في
السَّرير رقم 6 ، ترقدُ في صَمتِها ، الفتاةُ الحزينةُ " ياسمين" .
هكذا أُدعى أنا أيضًا. لكنَّ الأسماءَ محضُ نعوتٍ قشرية ، تطفو
كالزبَدِ ، متأرجحةً فوق سطح الماء. غير أن أمورًا أكثر عمقًا و
أصالةً كانت تربطُ بيننا . تلك الأمور التي جعلتْها ترتاحُ إليّ وحدي
، والتي جعلتني لا أقضي يومَ عطلتي إلاّ إلى جوارها.
كان
اليومُ صعبًا. عنبرُ المستشفى يئنُّ بالمرضى ، الأمرُ الذي جعلَ
نهاري كلَّه مشحونًا بالعمل : تفريغُ السلال جوارَ الأسرّة ، ملءُ
نماذجِ التقاريرِ الخاصةِ بالمرضى ، تبديلُ الضماداتِ و تغييرُ
الملاءات . و أخيرًا ، في نهايةِ اليومِ تقريبًا ، تمكنتُ من اقتناص
بضعِ دقائقَ لإعدادِ فنجانٍ من القهوة ، أخذتُه إلى حيث المقعدِ
البلاستيكيّ برتقاليّ اللون جوار سريرِها.كم أشعرُ بالامتنانِ لتلك
الدقائق التي أنعم فيها بصحبة تلك الفتاة.
- "
ياسمين ،كيف حالك ؟
"
أقولها
، وكأنني أرحبُ بنفسي. غير إنها لم ترد. “ ياسمين” لا تردُّ مطلقًا
في الواقع، كانت تمرُّ بحالةِ اكتئابٍ أخذتْها حتى العمق . كانت “
ياسمين” ، مثلي تمامًا ، إحدى ضحايا البحر.أنا أيضًا كنتُ ابنةً لأحد
الصيادين ، ربما من أجل هذا، تخرج الكلماتُ من فمي متقطعةً و خاطفة ،
مثل طُعْمٍ في سنارة صيد .أصبُّ الكلماتِ في أذنيها ،ثم أتخيلُها
تغطسُ في عمق الماءِ الباردِ داكنِ الزرقة . هكذا كلَّ يومٍ ، ألقي
كلماتي عميقا صوب الأسفل ، تمامًا حيث ترقد صديقتي.
- " كان
يومي مشحونًا ، لم يكن لدي متسعٌ من الوقت لفعل شيء
."
قلتُها
، بينما أمسحُ بأناملي على شعرِها
.
مع
فتاةٍ كهذه ، يكون من الصعبِ جدًا مقاومةُ لمسِها ، كانت “ ياسمين”
من هؤلاء النساء ذوات الجمال شديد الندرة . من أجل هذا ، كان الناسُ
يختلقون الأسبابَ من أجل المرور في فضائِها . أكثر من مرةٍ ضبطتهم
يشربونها ، يمضغون تفاصيلها . كانوا جميعا "باراكودا " تلك الأسماك
الضخمة . حتى الممرضون الذين يدفعون المقاعدَ المتحركةَ ذات العجلات
، لابد أن يبطئوا ، حدَّ الزحف ، حين يقتربون من سريرِها. الزائرون
المتجوِّلون ذوو العيون الجسورةِ الجشعة . الأطباء ، الذين يتوقفون
فجأةً ،بغير مبررٍ ، يسحبون الستائر الشفيفة الحاجبة للضوء ، ثم
يختبرون مجددًا أشياءً ليست في حاجةٍ إلى اختبار
.
الجمالُ
الباهرُ هو الشيء الذي لم نتقاسمه سويا ، “ ياسمين” و أنا ، غير إني
كنتُ سعيدةً بذلك.
- "
والدك قد يأتي في أي وقت ،" قلتُ لها ." قالَ الأسبوع الماضي أنه سوف
يأتي
."
لم تقل
“ ياسمين” شيئًا. فقط ارتجفَ جفنُ عينِها اليسرى ، أو هكذا خُيّلَ
إليّ.
مرَّ
شهران منذ وقعت تلك الحادثة فوق قاربِ الصيدِ الخاص بأبيها .
الحادثةُ الذي أدَّتْ إلى سقوطِها من القارب إلى البحر ، لتغورَ في
عمقِ الماء ، ثم تشتبكُ أطرافُها في خيوط شبكة الصَّيد . مرَّ وقت
غير قليل قبل أن يكتشفَ الأمرَ أحدٌ ، ثم بدأ الزعرُ والفزعُ
والاضطراب . نجحَ أبوها في تخليصِها و انتشالِها فوق متن القارب ، ثم
أبحر صوب القرية . حين وصل أخيرًا ، حملَ إلى الشاطئ ما كان يظنّه
جثمانَ ابنته .
- "
ياسمين !" . هكذا كنتُ اهمسُ . كنت أريدُها أن تلتقطَ الاسم و حسبْ.
اسمها واسمي ، الذي يشبه طُعمَ الصيد . كنت أريد الاسمَ أن يخترقَها
، و تبتلعه هي كما سمكةٍ و طُعْم يصادفُها.
لحسن
الطالع جاء طبيبٌ شاب إلى قريتهم ذاك الصباح، ليزورَ أقاربَ له
بالجوار. كان هو من استعادَ الفتاةَ الغريقةَ من حافةِ الموت ، وكان
هو أيضًا من أخبرني بقصتها : " فتحتْ عينيها ،نظرت إلى أبيها وقالت
كلمةً وحيدة ، ثم غرقت من جديد ، لا في الماء ثانيةً ، لكن في
الغيبوبة القاتمة."
"
بارّاكودا ". كانت هذه كلمة “ ياسمين” الأخيرة.
حين جاء
أبوها ، مسح على شعرها ، قبّلَ وجنتها ، ثم جلس على المقعد
البلاستيكي برتقاليّ اللون جوار سريرها ، آخذًا كفّها بين راحتيه.
تماما مثل أبي ، الكفُّ ذاتُها ، البنيّة الضخمة التي خشّنتها الحياة
، تلك الكفُّ التي تُميزُ الصيادين التعساء . هو أيضًا تفوحُ منه
رائحةُ البحر ، يتظاهر بأنه على ما يرام ، هذا الرجل البائس !
“
ياسمين” . كم تشبهني هذه الفتاة ! قواسمُ كثيرةٌ بيننا ،و كأننا
كيانٌ واحد. أتذكّرُ تلك الصباحاتِ الباكرة و شعري الذي يُمَسُّ
لأستيقظ ، ثم يرفعني أبي من سريري نصفَ نائمةٍ ، يحملني بين ذراعيه ،
يلقيني فوق قاربه ، ثم يبحرُ . أسترجعُ صوتَه الخشنَ في مسمعي ،
وأسترجعُ يدّه الخشنةَ فوق جلدي ، لم أرغب في الذهاب أبدًا ، لكنني
كنتُ محضَ طفلةٍ ، وكان هو أبًا ، يفعل ما يريد.
أتذكّر
الماءَ المالحَ ، الشمسَ الحارقة ،الزرقةَ بدرجاتِها ، وأمي ، التي
ترتعدُ هناك فوق الشاطئ فيما يصغرُ حجمُها كلما ابتعدنا . أتذكّرُ
ألواحَ القاربِ الخشبيّ وصخرةَ التثبيت ، أتذكَرُ صرخاتِ النوارس و
احتجاجَها.
"
ياسمين ، لديك حياةٌ في داخلك ، حياةٌ كاملة ، ألا تسمعينها تناديكِ
؟"
لا شيء
أبدًا
.
صُفقَ
بابُ العنبر بشدة ، لمحتُ والدَ “ ياسمين” يمشي صوبنا ، حاملا باقة
زهورٍ ، وابتسامةً ، ابتسامةً لي.
حتى في
الموت ، الطفلةُ الكامنةُ داخلي ترى ابتسامةَ أبي ، “ ياسمين” كذلك
،لابدّ سترى الابتسامةَ ذاتها ، ابتسامة هذا الرجل بالتحديد ، الرجلُ
الذي يحملُ باقةَ زهور ، ويمشي صوبنا.
وقف
جوار سرير ابنته ، مسحَ على شعرها ، بينما شيءٌ يمور بقوة في داخلي .
حدّقت في وجه “ ياسمين” ، وظللت أنتظر اختلاجةً من جفن عينها اليسرى.
*** |