تشكل رواية «جنوب الروح»[2] فضاء خصبا لتمفصل موضوعات تحلينفسية وأخرى إثنولوجية تتيح القول مع فرانسوا
لابلانتين: «إن ما يقوم به الكاتب [الروائي] فعلا هو تحليل ظواهر بهدف استخلاص
قوانين مفسرة للسلوكات البشرية»[3]،
كما تتيح التأكيد دون مجازفة بأننا أمام تحليل نفسي وإثنولوجيا عفويين. ذلك أن
الحكاية تمنح بمنتهى التلقائية ما يعسر معاينته في الواقع وما لا يُتوصَّل إليه إلا
بمجهود فكري شاق.
1. الـرّوايـة، الإثنولوجيـا والتحليـل النفسـي
إذا كان ميشال فوكو يمنح مكانة
متميزة للتحليل النفسي والإثنولوجيا داخل العلوم الإنسانية، محددا موضوع الأول في
التعرف على القواعد التي تتحكم، داخل اللاشعور الفردي، في العلاقات بالموت والرغبة
والقانون، والثاني في كونه يحدد لكل ثقافة يدرسها المعايير التي انطلاقا منها يشعر
الناس بحاجياتهم، والأنظمة الرمزية التي تجعل العالم دالا[4]،
أمكن العثور على أكثر من نقطة تقاطع بين هذين الحقلين المعرفيين والرواية بما هي
جنس أدبي. ويمكن عرض نقطة التداخـل العليـا - في نظرنا - على النحو التالي:
- على نحو ما يتأصل التحليل
النفسي في التأملات الفلسفية القديمة وتتأصل الإثنولوجيا في كتب الرحلات، تغوص جذور
الرواية في ما يمكن تسميته تجاوزا بـ «الأجناس السّابقة للرواية»، من خرافات
وأساطير وحكايات وسير وملاحم، فضلا عن أن بداياتها «قد تمت داخل منظور المغامرة
اللامحدودة التي تفتحها الرحلة (جاك القدري، دون كيشوت، الخ.)»[5].
- يضاف إلى ذلك أن نشـأة كل من
الإثنولوجيا والتحليل النفسي والروايـة لم تتـم إلا حديثـا، في هذه النقطـة من
تاريخنا التي بدأت القيم فيها تتأرجـح وأخـذ الشك يطال العالـم الذي يستمد مشروعيته
من الألوهية[6]؛
إذا كان «الجنس الروائي نشأ من النسبية العامة التي تخلصه من أي نزعة أخلاقية
و"يكون فيه كل حكم أخلاقي باطلا"»[7]،
فإن التحليل النفسي قد ولد «في آن واحد من القلق على تبديد الأب (...) ومن السيادة
الجديدة الذاتية للجزء الذي سمح بظهور اللاوعي باعتباره ليل الأسطورة وإشعاعها
الليلي»[8].
- مثلما تندرج نشأة التحليل
النفسي والإثنولوجيا ضمن صيرورة للميتافيزيقا الغربية في بحثها عن المعنى، تجد
ترجمتها اليوم في ظهور تخصصات معرفية وعلمية وتقنية متعددة، بل وتخصصات عدة داخل
الحقل المعرفي أو العلمي الواحد[9]،
كذلك لم ينشأ الجنس الروائي إلا حديثا ضمن صيرورة تطور الظاهرة الأدبية. ومع أننا
نجهل قوانين هذه الصيرورة، لأن أمر تحديدها يعود إلى نظرية الأدب، فإننا نعرف على
الأقل أن الرّواية، شأنها شأن التحليل النفسي والإثنولوجيا، تهتم بالتفاصيل وتفاصيل
التفاصيل[10].
- كما بدأت الإثنولوجيا بدراسة الآخر، إنسان المجتمعات غير
الغربية أو ما يُصطلح عليه بالمجتمعات الغرائبية
(sociétés
exotiques)، لتعود أخيرا إلى مجتمعاتها الغربية ذاتها، كذلك فعلت الرواية؛ إذ «بقدر
ما يتم استكشاف العالم المعروف، يعود المرء إلى عقر داره، ليستكشف اليومي كما هو
الشأن في رواية مدام بوفاري[11].
إذا كان تقاطع الرواية والتحليل النفسي والإثنولوجيا أمرا واردا،
فإنه ينبغي مع ذلك طرح سؤالين على الأقل، وهما: بماذا يمكن للرواية أن تفيد الحقلين
المذكورين؟ وبماذا يمكن لهما أن يفيدا الرواية؟
1. 1.
إسهام الرواية الممكن في التحليل النفسي والإثنولوجيا
ويتمثل أساسا في نقطتيـن:
1) إن ما يصعب معاينته في الواقع
بكيفية مباشرة، تمنحه الحكاية بمنتهى التلقائية. وبات معروفا جدا الدور الذي لعبته
نصوصُُ حكائية عديدة في بلورة مقولات تحليلنفسية أو حتَّى توضيح كيفية اشتغال
سيرورات علاجية نفسية. أشهر هذه النصوص حكاية نرجس ومسرحية «أوديب ملكا»
الإغريقيتان، ونصوص الماركيز دُو ساد وساشر مازوش، ثم نص «ألف ليلة وليلة»[12].
2) وما لا يمكن الوصول إليه إلا بمجهود تنظيري شاق، تمنحه الحكاية
بمنتهى التلقائية، على شكل ما يمكن تسميته «أوصافا أمبريقية»
(descriptions empiriques). ويبدو أن الإثنولوجيين والمحللين النفسانيين قد
أدركوا قيمة هذا الإسهام سواء بصياغة خطابٍ حوله أو بالاستسعاف ببعض مكونات الرواية
في تحليلاتهم العلمية. وبهذا الصدد يحضرنا جواب فرويد لما سئل ذات مرة عن الأساتذة
الذين أثروا في تكوينه، إذ أجاب بإشارة من يده مومئا إلى مكتبته حيث اصطفت روائع
الآداب العالمية[13].
وعندما نقرأ عروض الحالات العيادية (cas cliniques) التي تتخلل بعض كتب التحليل
النفسي ككتاب «التحليلات النفسية الخمسة»[14]،
أو «كيف نحلل نفسانيا»[15] يخامرنا شعورُُ بأننا نقرأ أعمالا روائية يكتبها المرضى بأجسادهم وأحاسيسهم
وتصرفاتهم إن لم ينتبنا الشعور بأننا نقرأ قصائد شعرية أو نطلع على المتخيل وقد نفذ
إلى العالم المرئي وراح يؤثث أشياءه. وعلى المنوال نفسه يسير الإثنولوجيون في تحرير
يوميات بحوثهم الميدانية التي كثيرا ما تشكل تجارب وجودية حقيقية للباحثين في
التأرجح بين قيم الذات وعالمها الرمزي وقيم الآخر وعالمه المختلف. ها هو أحدهم
يقول:
«في المساء نفسه، اقتلعتني الطائرة [من مالي]. كانت الأيام الأولى
القليلة التي تفصلني عن الرجوع [إلى باريس] مكفهرة، يغمرها الأسف على تلك الليالي
التي كانت توقِّعُها موسيقى الحشرات الصارَّة، وتغمرها الرغبة في أن أعود ثانية كي
أمكث [هناك، في مالي]، الرغبة الماكرة التي كانت تجعلني أقول لنفسي: "الحياة الحقة
هي التي توجد هناك". "تفاوت لذيذ" لمن يعيش في مكانين في آن واحد»[16].(...)
«في نهاية تلك الرحلة كنتُ فكرت بقوة في "الرجوع إلى مالي لأصرف هناك ما تبقى من
حياتي"»[17].
(...) «إني لا أكف هنا [في باريس] عن الابتعاد عن الماليين، عن نسيانهم، عن
خيانتهم. وهناك [في مالي] لا أحس أبدا بأني على استعداد كي أقيم بينهم ثانية»[18].
1. 2.
الإسهامات الممكنة للتحليل النفسي والإثنولوجيا في الروايـة
لا يتردد البعضُ في اعتبار
التحليل النفسي أداة تتيح الوقوف في الأدب والأنثروبولوجيا على أعمق إشكاليات
الوجود البشري، إذ يرى أن الأهمية الكبرى لهذا الحقل المعرفي تتمثل في أنه «بحث في
الأدب وفي الأنثروبولوجيا عما هو الصميم من مشكلة الوجود الإنساني، أقصد معناه، وفي
الرواية عن المعنى الذي إذا ما انطلقنا منه نستطيع أن نفهم الرواية - أية رواية -
في زواياها الأخفى والأكثر التباسا»[19].
وإذا كان إسهام التحليل النفسي في إدراك أبعاد جديدة للظاهرة الأدبية قد بات معروفا
عند نقاد الأدب تحت اسم «النقد التحليلي النفسي»[20]،
مما يعفينا من التطرق إليه في هذا المقام، فإننا نود الإشارة في عجالة إلى ما يمكن
أن تساهم به الإثنولوجيا في هذا الباب، وذلك بعرضه ضمن مستويين[21]:
1. 2. 1.
مستوى النص الأدبي بما هو إنتاج ثقافي
بالمعنى الذي تحمله كلمة ثقافة
في الحقل الأنثروبولوجي، أي باعتبارها «مجموع ما يتلقاه الفرد من مجتمعه:
المعتقدات، والتقاليد، والمعايير الفنية، وآداب الأكل، وأشكال الحرف التقليدية التي
لا تتأتى لهذا الفرد من نشاطه الخلاق، وإنما من موروث الماضي المتناقل بكيفية واضحة
أو مضمرة»[22].
وفي هذا المستوى يمكن اعتبار العمل الروائي بمثابة مادة وأداة للإيصال الثقافي في
آن واحد، ضِمنَهُ تُطْرَحُ القضايا الأساسية جدا التي شغلت الإنسان في كـل العصور،
ولازالت تشغله، وهي: أصل الحياة، والموت، واختلاف الجنسين، والمرض، الخ.
1. 2. 2. مستوى النص ضمن سيـاق إنتاجـه
يمكن اعتبار الأدب «مجتمعا افتراضيا» تشتغل الأعمال التي تنال
حظوة الانتماء إليه في «ذاكرة ثقافة» انتمائها الأساسي.
يشكل الأدب مجتمعا افتراضيا
(société
virtuelle) بمعنى أنه يقوم بموازاة المجتمع المادي المتعارف
عليه ويتعالى عنه في آن واحد. إنه مجتمع يتعايش فيه الأحياء والأموات، أي كتَّابٌ
ينتمون إلى حقب زمنية مختلفة، كما يجتمع فيه أناسٌ ينتمون إلى رقع جغرافية قد
تتباعد في ما بينها بعشرات الآلاف من الكيلومترات. وهذا المجتمع الافتراضي يأخذ
شكله المادي في المكتبات؛ فلدى الدخول إلى مكتبة ما لا يجب رؤية ما تكتض به من كتب
باعتباره أجسادا مادية جامدة، أي مجرد كتل من ورق، بقدر ما يجب النظر إليه بوصفه
حشدا من الضيوف (أو المقيمين)، فيهم الأموات والأحياء: أرسطو يجلس بجوار ابن خلدون،
وابن كثير بجانب أرنولد توينبي، هوميروس بجانب طاغور، عمر الخيام بجانب أدونيس...
الخ. وفي هذا المجتمع الافتراضي ينتفي الموت، إذ يكفي المرء أن يفتح كتاب أحد
المؤلفين «الأموات»، بصرف النظر عن المسافة الزمنية الفاصلة بين حامل الكتاب وزمن
تأليفه، ثم يشرع في قراءته، وها هو الكاتب أو الشاعر نفسه حيّ يخاطب قارئه، يحدثه،
ينقل إليه ما أراد نقله إلى القراء يومَ كتب ما كتبَ... والفرق الوحيد الذي ينتصب
بين القارئ والمؤلف هو انتفاء إمكانية عقد الحوار بينهما؛ فالكاتب يقول أشياء،
والقارئ ينصت إليه، غير أنه أثناء هذا الإنصات / القراءة يشغِّلُ ذهنه، فيبدي
ملاحظات، أو يدلي باعتراضات، أو يطرح تساؤلات، لكن ليس بإمكان المعني بذلك كله (وهو
المؤلف) أن يقدم أي إجابة. إنه غائب.
غير أن الانتماء إلى مجتمع الأدب
الافتراضي لا يتمّ بمحض إرادة الفرد؛ فثمة آليات للإدماج والإقصاء، يشغلها النقاد
عموما، تجبر المبدع على اجتياز ما يمكن تسميته بطقسي «المسارة»(initiation)
و«العبور/الانتقال» (passage)[23]،
لينال بعد ذلك - وبعد ذلك فقط - تأشيرة المرور إلى مملكة الأدباء، ويصير بالتالي
واحدا منهم، يمتلك حق استعمال اللغة استعمالا خاصا أو إنتاج الأدب بما هو لغة خاصة.
بيد أن فان جنيب يدرج استعمال لغات خاصة ضمن أغلب طقوس العبور نفسها: «في أغلب
الاحتفالات السابقة (...) يتم استخدام لغة خاصة تتضمن أحيانا معجما بكامله مجهولا
أو نادرا في المجتمع العام، ولا يدور أحيانا سوى حول منع استخدام بعض كلمات اللغة
المشتركة. وبذلك، ثمة لغات للنساء، لغات للمسارين، لغات للحدادين، لغات للرهبان
(لغة شعائرية)، الخ.»[24].
بيد أنَّ الأعمال الأدبية تحتاج دائما إلى مسافة زمنية ليتم
الوقوف بوضوح على جوانب الأصالة والتميز فيها، وتاريخ الأدب والفنون عموما يقدم
أمثلة عديدة في هذا الباب لا يسمح هذا المجال بعرضها.. فكم من شاعر أو فنان تشكيلي
لم ينل أدنى درجات الاعتبار والتقدير في عصره، فما جاء عصر آخر حتى اتضح أنه كان
رائد مدرسة شعرية أو فنية بكاملها...وقضية المسافة الزمنية هذه تحيل إلى الحديث عما
أسميناه أعلاه بـ «الاشتغال في ذاكرة الثقافة»:
يتيحُ كلّ من الصَّمت الذي
تقابَلُ به أعمالُُ معينة، والإنصاتُ إلى الأصوات التي تعلو هنا وهناك ضد ما يكتبه
هذا الشخص أو ذاك، والحواجز التي تنصبها جهات عديدة إزاء كل من رشح نفسه للانضمام
إلى المجتمع الأدبي، بل وتستخدمها أحيانا حتى أمام كتاب كرَّسُوا أنفسهم في دوائر
قرائية معينة[25]،
يتيح ذلك الصمت والإنصاتُ القولَ بوجود سلطات تنظم مراكز الكتابة والتلقي
وهوامشهما. إن هذه السلطات قائمة، وهي تتجاوز دائرة النقد بالتأكيد، وسيكون من
المفيد تناولها بالدراسة من حيث طبيعتها، وقواعد عملها، وكيفية تشغيلها لإواليتي
الإقصاء والإدماج «لمنح» ما يمكن تسميته بالـ «وضع الاعتباري للأديب» للبعض و«نزعه»
عن البعض الآخر: أي شيء تنطوي عليه الكتابة بحيث يقتضي تشغيل جهاز بكامله، وهو جهاز
لا نعرف ملامحه كاملة لكنه من كلية الحضور (omniprésence) بحيث لا أحد من الكتاب
يسلم منه عبر اجتياز آليتي الإقصاء أوالإدماج؟
لا يمكن أن نقدم في هذا الصَّدد
إلا فرضية واحدة، وهي أنَّ الأمرَ شديدَ الحساسية والحيوية الذي تنطوي عليه الكتابة
هو الانخراط في ذاكرة الثقافة. الإقصاء ينطوي على خوف من أن يحتل المقصي جزءا من
ذاكرة الثقافة، أي ولوج مساحة ميراثها، والاستيعاب ينطوي على تكريس ضوابط، لكن أيضا
على وصاية كليانية (totalitaire) تطال الماضي والحاضر والمستقبل على السواء. بيد أن
شهرة مؤلف ما إنما «تقاس عموديا - إذا جاز التعبير - بشدة انتشار أبحاثه ضمن الحلقة
العلمية المؤلفة من جماعة طلابه وتلامذته، وأفقيا، في بعض
الأحيان، بالنجاح
الذي حققه لدى جمهور معاصر له»[26].
في ما وراء هذه الخلفية العميقة، يمكن التساؤل: أي شيء يكون من
الإلحاح والجد بحيث يدفع فردا ما (هو ما يصطلح على تسميته بالمؤلِّف أو المبدع) إلى
الكتابة في هذا الجنس الأدبي أو ذاك؟ أي شيء يكون من الجد والإلحاح لدى الجماعة
بحيث يجعلها تقبل هذا العمل وتتلقاه ما لم تحفز على كتابته؟
الجدير بالملاحظة أن الأمر هنا يتم على غرار ما يحدث في السحر.
فباستعارة تعابير مارسيل موس الواردة في سياق آخر، هو كيف يصير المرء ساحرا، يمكن
القول: إن الروائي هو الفرد الذي قدَّمَ نفسه للجماعة باعتباره مبدعا في الوقت نفسه
الذي صدقت الجماعة بأنه روائي فعلا. بمعنى أن الوضع الاعتباري (statut)
للروائي يتم من خلال إجراء نوع من التعاقد أو الميثاق بين منتج النصوص والمجموعة
الاجتماعية التي ينتمي إليها. وعند هذه النقطة، يمكن طرح مجموعة من التساؤلات،
منها: ما العلاقة بين الرواية، بما هي جنس كتابي حديث النشأة، بأشكال الحكي الشفهية
التي كانت سائدة من قبل؟ هل تقول الرواية المغربية حاليا نفس ما كانت تقوله الأنواع
الأدبية العربية السائدة من قبل؟ ما هي الطقوس المساريـة التي يجتازها الفرد في
المجتمع المغربي الراهن لكي يصير روائيا مُعترفا به من قبل جماعة المتلقين؟ ما
الخطاب الذي يصوغه الشخص، حول نفسه وحول العالم المحيط به، عندما يلج الوضع
الاعتباري للكاتب؟ ما الخطاب / الصورة التي يكونها عنه الآخرون عندما يلج الوضع
نفسه؟...
يتجاوزُ تناولُ كل هذه القضايا الإطارَ الذي رسمته هذه الدراسة
لنفسها، ولذلك سنكتفي بمعالجة جانب واحد من الرواية التي تهمنا، وهو الإيصال
الثقافي، رامين من وراء ذلك إلى إظهار أمرين:
- الأولُ: ما يعسر على المرء أن يقف عليه مُعَايَنَة في الواقع
المعيش يمكن للعمل الروائي أن يمنحه بكيفية تلقائية؛
- والثاني: إظهار إمكانية اتخاذ بعض الأعمال الروائية حقلا
لاختبار بعض الفرضيات التي تصاغ في مجالي التحليل النفسي والإثنولوجيا.
ومنطلقنا في ما سبق هو: إذا كانت اللغة تشكل أداة للوجود وكان
العمل الروائي إبداعا لغويا بالأساس، فإن الخطاب الروائي بقدر ما يحكي ينحكي، بمعنى
أن لغة الرواية لا تقصُّ العالم متمثلا في الفضاءين الطبيعي والبشري فحسب، بل وتروي
أيضا وجودها في بعديه الآني والتاريخي.
2. المجتمع التقليدي
المغـربـي في «جنـوب الروح»
بالنظر إلى زخم ما هو وارد في «جنوب الروح» من مواقف نفسية،
وأسماء أمكنة، وأشخاص، ونباتات، وفواكه، وألبسة، ووصفات أطعمة، ووصفات علاج تقليدي،
وعادات وتقاليد... بكيفية لا تتأتى إلا لمن يملك عن الريف المغربي معرفة دقيقة
ناتجة عن معايشة طويلة وحميمية لهذا المجال، بالنظر إلى ذلك يمكن اعتبار العمل
الحالي حقلا خصبا للتقاطع المشار إليه أعلاه، بمعنى أن «جنوب الروح» تعرض نقط
التشابه التي تجمع بين الرواية بما هي جنس أدبي والإثنولوجيا بما هي حقل معرفي
اجتماعي، فضلا عن كونها تعرض جملة من التقليعات في النفس البشرية على نحو ما سنرى.
إذا حددنا المجتمع التقليدي المغاربي باعتباره مجالا يتألف من
«إطار هو الفصل بين الجنسين، وبنية هي النسب الخطي الأبوي، ونمطا في الممارسة هو
السلطـة الأبويـة، وإواليـة لإعادة الإنتـاج هـي الإيصـال الثقافي»[27]، أمكننا
الوقـوف داخل «جنوب الروح» على كافة هذه المحددات:
2. 1. الفصل بين الجنسين
يتضح من خلال مجموعة من المقاطع أنَّ هذا المبدأ راسخ في المجتمع
الذي تصفه الرواية. من هذه الفقرات مشهد «تلصص» الفرسيوي على نورية وهي كاشفة عن
ساقها تغتسل (ص. 110)، ومشهد جدل العجوزين هموشة وحادة أثناء احتضار هذه الأخيرة،
حيث لا يمكن لمضمون نقاشهما أن يتولد إلا في سياق من الحميمية داخل الجنس الواحد.
وهو مشهد يقابله لدى الرجال مشهد «استخفاف» الذكور البالغين بـمُحَنّد العكيوي لدى
إثارتهم موضوع عجزه عن افتضاض عروسته ليلة الزفاف.
وإذا كان تفوق الرجل على المرأة يعتبر أحد السمات المميزة للعلاقة
بين الجنسين في المجتمع التقليدي المغربي، فإن هذا العنصر يحضر في الرواية بوضوح
مجسَّدا في التهديدات التي يوجهها الأزواج لزوجاتم: «... حاولت هموشة معرفة ما جرى
خلال هذا الغياب، لكن الفرسيوي قطع دابر أسئلتها بتهديد صارم إن هي خاضت معه مرة
أخرى في هذا الموضوع»[28]؛ «ترجته ]=الفقيه السِّي محمد أوبناصر[ رقية ذات فجر قائظ
وهي تصب له الماء للوضوء أن يفعل ما يأمر به الشرع، ويودع نطفته رحما أخرى على سنة
الله ورسوله، فأمرها بلهجة صارمة أن لا تعيد هذا الكلام على مسمعه أبدا»[29].
2. 2. النسب الخطي الأبـوي
لا يتجلى في انتساب الأبناء إلى الأب دون الأم فحسب، بل وكذلك في
المواربات التي تلجأ إليها الجماعة في التعامل مع الفرد المشكوك في أبوته؛ ففي حالة
إدريس الذي ضبطت أمه متلبسة مع بائع عطور وأعشاب متنقل، بدل أن تدرجه الجماعة في
النسب الخطي لأبيه الحقيقي أو تطلق عليه الاسم الحقيقي الذي ينطبق على وضعه
الاعتباري كما تتمثله، وهو «اللقيط»، عمدتْ إلى مناداته بـ «المبروك». و هي تسمية
ربما تدخل ضمن ما ينعته إميل بنفنست بعملية التجديف (Blasphémie)،
التي يتم فيها تحاشي ذكر الشيء باسمه عن طريق اللجوء إلى أسامي مغايرة يكون المدار
فيها تدنيس المقدس، وانتهاك المحظور بالتحايل عليه[30]، أو ضمن ما يسميه روجيه
كايوا بـ «غواية قلب المدنسات إلى بركات، وجعل المدنس أداة للتطهير»[31]. كما تم
إعادة إدماج إدريس هذا في الجماعة من خلال تكليفه بمهمتي العلاج والوساطة مع عالم
الماوراء (الاستسقاء)، بمعنى تكليفه بهذه المهمة الشائعة في العديد من المجتمعات
والمعروفة باسم «وظيفة المقصي»[32].
يتجلى رسوخ النسب الخطي الأبوي (filiation
patrilinéaire) داخل الرواية في جوانب أخرى، منها: غياب الأم
كليا في حالة محمد الفرسيوي وابنه، وذوبان الأفراد الخلف في الجد السلف، حيث لا يرد
الاسم الشخصي لحفيد الفرسيوي إذ لا يتمكن القارئ من تمييز الفرسيوي الابن عن
الفرسيوي الأب إلا بذكر الاسم الشخصي للأول، وهو محمد الذي لا نتعرف عليه في
الرواية إلا بتقلده لمهمة الحكي عبر استخدامه ضمير المتكلم. وقد أظهرت مجموعة من
الدراسات أن عملية إقصاء الأمهات من شجرات النسب تضمر استيهام تحقيق إيصال دون
المرور من النساء[33].
2. 3. السلطــة الأبـويــة
تستمد كيانها في المجتمع التقليدي المغربي من الرجولة والشرف،
وتأخذ داخل العائلة شكل عنف كلامي - بالخشونة في الكلام تارة وبالإحجام عن الحديث
تارة أخرى - أو عنف جسدي. وهذه العناصر حاضرة بشكل جلي في الرواية: فمحمد العكيوي
وإن خانته الفحولة ليلة الزفاف إلى حد أنه صار أضحوكة بين أنداده («وماذا نقضي
بالبارود والرجلة وبالك حيد إذا كنا لا نستطيع أن نثقب امرأة؟!» (ص. 86)، فإنه
سيحصل، في المقابل، على تعويض رمزي يتمثل في ما صار يحظى به من احترام لدى الجماعة
نفسها تقديرا لما أبداه من شجاعة في محاربة الاستعمار.
ويمكن اعتبار البياض الذي تركه الأب الفرسيوي في ما حكاه لابنه
محمد، ونظيره الذي تركه هذا الأخير في ما رواه لابنه الفرسيوي الحفيد أيضا بمثابة
عنف كلامي، استنادا إلى أن الإحجام عن الكلام يعتبر أيضا كلاما آخر، كلاما
عنيفا[34].
2. 4. الإيصـال
الثقـافي (transmission culturelle)
يعرَّف الإيصال في التحليل النفسي بأنه «مجمل ما يورثه السلف إلى
الخلف على نحو غير واع. ويتضمن ذلك مجموع التصورات والمعتقدات والأخلاق والخيال،
الخ.[35]
ومعنى ذلك أنه أداة للتنشئة الاجتماعية ومحتوى لها، في آن واحد، يَهدِف لا شعـوريا
إلى حفظ ثقافة الجماعة وضمان استمرارها ودوامها من خلال إعادة إنتاجها. في المجتمع
التقليدي كانت المرأة تضطلع بالقسط الأوفر من هذه العملية، لأن الأم، في هذا السياق
كما في سائر المجتمعات، تكون أكثر من أي امرأة أخرى أشد اقترابا اجتماعيا من الطفل[36].
وفي «جنوب الروح» يأخذ هذا الإيصال شكل جسد لغوي - ينقله جيل
الكبار إلى جيل الصغار - هو كلمة أخو الفرسيوي: «إذا كبر الأولاد فارجعهم إلى
الريف، ''أمراسن أبريذ نبابا تسن'' ]عرِّفهم طريق أبيهم، حيا أو ميتا[» (ص. 41)،
جسدُُ تـمَّ ترجمته إلى أمسيات حكي طويلة موضوعها سرد تفاصيل مكان الإقامة الأصلي
(دوار بوضيرب) وقصة النزوح منه، ليتحول هذا الإيصال بعد ذلك إلى رمز يتمثل في ذلك
الدفتر الصغير الذي دوَّنَ فيه محمد الفرسيوي كل ما سمعه من أبيه وهموشة وابن عمه
سلام، ثم نقله إلى ابنه الذي يضطلع بدور حفيد سلالة الفرسيوي في الرواية..
3. في الأصـل والإيصـال الثقافـييـن
رغم تنوع مادة الحكي في «جنوب الروح»، فإن السرد يبدو متمحورا حول
موضوعة رئيسية هي التلاشي المعمَّم الذي يُلقي بظلال المحو والعدم على شخصيات
الرواية وعالمها الطبيعي. ومن ثمة، نجد هذا الحنين والأسى الشاعريين، وهذا الانهمام
بتخليد ما تلاشى - أو هو في طور الفناء - عبر سرد حشد من أسماء الأماكن، والأشخاص،
والنباتات، والفواكه، والألبسة، ووصفات الأطعمة، ووصفات العلاج التقليدي، والعادات
والتقاليد. حشد قد يفسح، للوهلة الأولى، المجالَ للتساؤل عما إذا كان الأمر يتعلق
برواية فلكلورية إذا ما عرفنا الفلكلور بأنه: «جمعٌ وحفظ للمعتقدات والعادات
العتيقة، أي بقايا حالة اجتماعية اندثرت منذ وقت طويل أو هي في طريق الانقراض»[37].
وهو ما نبادر بالإجابة عنه فورا بالنفي. ذلك أنه، فيما وراء هذه النظرة الأولية،
يمكن فهم الانقراض نفسه باعتباره مآلا لنمط إيصالي ثقافي أدى إلى «ولوج للمغاير»،
وبالتالي إلى الانخراط في دورة حيوية الحياة والتجديد.
3. 1. الإيصال الثقافي ومنع
غشيان المحارم
لدى تناول قضية الإيصال الثقافي ضمن إطار مرجعي أنثروبولوجي، فإن
انخراطه في قانون منع غشيان (أو زنا) المحارم[38] يغدو مسألة أساسية جدا. ذلك أن هذا
القانون، بمحتواه المزدوج، هو ما يمنح للفرد هوية من خلال إحساسه بأنه مقيد تقييدا
مزدوجا: إحساسه بكونه مُحدَّدا باختلاف الأجيال، ومُحدَّدا باختلاف الجنسين. إلا أن
السياقات الثقافية والاجتماعية تختلف في التعامل مع هذا القانون، ومن ثمة إمكانية
التمييز بين نوعين من السياقات: ثقافات تشجع فرضه، وبالتالي تفسح المجال للحياة
والتغيير، وثقافات تعيقه، وبالتالي يسود فيها التحجر، ويعاق التحول، فلا يجد فيها
المغاير والمختلف مكانتهما[39].
3. 2. معنـى «القانـون»
نستخدم مصطلح قانون في هذا
المقام باعتباره «تجسيدا لنظام بالقياس إليه يمكن للفرد أن يجد مكانه ويتحدد بوصفه
هوية»[40]،
أو هو «علاقة معترف بها مع ما يمكن أن يُنتَهَك ويطرح، بالتالي، دوما مسألة الخرق[41].
وبهذين التعريفين، فهو ينبثق من ثلاثة أمكنة هي: الدخول إلى اللغة باعتبارها عالما
رمزيا، وظيفة الأب عبر إواليتي الأوديب ومنع غشيان المحارم، ثم حدوث قطيعة داخل
العلاقة بين الفرد ومتخيَّلِه (أو مِخيالِه) عبر تدخل طرف ثالث هو الاسم»[42].
3. 3. فـرويـد: نموذجان للإيصال
الثقافـي
وبالعودة إلى تأملات فرويد المتناثرة في كتاباته، يمكن استخلاص
نموذجين إيصاليين تحكما في تناول الفكر الفرويدي نفسه لهذه المسألة:
- إيصال يكون بمثابة خلود أو دوام متحجر للنظام المقدس، يختَزَلُ
فيه الطفل إلى كائن عائد، إلى نسخة للسيد، إلى شبح. إنه التكرار بعينه.
- إيصال يملك فيه الطفل وضعا
اعتباريا، هو وضع الحي، لأن الأب يتخلى عن سلطته التحكمية، ويَعترف بمحدوديته
المزدوجة في سلسلة الأجيال وفي فضاء الجنسين: ومذ ذاك يكف هذا الأب نهائيا عن
التدخل لكي يُحَجِّر. وإذا تدخل، فإنه لا يفعل ذلك إلا لإضفاء صبغة الحيوية. في
هـذا النموذج «يجـد الأنثوي مكانته، وتجد مكانتَها معه الحياةُ بما يطبعها مـن
تحول»[43].
وسنحاول في القراءة الحالية
اختبار هذين النموذجين في رواية «جنوب الروح» متخذين بمثابة فرضية تأكيدا مفاده أن
«استنساخ (duplication) المثيل يمنع كل ولوج للآخر أو المغاير»[44].
4. الإيصـال الثقافـي في جنـوب
الـروح
4. 1. قانـون منـع غشيـان المحــارم
يبدو راسخا في قرية بومندرة. ويستمد رسوخه ليس من الحضور القوي
للدِّين في الحياة اليومية لدى سكان القرية فحسب، بل وكذلك من عمق الإيمان لديهم
لدرجة ترفع فيها الحجب بين الأحياء والأموات، بين العالم المرئي واللامرئي،
بين الجسد والروح. وهكذا:
- فالفقيه شخصٌ يحظى بتقدير كافة سكان القرية واحترامهم، ويشكل
عنصـرا أساسيا في التنشئة الاجتماعية (socialisation)
لجميع أفراد الجماعة بغض النظر عن جنسهم، بحيث نجد أغلب نساء القرية تقريبا يحفظن
سُوَرا قرآنية بكاملها من القرآن ويتمثلن بها في مواقف متعددة.
- والأمواتُ يبقون على صلة
بالحياة، فيأمُرون ويحظرون، من عالم الماوراء، عبر بث إشاراتٍ حُلمِية يتعامل معها
المتلقون / الأحياء إما بالامتثال لها حرفيا أو برفض تطبيقها[45].
- وفيما وراء عالم المحسوسات يوجد
عالم يسكنه الجن الذين يشكلون، في الحقيقة، ضعفا (double) للعالم البشري، كما هو
الشأن في العديد من الثقافات، بحيث يتربصون ببني الإنسان[46]،
وينتقمون منهم بالتدخل في الموارد الاقتصادية[47]،
ويتقاضون معهم عند قضاة منهم[48].
- والجسد البشري كتلة محمَّلة
بإشارات إلهية لا تتيح للمرء أن يعلم الغيب فحسب، بل وتتيح للغير أحيانا أن يتنبأ
بمصير من يراه من خلال مجرد رؤيته. يتم ذلك على شاكلة ما تورده كتب التصوف حول
الفراسة والخواطر الربانية[49]
أو ما يرويه القزويني عن أصحاب «نفوس الفراسة»[50].
وهكذا، فمحمد الفرسيوي علم بموت أبيه دون أن يخبره به أحد، والجماعة كانت على علم
بأنه سيعرف موت أبيه دون أن يخبره أحد بهذا الموت[51]، والفرسيوي الجد استقر في
المكان الذي حطَّ فيه، قرب مدينة زرهون، بإيعاز من الرجل الذي تنبأ بمستقبله من
خلال مجرد رؤيته، فقال له: «راه فين كاين الخبزة»[52]،
والحاج أحمد السقاط تنبأ له أحد سكان بومندرة بمكان دفنه من مجرد رؤيته، فقال له:
«راه محلك ألحاج، راه فين عيّط لك التراب! وكذلك كان»[53].
- وأخيرا، فمَا يجري في الحياة
اليومية الواقعية لا يعدو مجرد إخراج (mise en scène) لما حدث في حياة أخرى هي حياة
الحلم. وهو إيمانٌ ربما يتأصل في الاعتقاد الإسلامي الذي يرى أن كل ما يجري في
الحياة قد سُطر مسبقا في عالم الغيب، وبالتالي فما يفعله الإنسان لا يعدو مجرد
امتثال للمسطور البدئي[54].
لكننا نجد الثقافة - إلى جانب هذا
الرسوخ القوي لقاعدة منع زنا المحارم - عارفة بكيفية إمداد الأفراد بوسائل انتهاكها
استيهاميا عبر قناة المتخيل. قديما كانت الثقافة العربية الإسلامية تمنح هذه
الوسائل الانتهاكية الاستيهامية بتمجيد العلاقة بين الأبناء والأبوين من الجنس
المخالف (علاقة الابن بالأم، وعلاقة الأب بالبنت)، وفي «جنوب الروح» نجد الآلية
نفسها تشتغل. وهكذا سيروي محمد الفرسيوي حكاية أصل مُتخيلة يصور فيها أباه
(الفرسيوي الجد) وقد أحرز على قوة جنسية خارقة، بعد اجتيازه تجربة يمكن اعتبارها
بمثابة طقس مساري شبيه بطقوس التحليق التي يجتازها الملك المبتدئ في بعض المجتمعات،
أو الشامان المبتدئ[55]،
والتي، بعد أن يجتاز فيها المتعلم امتحانات عديدة، تُتَوَّجُ بتغيير في نظامه
الحواسي وولوجه أبعاد أخرى من الواقع[56].
ذلك أن الفرسيوي سيطير في السماء، ويتزوج بجنية اسمها سوالف، ويحرز على قوة جنسية
مضاعفة، ثم يضاجع كل النساء اللواتي عرفهن أو رآهن، غير مكترث في ذلك لصلة القربى:
«صار الفرسيوي (...) مرة أخرى مثل حصان جامـح لا يقدر عليـه إنـس ولا جان. وصارت
الجنية تأخذ له هيأة المرأة التي يشتهيها فينام معها ليلة كاملة وهو يقلب عليها في
أنواع النكاح حتى يأذن الله بالصبح. فلم يترك امرأة في الريف ولا بومندرة. لم يترك
امرأة يعرفها، ولا امرأة مرت في الطريق فاستهوته إلا أحضرتها سوالف على صورتها
وطبعها وكلامها وحركاتها وسكناتها (...) ووسوس الشيطان للفرسيوي فصار يطلب من سوالف
العجب العجاب، وهي تقول له أنا بالله والشرع معك، ستسقط ذات يوم في المحظور، ولكن
الفرسيوي كان لا يقف عند حد فاستحضر نساء عائلته، وأخوات هموشة ونساء معارفه ونساء
أولاد أخيه، وخالة له ماتت في الريف قبل الهجرة، ثم صار يشتهي غلمانا في السوق
فيستحضرهم بسوالف، ويفعل معهم العجائب»[57].
لما كان محمد الفرسيوي يقيم مع
ابنه في منزل واحد، كانت تتردد عليه مجموعة من العاهرات، وكان الابن يجامع النساء
اللواتي يضاجعهن أبوه نفسه. لكن بمجرد ما علم الأب بذلك قفل إلى بومندرة تاركا ابنه
وحيدا في الرباط: «وساعدني المناخ الليلي لوالدي على الدخول إلى عالم المرأة بلا
صخب، وبدون عواطف مربكة. يخرج والدي فجرا، فتندس إحدى مومساته جنبي، وتأخذني برفق،
فأنقاد لها آمنا غير مستعجل، حتى نفيء معا إلى سكينة حالمة. وكان اكتشاف والدي لهذا
الفردوس السري هو ما جعله يعود إلى بومندرة. فعل ذلك بانفعال شديد...»[58].
والدلالة التي يمكن منحها لهذا الانسحاب بالقياس إلى
الفرضية التي نشتغـل ضمنها هي الرغبة في إقرار قانون منع غشيان المحارم، وبالتالي
إمكان اعتبار محمد الفرسيوي يمثل رجل التحول داخل الرواية، أي الشخص الذي سيتيح
للجديد والمغاير، متمثلا في ابنه السارد، أن يظهر ويندمج في سياقات ثقافية أخرى
مواصلا الحياة في إحدى دوراتها الجديدة.
4. 2. اختـلاف الجنسيـن
تساهم النساء، على نحو ما تصف رواية «جنوب الروح»، في التحـول
الاجتماعـي بشكـل متبايـن. ويتجلى ذلك بالخصوص في شخصيات هموشة، وحادة، ويامنة:
- هموشة: من خلال تواطؤها مع محمد الفرسيوي، حيث لم تتكتم عن
هويته السرية عندما كان يزعم للجماعة أنه يقيم في «بوضيرب» فيما كان يستقر، في
الحقيقة، في مدن مكناس والرباط والبيضاء ومراكش فحسب، بل وكذلك وافته بكل المعلومات
الضرورية حول «بوضيرب» مقدمة له بذلك سندا قويا لإيهام الجماعة بصحة ما يقول.
- حادَّة: من خلال إقامتها علاقة
جنسية مع الفرسيوي الأب خارج مؤسسة الزواج، وإشادتها بسلوك غير مألوف في الثقافة
التقليدية، فضلا عن تقديمها لتفسير «عقلاني» لسلوكات الأب الفرسيوي وابنه محمد:
«العام الذي هجم فيه التيفوس على الدوار تزوجت فيه فاطمة، ولم تكن بكرا ولكنها كانت
مثل سبع، عندما رأت زوجها يهم بالقيام عنها فتحت سكينها ''بونقشة'' وأمسكت بذكره
مهددة ''ما جا تسخذ الدم أش أويخ الدم! ]إذا أردت الدم جئتُك به[ هئ، هئ، هئ، هئ
الله يعطيها الصحة. متى اختفى الفرسيوي مع الجنية؟ الجنية؟ الجنية هي بني آدم،
تزوج
في الريف والسلام. ومحمد الفرسيوي ألم يتزوج جنية هو الآخر؟ كيف يلد الرجل من جنية
واش حمَقِتِي؟ ومن خطف عقله إذا لم تكن الجنية، خطفه السحر والجري وراء الكنوز
والنساء...»[59].
- أما يامنة، فتجسد امرأة التحول
من خلال سلوك رئيسي، هو «رفض» الزواج، تتفرع عنه مجموعة من السلوكات التي تنبع من
آليات اشتغال النسق التقليدي نفسه، وبذلك فهي تضطلع بوظيفة المقصي داخل مـا يمكـن
تسميتـه مجتمع «أنثروبويمي»، بتعبير كلود ليفي ستراوس عندما يميز داخل الجماعات
البشرية بين صنفين من المجتمعات: «... أنثروبوفاجية، [و] هي التي "ترى في ابتلاع
بعض الأفراد الذين بحوزتهم قـوى رهيبة الوسيلة الوحيدة لتحييد تلك القوى، بل وحتى
الاستفادة منها". وفي هذا النوع من المجتمعات يسخر الأفراد لأداء وظائف "ذات نزعات"
علاجية سحرية دينية أو سياسية. وهؤلاء الأفراد هم ضمانة مجتمع منتج للشذوذات ووثاقه
الرمزي. وبذلك يمكن لأبله القرية في التقليد السلافي أن يقول كل شيء، فيتهم القيصر،
مثلا، بأكل الأطفال. إنه أبله مقدس ووظيفي. وعلى العكس، فالمجتمعات الأنثروبويميـة
هي: "تلك التي اختارت إزاء المشكـل نفسه حلا مقلوبا يتمثل في طـرد تلك الكائنات
الـرَّهيبة خارج الجسد الاجتماعي وإبقائها معزولة، بكيفية مؤقتة أو دائمة، في
مؤسسات مسخرة لهذا الاستعمال"»[60].
يندرج سلوك حادة في نظامين: متخيل
وواقعي. المتخيلُ تشترك فيه هي نفسها والجماعة، وبمقتضاه قد يكون أحد الفقهاء صنع
لها ثقافا وبذلك ظلت عانسا مدى الحياة. أما النظام الواقعي، فيتيح فهم عدم زواجها
باعتباره تمردا على الوضع الاعتباري للمرأة الذي يختزلها إلى أداة للنكاح والإنجاب:
«قررت بينها وبين نفسها أن لا تتزوج أبدا إلا إذا كان العريس شابا ناعما من فاس.
وعبثا كانت النساء تلوحن لها بضعف رجال المدن، كانت ترد غاضبة بأنها لا تريد مثلهن
حمارا يملأ أحشاءها بشيئه الضخم»[61]؛
«صارت من القوة والجرأة بحيث لم يعد ممكنا للدوار أن يحافظ على توازنه من دونها فهي
التي تقصدها النساء للبوح بأسرارهن الزوجية، فكان ذلك يمكنها من إثارة الموضوع مع
الرجال رأسا لرأس، فتطلب من أحدهم مثلا أن يمارس الجنس مع زوجته في وضع معين تكون
زوجته قد تمنته على يامنة، أو تطلب من أحدهم تطويل مدة المباشرة، أو غسل فمه ومضغ
ورقة النعناع قبل الإقدام على تقبيل زوجته، وكانت قد اكتسبت من كثرة الخوض في
الموضوع خبرة كبيرة مكنتها من ابتكار سبل غريبة لتقوية الشهوة، وتضخيم الذكر،
وتهييج فرج المرأة، وإبطاء الإنزال، وتسريع
وصول
المرأة، مثلما اكتسبت خبرات علمية
أخرى في غاية الإثارة والنضج الأنثوي، يلهب شهوتهم، ويجعلهم ينسون تفوقهم الذكوري،
ويستسلمون لألاعيب الحب التي تنسجها يامنة بوساطتها الجنسية الموفقة. ولاشك أن عالم
الحب في الدوار [= القرية] قد عرف على يدها، هي التي لم تذق له طعما أبدا، تقدما
خارقا جعل يامنة نفسها تقول ذات يوم لعروس جديدة بكت بين يديها كثيرا مشتكية من عنف
عريسها وضخامة ذكره: سأجعله لك مثل حمامة بذكر حمار!»[62].
ويمكن تأويل عقاب الجنية سوالف للفرسيوي عبر احتجابها النهائي عنه
بكونه عقابا له على خرق مبدأ اختلاف الجنسين - الشديد الرسوخ في مجتمع الرواية -،
ذلك أنه طلب منها أن تحوله إلى امرأة كي يتمكن من مضاجعة نفسه بنفسه (ص. 78).
وفي ختام هذا العنصر، نودّ
الإشارة إلى أن الحضور القوي للجنس في «جنوب الروح» يُغري باتباع وجهة تأويلية في
موضوع تلاشي دوار بومندرة، مفادها أن الخيط الناظم للحكي هو الجنس نفسه: الجنس
باعتباره سلوكا مُتعيا (comportement hédoniste)، لكن أيضا باعتباره سلوكا بيولوجيا
يؤدي وظيفة استمرار النوع من خلال التوالد. ضمن هذا المنظور، يمكن صياغة الفرضية
التالية: إن نسق بومندرة أوشَك على التوقف بسبب افتقاده عنصر الخصوبة. لقد صارت
الأمور في القرية تسير على نحو يكون فيه إما إفراط جنسي أو قحط جنسي[63]:
- الانقراض باعتباره مشكلة
خصوبـة: ويأخذ شكله الأسمى في ربط الجنس، في الرواية، بفصل الربيع الذي بات معروفا
أن العديد من الشعوب القديمة كانت تقيم فيه طقوسا جنسية متهتكة لإثارة خصوبة
الطبيعة[64].
فالفصل الأول يورد وصفا لأشغال
زراعية تخيم عليها ظلال الجنس: «(...) وقال [الفرسيوي] في نفسه: هذا هو عبير
الربيع، فصل اللقاح والاضطراب والشهوة، وابتسم وهو يفكر في الشبان الذين ستلفحهم
الشمس بعد قليل وهم ينقلون أحزمة العشب الفواحة أو ينكفئون على الأرض الرطبة (...)
كأنهم يقومون بكشف نعومة جسدها (...) ولن يستطيع الشبان أن يستسلموا لالتذاذاتهم
الدفينة وهم يحزون العشب فتنبعث من حركة المنجل رائحة فرجية لاسعة...»[65].
غير أن الفرسيوي سيموت في هذا الفصل نفسه. أكثر من ذلك، عندما ستلمــس هموشة أسفل
سرته ستجده قد قذف أثناء احتضاره (ص. 11). وهموشة نفسها التي يمكن اعتبارها تجسيدا
لاستيهام المرأة فائقة القوة الجنسية، لكونها «كانت لا تشبع من النكاح» (ص. 76)،
هذا الاستيهام الذي مضى البعض خلال دراسته لسياقات ثقافية مماثلة، إلى حد التعبير
عنه بـ «استيهام المرأة ذات الفرج المسنَّن [الذي له أسنان] (fantasme du vagin
denté)»[66]،
نقول: هموشة هي الأخرى ستموت في الفصل نفسه، في شهر أبريل (ص. 143، 149)، وحادة
تشتعل رغبة في الجنس، لكن هذا الاشتعال يتم لحظة احتضارها: «... ثم لأمر ما صارت
[حادة] تتذكر كل حركات جسدها القديمة بما في ذلك تلك الحركات العنيفة التي كانت
تزلزل حوضها عندما يدخل علال بين فخذيها، فتندفع نحوه بهز متوتر تتألم له حتى نخاع
اللذة. فكان هذا الاستذكار اللطيف يبعث نسمة ساخنة على أسفلها فتمد يدها هناك وتضغط
ضغطا خفيفا مترددا..»[67].
وفي هذا المقطع نقف أيضا على جانب
مما صدرنا به هذه الدراسة، ونعني به التقاء بعض الأعمال الأدبية مع ما يتم التوصل
إليه في حقول معرفية أخرى. فقد أثبت بعض المحللين النفسانيين أن من النساء من
تنتابهن، لحظة احتضارهن، شهوة عارمة لممارسة الجنـس، فأطلق على الظاهرة اسم «مركب
أرلوكان: «سبق لماك كليلاند Mac Clelland أن درس هذه الاستشباحات الإيروتيكية لحظات
الاحتضار وأطلق عليها اسم «عقدة أرلوكان». واستطاع أن يبين كيف أن بعض النساء وهن
على وشك مفارقة الحياة، مع علمهن التام بأنهن سيمتن، كانت لهن انشغالات جنسية أكثر
من جماعة أخرى من النساء يتلقين العلاج بالمستشفى، لكن بسبب مرض غير قاتل»[68].
- فـرط الخصوبة: تلحق الخصوبة خللا بنسق بومندرة عندما تتوفر،
لكنها تصاب بشلل إما لكون أحد الزوجين يكون عاقرا، أو لكونه لا يضاهي الطرف الأول
في القوة الجنسية. وهكذا:
- فهموشة «لا تشبع من النكاح» وبإمكانها أن تلد «من شدة نكاحها
مدينة كاملة»، و«لكنها لا تلد» (ص. 66)؛
- وسلام ابن عم محمد الفرسيوي لم
ينل السِّنُّ من فحولتـه شيئا، لكن زوجته لم تعد تشبعه لأن قوتها - فيمـا يبدو - قد
خمدت: «... أسر إليه سلام قبل خمس سنوات برغبة العودة للريف والتزوج هناك بامرأة
صغيرة تقدر على المباشرة، لأن عمتك كنزة أوليدي لم يعد هناك أي فرق بينها وبين
البقراج، لا لحم ولا حس كأنك تضربه في الرماد. هاي هاي أعمي سلام، ومازال فيك
القابلية؟! فيجيب سلام ضاحكا: القابلية؟ فـيَّ القابلية والجاهلية، والله أوليدي لا
أضع رأسي على الوسادة حتى يصبح معي شيء كأنه محمي»[69].
- فاقـة الخصوبـة: وتأخذ عدة أشكال:
- إما يكون الأشخاص مصابين بالعقم (زوجة الفقيه السي محند أوبناصر،
وهموشة)؛
- أو مصابين بالعجز الجنسي أو خمود الطاقة الجنسية (الفرسيوي الجد
قبل تجربته الربانية، ومحمد العكيوي، الذي «ينعض في كل وقت إلا عندما يكون بين ساقي
امرأة (ص. 84) وزوجة سلام الفرسيوي)؛
- أو مصابين بالعنوسة (يامنة، ونورية)؛
- أو تضع النساء مواليد، رامزات بذلك إلى الخصوبة، لكن ما أن
يفعلن ذلك حتى يمتن (فضيلة أم محمد الفرسيوي، نجمة أم نورية، والمجذوبة أم الفرسيوي
الحفيد)؛
- أو لكون هذه الشخصيات ترفض أن تخلف عقبا (الفقيه محمد أوبناصر
(ص. 130)، ومحمد الفرسيوي نفسه (ص. 93))
إذا نظرنا إلى «جنوب الروح» من
هذه الزاوية اكتسى اختفاء الفرسيوي الملغز بعدا رمزيا، وصارت «تجربته الربانية»
بمثابة رحلة أو طقس مساري موضوعه البحث، في عالم اللامرئي، عن القوة الجنسية
الخارقة. وبما أنَّ الجنس في المجال العربي القديم كان مُسَخَّرا أساسا للإنجاب،
فإنه يمكن القول بأن الفرسيوي سعى عبر ذلك السفر إلى التحول إلى جد رمزي. والجد
الرمزي في المجال العربي الذي لا يكون بالضرورة في حياته ساحرا أوعرافا، ينتمي إلى
تلك الفئة من الكائنات التي تتمتع بامتيازات القدسي، والآية الأسطع على سلطانه
القدسي، تكمن في قوته الإنجابية التي يؤمن لنفسه عبرها خلفا كبيرا، للدفاع عن قضيته
وتخليد اسمه [70]. فهل
تمَّ له ذلك؟ يبدو أن الجواب عن هذا السؤال هو الأساسي في ما تطرحه رواية جنوب
الروح على مستويين: مستوى وقائع التاريخ والتحولات السوسيوثقافية، ومستوى الكتابة
ذاتها بما هي عملية تتيح للكاتب التموقع إزاء الأصول...
لنشر، في عجالة، إلى نقطتين:
- الأولى كون الكاتب - ربما - استلهم:
أ) المعتقد الذي كان - وربما لا
زال - سائدا في أوساط انتشار «الثقافة الشعبية»[71]،
والذي يعزو بعض الأمراض العقلية إلى زواج قسري يُرغم فيه الإنسي على الزواج من جني
(يقابله جنسيا)؛
ب) الاعتقاد السحري الذي لا يقول
بإمكان زواج الرجل الإنسي بجنية أو تسخيرها لتلبية رغباته فحسب، بل ويقدم الوصفات
الضرورية لتحقيق هذا الارتباط[72]؛
ج) الأخبار العربية القديمة حول
الارتباطات الجنسية بين الإنس والجن[73].
في هذا الصَّدد يروى أن عمرا بن يربوع تزوج بامرأة غولة، وانجب منها عدَّة أولاد،
ولذا يحمل خلفه اسم بني سعلاة[74].
كما يسوق الجاحظ في رسائله حالة ذلك العربي الفحل الذي استبضعته الجن، أي طلبت منه
أن يطأ نساء منها، لحماية سلالتها المهدَّدة بالانقراض.
- والثانية كون الهدف من تلك
الرحلة يبدو - ظاهريا - قد تحقق، ذلك أنَّ الفرسيوي لم يستعد فحولته السابقة فحسب:
«ومررت ]الجنية[ يدها على ذكره فصار مثل ذراع» (ص. 77)، بل ونقل أيضا بالعدوى، على
شاكلة ما يقع في السحر المعدي[75]،
هذه الطاقة المتجددة إلى كل مخلوقات دوار بومندرة من بني الإنسان والحيوان على
السواء: «لم يبق في الدوار رجل لم يباشـر زوجتـه في ذلك الفجـر، بل لم يبق حمـار
ولا بغل لم يضرب خلقته في أحشاء أقرب حيوان إليه، حتى أن ثور ولد السي حمو ظل اليوم
كله ينكح الأتان المربوطة حتى قلنا هـذا يـوم القيامة»[76].
إذا كان كل ما سبق يضمر استيهام القوة الجنسية الخارقة لدى المرأة،
كما مرَّ بنا، فإنه أيضا يشكل امتثالا لكلمة الجد الآمرة بإيصال السُّلالـة.
4. 3. اختـلاف الأجيـال أو
قانـون الجــد
يتيح المنظور الذي تقع فيه القراءة الحالية اعتبار الخيط الناظم
للمادة الحكائية في «جنوب الروح» هو قانون الجد متمثلا في الأخ الأكبر للفرسيوي
الذي سيصير بدوره جدا لسلالة الفرسيوي التي ستتألف، فضلا عنه، من ابنه محمد
الفرسيوي وولد هذا الأخير (سارد الرواية). ودوار بومندرة الذي أسسه الفرسيوي الجد
لا يعدو في نهاية المطاف مجرد محاولة لاستنساخ مكان آخر، هو دوار «بوضيرب»، على
النمط التكراري (mode répétitif). وبالاستناد إلى التأكيد - المذكور أعلاه - القائل
بأن «استنساخ المثيل يعيق كل ولوج للآخر أو المغاير»، يمكن القول إن «جنوب الروح»
وإن كانت تتمحور حول موضوعة مركزية قد تكون هي «موت المكان»، فإنها تروي أيضا حكاية
انخراط ثقافة في دورة الحياة والحيوية والتجديد مع ما يصادفه الإيصال الثقافي،
باعتباره محرك هذا التحول، من صعوبات. ومن ثمة، ففيما وراء الموت الظاهري لبومندرة وأشيائها وكائناتها هناك
استمرارية ما. استمرارية يؤكد عليها السارد في غير موضع من الرواية: «وقال الناس
هذا آخر الزمن، فلم يكن ذلك آخره» (ص. 45)؛ «وظن الناس أن القيامة قريبة لا مراء في
ذلك. لكن القيامة لم تقم» (ص. 45)...
مباشرة بعد ثأر الأخ الأكبر
للفرسيوي لزوجته وأخيها بقتل «أعز الرجال» من عائلة الخصم[77]،
وجَّه الأمرَ التالي لأخيه: «إذا وصلتَ فاس فاسأل عن الطريق إلى زرهون، فإذا وصلت
الزاوية فاسأل عن أهل الريف، ستجد هناك شتاتا مـن بني توزين وبني ورياغل وقلعية
وغيرهم. وقال: إذا كبر الأولاد فارجعهم إلى الريف، ''أمراسن أبريذ نبابا تسن''
]عرفهم طريق أبيهم، حيا أو ميتا[»[78].
تتجلى الرغبة في تحقيق إيصال على النمط التكراري في العنصرين
التاليين:
- القوم الذين يؤمر بالاتجاه نحوهم: هُم من «أهل الريف»، مما يضمر
أمنية ببقاء السلالة داخل عالمها الرمزي الأصلي نفسه.
- مهما طالت الإقامة في المكان المستنسَخ، فالمآل يجب أن يكون إلى
الأصل. والعبارات المستعملة هنا شديدة الدلالة: (عرِّفهم - طريق - الأب - الحياة -
الموت). بمعنى أنه يُرادُ لقانون الأب أن يكون من القوة والإلزام بحيث يتعالى عن
الحياة والموت.
تندرج كلمة الأخ الأكبر - الذي يمكن اعتباره أبا، أو امتدادا
لسلطة الأب إلى الابن الأكبر[79]، بالنظر إلى رسوخ قاعدة اختلاف الأجيال في المجتمع
التقليدي بشكل يمنح للكبار سلطة على الصغار حتى وإن كان هؤلاء الكبار من خارج
العائلة - تندرج ضمن هذا النمط للإيصال في النموذج المتحجر، الذي لا يملك الابن فيه
أي شيء ليقوله، لأنه لا يعدو مجرد عائد (revenant). إنه نمط لا يُعتَرَفُ ضمنه
بالمغاير، ليس فيه للصغار مكانة أمام الكبار، كما أن الأنثوي مُقصى فيه. ومن هذه
الزاوية يمكن فهم خرق قاعدة غشيان المحارم على صعيد المتخيل، في حكاية الفرسيوي، ورغبته في التحول إلى أنثى، بمثابة عرقلة لإعاقة هذا
القانون.
ويهمنا تتبع مآل هذا الإيصال من خلال دراسة العلاقة أب - ابن في
«جنوب الروح»: علاقة الفرسيوي بابنه محمد، ثم علاقة هذا الأخير بابنه السّارد.
4. 3. 1. قانـون الجــدّ
تولى الفرسيوي مهمة الإيصال، فروى لابنه محمد إلى أن: «حفظ كل
شيء» وصار «يعرف الطريق من بوضيرب حتى عزيب مضار حجرا حجرا، وشجرة شجرة، ويعرف
الطريق من بوضيرب للناضور كأنه يمر منها كل يوم، يعرف الدوار بيتا بيتا، يعرف
الحقول وعدد أشجار اللوز، ومنابع الماء، والفقهاء، وأسماء الرجال والنساء والأطفال،
وكل ما وقع لهم من أحداث وطرائف ويعرف أسماء الموتى موت الله، وأسماء القتلى ومن
قتلهم، يعرف قصص الغرام، وما نتج عنها من معارك، ويعرف الخيانات الزوجية، والأكاذيب
والإشاعات والمجانين والأولياء والمتصوفة وأهل الله»[80].
غير أنه إلى جانب ذلك، نقل شيئا آخر، هو الأحاجي التي ستؤدي وظيفة
شبه حاسمة في تغيير مسار الابن محمد الفرسيوي وعلاقته بقيم الجماعة
ومعاييرها على نحو ما سنرى بعد قليل: «كان محمد يستمع للفرسيوي، ويسبح في الفضاء
الفسيح لأحاجيه (...) وكانت هموشة تعلق على ذلك بأن الطفل الذي لا يرضع من أمه يظل
طفلا حتى يموت»[81].
وإذا كان هذا النقل يشكل امتثالا لقانون الجد، ويتم وفق الطرق
السائدة في المجتمع التقليدي حيث يتم من جيل الكبار إلى الصغار، إذ شارك في تعريف
محمد الفرسيوي بالأصل كل من أبيه، وابن عمه سلام، وزوجة أبيه هموشة، فإنه يترك
بياضا، كأنه يريد أن ينقل نسيانا ما. فقد تغيب الفرسيوي عن بومندرة خمسة أعوام ليس
بوسع أي أحـد معـرفة أين قضـاها لأنه تكتـم عليها تكتما تاما مفضلا نقل حقيقتهـا
إلى عالم الموت نفسـه، تاركا الجماعة متخبطة في تفسيرها إلى أن وجدنا أنفسنا أمام
أربعة تأويلات:
- رواية الفرسيوي نفسه: ينفي فيها نفيا تاما أن يكون تغيب كل هذه
المدة زاعما أنه لم يختف إلا نصف ساعـة (ص. 24)، ولما أرادت هموشة معرفة ما جرى
خلال كل هذه الحقبة: «قطع دابر أسئلتها بتهديد صارم إن هي خاضت معه مرة أخرى في هذا
الموضوع» (ص. 50).
- رواية يامنة: هي التي اتبعتها الجماعة، وتفسر الاختفاء باعتباره
رحلة في العالم الخفي: «روت يامنة أنها تبعت الفرسيوي منادية عليه بأعلى صوتها،
فإذا البغلة تطير فجأة مثل نسر هائل وتختفي بالفرسيوي في عنان السماء. فسرت يامنة
بعد ذلك ما رأته بكون الفرسيوي قد وقع على جنية فأغوته، وتبعها الناس في هذا
التأويل»[82].
- رواية العجوز حادة: نقلتها عن حدو. وتذهب إلى أن الفرسيوي قد
عاد إلى المكان الأم، وتزوج فيه بامرأة أخرى: «متى اختفى الفرسيوي مع الجنية؟
الجنية؟ الجنية هي بني آدم، تزوج في الريف والسلام (...) كيف يلد الرجل من جنية واش
حمَقِتِي؟»[83]؛ «الرّواية الأولى عن اختفاء الفرسيوي، التي تقول إنه كان مجرد
إقامة في الرّيف مـع امـرأة أخرى خلف منها ثلاث بنات، حدّو هو الذي أتى بالحكاية
مـن الريف فتلقفتها أمه وصارت لا تفتر عن روايتها»[84].
- رواية محمد الفرسيوي: هي تركيب من روايتي يامنة وحادة، ساقها
الفرسيوي الابن في حلقة بمكناس في ما يشبه ما يسميه المحللون النفسانيون بـ
«الرواية العائلية (roman familial)».
لقد عاد محمد الفرسيوي إلى بوضيرب دون أن يعود؛ مرَّ من تجربة زواج بجنية لم تمنحه
فحولة جنسية خارقة فحسب، على غرار ما قد يصل إليه المرء باستعمال وصفات ما تسميه
كتب السحر بـ «أبواب تقوية الجماع» أو «تهييج الجماع»[85]، بل منحته أيضا قدرة
مجامعة ما شاء من النساء عن طريق الاستحضار، ونقلته أيضا إلى بوضيرب، أي أعادته في
المتخيل إلى الأصل، مكَّنَتْهُ من الامتثال لقانون الجد في المتخيل، لكنها سرعان ما
اقتلعته من هذا الأصل بإعادته إلى النسخة، إلى بومندرة، والاحتجاب عنه نهائيا لكونه
طلب منها أن يتحول إلى امرأة ويضاجع نفسه[86]. إذا كان الجن، بحسب فرويد، تعبيرا عن
رغبات مكبوتة[87]، فإن حكاية سوالف يمكن اعتبارها، في نهاية المطاف، تمثيلا رمزيا
لرغبة في انتهاك قاعدة غشيان المحارم. وعقاب سوالف للفرسيوي يمكن اعتباره عقابا
للرغبة في انتهاك قاعدة اختلاف الجنسين.
4. 3. 2. الابن محمد الفرسيوي
أو التحول داخل الديمومة
تلقى قانون الجد - كما مر معنا - على شكل حكايات مطولة ومتواترة
كان يحكيها له جيل الكبار (أبوه، وسلام ابن عمه، ثم هموشة) حول الأصل والنزوح، أي
أنَّهُ عُرِّفَ بطريق أبيه، على حد تعبير الفرسيوي الأكبر. تلقى تنشئة اجتماعية على
النمط السائد في بومندرة، إذ حفظ قسطا غزيرا من المعارف الدينية المتداولة في قريته
«القرآن، والأجرومية، وألفية ابن مالك ولامية الأفعال وعشرة أحزاب من الشيخ خليل،
وابن عاشر، وابن عاصم، ومتون أساسية أخرى كثيرة» (ص. 61)، وهي معارف أهلته لأن يصير
ليس فقيها فحسب، بل وكذلك لأن يلتحـق بمدينة فاس كـي يحـرز على شهادة العالِمِيـة.
لكنه تلقى إلى جانب ذلك أحاجي، ومساحة بيضاء في حكاية الأصل، هي لغز اختفاء أبيه
الفرسيوي مدة خمس سنوات. فكيف سيتعامل مع هذا النقل الثقافي؟ قبل ذلك، نود الإشارة
إلى أن إصرار محطتين إيصاليتين في سلالة الفرسيوي على محو إحدى متواليات الحكي هو
ما سيتيح للتحول أن يتحقق مع الحفاظ على الأصل، أي أن يجري مع تذكر الأصل وعدم
نسيانه. فقد بين عدد لا يستهان به من الدراسات أن قوة الاستذكار تؤدي إلى النسيان،
وأن محاولة محو شيء ما في سلسلة الإيصال يظل في حد ذاته نقلا بصيغة النسيان،
وبالتالي فما يراد له أن ينسى يظل قابعا في لاشعور الجماعات والأفراد على السواء
وما أن تتاح له فرصة الظهور حتى يطفو من جديد إلى السطح[88].
في ما وراء انفصام شخصية محمد الفرسيوي ظاهريا، يمكن اعتبار هذا
الفرد نموذجا لرجل التحول. كما يمكن فهم تناقضات سلوكه باعتبارها تعارضات وجدانية (ambivalences)
أمام قانون الجد، أو تعابير رمزية عن الصعوبة التي يجدها المرء في الحفاظ على أصل
ما، على إرث ما، مع الانخراط في دورة التحول والتجديد. والتعارض الوجداني نستخدمه
هنا بمعنى امتلاك الفرد لشعورين متناقضين إزاء الموضوع الواحد، كأن يكرهه ويحبه في
آن، أي يشعر بالنفور منه والجاذبية نحوه[89].
هكذا، فخلافا لرغبة الجماعة التي كانت تريد له أن يتحول إلى فقيه
أو أن يلتحق بالقرويين، نزح إلى المدن الكبرى التي تجري فيها التغييرات الاجتماعية
والاقتصادية والثقافية بإيقاع سريع (مكناس، الرباط، البيضاء، مراكش)، ليشتغل في
فرن، ثم بوابا في عمارة، وحمالا، وطبَّاخا، وكسَّالا في الحمام، وبائعا متجولا،
وفقيها يكتب التمائم ويضرب ''المحلة'' [المندل]، وسمسارا، وخياطا للجلابيب
والبرانس، ومصلح ساعات[90].
بالإضافة إلى ذلك، فقد توَّج رحلة تيهٍ مماثلة لرحلة أبيه
الفرسيوي كما ساقها هذا في حكايته المتخيلة حول الأصل، وهي التي بلغ فيها تماهيه مع
الأب ذروته من خلال الخلط بين مقاطع من حياة الشخصيتين بشكل يجعل من العسير الفصل
بينهما دون قراءة الفصول الموالية من الرواية، توَّجَ رحلته تلك بممارسة زواج
الأباعد (exogamie)، أي
من امرأة تقع خارج مجال أصله الجغرافي والسكاني (امرأة من مكناس)، منتهكا بسلوكه
هذا التقليد المغربي، والعربي الإسلامي عموما، الذي كان يفضل زواج الأقارب[91] (endogamie)،
وأنجب من هذا الزواج ولدا واحدا سرعان ما ماتت أمه، وكأن الأمر يتعلق باستنساخ حرفي
لحياة أبيه الفرسيوي (الذي حالما وضعت زوجته فضيلة محمد الفرسيوي ماتت هي الأخرى)
ليستقر - قبل اختفائه النهائي - في مدينة الرباط مع ابنه، في بيت واحد ويعاقر
الخمرة بجانبه في حانة واحدة. يقول الفرسيوي الحفيد (أي ابن محمد الفرسيوي): «يصلني
صوت الفرسيوي في الكونتوار رافعا عقيرته بالإنشاد يخلط البردة والعاصمية وابن عاشر
ومجموع المتون التي حفظها (...) أيام كان يمني نفسه بالانتقال من بومندرة إلى رحاب
القرويين. تتعالى قهقهات أصحابه قصاصين وشعراء، يتلهون بفقيه يضرب الطاسة، ويحفظ
المتون، ويعقد حلقته في جوطية يعقوب المنصور، أو العكاري يحكي قصصا من ألف ليلة
وليلة وسيرة ابن ذي يزن ويدخل فيها عناصر من سيرة والده الفرسيوي، أو من قصته مع
المجذوبة»[92].
إلا أنه نسج لنفسه، بموازاة ذلك، صورة أخرى لدى الجماعة بدوار
بومندرة، حيث ظل يتردد على القرية سنويا، طيلة عشرين عاما، زاعما أنه يقيم في دوار
بوضيرب. ولم يكن يعلم بحقيقة هذه الإقامة الوهمية سوى
هموشة التي مضت إلى حد
التواطؤ معه، مما يتيح إدراجها ضمن النماذج النسائية المساهمة في التحول الاجتماعي
والثقافي: «كان يجلس إليها ساعات طويلة، يملأ منها دفتره الصغير بتفاصيل إقامته
الوهمية في الريف. تملي عليه الأسماء والأحداث وترتب له الوفيات والولادات،
والأمراض والمواسم، والخصومات، في ظل مؤامرة محكمة التدبير لا يعرفها سواهما، بدون
ثرثرة زائدة ولا محاولة للفهم»[93].
إذا كان محمد الفرسيوي يؤشر على التحول، فإن هذا التغيير يضمر
تعارضا وجدانيا بين قطبين: صعوبة تجاوز الأب، ثم تحقيق هذا التخطي بشكل من الأشكال.
يمكن تفسير رفض الفرسيوي تتويج تحصيله الدراسي من المعارف الدينية بالتحول إلى فقيه
أو الالتحاق بجامعة القرويين، باعتباره اصطداما بممنوع الأب، وهو موضوع تطرق إليه
فرويد في دراسة تحت عنوان «اضطراب ذاكرة حول الأكروبول»، حيث عالج الصعوبة التي
واجهها في السفر إلى أثينا بإرجاعها إلى «قساوة ظروف الحياة التي اجتازها في
شبابه»، فاستنتج من ذلك وجودَ أثرَ ممنوعٍ، هو ممنوع المضي أبعد من أبيه، ثم استخلص
أن: «كل شيء يتم كما لو كان الأساسي في النجاح يتمثل في المضي أبعد من الأب، كما لو
كان ممنوعا دائما تجاوز الأب»[94]. لكن بموازاة الامتثال لقانون الأب، من خلال التماهي معه عبر رحلة تيه وسرد الأحاجي، نجد خرقا معينا لممنوع الوالد من خلال
الزواج بامرأة من الأباعد، و«المتاجرة» بحكايات الأب، ومزاولة مجموعة من المهن
الحضرية، ثم تدنيس معارفه القدسية في جلسات السّكر.
غير أن هذا التجاوز لا يتم دون إحساس بالذنب، بل وربما (لا يحصل)
دون خوف من التعرض لانتقام الأصل. إحساس الإثم هذا، والخوف من انتقام الأصل سيمتد
إلى الفرسيوي الحفيد نفسه. ويتم التعبير عنه بمقاطع الكذب الذي تتواطأ فيه هموشة
ومحمد الفرسيوي «ضد» الجماعة من جهة، ومحمد الفرسيوي وابنه (السارد) «ضد» الأصل وقد
أضحى اسما مكتوبا على ورق من جهة ثانية: «يخرج الفرسيوي من جيب قشابته رسالتي
الأخيرة ويقرأها مرات ومرات بصوت مسموع ومرنم كأنه يسرد "الميلودية". يفعل ذلك
بإعجاب شديد لأن الرسالة، باستثناء مقدمتها التي تتحدث عن الحوالة والأشواق
التقليدية، هي عبارة عن نشيد شجي في ذكرى دوار بوضيرب الذي قدمت منه سلالتنا وتوجته
منذ اليوم الأول لهجرتها، ملكا لحنينها الدائم. أتكلم عن هذا المكان الذي لا أعرفه
مستعملا كل أحزاني الصغيرة لجعله حرقة تلمع أيامي الضجرة، فيتعجب والدي من ذلك
ويطرب له، ويقول سبحان من يجعل الدم مربوطا بنبعه الأزلي، ويقول ذلك ولا يحس بأي
نبض خاص يشده إلى ذلك النبع السحيق، إلا ما تبقى في قرارة نفسه من إحساس ساخر، من
تلك اللعبة التي مارسها على بومندرة أيام كان يدعي الإقامة في الريف»[95].
إحساس وإجراء يذكران بمشاعر الجماعات التقليدية بُعيد موت أحد
أعضائها وبطقوس مُداراتها للميت خشية التعرض لانتقامه. فالفترة التي تعقب الموت
تعتبر أكثر الفترات إثارة للفزع لدى جماعة انتماء الهالك لاعتقادها أنه يكون بين
حياتين، وبالتالي لا يزال يحتفظ ببعض سلطاته على الأحياء، ومن ثمة ضرورة اتقاء شره
وحنقه وخطر عدواه عبر طقوس استعطافية تتوخى محو الإهانة التي لحقت به ونيل
صفحه[96].
ويبقى أن اختفاء محمد الفرسيوي النهائي ربما هو تعبيرُُ عن الغربة
باعتبارها تجربة «تضيع فيها المراجع وتتوارى الصورة الشخصية وتتحطم الروابط
والأنساب وتتداخل الأزمنة والأمكنة والآلهة وتُنتَزَع شرعية النسب ويحقد فيها المرء
على الذات جراء التعرض لأحقاد الآخر، وتضيع أحيانا، من الوجود تماما الاستعارات
الأولى»[97]. بتعبير آخر، ربما شكل اختفاء هذه الشخصية تعبيرا رمزيا عن الغربة
العمودية، بمعنى سقوط مدلولات الأب وفقدان الحضور في الوجود والبحث اليائس عن
استرجاعهما، في مقابل الغربة الأخرى الأفقية التي تتحدد باعتبارها انتقالا من بلد
إلى آخر[98].
4. 3. 3. الفرسيوي
الحفيد أو التحول والانخراط في دورة الحياة
يجسد الفرسيوي الحفيد مثالا أو حالة لمسارات تحول الأصل. إنه مثال
لسكان بومندرة الذين رحلوا عن القرية في اتجاه إفريقيا أو أوروبا ودخلوا في مدارات
ثقافية أخرى، والذين تتحدث عنهم الرواية في أماكن متناثرة (ص. 35، 44، 46، 153...).
سيتلقى إيصالا مزدوجا ربما يرمز في لحظتيه - ضمن ما يرمز - إلى الانتقال من مرحلة
المشافهة إلى طور الكتابة:
النقل الأول تم عن طريق الحكي الشفوي، موضوعه تيه الفرسيوي في
الجنوب (تنفوت، مراكش...)، وزواجه بالمجذوبة، ومولد هذا الحفيد، ثم موت المجذوبة.
وما ظل لغزا في تيه الفرسيوي وراء المرأة التي تراءت له في مكناس ثم في مراكش يرد
تفسيره في سياق هذا النقل بالضبط، وعلى لسان ابن محمد الفرسيوي، أي حفيد عائلة
الفرسيوي (كانت الرحلة رحلة تيه توجت بالزواج من خادم مكناسية). غير أن محمد
الفرسيوي وإن كان حكى ذلك لابنه في مرحلة مبكرة من عمر هذا الأخير، فإنه سرعان ما
سيُظهِرُ ما يبدو إحساسا بالندم على ذلك، كأنه شعر بخيانة قانون الجد الذي يفضل
زواج الأقارب (endogamie)[99]،
ولذلك سيحاول كبت متوالية الحكاية المتعلقة بزواجه من المجذوبة، وتحويلها إلى بياض
مماثل لنظيره الذي تركه الفرسيوي الأب بخصوص اختفائه مدة خمس سنوات. يقول الحفيد:
«هذا ما أفسر فيه بياضا طويلا في الحكاية» (ص. 118)؛ «في ذلك الهبوط نحو وادي أمليل
يوجد بياض كثير في الحكاية، يرجع ذلك للحظات الصمت الكثيرة التي انتابت والدي بعد
حديث مقتضب عن موت "المجذوبة" في نهاية ضحكتها» (ص. 119). محاولة الكبت هذه تتضح من
خلال حرص محمد الفرسيوي الشديد على التأكد مما إذا كان ابنه قد نسي حكاية الأصل
الجديد بالفعل أم لا: «... كنت أدعي أنني لا أتذكر شيئا فيبدي ]الأب[ أسفه على أنني
سأعيش بقية حياتي مثقلا بهذا النسيان. لكنني كنت أعرف أن كل اهتمامه بالموضوع هو
فقط للتأكد كل مرة أنني لا أتذكر شيئا. لقد بقي في نفسه شك من أن يكون ما حكاه لي
في تلك الطفولة الباكرة قد علق بذهني، وهو لا يريد أن يتقاسم مع أحد تفاصيل تلك
المرأة التي عبرت حياته مثل حلم»[100].
أما النقل الثاني، فأخذ هيأة رمز على الشاكلة التي تناولت بها
آسيا جبار هذا الموضوع في روايتها «فانتازيا» عندما رمزت للإيصال الثقافي بملعقة
فضية صغيرة تناقلتها ثلاثة أجيال: الأب، البنت، ثم الحفيد[101]. فقد تلقى الفرسيوي
الحفيد من أبيه دفتره الصغير الذي يتألف من 20 صفحة، والذي كان دوَّنَ فيه كل ما
روته له هموشة في مرحلة تواطؤها معه في موضوع إقامته الوهمية بالريف.
بجانب هذا الإرث المزدوج، سيتلقى الحفيد لغة أخرى، من خلال ولوج
مدار المدرسة العصرية، ووصوله إلى كلية الحقوق بالرباط. وعند هذا الحد ستكون
المسافة مع الأصل قد ارتسمت إلى الأبد، والإيصال على النمط التكراري قد غدا مستحيل
التحقق. وهنا تأخذ إحدى الجمل الواردة في مستهل الرواية معناها الممتلئ: «لا يرجع
شيء يذهب أبدا» (ص. 35). وهذه الجملة تحتمل تأويلين نميل إلى ثانيهما: الأوَّلُ
ربما تضمرُ حنينا إلى ما انقرض، ورغبة دفينة في عودته رغم استحالة هذه العودة، أي
تُضمِرُ تعلقا بالماضي. أما الثاني، فربما تضمر الجملة نفسها تسليما بالتجديد،
إيمانا بأن الضِّعْف (le double)
هو بكل بساطة مستحيل التحقق، سيما وأنَّ «ما من شيء إلا وله خاصية كونه لا يكون إلا
واحدا، الأمر الذي يضفي عليه قيمة كبرى، وسلبية كونه لا يُعَوَّض، الأمر الذي يحط
من قيمته للغاية»[102].
فالفرسيوي الحفيد سيصوغ خطابا عقلانيا، ليس لقصة أبيه فحسب، بل
وكذلك لقصة النزوح بكاملها. بخصوص الأولى يقول: «لم تكن ]زوجة محمد الفرسيوي / أم
السارد[ سوى بنت يتيمة خف عقلها في دار الباشا حمو، من كثرة ما عذبها الشغل، ومكائد
النساء، والشبق المؤذي لصبيان الباشا. فهامت على وجهها يسلمها بر إلى بر، وبحر إلى
بحر. والرجل لم يكن سوى فقيه دوخته الأحاجي وهشاشة سلالة أضنتها الهجرات والأحلام
الموؤودة. فهام على وجهه باحثا عن سكينة»[103]. وبخصوص
الثانية يقول: «وفجأة بدا لي الأمر في غاية
السخافة. فهذه القضية كلها بأحلامها، ورحلتها، وتهاويمها لا تساوي
بصلة، فأحرى أن تساوي جلسة في مقهى باليما، بجرائدها ومتسوليها ونجومها
البالية»[104].
سيما وأن الوسط ساعده على أخذ هذه المسافة إزاء إيصال التقليد،
معتبرا «هذا النوع من القصص التي يبحث فيها الناس عن قرى أجدادهم لم يعد له وجود
إلا في الأفلام» (ص. 162)، الأمر الذي يتيح القول إن «الرواية سليلة إضفاء الذاتية
المهمشة للأسطورة، أي هي سليلة لفقدان الجماعة للأسطورة من أثر. وكل قصة روائية هي
بذلك أشبه بالشهادة المتجددة على هذا الفقدان الذي يحث القارئ على تقاسمه ويحثه من
ثمة على المشاركة المستحيلة في لا نهائية التجزؤ الذي أصاب جسد أسطورة الأب»[105].
نعم سيمتثل الحفيد لرغبة الجد بالعودة إلى دوار بوضيرب، لكن هذه
العـودة سيقتصر موضوعها على البحث عن أبيه محمد الفرسيوي الذي اختفى إلى الأبد. ثم
عندما سيصل هذا الحفيد إلى المكان الأم، ستتحول علاقته بالميراث الثقافي بكامله إلى
مجرد حنين مماثل لذلك الذي جلب أعمار ولد سلام الفرسيوي إلى بومندرة ولأولئك الذين
يعودون إلى بومندرة، حيث «يأتي الواحد منهم مرة واحدة فيقول أبني هنا وأبني هنا
وأفتح الباب في هذه الجهة، وأشيد الحمام في تلك، ثم يذهب فلا يرجع أبدا» (ص. 35).
حنينٌ مماثلٌ، أيضا، لنظيره الذي يشعر به الكائن البشري عامة للأصل والبدء، والذي
يتولد عن الإحساس بالذنب أمام التطور الجارف في الحيـاة والقيـم. وهنـا تأخـذ «جنوب
الروح» بعدها الكوني، ويغدو بالإمكان القول إن «ما يقوم به الكاتب ]الروائي] فعلا
هو تحليل ظواهر بهدف أن يستخلص منها قوانين عامة مفسرة للسلوكات البشرية»[106].
على سبيـل الخاتمــة
يتضح مما سبق أن «جنوب الروح» نص يشكل فضاء خصبا لتقاطع حقلي
الإثنولوجيا والتحليل النفسي، ذلك أنه لم يقدم لنا من المعطيات ما أتاح اختبار
فرضية العمل الرئيسية التي اشتغلنا بها فحسب، بل وكذلك تقاطع في الصيرورة التي
رسمها لشخوصه وفضاءاته مع بعض التنظيرات المصاغة في حقلي النفس والمجتمع. وبقدر ما
أتاحت لنا الرواية الوقوف على نموذجي الإيصال الثقافي وهما التكرار داخل الديمومة
والتجديد داخل الحياة وفهم التلاشي المعمَّم الذي عرفه فضاء بومندرة باعتباره ولوجا
لدورة حياتية أخرى، فتحت لنا مجال التساؤل: إذا كان حظ النساء من التأشير على
التحول والتغيير أكبر من حظ الرجال - في المتن المدروس على الأقل - فهل معنى ذلك
أنهن محركات هذا التجديد؟ هل معنى ذلك أنهن أكثر ذكاء وتحررا من الرجال وأن هيمنة
الذكور لا تعود إلا إلى مواربات في استخدام السلطة؟ تلك واحدة من الخلاصات التي
توصلت إليها دراستين من منظورين مختلفين: الأولى انصبت على بحث نماذج من النساء
المغاربيات كما يتجلين في العوالم الروائية لمجموعة من الكتاب، فأكدت أن: «المرأة
أكثر جرأة من الرجل بكثير، كما أنها أذكى منه بكثير، خصوصا عندما يتعلق الأمر
بحريتها. بيد أن قضية الرجال هي التي تنتصر، رغم كل محاولة، وبذلك تجد المرأة نفسها
وحيدة ضد نوع من التحالف الموضوعي الذي يمثل السلطة المهيمنة»[107]؛ والثانية انصبت
على تحليل حكاية شفهية مغربية، فأثبتت أن «المرأة لكونها تمتلك تقليدا عميقا، فيما
وراء الآفاق القدسية للمعرفة المؤسَّساتية، فهي تنتج نفسها [في الحكاية] بمثابة
معلم روحي، يستخدم الرغبة، قادر على الإيصال إلى الحقيقة (...) بعيدا عن اختزال
كائن المرأة إلى هذا المخلوق الناقص الدين، بعيدا عن أن ينغلق داخل جنسانية سلبية،
فإنه يخضع لتحول. الأدوارُ تقلب، لكن لا يتعلق الأمر فقط بتحول خيالي تعويضي، وإنما
بتخلف أو ترسّب (survivance) التفوق الأصلي للشأن الأنثوي الذي أخفاه التاريخ
الأبوي»[108]. إذا كان الأمر كذلك، فكيف ننظر إلى الوضع الاعتباري للمرأة المغربية في المجتمع التقليدي كما ترسمه
الأدبيات الشائعة في هذا الباب؟
إضافة إلى ذلك تستمد «جنوب الروح» تميزها من أبعاد أخرى شاعرية
نكتفي بذكر أحدها، ونعني به هذا الإحساس الذي ينتابنا بعد إنهاء قراءة العمل:
الانطباع بأن «جنوب الروح» ذاتها - كبومندرة بالقياس إلى بوضيرب - ليست سوى نسخة أو
محاكاة للحكاية الحقيقية التي لم تصلنا، ولن تصلنا إلى الأبد، وهي روايـة:
أ - ما حكتـه هموشة والفرسيوي وسلام لمحمد
الفرسيوي، فدوَّنه في دفتر صغيـر.
ب - القصيدة الكبرى التي ختمت بها يامنة مشوارها الشعري، والتي
استغرق إنشادها ثلاث ليال (ص. 69)، قبل أن تخلد إلى الصمت الأبدي. وهي قصيدة ذكرت
فيها الشاعرة كل الأحداث التي عاشتها الجماعة البشرية موضوع الحكي، منذ إقامتها في
موطنها الأصلي بوضيرب إلى نزوحها إلى بومنـدرة وما أعقـب هذه الإقامة من تلاش.
ج - ما حكاه الفرسيوي للمتحلقين حوله في مدن مكناس والرباط
والبيضاء ومراكش حول الأصل والنزوح. وعند هذا الحد يكون العمل الروائي الحالي قد
خرج من المكان الذي كان يُفتَرَض أن تخرج منه الرواية المغربية كي تبقي على صلةٍ
مَّا بين المشافهة والكتابة، ونقصد به معطف الحلايقي[109]، على غرار ما تم في
المسرح، وهو ما لم يغب عن بعض المسرحيين المغاربة، أمثال الطيب الصديقي
عندما يخاطب هذا الحلايقي قائلا: «منك تعلمنا جوهر مهنتنا. من خلال عصا واحدة لا
غير تحولها حسب إرادة الحكي، تصبح العصا شجرة مخضرة، تتحول إلى مظلة أو إلى حصان
راكب... وفجأة هو ذا السيف الذي يجرح أو هو ذا القلم الذي يدون...»[110].
وواضح أن الحكاية الحقيقية هنا إنما ترمز للرواية الحقيقية التي
ربما ينتاب صاحب «جنوب الروح» إحساسُُ بكونه لم يكتبها بعد، والتي قد يكرس أعماله
السردية المقبلة لرحلة البحث عنها على غرار ما يكرس الشعراء مجمل إبداعاتهم بحثا عن
القصيدة الحقيقية. هذه القصيدة التي وإن كان سيتعذر إلى الأبد الوصول إليها، لأنها
نبع الإبداع وواحته العظمى، فإنه يمكن مع ذلك للقارئ والناقد أن يهتديا معا، كل
ببوصلته الخاصة، إلى موقع هذا العمل الأدبي - أو ذاك - منها، وبالتالي الحكم على
جودته. أمرُُ نفهمه جيدا عندما نستحضر أن الأشعري دَخَلَ الـروايـة من باب الشعـر.
|