه ذبابة. افتح عينيك جيدا، تر كم يحيط بك من ذباب. طوابير. عساكر. جيوش عرمرم. يتربصون بك، ويحومون حولك، متناسين أنهم للموت منذورين. لذا، فعجل بنشهم من حواليك قبل أن يحسبونك ذبابة ويمطرونك بحركات نشاشاتهم ما لم يطاردوك بالحجارة. هذا ما يردده الإنسان المنذور للموت في قرارة نفسه كلما دعاه «صديق» أو أجبره على مجالسته.

3 - وصفة للموت الوديـع:

مولاي. أنت الآن انتقلت من الصديق الذي كنتُ أعرفه، وأتحدث إليه، من إنسان من لحم ودم، إلى كتلة جسمية مواراة تحت التراب لا أحد يعرف الشكل الذي تأخذه بالضبط، لكن الأكيد أن ديدان كثيرة قد عاثت فيها وحوَّلتها إلى عظام ستعمل توالي السنين والأزمنة على تكليسها.. ولذلك، فكلامي معك الآن لا معنى له إطلاقا عدى أني أخاطب نفسي، أخاطب مشروع الانتحار الذي كنته - والذي سأبقاه إلى كم لست أدري من وقت آخر - ومشروع الانتحار في كل إنسان تخامره فكرة وضع حد لحياته.

إني أتفهم تماما قرارك في وضع حد لحياتك. فالحياة أفقر وأقفر من أن تسع الكائن المنذور للموت مثلي ومثلك، لكنني لا أتفق معك تماما حول الطريقة التي طبقتَ بها ذلك القرار. فقد عمدتَ إلى بندقية صيدك، ثم أطقلت رصاصة على بطنك، وخارت قواك، وظللت تقاوم الألم والموت، وتجاهد نفسك ساعات طوالا في الوصول إلى بندقية الصيد - التي ارتمت على مبعد منك بعد خروج الطلقة الأولى - كي تتمكن أخيرا من إمساكها وحشوها برصاصة ثانية، والجلوس فوق كرسي، ثم تثبيث فوهتها بين جبينك لإطلاق الرصاصة الثانية التي أحالت رأسك ودماغك إلى أشلاء ملتصقة في سقف الغرفة ومبعثرة فوق صفحة الغرفة.

لو كنت استشرتني قبل إقدامك على وضع حد لحياتك لكنت وافيتك بوصفة للموت الوديع، لقلت لك: امسك بعلبة أقراص وافرغها كلها في راحة اليد، ثم اشرب الحفنة دفعة واحدة، فما تعبر الحنجرة حتى تفقد وعيك دون أن تحس حتى بسيرورة هذا الفقدان... أو قلت لك: إن كنت متمسكا بوضع حد لحياتك ببندقية صيدك، فهكذا ينبغي أن تفعل: اشرب من الرحيق الإلهي كمية تلج بك منطقة اختلاط مساحات الوعي وفقدانه، واتخاذ القرارات الصعبة بسرعة البرق، ثم صوب البدقية نحو رأسك.

قال مولاي داخل قبره: لو استشرتك لأغرقتني بالنصائح والمواعظ لتثنيني عن قراري.

4 - دلالة التكاثر البشري: شـوط تعَـادُل في حرب «أبدية»:

لا يُخدَع الإنسانُ المنذورُ للموت بتعدد الأسماء والأجساد من حواليه. ثمَّة إنسانٌ واحد قبالته موتٌ واحد. حربٌ أبدية بين الإثنين. أحادية الجانب. يشنها الموت على الإنسان. انطلقت منذ بدء الخليقة ولازالت متواصلة إلى اليوم. الموت عازم على قتل النوع البشري، لكنه لم يفلح لحد الساعة سوى في قتل الأفراد. يكبر أحمد ويشيخ فيثب عليه الموت، لكنه يتحدى الموت في شخص ابنه الذي سيجتاز المشوار نفسه، يكبر، ويلد، فيشيخ، ثم ينقض عليه الموت، لكنه يتحداه في شخص ابنه، وهكذا... ولذلك، فأنا عندما أكون سائرا في الطريق، وأشاهدُ شخصا كبير السن يمسك بيد طفلا وهما سائرين، لا أقول هذا أبٌ وهذا ابن أو هذا أخ أكبر وهذا أخوه الأصغر. أقف أتأمل المشهد مليا وأنا أتعجب من وقع الحرب الأبدية بين الإثنين، أقول: هذا حان أجله، منصرفٌ، وها هو ينبعث في هذا.  بهذا المعنى فالموت منهزمٌ لأنه لم يبد النوع بعد، وما وَقْعُهُ الشديد علينا إلا نتيجة لوهم الوحدة الذي يغلف أبصارنا. فلو عشنا الحياة بإحساس النوع بدل إحساس الفرد لصار للموت طعما آخر، بل ولربما انعدم الإحساس به.

 الموت لا يكَلُّ. إذا كانت واجهة الفرد تجعل عمله شبيها بصنيع سيزيف في الأسطورة، فإنه ما في هذه الجبهة الوحيدة يعمل. دوريا، وعلى مدار تاريخ النوع، عرفت البشرية ولا زالت تعرف أمراضا فتاكة وأوبئة ومجاعات وحروبا يذهب الموت فيها دفعة واحدة بالآلاف إن لم تكن الملايين. وما هذه الآفات إلا من صنيع الموت نفسه. كأننا ذبابٌ يعيي الموت قتلنا واحدة واحدة، فنكاثر، ويتظاهر هو بالنوم، لكنه يكون في الحقيقة منصرفا لصنع مُبيدٍ ليتخلص منا جميعا، حتى إذا صنعه أمطرنا به وحصَدَ منا حشودا وحشودا دفعة واحدة إلى أن يكاد يبيدنا، لكننا نهتدي إلى سر المبيد، فنتكيف معه أو نقاومه، فنبطل مفعوله كليا، دافعين بالموت إلى جبهته الأولى، جبهة الأفراد، فيعود إلى وضعه الأول، ونعود للتكاثر والتوالد وإقلاق الموت إلى أن ينصرف ثانية «مفكرا» في صنع مبيد جديد، ليباغثنا في حرب جماعية يشنها علينا من واجهة النوع... هكذا ينبغي للإنسان المنذور للموت أن يفكر الأمراض الفتاكة التي عرفتها البشرية، كالجذري، والزهري، وحاليا السرطان وفقدان المناعة، إلخ. ومتى فكَّرها على نحو ما سبق، تنبأ بما ينتظر البشرية من أوبئة وأمراض قاتلة في المستقبل...

شبه حرب بين الكائن والموت: حرب على صعيدين: الأفراد والجماعات، ولحد الساعة الإنسان متفوق على الموت مادام لم يغب بعد عن الكرة الأرضية. أو بالأحرى هما متعادلان: كلما ولد إنسان وكبُرَ اغتاله الموت. بهذا المعنى فالإنسان منهزم. لكن كلما اغتال الموت فردا تخلف وراءه آخرون، وبهذا المعنى فالإنسان منتصر على الموت.

5 - يفوتـكَ دائمـا شيء من الحيـاة:

عندما يولي الإنسان المنذور للموت شطر ما يسميه «الأحياء» ماضيا، ترعبه أعداد الذين ركضوا فوق الأرض، وقطفوا من ثمارها، وشادوه من مشاريع، ثم رحلوا، فتشرق في ذهنه الحقيقة التالية: الإنسان مشروع لم يكتمل بعد ولن يكتمل أبدا، وأنه عندما سيكتمل سيحرم من ذوق طعم الاكتمال نفسه والالتذاذ به، لأن الاكتمال هو انقراض النوع نفسه، آنئذ لن يوجد إنسانٌ واحدٌ فوق الكرة الأرضية كي يقف شامخا ليكشف حساب ما أنجزته البشرية منذ بدايتها. بهذا المعنى، فإننا عندما نحس بنشوة التفوق على من فاتونا، فنتحسر مثلا لكون أرسطو لم ير كهرباء، وإنشتاين لم يشاهد مركبة تحط فوق القمر، وجاليلي لم ينعم بلذة الاعتبار الذي رُدَّ إليه فيما بعد، عندما نفعل ذلك نكون بوهم اكتمال المشروع الإنساني ملفوفين، ذلك أننا ننسى أو نتناسى أن نظرتنا لأرسطو وإشفاقنا عليه نحن أنفسنا سنكون موضوعا لها حالما تمر بضعة قرون علينا. هذه السخرية والإشفاق بذورها موجودة فينا، سيحملها امتدادنا، أحفادنا الذين يتوقف وجودهم بيولوجيا على وجودنا. هكذا يفكر الإنسان المنذور للموت في الإنسان باعتباره مشروعا، وبالتالي يستنتج أن الإنسان يفوته دائما شيء من الحياة، وأن هذه الأخيرة لا تعاش، مستحيلة أن تعاش، أو لا يعيش الأفراد منها إلا مساحات يتقاطعونها بهذا القدر أو ذاك.

6 - في المحبــة:

لا يجب أن نمنح للأهل كل محبتنا، لكي لا نؤلمهم برحيلنا ولا يؤلمونا برحيلهم. يجب معاملتهم كجيران لنا أو رفاق طريق في سفر لا نعرف كم يدوم. عندما أرى طفلي أو أبوي أشاهد وجوههم، لكنني أرى أيضا في عيونهم ليل الكائن، فأقول: في الليل الذي نحن إياه ما ينبغي أن يجمعني بهؤلاء إلا نصف محبة.

7- كل يوم هبة حياتية جديدة:

عندما يولي الإنسان المنذور للموت وجهه صوب ما يسميه «الأحياء» «ماضيا» يعثر دائما على حدث صادفه كان سيلقى حتما موته فيه لو لم ينقد أو يفلت بصدفة أو أعجوبة. آنذاك، يقف شامخا أمام كل ما أعقب ذلك من أيام قضاها «حيا» إلى اليوم، وهو يردد: «لقد متُّ ثمة، في تلك اللحظة بالضبط»، وكل ما صرفته من أيام وأعوام في الحياة منذ تلك اللحظة لا يعدو مجرد هبة وهبتني الحياة إياها. آنذاك يعيش كل لحظة تمر من حياته بعين الميت الحاضر في الحياة، ويمسي وهو غير طامع في الإصباح، ويصبح وهو غير طامع في الإمساء، كلما طلع عليه صباح جديد، استقبله بفرح شديد باعتبار هذا اليوم «الجديد» مجرد فائض حياتي أو امتداد حياتي أو هبة غير متوقعة. يصير كالغني الذي يعمل ويكد محددا سقفا للربح حالما يصله يتوقف عن كل عمل كي يخلد للراحة، لكنه ما أن يبلغ السقف ويوقف كل أنشطته حتى تمطره السماء ذهبا ونقودا وهو الذي لم يطلب منها شيئا.

هكذا يتغلب الإنسان المنذور للموت على جشع الحياة، وأفلت من قبضة التمثلات والأحاسيس بحيث كلما فكَّرَ في الموت وروادته فكرته أو خامره إحساس بأن قرب مفارقته الحياة قد حان واجه موته القريب بسرور وانشراح عميقين وهو يردد: «كفى حياة. قد أخذت أكثر من نصيبي منها، أكثر مما كنتُ أطمع به. إني مستعد تماما لمغادرتها». بكلمة واحدة، متى فكَّرَ الإنسان المنذور للموت بهذا المنطق حوَّلَ وجوده بكامله إلى القناعة عينها، فقنع بما عاشه ولو كان عقدا ونصف أو عقدين لا غير.

8- الفـرد والنوع / لا أرى إلا الواحـد:

ولا أرى خيولا وإنما أرى حصانا واحدا، ولذلك فكلما شاهدتُ حصانا يجر عربة وقفتُ متعجبا مما جرَّهُ من مركبات، وما استحمله من ضرب سياط فرعون وهو يسوقه، وكم ركبه من مغولي، إلخ....

9 - الجثة المارة أمامي الآن هي جثني، وما يرى الجثة الآن إلا شخص آخر غيري:

عندما يشاهد الإنسان المنذور للموت موكبا جنائزيا أو جثة ملقاة على الطريق يقف وهو يتأملها مليا، مرددا في خاطره: «أنا هو ذاك الميت، أنا هو تلك الجثة الملقاة على الطريق شخص ما يراني الآن». وبذلك يستعيد الخسارة التي يمنى بها «الأحياء» بعد موتهم (خسارة مشاهدة الشخص جثته وهو ميت) ويحول استحالة استباقه الموت إلا في المتخيل والاستيهام، إلى استباق حقيقي واقعي. هذا ما يفعله الإنسان المنذور للموت، مع كل ما يحيط به، فينصتُ لصرخة الألم التي سيطلقها عليه أبناؤه بعد موته، ينصت إليها وهو حي يرزق. ويسمع ما سيقوله الناس بعد موته، يسمعه وهو «حي» يرزق...

10 - يحيط بهذا الوسط من الأموات ما لا يحيط به من الأحياء:

لو كانت لنا آلات لاستعادة أصوات من تعاقبوا على الكرة الأرضية، واستعدناها لاستحال علينا البقاء فوقها لما سنسمعه من عويل واقتتال، وترنحات وزغاريد، وقهقهات، إلخ.

11 - لا يشفع لنا وطأة الإحساس بفقدان الأقارب إلا قصر نظرنا:

فنحن نتألم على موت الأب والجد. أما علمنا أن الجد نفسه قد تفتت أكباده من فراق أبيه الذي لا نعلم عنه شيئا، وأن أبا الجد قد أنزل دموعا مهراقة لما مات أبوه (وهو أنا - الأب - الجد - أبو الجد) (وهو جد جد أبي). بهذا المعنى فألم فراق الموتى يسري في عروقنا من غير أن نعلم به. أحرى بنا ألا نصدر ابتسامة واحدة.

12 - التظـاهر بالحياة:

من منا يجرؤ على الزعم بأنه حي؟ إننا كل ما نصنعه لا يعدُو مجرَّد تظاهر بأننا على قيد الحياة، والحال أننا موتى منذ ولادتنا. ألم يطرح أحدُُ على نفسه: أي فائدة في هذا التظاهر بالحياة. ربما يتعيَّن فهم نفسية «المولع بالكذب»، نفسية من يدعي أنه يملك وهو لا يملك شيئا لفهم الشرط البشري العميق.

13 - عجبا كيف يشيخ البشر في لحظات!

كلما مرت أمامي فتاة صغيرة، جميلة، مزهوة ببلوغها، أقول: لحظات وتكسو جبهة هذه الحسنات شبكة من التجاعيد، ويشتعل رأسها شيبا، وتقف على عتبة المقبرة. وكلما مرت أمامي امرأة عجوز، تسير منكفئة على وجهها، أو مستندة إلى عصا، قلت: «عجبا كيف شاخت هذه، وهي التي كانت منذ لحظات فقط فتاة جميلة، مزهوة ببلوغها، تستقطب أنظار الرجال..

14 - تاريخ البشرية:

هل تغفل البشرية أم تتغافل أن عمر الكتابة لا يتجاوز حوالي عشرة آلاف عام، وأننا لكي نفك رموز الكتابة الهيروغليفية أو السومرية فقط، وكلتاهما لا تبعد عنا إلا بحوالي ؟؟؟ عام، نحتاج إلى متخصصين، وعلماء، ولكي نعلم، في كثير من الأحوال، ما كانه، ما كان يعيشه أقوام لا يبعدون عنا إلا بعشر قرون، نصادف الصعوبات الكبرى؟؟

كثيرة هي الشعوب التي متى أردنا الوقوف على ما كانته، على نط حياتها، لا نصادف سوى بضع صفحات، يبنى القليل منها على آثار ملموسة، فيما يُبنى الباقي بتخمينات المؤرخين. فليتخيل كل منا أنَّه مات، وأن الحاجة قامت في يوم من الأيام لكتابة حياته، فلم يتوفق كاتب سيرته في تحرير سوى بضع صفحات.. فلنتخيل أنَّ زمننا هذا، حضارتنا هذه، طواها النسيان في يوم من الأيام، ثم جاء علماء حفريات، فحاولوا إعادة بناء كيفية عيشنا، علاقات بعضنا بالبعض، لباسنا، مأكلنا، مستعملين ما يُستَعمَل الآن نفسه - مع الشعوب المنقرضة -: يعثر على بقايا مادية، ثم يصرف الأعوام في فك ألغازها. يجد بنطلونا، فيقوم نقاش، وتظهر نظريات: «هذا لباس»، «لا هذا فراش»، يتم العثور على مكتبة، فيقال: «يحتمل أن هذه المادة كانت علفا للبهائم، أو وقودا لدوابهم الحديدية»....

15 - عجبا كيف شاخت الحسناء في بضع لحظـات!

عندما تمر أمامي امرأة عجوز، امتلأ وجهها بالتجاعيد، وقل بصرها، ولا تسير إلا مُجَاهَدة قدميها، أو متكئة على عصا، أقول: عجبا كيف مر"َ الوقت سريعا، فمنذ لحظات فقط كانت هذه السيدة فتاة حسناء، تطاردها عيون الرجال، ويشتهونها جميعا. وبالمثل، عندما تمر أمامي فتاة في مقتبل العمر، مزهوة بجمالها، تيسر مختالة متهادية، تتحاشى عيون الرجال وهي موقنة أنها تتابعها، أقول: ستمضي لحظات إلا وهذا الجسد قد تهلهل، وذبل وحان قطافه للموت المتربص.

16 - إنما الألم قسمة متداولة بين النـاس:

إذا أنجر بحث تاريخي في موضوع تداول الألم، ربما كانت النتيجة التي سيتوصل إليها هي: إن يتم الأطفال، والترمل، والعجز الجسدي، أمانة أو قسمة توزَّعُ على بني البشر بعدلٍ، بالتساوي، ولكن في دورات زمنية محدَّدة، إن كان من المتعذر صياغة قوانين بصددها، فيمكن على الأقل تبين ما يلي: إن شقاء هذا الطفل اليتيم، مثلا، الذي تتفتت أكبادنا شفقة على إثر فقدانه أحد والديه أو هما معا، شقاؤه ذاك هو الـ «ضريبة» التي يقدمها على السعادة التي عاشها من سبقه من أفراد شجرة نسابته، الذين لم يعرفوا اليتم، الذين كانوا يعيشون، ويلدون، وينشؤون أبناءهم، وتمتد بهم الحياة إلى رؤية أحفادهم. وهذه السعادة التي تغمر هذا الجد الذي يسعد لأن الحياة قد امتدت به إلى أن رأى أحفاده، بل وربما حتى أبناء أحفاده، تلك السعادة ليست سوى المكافأة التي ينالها عن «الشقاء» الذي عاشه من قبل بعض أعضاء شجرة نسابته، الذي ترملوا أو ذاقوا اليتم، أو ماتوا صغارا... وعليه، يكون معنى الحياة هو إما ضريبة يؤديها المرء عن سابقيه أو مكافأة ينالها عن سابقيه أيضا. بهذا المعنى، فإن الفرد محظ وهـمٍ.

17 - نظارات وجوديـة:

لا يرى الإنسان الكون من حواليه إلا بعينيه، بيد أن عينيه ليسا سوى نظارتين ضمن نظارات أخرى عديدة، موجودة فعلا، أو ممكنة. وما الفرق بين رؤيتنا للأشياء ورؤية الحيوانات إياها سوى كوننا نلبس نظارتين مختلفتين. ولتجريب ذلك، يكفي أن تضع نظارتين على عينيك، سوداويتين، مثلا، ثم انظر. وبعد ذلك انزعهما ثم انظر المشهد نفسه. ما تراه وأنت واضع النظارتين هو الكون من منظورك باعتبارك إنسانا، مثلا. وما تراه بعد وضعك النظارتين هو الكون نفسه كما يراه قط أو أرنب..

18 - كون من المعاناة:

نظرة واحدة على أي كتب من كتب الطب، ولو كان مجرد مصنف للتداوي بالأعشاب والنباتات، تكفي للتمزق حسرة على ما عاناه بشرُُ أمثالنا كان السعي إلى وضع حد لآلامهم هو الأصل في وجود تلك الوصفات. كأن الإنسان مختبر للأمراض. بمقدار ما هناك من الوصفات كانت هناك من الأمراض. وإذا كان العلاج ومحاولته لا يأتيان إلا بعد حلول المرض، فلنا أن نتصور كم من الأمراض عاناها الإنسان. بتعبير آخر، إن وراء تقدم معرفة الطب والبيولوجيا بجسد الإنسان، وراء تقدم طرق تشخيص الأمراض، وراء تعدد الأدوية يقبع كونُُ من معاناة المرضى الذين لولاهم لما كان ذلك كله.

19.

سيأتي يوم على البشرية، يصير فيه ذكرى وجودها حاليا في الأرض من عسر التخيل بالقدر نفسه الذي يعسر علينا حاليا استحضار ذكرى أيام كنا - نحن بنو الإنسان [اليوم] - في الماضي أسماكا وثعابين... سيأتي يوم يحيى الإنسان فيه في الكون كما تحيى الأسماك في المحيطات مع فارق واحد: بحار الأسماك من مياه، ومحيط إنسان الغد هو الكون الشاسع المتألف من ملايير المجرات والكواكب السابحة في الهواء والمتعرضة على الدوام للتلاشي والاصطدام.

20. ما كل ما تقوله الأساطير باطل

لا يريد العلم لحد اليوم أن يرى في حكاية النزول أو السقوط المترددة في الديانات التوحيدية سوى خرافة تتهواى يوما عن يوم وتبدو واهية أمام الأدلة الملموسة لبطلانها، والحال أنه ينبغي أخذ هذه الحكايات مأخذ جد، بمعنى أنها روايات تحكي حدثا واقعيا، جرى بالفعل، في نقطة زمنية هي من القدم والبعد بحيث لم يمكن للذاكرة البشرية أن تصمد أمامها، ومن ثمة لحقت بهذه الحكايات تحريفات، وإضافات ونقصانات. بتعتبير آخر، يجب أخذ مأخذ جد الموضوعات الجوهرية لهذه الحكايات الأساطير وتمحيص تفاصيلها وجزئياتها. من هذه الزاوية للنظر، بدل أن يتخذ العلم من كشوفاته في قضايا، وأصل الحياة على الأرض، مطية لدحض أساطير التكوين، وهو السبيل الذي يبدو أن العلم ينهجه كلما عثر على بقايا نيزك قديم، سقط على الأرض من الفضاء، بدل ذلك ينبغي على العلم أن يملأ بياضات الأسطورة، وينقيها إن جاز التعبير من الشوائب والتحريفات التي ألحقها الزمن بالحكاية. فمثلا، يمكن النظر إلى قصة سقوط آدم أو طرده من الجنة، حكاية عن مجيء فعلي للإنسان من كوكب آخر إلى كوكب الأرض؛ الدين هنا يقدم للعلم حقيقة هامة، عليها ينبغي أن يرتكز كل بحث في أصل الحياة، وهي أن الإنسان كائن كان يقيم من قبل في كوكب آخر أو مجرة أخرى، ثم حل بكوكبنا الحالي. أين يوجد هذا المقام الأصلي الآن؟ لماذا حل الإنسان بكوكب الأرض؟ هل نزل إلى الأرض على متن مركبات فضائية، الأمر الذي يفترض أن حضارتنا لا تعدو أي شيء بالمقارنة مع حضارة أخرى انقرضت أو لازالت موجودة في مكان ما من الكون، أم نزل على شكل بكتريا أو كائن مجهري، وهو ما يفترض أننا لا نعدو في شكلنا الراهن مجرد حلقة في سلسلة من التطور؟

إذا كان الإنسان قد نزل في مركبة فضائية، فما سبب نزوله؟

هل يتعلق الأمر بربابنة مستكشفين نزلوا هنا بعد قطع ملايير السنين الضوئية، في رحلة فريدة، من العسير تكرارها، ثم انقطعت سبل الاتصال بمركز إطلاق المركبة، فقعدوا هنا، وهم الآن بصدد إعادة بناء الحضارة المفقودة؟

أم يتعلق بإيداع مخلوق مختبري، من لدن مخلوقات أخرى ( نحن بالنسبة لها ما البكتيريا بالنسبة لنا) هنا في الأرض بغاية التجريب؟

21. عن الحنيـن والحميمية

يكفي أن تطأ قدما امرئ بمفرده كوكبا آخر، فيحس برعب الوحدة، بحيث يمكن تبديدها بما لا يخطر على بال أحد هنا في الأرض؛ إن نضع أسدا في الكوكب المهجور، يحس الوحيد الواقع تحت رعب الوحدة بألفة وحنين؛ يتلاشى الفرق القائم هنا بعناية شديدة بين الإنسان والحيوان، فيتحول الأسد في عين ناظره من حيوان مفترس يثير الفزع والذعر، ويستوجب الفرار، الخ. إلى علامة انتماء مشترك، أصل مشترك؛ يتحول إلى شبه أخ أو قريب أو جار...

22. السفر  

 

 

 

21. حلـــم

حلمت

 

 

 

 

 


 

[1]  - Clément Rosset, Le réel et son double, Paris, Gallimard, Coll. nrf, 1978.

 

 

 

نص غير مصنف

شريعة الإنسان المنذور للموت

سفر المحبـة

المحتــوى

شريعة الإنسان المنذور للموت

1 - معنى الإنسان المنذور للمــوت

2 - ما يجدر بالإنسان المنذور للموت أن يفعله

3 - وصفة للموت الوديـع

4 - دلالة التكاثر البشري: شـوط تعَـادُل في حرب «أبدية»

5 - يفوتـكَ دائمـا شيء من الحيـاة

6 - في المحبــــة

 

 
 
 
جماليـــات إضــــــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.