في حوار مع المخرج التونسي الناصر الخمير

السينما مغامرة أحرار ووسيلة للشهادة

حاوره: حميد اتباتو / وأحمد السيجلماسي


 

يعتبر الناصر الخمير من بين السينمائيين الذين ساهموا في إنعاش التجربة السينمائية بتونس. وقد شكل إلى جانب نوري بوزيد, وفريد بوغدير, ومفيدة التلاثلي, ومنصف الدويب, الجيل الجديد للفن السابع بتونس. أخرج «الهائمون » «طوق الحمامة المفقود » جاء الناصر الخمير إلى المغرب لتصوير فيلم عن حياة حسن الوزان «ليون الإفريقي ». وأثناء إقامته بمدينة فاس حاورناه حول تجربته السينمائية ومواضيع أخرى.

***

س: إذا سمح الناصر الخمير نبدأ من البداية... بداية عشقك للسينما, فالسينما عشق أولا, كيف جاءك هذا العشق؟ وكيف تتعامل معه حاليا؟

إن كلمة «عشق » كثيرة الغنى في الثقافة العربية, حيث أنني لا أعرف هل بإمكاننا أن نتساءل من خلالها عن السينما, إنه أكثر شساعة من ذلك وأكثر أهمية من أن نلصقه بالسينما, وعلى أي فبالنسبة إلي الأمر بسيط: فقد قررت أن أكون حيا مادمت على قيد الحياة.. بمعنى أن لا أكون ميتا قبل الدفن, فالذي لا يدلي بشهادته حول وضعه فهو ميت, و السينما تعتبر إحدى أهم الأدوات الواضحة للشهادة في الوقت الحالي.

س: هل يمكن اعتبار السؤال الوجودي هو المحرك الأساسي للإبداع عند الناصر الخمير؟

ج: إن المحرك الحقيقي للعملية الإبداعية لدي هو كوني ولدت يتيما, وكوني واعي بأني لست الوحيد إلى جانب الجدران وأشجار الزيتون والمدارس... فكل ما تبقى يعيش هذا اليتم, وهذا غير مقبول, لذلك فأنا أحاول أن أفعل شيئا ما لأقول أننا لسنا كذلك, لا أعرف هل هو أمر مجدي لكن الأساسي هو أنه يمكنني من الحياة.

س: هل يمكن اعتبار البحث في الجماليات العربية إحياء للمواضيع التي غيبتها الثقافة الرسمية؟

ج: إن مفهوم الثقافة الرسمية ضعيف جدا, لأن هذه الثقافة منظمة كحفلات وككيانات القداس, إنها غير منظمة كفكر وكإرادة للسلالة الحاكمة, كما كان الأمر بالنسبة للسعديين مثلا, أو للمرابطين أو الموحدين؛ فاليوم نعيش في رعب الاستجال, وليس وراءنا أي شيء يذكر, إلا أننا نستمر في ممارسة القداس, لأنه الوسيلة الوحيدة التي بقيت لدينا للتحدث عن كل هذا, إنها مسألة مثيرة حقا, لأن الأمر يتعلق بشعب مأساوي في كينونته العميقة, وهو الذي يحتفل أكثر في نفس الوقت لماذا؟ ربما لأنها - إلى حد ما- طريقة للقول بأنه لم يتم قطع الصلة. إن السلطات في الواقع تحول هذا القداس الجنيني لقداس السلطة نفسها, إلا أنه لا الشكل الأول ولا الشكل الثاني بإمكانه أن ينتج معنى ما أو نوعا من الاستمرار في الحياة.

س: من خلال مشاهدة أفلام الناصر الخمير خاصة «الهائمون» و«طوق الحمامة المفقود» يتبين لنا النزوع الأنثروبولوجي في هذه التجربة, لإعادة تركيب صورة ما هو جمالي وما هو غائب في المتخيل العربي وفي الثقافة العربية بشكل عام أليس كذلك ؟

ج: يمكننا أن نجيب كذلك, إلا أنها إجابة بمعنى اليتم, أقول اليتم العقيم لأن هناك يتم مخصب, فاليتم العقيم هو يتم مطبق يجعل الجدران يتيمة والمدارس يتيمة والوديان يتيمة والطبيعة يتيمة ونفس الشيء بالنسبة للأشجار والناس. فحين يصل الأمر إلى هذا المستوى بالنسبة لحضارة ما, حين لا يبقى هناك رابط بين عمق الأشياء وظاهرها, فإنك تحاول فعل شيء ما للبحث عن ما هو جوهري.

س: تندرج تجربة الناصر الخمير في رأينا كجمهور للسينما العربية إلى جانب محاولات أخرى من مشروع ترميم الجرح العام واليتم الخاص ما هو رأيكم؟

ج: لا لأن ما أقوله بصدد تجربتي ليس بالضرورة صالحا للآخرين, إن التعميم تقليد طبيعي لهذا المجتمع, لكن ليس له معنى, فلكل واحد دربه ورؤيته, إن المسألة جد شخصية, إلا أن ما هو شخصي ها هنا يمس مجموعة كبيرة, لأنني لست الوحيد الذي يعيش الحالة المتحدث عنها, حالة اليتم وجرح الاسم الشخصي, بالرغم من أني الوحيد الذي يجيب هكذا ربما.

س: أخرج الناصر الخمير «الهائمون » سنة 1984 ثم انتظر سنة 1989 ليخرج «طوق الحمامة المفقود » , لماذا بالضبط كل هذا التوقف بين فيلم وآخر؟ هل هناك أسباب أخرى تفسر ذلك؟

ج: ليس كذلك قطعا, أولا لأن ذلك ليس اختيارا, لست أنا الذي يقرر أن لا أخرج أفلاما لمدة معينة, ولكن لأن ذلك اليتم الذي تحدثت عنه داخل الإبداع, يحضر أيضا في البنيات, وهذا لا يمكننا من الاشتغال, مثلنا مثل شجرة الزيتون التي تعطي غلتين أو ثلاث في مائة سنة. إن الأمر هكذا, لأن يتم البنيات يعوق عملنا ويجعلنا لا نجد من يدعم المواضيع التي نعالجها في الخارج, ولأننا بحاجة إلى من يدفعنا من الخلف, خاصة أن علينا أن نشتري الفيلم بالعملة الصعبة, ونفس الشيء بالنسبة لباقي عمليات إنجاز وإخراج الفيلم إلى الوجود, وتشكل هذه الأموال نوعا من الرقابة, بالرغم من كل شيء. إنهم يرغبون في أن نتحدث لهم عن معاناة, لكن لا يجب أن يتعدى الأمر هذا المستوى, فلكل هذا يأخذ الفيلم الواحد كل هذا الوقت الذي تحدثت عنه, وحين أقول هذا فأنا لا أقول أنه لا توجد أموال عندنا ... إنها موجودة لكنها تستخدم في غير هذا, لأنه ليس هناك حالة وعي بأن كل شيء على أحسن ما يرام.

س: إذن الأمر بالنسبة للمخرج التونسي هو نفسه كما عند المخرج المغربي. أي إن إخراج الفيلم كما قال الراحل محمد الركاب, هو مغامرة, غير محمودة العواقب؟

ج: إن مغامرة إنتاج الفيلم هي مغامرة إرادة أولا ومغامرة جنون أو شجاعة, أو هما معا ثانيا, وهي مغامرة صبر وتحمل ثالثا, وهي مغامرة أحرار, فالحاذق من المخرجين الشرفاء هو الذي يتحمل المستحيل من أجل إنتاج فيلم.. بعد هذا يمكن الدخول في مسألة الإبداع.. وهذا سؤال آخر.

س: هناك من يرى أن الناصر الخمير يساهم إلى جانب مجموعة من المخرجين التونسيين كنوري بوزيد, ومنصف الدويب, وفريد بوغدير, ومجموعة من الأسماء الأخرى في بلورة ما نسميه نحن في المغرب ملامح التوجه الجديد في السينما العربية. ما هو تعليقك؟ وما هي رهانات وأهداف هذا التوجه؟

ج: أريد أن أكون دقيقا هنا لأقول إنني لا أتقارب بشكل مباشر مع المبدعين التونسيين, لأن ما نقوم به لا يتشابه بالمرة.

لقد ازدهرت السينما في تونس حقا, إلا أن ذلك كان في سنوات الثمانينات وبشكل خاص في ما بين 1984و 1990, وقد ازدهرت هذه السينما لأنه تم إبداع أفلام متميزة, وقد كنت من بين الذين ساهموا في هذا الدفع. وإذا حللنا واقع السينما التونسية الحالي سنجدها مستقلة, جيدة أو سلبية, وتدور حول تونس فهناك عوامل موضوعية دفعت هذه السينما لتهتم بتونس, وهذا ناتج في رأيي عن عدم القدرة على تحمل نفقة جلب فريق يكلف مائة مليونا أو 150 مليونا, هذا من جهة, ومن جهة أخرى فإن هذه السينما تدور حول ما يمكن تسميته ب «سينما اليومي». ولأوضح أقول إن هذا النوع من السينما لا يطرح مشاكل, لأننا إذا احتجنا طاولة أثناء التصوير مثلا, نقطع الطريق إلى الجهة الأخرى, ونبحث عن الطاولة, ونجلبها, بمعنى أن هذا السينما تستعير من اليومي القصة, واللباس, والأشياء, والديكور, وكل ما تحتاجه, إنها سينما تبدع القصة ولا تبدع أشياء أخرى, إلا أن الأمر يختلف بالنسبة لما أقوم به, لأن كل شيء عندي يتم إبداعه سواء تعلق الأمر باللباس أو بالديكور, بالإضافة إلى أنني لا أصور بتونس, فأفلامي تكلفني غاليا, لأنني أنقل كل الفريق سواء في اتجاه الصحراء أو في اتجاه أماكن مستحيلة.

إن طرق العمل تختلف, إلا أنه أمر طبيعي أن أشارك في ازدهار السينما التونسية بالمعنى العام, وأنا متفق مع هذا الرأي, إلا أن الأمر لا يتعلق بنفس الرؤية.

س: إن إبداع المخرجين التونسيين, بالرغم من ذلك, له مميزاته الخاصة, لأنه يتأسس بشكل خاص على الحفر بالمعنى الأنثروبولوجي، ويحضر هذا الحفر في الأفلام التونسية, من أجل إعادة تشكيل بعض الأشياء, كنسق اللباس مثلا وتاريخية الكبت, ومتخيل الإبداع الفني بصفة عامة..

ج: إن الأمر يختلف حسب كل فيلم, ف «حلفاوين» وأفلام أخرى, تقتبس من الواقع, كما تقتبس من الذكرى, على العكس من ذلك ف «الهائمون» لا يقتبس أي شيء من الذكرى, ويعتمد على الإبداع بشكل كلي, بمعنى أنني لم أعتمد أشياء يمكن أن أجد شبيها لها في الواقع. فشخصية المعلم مثلا في «الهائمون » تناقض فكرتنا عن المعلم, لأن كل الناس تظن أن المدرسين هم الذين يساهمون في التقدم, وأنا أقول إن المدرس لا يعرف أي شيء. إنها وضعية شاذة في الأدب العربي عامة, وبمعنى آخر إنه نوع من الخروج عن التقوى, وعن احترام المجتمعات العربية التي تعمل على أن تكون هناك قطائع. فالأشياء تأخذ بعدها الدائري دوما, وقد حاولت شخصيا أن أبدأ بقطيعة, ولهذا قلت إن هذا المعلم جاء ليدرس لكنه لا يملك ما يعلمه. بل له أن يتعلم هو نفسه قبل ذلك, ولن يدرس أي شيء في الفيلم. إن هذا لا يوجد لا في الرواية ولا في القصة ولا في مجال آخر من مجالات مجتمعنا. فهذا المتخيل يتخلص من الأماكن المخربة. إن السينما العربية, سينما توظف فكرة الاعتماد على البؤس كبؤس, وكفقر, وكادعاء, وكتشهير. أما أنا فحين أستعمل الفضاءات المخربة فذلك يكون بشكل جيد مما يلفت الانتباه إلى آلام رؤية العالم يتهدم.

س: هل يمكن القول أنها تجربة فريد...؟

ج: لك أنت أن تفكر كذلك. أما أنا فأقول إنك لا يمكن أن تقارن بين «الهائمون » و«طوق الحمامة المفقود » وبين أي فيلم تونسي آخر, لسبب بسيط, هو كون الذين يمثلون في أفلامي يأتون من أماكن عديدة وليسوا من تونس, كما ليست هناك واقعية وطنية في أفلامي, ولا يمكن العثور على تونس في إبداعاتي.

فأنا أقول دائما إنكم لن تجدوا تونس في أفلامي إذا كنتم تعرفونها, أولا تعرفونها وترغبون في البحث عنها في تجاربي السينمائية, وبهذا المعنى إذن ليس هناك بعد أنثروبولوجي في أفلامي, يمكن الحديث عن سينما حضارية لأنها تطرح قضايا تهم الجميع, لأنك حيثما ذهبت يمكن أن تجد معاناة حضارية من قضايا مثل, انمحاء العوالم واليتم الكلي للناس والجدران والأشجار.. إن هذه الأشياء توجد في أفلامي لكن هذا يهم حضارة بأكملها, ولا يهم أمة معينة.

س: اشتغلتم على اليتم والهوية كتيمات في «الهائمون» واشتغلتم على العشق في «طوق الحمامة المفقود », لماذا هذا الارتباط بالمواضيع المهمشة والمنسية؟

ج: ليس هناك أي معنى لأن أشرب من عين يشرب منها الجميع, وأرى أنا أنها ملوثة, فإذا كنت أظن أن هناك عينا نقية في مكان ما فهي توجد في الروحي وليس في الطبيعي, علي إذن أن أشرب من عيني الخاصة التي أومن أنها الأكثر نقاء, حتى وإن كان كل الناس يشربون من وادي فاس مثلا.

س: هناك من يرى أن أفلامك تنتمي لما يمكن تسميته ب «سينما النخبة »؟

ج: لا أتفق معك على كون أفلامي نخبوية, خاصة حين نتساءل عن عدد التلاميذ الذين يوجدون في الثانويات العربية, فالجمهور في رأيي يوجد في هذه المؤسسات, لأن هذه الفئة درست «طوق الحمامة المفقود » لابن حزم, فلماذا لا تريديون أن يشاهدوا فيلم «طوق الحمامة المفقود ».

س: ربما السينما لم تدخل كمكون أساسي في ثقافتنا كما هو الحال في فرنسا مثلا حيث يتم تدريس مادة السينما في الثانوي ضمن حصة السمعي البصري.؟

ج: إنه مشكل تنظيم وتحديث التعليم. إلا أننا يمكن أن نتحدث عن كونه يوجد بالقوة, بمعنى أنني حين أقول إنه ليس هناك جمهور, فذلك لا يعني أنه غير موجود, لكنني أقول إنه بالرغم من وجود المنتوج الإبداعي, وبالرغم من وجود الجمهور ليس هناك لقاء بين الاثنين, بل ليس هناك طلب قط. أما بالنسبة لمسألة نخبوي فالأمر غير صحيح, لأن هذه الأفلام تمت مشاهدتها من طرف مجموعة مهمة من المراهقين والطلبة, هذا بالرغم من كوننا لن نكون أبدا فكرة عن الثقافة في ظل سيادة نوع من احتلال الفضاء من طرف نوع معين من التعليم. ولأجمل رأيي بصدد هذه الوضعية أقول: إن وضعنا الآن ينتج متعلمين غير مثقفين, ولهذا نجد عندنا جماهير مرت بالمرحلة التعليمية ربما, لكنها ليس مثقفة, مما يجعلها تتعامل بشكل جاهل مع كل إبداع عقلي, ومع كل ما يتعلق بمحيطها, وهكذا لن يستطيع أعضاء هذه الفئة إنقاذ المدرسة من الخراب كما لن يساعدوا على إنقاذها, وبنفس الطريقة لن يذهب هؤلاء لمشاهدة أفلامي, فماذا أصبح هؤلاء؟ إنهم أناس حصلوا على شواهد وديبلومات لكنهم أناس بدون قيمة.

س: إنها أمية المتعلمين.. إنهم أناس لهم شواهد ولا يقرؤون لا كتابا ولا صحيفة..

ج: انطلاقا من هذا إذن يصبح مفهوم «الشعبي» في رأيي غير صحيح. كيف ذلك؟ إن «الشعبي» اليوم هو ذلك الذي نصنعه نحن اليوم, والأجيال الحالية هي الأجيال التي نمنحها نحن هذا الذوق أو ذاك. طبعا أنا لا أتحدث عن جيل الآباء لأنها حالة أخرى, فهم أيضا يشاهدون التليفزيون, لكنهم لن يذهبوا إلى السينما أبدا.

إن الجيل الذي يمكنه الذهاب إلى السينما هو الجيل الذي نصنعه نحن.

س: بالنسبة لهذه المسألة هناك نوع من الأفلام ساهم, ربما, في إبعاد الجمهور عن الفيلم الجيد والحقيقي, خاصة سينما شباك التذاكر التي ساهمت في اغتيال الذوق والاهتمام لدى الجمهور العربي بصفة عامة؟

ج: نعم, لكن السينما لا تشكل إلا نقطة واحدة. لأن المجتمع العربي كله بدأ في فقدان ذوق الأشياء إلى حد ما, فهو يضيع هذا الذوق لأنه يضيع كثافتة وقيمته الروحية. وبفقدان المجتمعات العربية لعمقها ولما هو جمالي فيها تتحول إلى مجتمعات دوغمائية تسطح كل شيء ليقبع القبح عندنا, ولا نقوم بأي مجهود لتعميق الأبعاد الجمالية لمجتمعنا.

س: لماذا يشتغل الناصر الخمير بصناعة الأفلام؟

ج: ببساطة لأنني أحس أن هناك بعض الأشياء القوية في المجتمع كاليتم العميق, أي يتم الحضارة, ويتم المجتمعات, ويتم كل الأشياء, ويتم الطبيعة والناس وما تبقى, بالإضافة إلى هذا, فبالرغم من أن الناس لا زالوا على قيد الحياة فإنهم غير موجودين, لأنهم لا يقدمون شهادة على وضعهم كأحياء على الأقل, فأن نوجد فعلا, يعني أن نكون شاهدين على حالنا. وقد اخترت شخصيا السينما كوسيلة للشهادة.

إن اختياري هذا لا يرتبط بتاريخ ما للسينما, أو بتقليد هذا الفيلم أو ذاك, لكنه يرتبط بشكل أساسي بكوني لا أرغب في أن أكون ميتا قبل أن أموت بالفعل. لهذا يجب أن أشهد ولا أصمت.. ولهذا بالضبط أصنع أفلامي.

س: بعد «الهائمون» و «طوق الحمامة المفقود» هل قال الناصر الخمير الأشياء التي كان يحب قولها؟

ج: أبدا, إن الأمر صعب للغاية, إلى من نتوجه لنصنع أفلاما؟ ليست هناك جهة طبيعية يمكن التوجه إليها. فاليتم هو هذا أيضا, أي ليس لك واليا طبيعيا يمكن أن تقصده, بمعنى أنني حين أبدع فيلما فهو من هذه الجهة أو من أجل هذه المدينة, أو من أجل هذا الفضاء لا. لا أحد هناك. المشكل أن هذا لا يعني أنه ليس هناك ناس, بل إنهم هناك لكنهم ينظرون إلى جهة أخرى. ويمكن تشبيه هذا بمثل مدينة تحترق والكل ينظر بجانب البحر, ولا أحد يرغب في الذهاب لرؤية النار, بمعنى أنه ليس لدينا خيارا آخر, إننا لم نتوحد في مجال نظرنا, والخطير أننا ننظر إلى الخارج بعد أن بعنا نظرنا للآخرين. إن وجودنا ليس إلا وجودا جسديا. وهذا يعقد من وضعنا. إن الجمال ليس هو ظاهر الأشياء. فلأجل تحقيق التوازن يجب أن نكون نوعيين. وهذا التوازن هو الذي سيشهد على جمالنا من خلال إلهام جيل لجيل, ليس بما هو روحي فقط ولكن بفكرة عن الجنة.. وفي رأيي فعندما نودع هذه الأفكار فإن الجنة هي التي تودعنا.

س: هناك من يقول إن الإبداع هو تموقع في الموت باعتباره يحكي عن الماضي وعن الذاكرة. هل الإبداع تموقع ضد الموت بالنسبة للناصر الخمير؟

ج: ربما. تثبيت بعض الأشياء بمعنى أو بآخر يبقي بعض الأثر. لقد سبق لي أن صورت بعض الأماكن التي لا نجد لها أثرا اليوم رغم أنني لم أفكر أبدا, في كونها ستنمحي في يوم ما استجابة لرغبة شخص في بناء عمارة يكسر بها إيقاع ذلك المكان الذي يتجاوز عمره خمسة أو ستة قرون من التاريخ, فالمؤسف حقا هو أن تدمير عمق مثل هذه الأمكنة هو من أجل تعويضها بالسماجة والقبح. إن المشكل إذن في هذا القبح المعمم, والإبداع نضال ضد كل هذا.

س: السينما شهادة إذن؟

ج: طبعا.

س: يظهر من خلال تتبع مسيرتك الإبداعية أنك تشتغل على المواضيع المنسية (العشق / الهوية) ألا يمكن اعتبار الاشتغال على قضايا الهامش هو رهان السينما العربية. بمعنى أن الاشتغال على هذه القضايا هو الذي بإمكانه أن يؤسس هوية فعلية للسينما العربية بصفة عامة؟

ج: يمكن تحديد مستويين في هذا السؤال: أولا, قضية الهامش والمركز, ماذا أصبحا في العالم العربي يجب تحديدهما بداية, كما يجب التساؤل عن حقيقة استمرارها كهامش أو كمركز وأيضا الإبداع هو هذا الشيء الضامن للهامش. بمعنى الضامن للحرية إلى حد ما, فبدون إمكانية للخروج من الصفوف لا يمكن الحديث عن الحرية. ثانيا: هل هناك ما هو هامشي أكثر من هذا؟ يمكن أن نضع السؤال بصيغة أخرى فأقول, هل حين أشتغل على تيمة العشق أو التيه أو تيمات أخرى مشابهة, هل أشتغل على تيمات الهامش أم تيمات الأعماق. أليس هذا هو الذي يجعلنا نعاني من كل ما تبقى, أليس لأننا لا نملك نوعية هذا النوعي هو الذي يجعلنا نعيش كل المشاكل الأخرى.

شخصيا لا أومن بأن السينما أداة إيديولوجية, ولكني أومن أنها أداة حضارية.. إنه أمر مهم لأن الحضاري يتقاطع بما هو سياسي لكن السينما ليست أداة سياسية كما أنها ليست أداة سوسيولوجية أو صحافية. فأن يكتب الصحافيون أمر غير مكلف إذا استطاعوا.. وأن يحكي السوسيولوجيون أشياءهم أمر غير مكلف إذا استطاعوا ذلك- لكن على شرط أن لا يطلبوا من بعض المبدعين المعدودين والقلائل في مجال السينما أو في غيرها أن يتحملوا مسؤولية شرف القبيلة, فعلى كل واحد أن يتحمل مسؤوليته في جزء من هذا الشرف. فأنا حين أتحدث عن السينما أقول, إن ما لا يحتمل بالنسبة للسينمائي هو غياب النقد, هناك فعلا بعض الصحافيين والمواكبين, لكن ليس هناك نقاد, ليس هناك تحليلات عميقة, تجيب عن أسئلة من مثل أين نحن؟ بالمقارنة مع من؟ لماذا؟ وكيف؟ فهذا إذن جزء من المشكل.

س: هناك من يقول إنه لوجود نقد فني مواكب, يجب أولا أن يتحقق في مجال السينما تراكم كمي ونوعي. بمعنى أنه لتأسيس نقد موازي يجب تأسيس السينما أولا.

ج: لكن لأننا نفكر أن السينما هي شيء جديد, وأننا لا يمكن أن نتحدث عن السينما إلا عن طريق السينما نفسها, إن هذا خاطئ, فموقع النقد هو أن يرصد العلاقات العميقة بين تاريخ المجتمع أو تاريخ مجموعة تنتمي لحضارة معينة, هل هي مستمرة في السينما, فالسينما ليست إلا استمرارية., إن السينمائي ليس أكثر نباهة أو أكثر خصوصية أو أكثر نقاء من معلم زليج: الذي يضع «لا أعرف 700 أو 7000 وحدة زليج.. في المتر المربع» أمثل بهذا لأقول, إن تعقيد البناء لم يخلق مع السينما, تعقيد الصورة لم يخلق أيضا مع السينما, العلاقة بالصوت خلق في الفضاء ولم يخلق في السينما... إنها أشياء موجودة عند الراوي ورجل الحلقة.. وموجودة أيضا في كل مكان, ربما في كل الفضاء الثقافي التقليدي. لماذا إذن هذا الإلحاح على أن النقد يجب أن ينظر إلى السينما فقط ليؤسس مقارباته, إن هذا يشكل صورة لليتم أيضا.

فإذا كان النقد غير موجود, لأنه لا يوجد ما يقال فهناك أشياء كثيرة يمكن التحدث عنها, وليس لأننا لا يمكن أن نبني قليلا مما هو موجود. فهناك الكثير مما يمكن بناؤه. فعلى العموم فإن هذا العجز ناتج أساسا عن غياب مقاربات متكاملة حول ما هو جمالي وحول المجتمع وحول القراءة الصوفية للجمال. لأن مثل هذه المقاربات هي التي بإمكانها أن توفر لنا قراءة واضحة بصفة عامة, وبتوفر هذا الشرط يمكننا آنذاك أن نتتبع الأنترنيت دون أن نقول إن هذا الأمر ينفلت منا. لأن كل هذا هو إنتاج فكري, وكل إنتاج فكري له علاقة بالآخرين, فقط يجب العثور على مكان للعبور.

س: بالنسبة للاشتغال على الذاكرة, يلاحظ أن هناك تغييب لمسألة تفجير هذه الذاكرة.. أي الذاكرة الجمالية وذاكرة الأشكال الفرجوية والتاريخ كذاكرة وذاكرة المكبوتات... فما هو رأيكم؟.

ج: إنه مشكل الأصالة, فالفضاء العربي فقد أرستقراطيته العميقة وأصبح بئيسا. لأنه لا يحمل نوعيته في ذاته.. فحين يذهب أمير إلى مكان معين, فهو الذي يعطي التمييز لهذا المكان فبإمكانه أن يذهب إلى أية جهة, والأساسي هو أن هذه الجهة ستتحول إلى قصر, فإذا ذهب إلى جامع الفنا.. فهذه الأخيرة ستتحول إلى قصر.. وإذا نظر إلى فقير, فإن هذا الفقير سيتحول إلى أمير.. فالحديث عن الأرستقراطية العميقة للأشياء.. هي أنه إذا نظرنا إلى شيء ما يجب أن تزداد قيمة باقي الأشياء المرتبطة به. فمن أين تأخذ النظرة قيمتها؟ بالطبع من كونها تركز على ما هو جوهري, ما وراء المرئي بل إنها تحور غير المرئي إلى مرئي مثل رؤية المتصوف, إن هذا هو الغائب الكبير اليوم. وهذا أيضا ما يجعلنا بؤساء, إن غياب الإمكانيات ليس المسبب الوحيد لبؤسنا, فما ينقصنا إذن هو هذه النظرة التي نحرر بها بعض الأشياء التي بإمكانها أن تأخذ أبعادها الأخرى, إن الباحثين وغيرهم لا ينصتون إلى المسكين الذي يغني في الدرب, فأبأس البؤساء هو بدون قيمة, فما معنى أن ننصت إلى المغني ولا ننصت إلى المسكين, إننا يمكن أن نتعلم أشياء كثيرة من هذا الأخير, فإذا كنا مقطوعين إذن فلأننا بؤساء, وهذه دراما العالم العربي, فقد أصبح أكثر يتما لأنه لم يستطع التعرف على أقربائه. ولأنه لم يستطع معرفة ثرواته الخاصة التي لا تنتمي للمجال المرئي والمادي. إن مجتمعنا بهذا قد تحول إلى مجتمع مادي ضيق وصغير.

س: ما هي المرجعيات الفاعلة في الرؤية الفكرية والجمالية للناصر الخمير؟

ج: يصعب الجواب, لأن لي تكوينا تقليديا في بلدي كما لي تكوين على الطريقة الغربية, فأنا أمتلك الاثنين, وربما مكنني تكويني المزدوج من صفاء فكري, لأن هذا يرغمني على مواجهة ما هو تقليدي بما هو ليس كذلك, كما يدفعني للبحث عن النوعية والحداثة الموجودة في ما هو تقليدي, والبحث عن ما هو قديم في ما هو جديد, لكن الأساسي هو عدم الوقوف على ظاهر الأشياء, إن الشيء الصعب حاليا في مجتمعنا العربي, هو هذا الشيء. فالكل يقف على سطح الأشياء ووجهها الخارجي حاليا على خلاف القدماء الذين كانوا يأخذون بالجوهري وبعمق الأشياء عبر التصوف وغيره.. لقد كان المسكين هو ملك الموت بالنسبة للمسكين القديم, فهو لم يكن مسكينا وكفى, فحين تلتقي بالمسكين فإنك تلتقي بمسكين وبملك الموت في نفس الوقت.. الآن تأخذ مسألة المسكين بعدا آخر.

قديما لم يكن هناك احتقار في العلاقات على العكس من ذلك الآن, ولم يكن الفقير مقهورا, على العكس من ذلك الآن فالكل مقهور. لقد كانت مجتمعاتنا مملوءة بالحنان والرحمة في القديم, ربما يستمر ذلك الآن في بعض الأماكن, لكن وجود ذلك بشكل بنيوي ليس ممكنا أبدا. لقد تحولت مجتمعاتنا إلى مجتمعات عنيفة ومكسرة.. إنها مجتمعات تكسر إلى مالا نهاية.

س: هل الاستعمار وحده هو المسؤول عن كل هذا؟

ج: ليس وحده, لا يجب أن نرمي بالمسؤولية على الآخرين.. فنحن الذين خربنا جدراننا وفضاءاتنا.. والآن نجازى على ذلك.. فنحن من يتعذب الآن.

س: وهل هناك حل لذلك؟

ج: لا أعرف يمكننا التفكير في بعض الأشياء, لكن هناك معطيات موضوعية, لكن المعطيات الموضوعية هي حديث وزارة التربية والثقافة, يمكنني القول إنه يجب توفير بنك للمعطيات بالفيديو وبوسائل أخرى خاصة بالثقافة العربية والإسلامية, إننا بحاجة إلى ترويج معرفة خاصة بهذه الحضارة, كما أنه يجب العمل على حكي جزء من تاريخ فاس واليمن وليبيا وتونس وسوريا. ولأجل هذا يمكن لنادي تابع لليونيسكو أو جهة أخرى أن يفحص هذه المسألة ويعمل على تكبيرها, إنها مسألة غير مستحيلة.

س: يمكن للمخرجين السينمائيين مثلا أن يستغلوا بعض الأموال في هذا المشروع عوض استثمارها في أفلام لا قيمة لها؟

ج: لا ليس في إمكاننا ذلك. إنها ليست قسمة على المساكين, المجتمعات تدبر أمرها بالصيغة التي في متناولها وليس بالصيغة الأفضل, لكنها لن تنجح في مهمتها إلا إذا وجد والي أمر يعي جيدا الرهانات.. إنه حديث اليتم ها هنا أيضا, فعلا يمكن مناقشة مسألة تنظيم كيفية جعل الأشياء تسير بشكل طبيعي. إنه أمر ممكن من الناحية التقنية.. لكن ذلك لا يمكنه أن يتم في غياب والي أمر لكن هذا العمل له بعد سياسي. فهو غير متعلق بمسألة الخلق والإبداع وحدها. بل مرتبط برؤية حضارية خاصة حين نضع الأسئلة التالية. ماذا سيسمع هؤلاء الأطفال؟ ماذا سيشاهدون؟ وأكثر من هذا لأجل ماذا نهيئهم؟ وكيف يمكننا منحهم طعم وإحساس الأشياء الأخرى, ولو بشكل مصغر جدا, دون إبعادهم عن العوالم الطبيعية.

س: لكن هناك مجموعة من الأعمال الوثائقية وغيرها لا تحمل أية قيمة جمالية؟

ج: إن فضاء العالم العربي في خرابه قد نسي فكرة الجودة. وما هو مؤثر بالنسبة للمغرب مقارنة مع دول أخرى, هو أن لديه فكرة الجودة هاته من خلال معلميه (يقصد الصناعة التقليدية), فالجودة هي أن تبنى حائطا وتبنيه بشكل جيد, وهي أن تركب بابا وتفعل ذلك بشكل جيد. فالجودة هي أن تحاول خلق التأثير من خلال قطعة خشبية أو قطعة طين, فهذه الجودة لم تعبر بالضرورة كل أجساد المهن, بل إننا لا نجدها حتى عند المثقفين في بعض الأحيان.. وقد لا تجد هذا الإحساس بالجودة أيضا في بعض المؤسسات, فالتلفزيونات العربية رغم أنه لا يجب انتقادهم لأنهم يتماشون مع طبيعتهم, لا ينادون أبدا على السينمائي العربي وكأنه ليس جزءا منهم..

س: كيف تعلقون بشكل وجيز على الأسئلة التالية؟ السينما المغربية؟

ج: لقد شاهدت بعض الأفلام, وأتذكر مشاهدتي وأنا طفل لفيلم حميد بناني «وشمة» فقد تأثرت لذلك كثيرا, كما شاهدت فيلم « الشركي » لمومن السميحي, وبعض الأفلام الأخرى.

س: النوري بوزيد؟

ج: إنه زميل لي

س: لخضر حامينا

ج: ليس لي موقف... يمكن أن أقول إنني أحب ساتياجيت رأي, لكن أن أحكم على هذا أو ذاك, فأنا لست حكما.

س: المؤسسة الثقافية السائدة في البلاد العربية؟

ج: إنهم يفعلون ما يقدرون عليه, لكن عملهم لا يثمر, مثلهم مثل البستاني الذي يشذب أشجاره, وعوض أن يقطع الأغصان المريضة والميتة, يقطع الأغصان الجيدة والمملوءة بالحياة.

 

 

كتـاب  حديث الاختـلاف

 

د. حميد اتبـاتـو

المحتــوى

لن يغير من قناعاتي إلا القبر (حوار مع الراحل محمد زفزاف)

لايمكن أن نفصل بين الناقد والمبدع والشاعر والمؤرخ (حوار مع محمد برادة)

الأعمال التي نشاهدها تتسم بالتفاهة ولا تستحق أن يراها الجمهـور (حوار مع الراحل محمد الكغـاط)

حوار مع محمد الكغاط: بدأنا ممارسة المسرح في فضاء المقابر

المسرح وسيلة من وسائل تربية الشعب (حوار مع الباحث المسرحي يونس لوليدي)

السينما مغامرة أحرار ووسيلة للشهادة (حوار مع المخرج التونسي الناصر الخمير)

 
 
جماليـــات إضـــــاءات

حــوارات

مقـــــــالات

تر جمــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمـــــــــات

خــــــاص

مواقع مفضلـة مواقع صديقة مكتبات الموقع كشك الموقـع موارد نصيــة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.