لم ينفعك أنك
كنت نصف ثمل.. نصف ثمل لأن الخمر لم تزل بك مثلما انعطفت بك الليلتين
السابقتين في الحانة ذاتها وساقتك إلى تخوم الإفلاس.. لم ينفعك أنك سحبت
كرسيك من قبالة «فاطمة الزهراء» إلى الوراء قليلا حتى استويت قبالة رب
الحانة، وخاطبته بلسان مزيج من العتاب والموعظة؛ تظاهرت بأنك لم تفهم أنك
أنت المقصود بسخريته وتحريضه، ثم قلتَ له:
- لا يليق
بأي شخص من آل هذه الحانة أن ينظر بعين ناقصة إلى سكير. فنحن [بعد بؤسنا]
إنما نحرك دورة اقتصادية بكاملها. أرأيت البنت الجالسة قبالتي؟ والنادل؟
والساقيتين الواقفتين في الكونتوار؟ وبائع السجائر بالتقسيط؟ وهذا الجيش
من الحراس والخدم الجاهز لخدمة الزبناء؟ إنهم يقتاتون من جيوبنا اقتياتا.
ثم بعد كل شيء فصندوق الحانة إنما يمتلئ بأموالنا!
لم ينفعك
ذلك كله؛ لفك المعلم بنظرة شبه ساخرة، ثم ابتسم قائلا:
- وإذن
فأنتم تتصدقون؟!
- ربما، أو
نفعل ما يشبه ذلك!
- .....
لم يكن لتعقيبك
أي معنى، كان ضربا من الكلام الزائد لسد الطريق أمام كلام مسدود أصلا أو
ذريعة للانسحاب الهادئ والعودة للجلوس أمام القادمة من أعماق غبش الصبح
لتجدها فعلا أخرجت السياط وتهيأت لتهوى عليك مثلما هوت عليك الساقية
الأخرى، «عتيقة»، ليلتين متعاقبتين؛ شربتْ من جيبك ما مقداره في حكم
الغيب، ولما لعبت الخمرة برأسك وأشرفتَ على الغيبوبة دلتك على سبل الصحو؛
طلبت فنجان قهوة سوداء «معصّرة»، وفي انتظار وصول القهوة أمرتك بالنوم
قليلا في الكونتوار.. قبل أن تستسلم لتك الخصلة من النوم، سمعتّها تقول
لساقية الكونتوار: «أضيفي لحسابه تلك القنينات الفارغة»، سرقت النظر فإذا
بجعاتك الثلاث تتحول بقدرة قادر إلى طابور من القنينات الفارغة التي
تطالب بالأداء، وما على جيبك إلا أداء فروض الطاعة والولاء... حتى إذا
صحوْتَ أمعنت في ابتزازك وأنت صاح: دلتك «عتيقة» إلى سبل العناد، فشربتْ
31 قنينة جعة من الرابعة صباحا إلى الحادية عشرة والنصف صباحا، على مرأى
من عينيك ومسمع من أذنيك، وأنت تؤدي الفواتير أداء، بمحض خاطرك و«في كامل
وعيك».. انقلبتَ إلى حاسب للقناني خشية تزوير الحساب أو غش في الشراب!
ألا ما أقدر النساء على ابتكار سُبل الابتزاز! وما أقواهن على الصمود
أمام الأقاصي!
وبعد كل شيء.
أتظن أنه بوسع خادمة أن ترضي زبونا على حساب مشغلها أو تعصى أمرا
لسيّدها؟ كانت «فاطمة الزهراء» قد جهزت السياط فعلا عندما أكدت لك أنك
لست المقصود من وراء العبارات الساخرة وإنما «السمورف»، ساقية الكونتوار التي كانت
على وشك مغادرة الحانة بعد قضاء ليلة في الرقص والغناء وكشط جيوب السكارى
في لقطات يوقعها التلاسن والعراك... لبستْ «فاطمة الزهراء» ثياب الزهد، لم
تطلب منك أكثر من كأس قهوة بالحليب وهلاليتين، تناولتهما قبالتك وهي تنصت
لهلوساتك نصف السكرانة وتجيب عن أسئلتك نصف العاقلة حتى إذا خيل لها أنك
تاخمت الأقاصي، قالت:
- لي رغبة
قوية في أن أسكر معك اليوم!
- الله أكبر!
ها هي امرأة من يراها في الشارع لا تنتابه لحظة شك في أنه إنما يرى أمامه
سيدة من فصيلة «الأم طيريزا»، ما يحسبها وهي ماشية تتهادى وسط جلبابها
الأسود وتجر عجيزتها الثقيلة إلا أم أطفال تصارع قصر اليد... تعالى أيها
الرائي تنظر بأم عينيك كيف تنقلب الأمهات «طيريزا» بقدرة قادر إلى أبي
نواس بفرج ونهدين! في أي قعر منك كانت رغبة السكر مخبئة ليلة أمس عندما
كنتُ فريسة للساقيات؟! ما أحسنت التسديد ليلتها إلا التي اغتسلت صبيحة «الأربعاء»
بواحد وثلاثين جعة من الخامسة صباحا إلى الحادية عشرة والنصف صباحا.
ليلتها ما طلبتِ أكثر من زجاجة واحدة شعشتِها بليموناضا، وجعلتِ من نفسك
لي حصنا حصينا ضد مؤامرات «فتيحة» و«بشرى»... إلى كان ما كان...
ما أن سقطت
عينا رب الحانة علي و«عتيقة» والمائدة المكتظة بقنينات الجعة حتى قهقه
ضاحكا، ثم تظاهر بأنه يخاطب «الأم فاطمة» فيما كان يخاطب «عتيقة»:
- نحن الآن
أساتذة جامعيون ندرس الطلبة، وعما قريب
سنرتقي في التربة ونصير
فقهاء مساجد نحفظ الأطفال الصغار القرآن في ألواح
الخشب...
|