محمد أسليــم

خاتمــــة

 

 

من خلال العودة إلى اللحظات التأسيسية لعلاقة الإسلام بالشعر، يبدو أن اللغة الإبداعية في هذا السياق تتمتع بوضع اعتباري دقيق جدا، ما لم يكن شديد الحساسية. وإذا كان ذلك يجد تفسيره في اعتماد الدين الجديد البيانَ إعجازا له، فإن هذا المعطى وحده لا يكفي لفهم أوضاع الظاهرة الأدبية، من حيث الإبداع والتلقي على السواء، في المجال العربي الإسلامي القديم ونظيـره الراهـن.

يبدو أن خطورة الأدب لا تنبع من تحققاته النصية التي تجازف بالعصف بالضوابط الاجتماعية والثقافية فحسب، بل وكذلك من التمثلات القائمة حول الظاهرة الأدبية بكافة مكوناتها: المبدع، الإنتاج، المكان المزودج الذي يتم فيه تلقي هذا الإنتاج؛ مُتلقي الـ «هُنا»، وعَالم الـ «هُناك»، ثم الآثار التي تترتب عن هذين الاستقبالين).

ما من جماعة بشرية إلا وتُخضع أفرادا منها لطقسي «مُسَارَّة» (initiation) و«انتقال» أو «عبور» (passage)، لتمنحهم عقب ذلك تسمية «شاعر»، «روائي»، الخ.، التي تتيحُ لهم حق استخدام اللغة استخداما خاصا، وأداء وظيفة محدَّدة في الجسدين الاجتماعي والثقافي.

وما تقوم به هذه الفئة من الأفراد في جميع السياقات هو «استنساخ» مواقف ووقائع اجتماعية و/أو فردية، ثم نقلها - عبر تشغيل الآلة الأدبية - إلى مقام آخر، هو المجتمع الأدبي بما هو عالم افتراضي يقوم بموازاة العالم الاجتماعي ويتعالى عنه في آن، وذلك لتحفظَ «هُناك»، لتقيم في ذاكرة الثقافة، مُتخللة الأزمنة والأمكنة. وربما كان المبدعون على وعي بهذا الأمر: ها هو أحدهم يتحدث إلى متلقي رواية له بما يلي: «إذا كان لي من شيء أقوله لـ (...) لذين سيقرأون "لعبة النسان" (...)، فهو أن يعتبروها "حياة" موجودة، الآن، خارج مؤلفها، وتحتاج إلى تفاعلهم وردود فعلهم وإلى أخيلتهم وإضافاتهم...»[1].

ما هي عناصر هذا العالم الافتراضي؟ أهي مجرد هذا الحشد من الحيوات التي يتظافر على خلقها المبدعون؟ أي فعالية ينطوي عليها بحيث يحظى بكل هذه الأهمية من لدن المجموعة الاجتماعية مع أنه مفارقُُ للعالم الاجتماعي؟ كيف يشتغل في شعور الأفراد ولا شعورهم، في اتصاله بالمجتمع وانفصاله عنه في آن واحد؟ قد لا يتأتى الجواب عن هذه الأسئلة ما لم تشيَّد المؤسسة الأدبية مَوضُوعا للبحث، وهو ما لم تزعم الدراسات السابقة القيام به، لكونها انصبت كليا - تقريبا - على تمثلات الأدب دون تحققاته. ومع ذلك، يمكن القول بأن الأمرَ في هذا «الكون المثالي» يتعلق باعتقادٍ راسخ - ربما على نحو لاشعوري - لدى بني الإنسان قاطبة، بموجبه قد يكون مجتمع «الهناك»، «الافتراضي» (virtuel)، أكثر «حقيقة» من مجتمع «الهنا» الملموس. ألا يفنى الإنسان وتبقى الكتابة؟ لعل القدماء فطنوا إلى ذلك على نحو مَّا: ألم يُبرر الحسين، مثلا، مكافأته لأحد الشعراء، عَقِب تلقيه عتابا في الموضوع، بأن قال: «...خفتُ أن يقولَ: لست كرسول الله (ص)، ولست كعلي، فيصدَّق ويُحمَل عنه ويبقى مخلدا في الكتب، ومحفوظا...»؟[2]

أن يلقى هذا العمل (أو ذاك) استحسانا يُتـرجَم بمكافأة صاحبه إيجابيا، فذلك شكل للتعبير عن ارتياح لـ «صدق» النقل والمصادقةِ على محتوى الرسالة المبعوثة من «هنا» لتقيم «هناك». وبالمثل، أن يُتجاهل هذا الإنتاج (أو ذاك) أو يُستنكر، بما يمكن أن يصل حد معاقبة صاحبه جسديا، فذلك شكلُُ مِن رَفض المصادقة على مضمون الرسالة ذاتها بقدر ما هو طريقة لمكافأة الأديب سلبيا لكونه «وَشى»، «سَعى» أو «افترى». بهذا المعنى، قد يكون مَدارُ الرِّهان في الأدب على الدوام هو الصدق أو الكذب؛ الرغبة في تكريس ما هو قائم أو الرغبة في تحريفه.

بيد أننا ما نستبدل هذين المفهومين الأخلاقيين بمصطلحين من حقل السِّحر، هما «السحر الدفاعي» و«السحر الهجومي» أو «إبطال السحر» و«إلقاء السِّحر»، حتى يصير الوضع في الأدب شبيها بنظيره في الممارسة الخفية: أليس سياق التلفظ بالنعتين السابقين هو مَا يُحدِّد هل هذا الفرد «ساحرُُ» أو «مُبطلُُ» للسحر، «مُعتدٍ» أو «صادّ» لهجوم ساحر آخر؟[3]. في هذا المستوى، ييبدو أن وصف القرآن الشعراءَ سلبيا بكونهم «يقولون ما لا يفعلون» (الشعراء، 224) يعكسُ نظرة للأدب ملازمة للإنسان في كل الأزمنة والأمكنة.

إن شئنا اختصار ما سبق في كلمة واحدة قلنا: إذا كان الأدب - كل أدب، «خيرا» كان أم «شريرا» - يستقطب الاهتمام على الدوام بما يقتضي إبداء رد فعل إزاء كلّ تحقق له؛ إذا كان الأدب يتمتع بكل هذه الحظوة، فلأنه في جوهره ظاهرة سحرية-دينية لا زالت تحتفظ بالكثير من خصائصها إلى اليوم.

على صعيد آخر، تساءل الأقدمون عن مصدر الشعر العربي، وقبل ذلك تساءلوا عن أصل السِّحر. وهذا النقاش الذي يعكسُ حيرتهم أمام التشريع، وجَد مخرجه في الرجوع إلى الكوزموغونيا الإسلامية أو الزَّمن الأسطوري، بما أفضى في الحالتين إلى تقديم جوابين متأرجحين يترجمان في نهاية المطاف تعارضا وجدانيا إزاء القانون: أصل السحر ربَّاني وشيطاني، وأصل الشعر قدسي ودنيوي. واليوم تطرح مسألة الأصل نفسها بصدد جنسين أدبيين يُنظر إليهما - عن صوابٍ أو خطإ - بوَصْفِهمَا فنين مُستحدثين، من منشإ خارجي (exogène) وثمرة مثاقفة مع الغير، بل ولا يسلم من مسألة الأصل نفسها حقل النقد العربي ذاته في تأرجحه بين استلهام مفاهيم ومناهج غربية وصياغة منهج عربي خالص[4].

هل يمكن اعتبار القضية هنا تلوينا لسؤال الأقدمين نفسه؟ أيُّ وضع اعتباري يأخذه النقد في ما أسميناه أعلاه بالأدب باعتباره «مجتمعا افتراضيا»؟ أيلعب دورا مَّا في تشغيله؟ أيجب التسليم بسلطة النقد أم يتعين قبول أنَّ «النقاد يحاكمون الأعمال الأدبية وهم يجهلون أنَّ هذه الأعمال تحاكمهم»؟[5]


[1] محمد برادة، لعبة النسيـان، مقدمة الطبعة الثالثة، الرباط، دار الأمان، (والتشديد منا).

[2] ابن رشيق القيرواني، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، بيروت، دار الجيل، ط. IV / 1974، ج 2، ص. 172. (والتشديد منا).

[3] بهذا الصدد، يمكن الرجوع إلى:

- Jeanne-Favret Saada, Les mots, la mort les sorts, Paris, Gallimard, Bibliothèque des sciences humaines, 1977; «T. Todorov, «Discours de la magie», in T. Todorov, Les genres du discours, Paris, Seuil, Poétique, 1978, pp. 246-282.

[4] في هذا السياق، يقول د. حسن المنيعي: «وفي خضم هذه النقاشات والمحاكمات الفكرية [المتعلقة بإسقاط مناهج نقدية غربية على المتن الإبداعي العربي] ظهرت دعوات كثيرة لحل مشكلة النقد العربي منها نداء بعض الدارسين بالعودة إلى التراث النقدي العربي القديم لوضع نظرية عربية متكاملة تقوم على ما هو ثابت من قواعد». «النقد العري الحديث (بين التغريب والتأصيل).

[5] Jean Cocteau, La difficulté d’être, Paris, U.G.E., 10/18, 1972, p. 35.

 

 

صفحة الدراسات

محمد أسليم

ذاكرة الأدب في الشعر والرواية والمسرح

المحتــوى

 تقديــم

الشعر والممنـوع في السياق الإسـلامي

الشعـر والغـواية

الرواية والإيصـال الثقافي في جنوب الروح لمحمد الأشعري

حول مفهوم الأشكال ما قبل المسرحية: نحو إثنولوجيا للمسرح المغربي

خاتمـة

المصـادر والمراجـع

 
 
 

 

جماليـــات إضـــاءات حــوارات مقـــــــالات ترجمــــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــات خــــــاص

مواقع مفضلـة

مواقع صديقة مكتبات الموقـع كشك الموقـع موارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.