يقدم لنا الكاتب لزرق في مؤلفه الصغير حجما هذا، والكبير بمحتوياته،
مساءلة، بل محاكمة جادة للعولمة على أساس أنها تبدأ من/ وفي المدينة،
وذلك ضمن سياقات معرفية متصلة بمرجعياتها الفكرية الثقافية
والسياسية.
ويحدد المؤلف منذ الصفحات الأولى للكتابة الهدف الأساسي لهذا المؤلف،
اذ يقول أنه "مساءلة بعدي مرآة المدينة وإبراز معمارية صاريتيها،
ويأتي ذلك عبر خمسة فصول وخاتمة ليست كالخواتيم المتبعة في معظم
الكتب العربية، وكذلك توطئة مختلفة اختلافا كليا عن التوطئات
المتبعة، إذ أن كل واحدة من هاتين تشكل فصلا كاملا متكاملا. إضافة
إلى فصول الكتاب الأخرى، مع الحفاظ على ماهيتهما، في كونهما توطئة..
وخاتمة".
وبدءا من التوطئة التي هي تحت عنوان: "الثقافة وسؤال الهوية: حياة
المدينة أو تقريظ الثقافة" تلك التي شملت:
1- المعرفة والعدالة: ويقول في ذلك: "اذا كانت الثقافة والسياسة هما
صاريتي المدينة، وإذا ما اعتبرنا أن المعرفة والعدالة هما قصدا
الثقافة والسياسة، أمكننا القول إذن: أن المعرفة والعدالة هما مرآة
المدينة".
2- الفضاء المدني والفضاء السياسي: ويقول لزرق هنا ان المدينة لا
تتحدد بمعيار سياسي فقط، بل بمعيار معرفي وقيمي أيضا، وهدا ما يترجمه
مفهوم الفضيلة كقيمة معرفية وأخلاقية (ما دامت المعرفة أيضا فضيلة)
لكنه يضيف في الآن نفسه: ان المدينة الفاضلة تتأسس أيضا على قواعد
شرعية أخلاقية وعقيلة، وعلى قوانين تلزم الناس باحترامها، دون اكراه
ودون اللجوء الى القوة والهيمنة(...) الا أن بلوغ المدينة الفاضلة
يقتضي الجمع بين القول والفعل، فلا يكفي معرفة الخير الأسمى والسعادة
الحقة والكمال الانساني، بل ما يهم هو ممارستها، واذا انفصلت معرفة
الفضيلة عن ممارستها (نكون أمام مدينة فاسقة).
3- وفي الجزء الثالث من التوطئة.. تحت عنوان "نوابت وغرباء": يناقش
المؤلف اختزال المدينة في البعد السياسي ويصفه بأنه هو البعد الذي
جعل المدينة حلما، لا يرتهن بواقع الأمر، بل يرتمي في مستقبل مأمول
ومنشود. يمتع مرجعياته من الحكمة والفضيلة، من العقل والدين، وهي
مرجعيات ثقافية، قد يوظف بعضها أو كلها لاضفاء الشرعية على نسق
سياسي، كما قد يستخدمها البعض أيضا في نقد النسق السياسي، لهذا يمكن
اعتبار الثقافة مرآة المدينة، إنها شرط ضروري لكل مدينة، كما أن
المدينة شرط سالب لكل ثقافة.
ويشرح المؤلف فكرته بهدوء وروية اذ يقول: "اذا كانت المدينة رهان
الثقافة والسياسة، فان الفضاء المدني والوعي والمديني هما رهانا كل
من المثقف والسياسي. انه الفضاء الذي ينتصر للوعي بمدينة أفضل،
وبأداء أحسن للدولة، وبحقوق أوسع، وبالتالي الوعي بضرورة الفصل بين
الوعي المدني والانتماء السياسي، والحفاظ على المسافة بين المثقف
والسياسي وعدم الخلط بين الفضاء المدني والفضاء السياسي، أي عدم
التماهي مع السلطة ومع الدولة، فهل لا زال بامكاننا الحديث عن ثقافة
المعارضة، وعن المثقف المعارض؟ أم أنه ينبغي أن نردد مع البعض أن
زمان المعارضة انتهى وعلينا أن نتكيف مع ثقافة الاندماج؟!"
الفصل الأول من الكتاب يثبت تحت عنوان كبير هو: "الثقافة وسؤال
العولمة: ثقافة العولمة" ويناقش فيه المؤلف أولا: العولمة ونفي
المدينة، وثانيا التحولات الكبرى والنظام المعرفي الجديد، ثم ثالثا
نقد الخطابات السائدة حول العولمة، وصولا، الى الشرط الرابع الذي
يتجسد في: "الحلم والكابوس: من العولمة الى الصراع الثقافي" اذ يقول
المؤلف هنا: "اذا كانت ثقافة العولمة قد بشرت بنهاية الصراع، وبقيادة
العالم قيادة ذات منحى أحادي: رأسمالي/ ليبرالي، واذا كانت تبين أن
الانخراط في ثقافة العولمة يقتضي عولمة الثقافة، فان أحداث 11 سبتمبر
(ما عرف بالثلاثاء الأسود) أعاد من جديد طرح سؤال الثقافة كمعيق
للعولمة، حسب البعض، كما أكد في نظرنا صحة بعض التخوفات اتجاه مصير
الانسانية في خضم عولمة تقوم على أسس غير متكافئة في العالم، وما
ينجم عن ذلك من نجاحات ولكن من اخفاقات أيضا، وما يجذره في وعي ولا
وعي الناس من تنافس واحساس بالقوة والتفوق، ولكن من شعور أيضا
بالاحباط والهزيمة والحقد، وما يزرعه من آمال ووعود، وما يحفر من
آلام ومخاوف".
ويتناول المؤلف، في الفصل الثاني الوضع الثقافي في المغرب، ومن
خلاله، وفيه يناقش موضوعات عدة مثل: "المدينة: طيف الثقافة" و"سؤال
الفصل الثقافي وأزمة اليوتوبيا" ثم "مرجعيات الوضع الثقافي" في
المغرب، والتي يحيلها المؤلف الى ثلاث مرجعيات تتحدد في الفقه كمعيار
لازمني، وبالاداب كوسيلة للانتقاء الفردي، وبالزوايا كلحمة اجتماعية.
ثم يتحدث المؤلف عن الثقافي والسياسي واختزالية كل منهما لصالح
الآخر، محددا اقصاءات ثلاث لذلك هي:
1- اقصاء كل ما يخرج عن دائرة الثقافة العالمة.
2- اقصاء الدين كحقل للتفكير.
3- اقصاء العلم من مجالات تفكير المثقف.
ووصولا الى طرد الثقافة من مؤسسة التعليم،
مناقشا في هذا الاطار الثقافية السياسية، والسياسية الثقافية، ليرى
أن مفهوم الثقافة السياسية، يتمظهر في تجليات عديدة:
الممارسات الثقافية، الابداع/ الفن، الهوية/
التراث، التربية/ الترفيه.. الخ. الا أن "الأساس في السياسة الثقافية
هو أن الثقافة ليست حكرا على نخبة، بل ينبغي أن تكون حقا للجميع"،
"يعني مفهوم السياسة الثقافية أن الثقافة هي أحد عناصر سياسة الدولة،
مثلما هو الشأن بالنسبة للتربية أو الصحة أو الدفاع". ويضيف: "إن
تأصيل سياسة ثقافية حقيقية، تفترض أن ينطلق المثقف من مشروع ثقافي
واضح المعالم، يعمل من خلاله على:
تحديد موقفه كمثقف (وليس كسياسي) من سؤال "التحايل" تعاقب الأجيال.
ثم تحديد علاقة المثقف بالسلطة: هل هي مراقبة ونقد ومعارضة، أم علاقة
موافقة واندماج وتزكية؟! أم علاقة صمت وتقية وتواطؤ؟ هل هي رهان
ثقافته السياسية؟ وهل تدخل ضمن استراتيجية سياسته الثقافية أم لا؟ ثم
مساهمته في توسيع رقعة الفضاء العمومي، وملء هذا الأخير عوض الانسحاب
منه والتكدس داخل أقبية الفضاء السياسي، وصولا الى بناء مشروع ثقافي
منسجم والدفاع عنه. مشروع يتضمن رؤية للعالم وللوجود، للانسان
وللمجتمع. مشروع لا يسعى الى تأسيس النهايات، بل يجعل من البداية أفق
كل بداية (...) الأمر الذي يسمح بدوام مشاهدة فردوس الانسانية عوض
التكيف مع جحيم مآلها الحالي.
وفي الفصل الثالث الذي جاء تحت عنوان: "الثقافة وسؤال النخبة" كان
ذلك في خمسة محاور أساسية أولها حول "المثقف والمدينة، يطرح الكاتب
هنا أن النظرة الى المدينة ينبغي أن لا تكون تجمعا للسكان فحسب وانما
أفق كل مدينة يولد فضاء مدنيا". وهذا يعني أن الحديث عن الثقافة
يفترض الحديث عن وجود ثقافة مدنية، وهذا يرتبط أيضا بعلاقة المثقف
بالمدينة.
المحور الثاني في هذا الفصل كان عن "تحديدات" في الراهن المغربي على
ضوء الحقل الثقافي ومساءلة هذا الراهن انطلاقا من مساءلة الواقع أو
مساءلته كمثقف تاريخي تبصم قراراته راهن المجتمع.
وذهب المحور الثالث الى مناقشة تميز الخطاب، أو الخطاب المتميز، حيث
يسعى المثقف كي يكون متخصصا في العموميات، يتسع حقل تدخله ليشمل
الآداب، المسرح والسينما، والتاريخ، والفلسفة، والاقتصاد، والحرب
والجهاد دون أن يكون فاعلا بشكل هاديء وعميق.
المحور الرابع تطرق الى "الانتلجنسيا والتكنوقراط والعلاقة التأثيرية
المتبادلة بينهما على اعتبار أن الانتلجنسيا وهم جماعة من المثقفين
أصبحوا نخبة متراصة لها حضورها الوازن والفاعل والمؤثر داخل المشهد
المجتمعي فكريا وسياسيا.
"الثقافة وسؤال التعليم" كان من نصيب الفصل الرابع الذي بدأه المؤلف
بـ"ثقافة الاصلاح وعوائق اصلاح الثقافة في التعليم" مبتدءا من "مدينة
المعرفة" وهي الجامعة مدينة داخل مدينة لأن: "فهم مآل علاقة المدينة
بالمجتمع في الحاضر، مرتبط تاريخيا بمكانة المدينة وموقع المعرفة
فيها".
ثم يناقش المؤلف تاليا الثقافة المدرسية والمدرسة الثقافية ثم
"الثقافة واصلاح التعليم: عبر – الثقافة المدرسية وحدود الاصلاح"
منطلقا من "سؤال المرجعية ومعيار الشمولية" وكذلك "الانغلاق
الدوغمائي وأفق الزمن" و"المدرسة الثقافية ومستهدفات الاصلاح" وذلك
أيضا عبر المرور في: "دولة الحق والقانون ومعضلة الجدال العمومي،
ونموذج التربية وسؤال الحرية، وصولا الى "التعليم بين الرهان الثقافي
والارتهان السياسي".
ثم يناقش المؤلف في هذا الفصل: "خصوصية الثقافة من التعليم العمومي
الى التعليم العامي، ومفارقات أساسية:من الخاص الى العام ومن العام
الى الخاص، ورهانات الاصلاح: الرهان السياسي ورهان السلم الاجتماعي
ورهان خصوصية الخطاب".
وفي الفصل الخامس أحالنا المؤلف الى محور "الثقافة وسؤال الفلسفة نحو
ثقافة السؤال" وذلك عبر رصد ومناقشة واستكشاف أربعة عناوين أساسية
مثل: الفيلسوف والمدينة، الثقافة والفلسفة، درس الفلسفة، حضور وغياب
الثقافة، الدفاع عن الفلسفة.
منطلقا من أن ثمة خصوصية ما تجعل الفيلسوف مثقفا. وتجعل من المثقف
متورطا في الفلسفة يتعلق الأمر بارتباط الفلسفة بسؤال المدينة،
وبالتالي الارتباط بالشأن العام.
أما بالنسبة لخاتمة الكتاب والتي لا تقل أهمية وشأنا عن بقية فصول
الكتاب حالها هنا مثل حال المقدمة، جاءت تحت عنوان "الثقافة وسؤال
العدالة". خاصة وان هذه الخاتمة أتت على شكل قراءة نقدية لرواية
"غيلة" لعبد الله العروي، وهي في هذا السياق خير مثال لتعامل رواية
بوليسية مع المدنية التي تغتال غيلة، ليس هي وحدها فحسب، وانما أيضا
تشكل غيلة للذاكرة المرآة المدنية، وغيلة من أبطال الرواية أيضا.
والقراءة النقدية لهذه الرواية، ليست محاكمة لها، وانما هي محاكمة
لجيل جديد بأكمله.
ونهاية يعتبر الكتاب اضافة نوعية للمكتبة العربية بالمعنى الشامل
للكلمة وذلك لعدة أسباب منها:
انه استطاع بجدارة أن يحدد مفهومات أفكاره وطروحاته ضمن سياق الواقع
الثقافي المغربي والعربي على السواء، المعاش منه والمغيب كذلك، عبر
رؤى جديدة تشبك فيها معاني السياسة بالثقافة بالفلسفة بالتعليم على
السواء.
اضافة الى أن المؤلف أتى بثيمات وأفكار جديدة سواء لجهة العولمة أو
لجهة المدنية على السواء، وذلك من خلال مناقشته وبحثه في الفصول آنفة
الذكر التي شكلت متن الكتاب.
وكل ذلك أتى بلغة واضحة تحليلية وقوية توشت بالدقة والبراعة والجرأة
في طرح الأفكار الذي يريد الكاتب توصيلها الينا. ولأنها لغة حملت
أفكارا فيها شيء من الفلسفة.. وشيء من النقد.. وشيء من مناقشة
الفكر.. وشيء من الابداع النقدي الذي يرتكز على منظومات معرفية واسعة
ومتعددة ومتشعبة في آن.
وأهمية هذا الكتاب
أيضا أنه يناقش قضايا معاشة مصيرية سواء لجهة الثقافة والسياسة
والعولمة والتعليم والفلسفة على السواء
.