قال المصنف رحمه الله: هذا بابُُ أسميته «كشْف الغٌـُمَّة
فيمن نسِبَ إلى مفسدي الأمة»،
وفيه سأذكر بعضا ممن وصَلُوا في العبادة درجات، وارتقوا في مَدارج الصَّلاح مقامات،
إلى أن أشرفوا على الولايات، لكن الله ابتلاهم بالانقلاب إلى الفساد والشهوات بما
لم يقووا على التصبر له. فمنهم من اشتهر في بداية أمره بالاستقامة، والاستغراق في
العبادة، لكنه انصاع لتلبسات
إبليس – لعنات الله عليه
– إلى أن أفلت منه زمام
القيادة، فانقلب إلى شبه زنديق...
ونحن نعوذ بالله أن نقول على الذين سنذكرهم في هذا الباب ما لم
يكونوا قالوه، أو نتحمَّل عليهم في أقوالهم وأفعالهم، فنقول: هم حمدون بن العاصي بن
أمّ يمامة بني
حامد الملقب بالعلاف ذي
الوجهين، و أبو عيسى بن مرو أبي نبيل الفاسِدِي الملقب
بالعقيد، وأحمد المنافقي بن سعيد الباهتي الملقب بهاشماني مُقعر الهواء (وهو
البارابول)، و زيد بن سعيد الخاجلاَّني الملقب بأحمر الخدين، وأبو عيسى الجراح
الملقب بأبي الفطور، وعيسى بن محمد بن أحمد القرماني الملقب بصاحب الكتاب، ونعيمة
بنت أبي زيد المِكنَسِي الملقبة بأم النعلين، وأبو عيسى بن الرشا عاشق الصور الملقب
بصاحب دي ترو، وأبو الأسود زياد بن أبيه الملقب بذي الشقتين...
قال الأستـاذ: ولقد اعترتني حيرة في تصنيف هؤلاء المفسدين،
فنويتُ في البداية أن أجعلهم أصنافا، بأن أخصص بابا لفساد «مشايخ شيوخ» الفاقهان
الكبير الذين تشبهوا برجالات السياسة وتسموا «رؤساء الشعب» وهم في الحقيقة مجرد
«منسقين» للمقامات، وبابا لفساد «أقطاب الفاقهانات» الذين ما أن يقع مفتاح فاقهان
في يد أحدهم حتَّى يصير أغنى العباد ويعب من بحور الشهوات ما حرِّم منها وما حلِّلَ
على السَّواء، وبابا لـ «مجان المشايخ» الذين تدور أعينهم في محاجرها لرؤية
المريدات المحصنات، فيراودوهن عن أنفسهن غير خائفين في ذلك عقاب الله، أحرى أن
يخشوا لومة لائم، وبابا لـ «للمشايخ الذين ظاهرهم علم وعدل وباطنهم جهل وظلم»، وهم
المشايخ الذين يتسلطون على الفاقهانات تسلطا فيغتصبون التخصصات من أهلها اغتصابا
دون أن يستحيوا لأن وجوههم هي أقفاؤهم، جعلهم الله أجسادا بشرية بوجوه قردة وهم لا
يفطنون... لكن تبين لي – والله أعلم - أنَّ هذا الترتيب لن يستوعب مشايخ أمثال:
وحيد القرن القزلباشي، والمشايخ الثلاثة الذين كانوا يفرضون على المريدين أتاوات
للالتحاق بفاقهان العلوم الأكبر بالقنيطرة والشيخة أم النعلين وأمثالهم كثير...
ولما تبين لي ذلك وقع في خاطري أن أسوق لك الأخبار على نحو ما أنت قارؤه. أسأل الله
التوفيق، فأبدأ وأقول:
فصــل: منهم العـلاَّف: قال المصنف رحمه الله: هو
حمدون بن العاصي بن أمّ يمامة بني حامد الملقب بالعلاف ذي الوجهين، وهو الروائي
المعـروف.
أخبرنا سعيد العاصي عن أبي الثائر عن زيد العالم أنه قال: كنتُ
في مجلس، فقرأتُ على قوم من كتاب القصاص المذكرين لأبي الفرج بن الجوزي القرشي
البغدادي رحمه الله ما نرويه بوجه من التصرف: «لكل قول زيّ، وكما لا يحسن الغناء
إلا من الجَواري الخُرَّد، ولا الغزل إلا من عاشق، ولا النوح إلا من ثاكل، ولا ذكر
الأوطان إلا من غريب، فكذلك لا تحسَن كتابة الرواية إلا من مُتقشف، متزهِّد،
متورِّع، من وراء بذلة عادية، ونظافة جسم، وتقليل قوت، اشتغالا عن البدن بفضائل
النفس كالطبيب الظاهر الحمية. فأما من يخرج بطينا فاخر الثياب مكثرا الجلوس في
الديارات صارفا ثمين وقته في احتساء الخمور والتهام الوجبات، مداخلا لمرتزقة النقاد
ومستقيميهم على السواء ابتغاء أن يكتبوا مقالات عما نشر من روايات، فكيف تستجيب له
القلوب. إنما يقرأ القراء لهؤلاء الروائيين على سبيل الفرجة كسماع الأسمار من
السمار. ولربما كانت الصّوَر والسمات تؤثر أكثر من الألفاظ، وقد قيل: من لم تنفعكَ
رؤيته لا تنفعكَ روايته». قلتُ: لما قرأت عليهم ذلك تناظروا فيه طويلا، فانقسموا
إلى فريقين: الأول يقول لا علاقة للكتابة بالسلوك، والآخر إنما الكتابة السلوك.
فتردَّد كثيرا اسم حمدون بن العاص بن أم يمامة بني حامد، فاحتج بعضهم له، واحتج
بعضهم عليه. ولما لم ينكر أحدُُ من الفريقين كثرة أكله وملازمته الديارات، أجمع
الفريقان على أنه علاَّفُُ، ومنذ ذلك اليوم جرى لقبه على الألسن.
قال الأستاذ: ومن طريف أخبار العلاف ما جرى له مع الولي شهاب
الدين بن الصالح المصوِّر. أخبرنا أبو يوسف المعافري عن الحرَّاق عن حامد النبطي عن
شهاب الدين المصوِّر أنه قال: لما حفظتُ القرآن واطلعتُ على ما تيسير لي من الفقه
والحديث وسلكتُ في مدارج التصوف إلى أن بلغتُ مقام نيل أم إجازات مشايخ الفاقهان
الأكبر، نصحني بعض المعارف بالذهاب إلى العلاَّف، لما سمعَ عنه من استقامة خلق
وجليل علم وطول إقامة في فاقهانات الصوفية، فتهيبت نفسي تهيبا شديدا، فوقع عليَّ أن
تمهَّل، فدخلتُ خلوة تسعة أشهر أطالع فيها ما تيسَّر من كتب علم الكلام وسيرة بني
هلال والمنطق وسير الأولياء إلى أن فتحَ الله عليَّ بكتابة رقعة، فشددت الرحال إلى
مكناسة الزيتون بغية لقاء العلاف. قال لي: من أين الفتى؟ قلتُ من البيضاء، قال لك
أن تعودَ إليَّ يوم غد فأنا الآن عنك مشغول، فاستغربتُ أن يصدر منه ذلك، إلا أن
بعضهم دلني على قصده. فلما كان الغد، اشتريتُ حملا مشويا وخبزا وسميدا وفالوذجا
بسكر مع ثلجية ونبيذا بولعوانيا وأشنانا، ثم قصدتُ منزل الولي أبي عبد الله الصالح.
فلما طاب للعلاف الأكل والشَراب، قالي: هاتِ رقعتكَ، ثم نادى في
الحين أن تعالي يا قبيحة لتستفيدي من علوم المشايخ، وكان هذا اسم زوجة الولي عبد
الله الصالح، فوقع في قلبي شبهة، لكني اجتهدتُ في طردها... قال الشيخ: اِقرأ، فما
أكملتُ الجملة الأولى حتى استوقفني قائلا: اعلم يا تلميذ أنك ارتكبتَ ثلاثة أخطاء
دفعة واحدة ولم تنشر شراع سفينتك بعد!
نصبتَ المبتدأ ورفعتَ الخاطر وكسرتَ الحال، فاستغربتُ أن يصدُرَ ذلك من الشيخ،
فتعوذت بالله، ثم قلتُ قد يدخل كلامه في باب إشاراتهم التي تستوجبُ التأويل، فأعدتُ
القراءة، لكنه أعاد الملاحظة نفسها. خيل إلي أنني لم أسمع جيدا، فأعدتُ القراءَة
رافعا المبتدأ، ناصبا الخاطر والحال، لكنه أصرَّ على ما قال من قبل، فما كان مني
إلا الاستجابة لمزاجه، فنصبتُ المبتدأ وكسرتُ الحال ورفعتُ الخاطر، وواصلتُ القراءة
على ذلك النحو، وهو يستطيب مني ذلك ويستزيد إلى أن أخذه وجده. فما كان مني إلا أن
استغفلته، فسحبتُ الرقعة، وأعدتها للمحفظة، وأنا ألوم نفسي. وقد أقسمتُ منذ ذلك
اليوم ألا أريها لابن امرأة كائنا من كان. اهـ.
قلتُ: هذا من قبيح الأفعال، ثم استعظمت أن يدرجه الأستاذ في باب
الطرائف، بيد أني لم أستعظم صدوره من العلاف، إذ قال بكسر الحال، وهو يمر على
الوراقين صباح مساء ويشاهد فيها كتبا للشيخ محمد مفتاح نصِبت فيها الخواطر في
الأغلفة نفسها؟! تقول
في اللغة وقد اعترف أمام حشد من المشايخ والمريدين، ذات
مجلس، أنه يسلم كنانيشه لمجان
الشعراء بغاية التصحيح!
لما كنت شيخا بالفاقهان الكبير طلبني العلاف يوما، ثم قال لي:
اعلم - حفظك الله - أن لي بنتا أجازها مشايخ مقام الأدب العربي بالفاقهان الأكبر
بمكناسة، غير أنها لم تجد شغلا، وهي في كل يوم تمزِّقُ دست ثياب حزنا وغمَّا،
واليوم تريد أن تقصد مجالسكم كي تقولوا في تسليتها شيئا بما يضمن لها عيشا كريما
ويغنيها عن وصايتي... فهللا قدمتَ لي نصيحة؟ قلت: اعلم - رفع الله شأنك - أن مشايخ
الفاقهان الكبير يستوحشونني، غير أني أدلك على ما تنال به مبتغاك بأيسر السبل.
عليكَ بشيخ مشايخ مقام اللغة العربية بالفاقهان الكبير، وهو العقيد، وما ظننته
مخيبا آمالك ولا راغبا عن الاستجابة لرغباتك. فهو من خيرة مشايخ الفاقهان، زهد
وجاهد النفس، وارتقى في مدارج التصوف إلى أن ظهرت منه الكرامات: يخرج للناس فاكهة
الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء، ويمد يده إلى الهواء ويعيدها مملوءة
دراهم، ويخبر الناس بما يأكلون وما يصنعون في بيوتهم، ويتكلم بما في ضمائرهم، ويقنط
المريد من ولوج الفاقهان لارتباكه يوم المباراة، بسبب من خجل أو قة علم، فيقصد
العقيد، فيقول له: «صم يومك واصعد في آخر النهار إلى السطح، وقم على الرماد، واجعل
فطرك عليه وعلى ملح جريش، واستقبلني بوجهك، واذكر لي حاجتك، فإني أقضيها لك، لأني
أسمع وأرى»، فيفعل المرشَّح ذلك، فما يفطن لنفسه إلا وهو في إحدى حلقات الفاقهان،
دون أن يجتاز مباراة الالتحاق.... وبالجملة، فقد أخبرته بطائفة من الكرامات التي
سيلي ذكرها في هذا الكتاب...
فصـل: ومنهـم الَعقيـد: قال المصنف رحمه الله: هو
الحاجب أبو الأسود الفاطمي بن نبيل الفاسدي الملقب بالعقيد. كان يفسد باسم السّلطان
ووالي المدينة إلى أن انكشف أمره وانكسرت شوكته وصار كالبعير الأجرب.
أخبرنا زين الدين مروان عن محمد بن علي عن الشيخ الصادق أنه
قال: ما سمى العقيد عقيدا إلا اثنان: جلال الحكيم ومحمد أسليم في رسالتهما المسماة
«