هنري لورانس

الفصل الثاني

النزاع العربي الإسرائيلي

ترجمة: عبد الحكيم الأربد، مراجعة: د. رجب بودبوس

 

 

إن النزاع العربي الاسرائيلي هو أكثر نزاعات الشرق الاوسط إثارة للأهواء ولاتخاذ المواقف وهذه المواقف ليست خارجة عن النزاع ذاته بل هي إحدى عوامله واحد رهاناته بقدر ما أن المسألة ليست مجرد قطاع صغير بالشرق الأدنى. فمنذ البداية كان الاستنجاد بالرأي العام الاجنبي أحد أدوات الصراع، إن الجمع بين هذا النزاع وبين أحد أكبر مآسي القرن العشرين إلا وهو قتل النازية الجماعي ليهود أوروبا واستخدام هذه المأساة، كل ذلك قد جعل الغرب غير مكترث لما يحدث في فلسطين. وإن التواطؤ بين الإمبريالية الغربية والصهيونية في فترات مختلفة من تاريخها يفسر موقف العديد من بلدان العالم الثالث التي ترى ان القضية الفلسطينية ما زالت فصلاً لم يغلق من التاريخ الاستعماري وليست مجرد صراع عرقي مثل العديد من المآسي الأخرى لما بعد عام 1945. فبالإضافة الى المسائل الحيوية من الجغرافيا السياسية مثل قناة السويس واحتياطيات النفط العالمية فإن الرهان النهائي الذي ليس سوى الارض المقدسة فعلا يعيد الى الأذهان المغامرة المشتركة للديانات السماوية الثلاث الكبرى وإن هذه التداخلات المستمرة للأوهام السياسية تجعل من هذا النزاع الصغير القليلة خسائره البشرية نسبياً أحد أهم قضايا هذا النصف الثاني من القرن العشرين وأكثرها خطراً.

أصول النزاع العربي الاسرائيلي

لمحة حول تاريخ فلسطين:

ان لفظ (فلسطين) يعود الى التاريخ الاغريقي اللاتيني فهو يذكر بما يعرفه الإغريق عن هذا الإقليم أي ذلك الذي ظل مدة الشريط الساحلي الذي يسكنه الفلسطينيون منذ نهاية الالف الثانية قبل ميلاد المسيح بينما كان الداخل الذي تسكنه شعوب يتكلمون لغة سامية عرفوا عامة بالكنعانيين، مجهولاً من الإغريق. وكان العبرانيون يشكلون جزءاً من تلك الشعوب المستقرة على ضفتي وادي الأردن. ولقد تغير مجالهم الجغرافي كثيراً بحسب الحقب تقلصاً وتوسعاً بحسب ميزان القوى بين الدول المحلية.

ومنذ القرن السادس قبل الميلاد تولد عن سبي بابل الشتات اليهودي الى بلاد ما بين النهرين في البداية ثم على امتداد سواحل البحر المتوسط. ولئن تمكنت دولة عبرية ثانية من الظهور في العصر الهلينستي فإنها لم تفلح في تجميع كل سكان الاقليم الفلسطيني في إعمار متجانس. لذا نشأت توترات امية بين مختلف التجمعات السكانية وكان الشتات اليهودي يتنامى باستمرار لأسباب اقتصادية، لأن الإقليم اصبح بلاد مهجر وبالاعتناق لأن اليهودية التي كانت آنذاك الدين الموحد الوحيد كانت مفتوحة تماماً لتهود غير اليهود.

ولقد أدى النزاع مع روما وثورات القرنين الاول والثاني للميلاد الى إنهاء الاستيطان اليهودي في منطقة القدس إلا ضرباً من اليهودية الحضرية والزراعية ظلت موجودة الى القرنين الخامس والسادس بشمال فلسطين وخاصة بالجليل. ثم إن دخول السكان اليهود وغير اليهود الديانة المسيحية في العصور القديمة المتأخرة والعصر البيزنطي قد وضع نهاية لليهودية الفلسطينية وجعل من الشتات الممثل الأهم للعالم اليهودي. ولما قامت الفتوحات العربية في القرن السابع كانت فلسطين مسيحية في معظمها.

كان العرب موجودين بفلسطين منذ قرون فحتى قبل ميلاد المسيح كانوا يرتحلون ويتعاطون تجارة القوافل على طول وادي الاردن. وظهرت الدول العربية الاولى بشرقي الأردن وكانت أهمها البتراء ودولة الغساسنة في العصر البيزنطي. وكانت دولة مسيحية ولن تقدم الاسلام كان سريعاً وصاحبه التعريب بإدماج المسلمين الجدد في القبائل العربية الغازية وبتبنيهم أنساب الفاتحين. غير أن الدخول في الاسلام لم يشمل كل الناس وبقى في القرن العشرين حوالي 10% من العرب المسيحيين من الروم الأرثودوكس خاصة وهم يقولون بانتمائهم الى العرب النصارى لفترة ما قبل الإسلام. لكن التعريب اللغوي والثقافي كان كاملاً.

ولقد شهدت العصور اللاحقة كذلك تحركات كبرى للسكان وخاصة مع الحروب الصليبية والاستيطان المنتظم للبدو القادمين من شبه الجزيرة العربية حتى بداية القرن التاسع عشر. ومن العسير معرفة ما إذا كانت قد وجدت استمرارية كاملة للإعمار منذ العصور القديمة لكن المؤكد هو أن الاعياد الاسلامية المحلية الكبرى هي إجلال أنبياء اليهودية الاقدمين مثل موسى وأن اورشليم (القدس) قد أصبحت ثالث مدينة مقدسة في الاسلام الى حد أنها فقدت اسمها الاصلي وصارت تسمى القدس بالمعنى الصحيح. وإن وجود هذا التذكير الدائم في الثقافة الشعبية بالعصور البابلية عبر الرؤية الاسلامية للأحداث يمكن ان يفسر إما بوجود الأماكن المقدسة للديانات الموحدة الثلاثة وإما باستمرارية التقاليد والشعائر عبر ألفي سنة وعبر تغييرين دينيين اثنين.

كانت فلسطين في العصر العثماني جزءاً من بلاد الشام التي كانت تكون جزءها الجنوبي ولم تكن غير تعبير جغرافي أبقى عليه الجغرافيون الغربيون ولم تكن حدودها دقيقة. وكما هو الشأن بالنسبة للفظ سوريا ظهر لفظ فلسطين من جديد في اللغة العربية في القرن التاسع عشر تحت تأثير الغرب ثم إن الظروف السياسية بدأت تبرز كياناً فلسطينياً حقيقياً فكانت دائرة دمشق الإدارية الممتدة حتى البحر الاحمر على طول غور الاردن ترسم حداً شرقياً لها. كما كان إقليم جبل لبنان المستقل ذاتياً ومقاطعة بيروت الساحلية ترسم حدها الشمالي وفي سنة 1907 كرست الحدود مع مصر دولياً. وقد أدت مسألة البقاع المقدسة بالعثمانيين الى جعل حاكم القدس وجنوب فلسطين تابعاً مباشرة لعاصمة الامبراطورية. وإن الإجلال المحلي للصالحين المسلمين وللنبي موسى لدليل على وجود شخصية مميزة.

أما على الصعيد الاقتصادي والسكاني فإن تاريخ فلسطين يظهر وجود حلقة سكانية خاصة مرتبطة بالعلاقات مع البدو. فإذا كانت السلطة ضعيفة كان البدو موجودين في كل مكان واضطهدوا المزارعين وحدوا من مناطق زراعة الحضر وأصبح السكان محدودين عدداً. وإذا كانت السلطة قوية طرد البدو أن وطنوا وامتدت المناطق المزروعة وأخذ السكان يتزايدون بسرعة. وهكذا جلب الفتح العثماني في القرن السادس عشر رخاءً كبيراً للمنطقة بينما كان لأزمة القرن السابع عشر تأثير كبير عليها. وكان النصف الثاني من القرن الثامن عشر فترة انتعاش اقتصادي صحب تصدير القطن والتبغ في اتجاه أوروبا ونمو ديموغرافيا (سكاني) كبير. ثم إن مرور الفرنسيين سنة 1799 وانخرام النظام السياسي الذي تبع ذلك قد ألغيا السيطرة على البدو، لذلك كانت فترة جمود استمرت طيلة النصف الاول من القرن التاسع عشر. ولم يتمكن العثمانيون الا حوالي 1850 من استعادة النظام العام وكبح الرحل واستقر عدد السكان في خمسينيات القرن الماضي وبداية الستينيات حوالي 350.000 ساكن منهم 30% في مناطق التجمعات الحضرية. وكان التنويع الطائفي كالتالي: 85% من المسلمين و11% من المسيحيين و4% من اليهود. ولقد كان لتعزيز السلطة العثمانية منذ منتصف الستينيات والاندماج الاقتصادي المتزايد في السوق العالمية بفضل توسيع زراعة الحمضيات أن أحدثا نمو سكانياً حدت منه الحروب البلقانية لسنوات 1876 ـ 1878 التي يقال انها تسببت في مقتل اكثر من 10.000 جندي من اصيلي فلسطين. ولعل سكان فلسطين حوالي سنة 1882 كانوا 470.000 دون تغيير يذكر لا في التركيبة الطائفية ولا في التوزيع بين المدن والريف. ومكن هذا النمو السكاني النشط من إعادة زراعة أراض جديدة في فترة وصول أوائل المستوطنين الصهاينة.

أصول الصهيونية:

إن الديانة اليهودية حسبما هي مطبقة في الشتات ما تنفك في طقوسها ومختلف ممارساتها تذكر الارض الموعودة المذكورة في الكتاب المقدس. وكانت الأعياد الدينية التي كانت تتبع في الغالب التقويم الزراعي للأرض المقدسة وكذلك الصلوات والقانون الديني تذكر اليهودي المطبق طقوس دينه بذكرى الارض التي منحها الرب للشعب المختار. واصبح حائط المبكى الأثر الوحيد الباقي من معبد أورشليم مكاناً مقدساً يحج إليه.

ولقد وجدت دوريا حركات (صعود) نحو القدس من قبل يهود يرغبون في قضاء السنوات الاخيرة من حياتهم في هذه الارض التي تكرسها ديانتهم. وفي القرن السادس عشر سمحت السلطات العثمانية ليهود لاجئين طردهم ملوك إسبانيا المسيحيين بالاستقرار بالجليل. كل هذه العناصر مكنت من ظهور سكان يهود من جديد خاصة بالقدس والجليل، بلغت نسبتهم 4% تقريباً من مجموع السكان، وشكل هؤلاء لساكن البيشوف القديم او استقرار. وكان هذا الاستقرار دينياً خاصة وكان في القرن الماضي يعيش خاصة من المساعدة المالية التي يمنحها إياهم بنو دينهم في الشتات.

وفي القرنين السابع عشر والثامن عشر بأوروبا الشرقية والوسطى قامت حركات دينية يهودية تدعو الى العودة الى فلسطين تحت إمرة قادة كانوا يقولون بأنهم مرسلون من عند الله، غير أن هذه الحركات قد فشلت ومن المفارقات انتها انتهت في الغالب الى اعتناق مؤسسيها الاسلام او الكاثوليكية. لذلك كانت السلطات الدينية اليهودية التقليدية تعارض معارضة تامة ـ منذئذ ـ أي فكرة عودة جماعية وقالت ان ذلك سيكون من عمل المسيح الذي سيرسله الرب لا من عمل الناس. ولما بدأ تحرر اليهود بفضل الثورة الفرنسية حرمت السلطات الدينية الهجرة الى الارض المقدسة وهي سلطات كانت حريصة قبل كل شيء على احترام الشريعة اليهودية احتراماً دقيقاً.

وكانت فكرة العودة هذه ينادي بها البروتستنت الانجلوسكسونيون الذين كانوا يفسرون بعض آيات سفر (رؤيا القديس يوحنا) بأن تحقق النبوءات ـ أي يوم القيامات ـ لا يمكن ان يتم الا إذا اجتمع مجموع الشعب اليهودي بالأرض المقدسة ليدخلوا المسيحية قاطبة، وكانت حركة الفكر هذه المسماة حالياً بالصهيونية المسيحية شديدة النفوذ في الدوائر الحاكمة الانجليزية والامريكية في القرن التاسع عشر.

إن الانعتاق الممارس حسب صيغة الثورة الفرنسية والمتمثل في منح كل شيء للأفراد ورفض كل شيء للجماعات قد قوض المؤسسات المستقلة التي كانت مناهضة لليهودية والفكرة الحرفية قد أبقت عليها. وفي أوروبا الغربية ـ حيث كانت نسبة اليهود ضعيفة نسبياً ـ مر التحرير سريعاً نسبياً ودون حادث هام وسرعان ما شوهد سياسيون من أصل يهودي يلعبون دوراً سياسياً هاماً (في فرنسا منذ ملكية يوليو) ـ أما فكرة بعض صغار الثوريين الفرنسيين القائلة بتحرير قومي لليهود لا تحرير فردي فلم يكن لها أي صدى فعلي في تلك الحقبة.

لكن الوضع تغير في النصف الثاني من القرن التاسع عشر حيث واجه تحرر يهود أوروبا الشرقية مصاعب لا سبيل الى تخطيها خاصة في أقاليم إمبراطورية روسيا حيث كان اليهود مستقرين في المناطق الغربية وفي الدول البلقانية الناشئة من تفكك الدولة العثمانية. وهذا المجال الجغرافي هو فعلاً المجال الذي كان اليهود الأوروبيون (الأشكينازي) يشكلون فيه جزءاً هاماً من السكان. فقد رفضت الدول التخلي عن تشريع تمييزي، وساء وضع اليهود بدلاً من أن يتحن خاصة بعد عام 1880 بظهور مجازر (بوغروم) جرت بتواطؤ السلطات السلبي على الاقل.

ولقد عانى المجتمع اليهودي الذي كان في تحول كبير من استحالة ادماجه ومن تدهور الوضع المادي إذ كان هذا المجتمع قد عرف حركة تحديث وعلمنة تتعارض مع الاطارات الدينية حفظة الهوية اليهودية التقليديين. وكانت حلول كثيرة مطروحة للخروج من هذا الوضع، وكان الحل الذي اتبعته الجماهير أكثر من غيره هو الهجرة الى الغرب في اتجاه القارة الامريكية وكذلك بلدان أوروبا الغربية وهذا الحل أحدث خلخلة في الجاليات اليهودية المتحررين بتلك البلدان بسبب التفاوت الثقافي والاجتماعي واللغوي بين المهاجرين الجدد وبين المتحررين.

ولقد خلق ميلاد تيار المناهضة للسامية المسألة اليهودية ودأب علماء اللغة والسلالات منذ بداية القرن التاسع عشر على تحليل السكان وتصنيفهم في مجموعات بشرية تسمى أعراقاً: الآريون، الساميون، الطورانيون الخ.. وفي تصور العلماء، كانت الاعراق في الواقع ما يعبر عنه اليوم بالمجموعات الثقافية التي تلعب دورها في تطور البشرية مسهمة بعنصر أو بآخر هام. وفي إطار التفوق الغربي المتميز بالغزو الاستعماري ظهر السكان الأوروبيون المسمون بالآريين بأنهم العنصر القائد للبشرية، وكان المناهضون للسياسة يعرفون اليهود بأنهم الساميون فعلاً، وبالتالي بأنهم خارجيو المنشأ وبانهم خطرون في أوروبا. وأيا كانت رغبة الادماج (او الاندماج) بل وبسبب هذا الاندماج ذاته الذي جعل صعوبة التعرف عليهم بصفتهم تلك تزايد ينبغي محاربتهم. وليس بإمكان أي كان أن يهرب من هويته العرقية. وصارت مناهضة السامية عنصراً مكوناً من عناصر القومية المنتصرة في أوروبا. وهذه القومية ليست قومية الثورة الفرنسية. فالقوم أو الأمة عند الثوريين الفرنسيين هي مصدر أية شرعية. والتاريخ الذي أسسها ثانوي بالنسبة للفكرة الرئيسية التي حددتها، وهي الرغبة في العيش معاً في اطار مؤسسات مشتركة. وعند القوميين، الامة هي قبل كل شيء أمر بيولوجي، وهي كذلك الرسوخ في الأرض. وهي حقيقة شبه عرفية لا يمكنها قبول اندماج عناصر أجنبية تحط حتماً من قدرها بالمخالطات، وأصبحت مناهضة السامية واقعاً متنامي الوجود في أوروبا الغربية مثلما تظهره قضية دريفوس. وبما اننا هنا في دول حقوق مؤسسة على المساواة القضائية فإن هذه المعاداة لا يمكنها ان تترجم الى تشريع تمييزي بل ان هذه العنصرية تظل قضية تصرف فردي وقضية رأي وعمل سياسي ولكنها ليس لها تجسيد قانوني.

وكان رد الفعل الثاني هو الخيار الثوري في اطار الاشتراكية الماركسية التي هيمنت على نهاية القرن التاسع عشر. ولئن كان بإمكان النضالية الثورية ان تكون دامجة بالنسبة لأقلية صغيرة في أحزاب إطارات مثل الحزب البلشفي، فإن السعي الى الاقتراب من البروليتاريا العمالية أدى الى بروز تنظيمات يهودية اشتراكية تستهدف الطبقة العمالية اليهودية. وكانت العنصرية الاجتماعية في الامبراطورية الروسية قد بلغت الى حد أن جزءاً كبيراً من العمال اليهود كانوا لا يعملون إلا في منشآت تستخدم عمالة يهودية فقط.

وكان رد الفعل الثالث يخص أقلية ضئيلة هي الصهيونية. وكانت خاصة حركة علمانية نشأت رداً على مناهضة السامية. وكانت الأطروحات الصهيونية تبدو منطقياً كما لو كانت الحل الوحيد لما يسمى بالمسألة اليهودية إذ أن الاندماج في أوروبا الشرقية كان مستحيلاً بسبب موقف المجتمع المحلي كما أن الذوبان في أوروبا الغربية أو في أمريكا الشمالية خديعة، لأن مناهضة السامية متزايدة برغم كل جهود الاندماج. والخيار الثوري مأزق إذ لا شيء يدل على ان مناهضة السامية لن تعود الى الظهور بعد الثورة وأن هذا الخيار لا يمكنه في العاجل إلا ان يجلب المزيد من الاضطهاد فقد اضاف اعداء السامية الى صورة اليهودي الرأسمالي المستغل صورة اليهودي المثقف الثوري المخرب، فينبغي إذن تحقيق الانعتاق الذاتي لليهود في اطار قومي وينبغي الافضاء الى نفس النتيجة التي تم بلوغها في الاندماج، أي الى ظهور رجل عصري متخلص من الاثقال خاصة الاثقال الدينية وأثقال الماضي ولكن على أن يكون ذلك هذه المرة في جماعة قومية يهودية لها قاعدة أرضية. ولم يكن بوسع الصهيونية الحركة القومية الاوروبية أن تفكر في الكمال القومي الا في علاقة بدم وبأرض ولا يمكنها أن تفضي الا الى مشروع دولة. وكانت إرادة الحركة هي الغاء كل عصور الشتات والعودة الى ارض اليهود الوحيدة التي هي الارض الموعودة مثلما يشار اليها في الكتاب المقدس. ولم يكن للصهيونية مرتكز ديني بالعكس فهي لا ترى في النص المقدس الا الذاكرة التاريخية للشعب اليهودي، وأن تكوين جماعة جديدة ترابية ستجعل الشعب اليهودي شعباً عادياً لن يكون غير أمة عادية لها دولتها في عالم الدول الأمم.

اليهود والعرب في فلسطين (1880 ـ 1945):

لئن استطاعت بعض الشخصيات اقتراح تأسيس دولة يهودية في فلسطين عبر القرن التاسع عشر فإن الصهيونية بصفتها تلك لم تظهر الا في ثمانينيات القرن التاسع عشر في الفترة التي حدثت فيها المجازر ضد اليهودية في روسيا بينما تأكدت مناهضة السامية في أوروبا الغربية تياراً مهما في الرأي العام. كانت الحركة الصهيونية الأولى ضعيفة التنظيم إذ كانت مجموعة لجان موزعة في روسيا متجمعة تحت اسم (عشاق صهيون). وكان هدفها تنظيم الهجرة اليهودية الى فلسطين العثمانية.

وهذه (العالية) الأولى (الصعود نحو الارض المقدسة) كانت فشلاً نسبياً فهي لم تهم غير بضعة آلاف من الأفراد ولم تتمكن من تكوين وحدات اقتصادية يهودية مكتفية ذاتياً في فلسطين. وكانت المستوطنات اليهودية خاضعة من اجل بقائها للإعانات التي يرسلها المحسنون اليهود الذين كانوا يعتبرون عملهم هذا عملاً إنسانياً أكثر منه سياسياً.

إلا أن الأمور تغيرت في نهاية التسعينيات مع عمل ثيودور هيرتزل مؤسس الصهيونية الفعلي. كان هيرتزل صحفياً يهودياً نمساوياً شهيراً وكان أنموذج اليهودي المندمج بأوروبا الغربية. ولدق أدرك أثناء تغطيته قضية دريفوس بفرنسا ان مناهضة السامية قوة ثابتة لا يمكنها الا ان تتطور بتنامي الهجرة اليهودية الى الغرب. ولقد عرض نظريته هذه في كتابه: (الدولة اليهودية) الذي نشر سنة 1896: (إن المسألة اليهودية موجودة ولا جدوى من اخفاتها وهي تظهر مثل قطعة من العصور الوسيطة تاهت في زماننا ولم تستطع الشعوب المتحضرة حتى يومنا هذا القضاء عليها رغم حسن نواياها. إن المسألة اليهودية مطروحة حيثما وجد اليهود في أعداد كبيرة. وحيثما هي غير موجودة فإن المهاجرين اليهود يستوردونها معهم. ونكن، بفعل ميل طبيعي، نذهب للعيش حيث لا يتم اضطهادنا، غير ان الاضطهاد يصبح نتيجة مباشرة. لمجيئنا. تلك ملاحظة لا تقبل الدحض. وتبقى حقيقة حيثما ذهبنا، وحتى في البلدان ذات المستوى الحضاري الراقي ـ وفرنسا دليل على ذلك ـ مالم تسو المسألة اليهودية تسوية سياسية)[1] .

وما دامت الهجرة حلا كاذباً وان حياة اليهود في أوروبا الشرقية تزداد صعوبة كل يوم فان الحل الوحيد هو تأسيس دولة يهودية في فلسطين. وإثر نشر كتابه، أسس هيرتزل المنظمة الصهيونية العالمية التي عقدت مؤتمرها الاول سنة 1897. وفي تلك المناسبة تم التصويت على البرنامج الصهيوني الأول:

(تهدف الصهيونية الى الحصول للشعب اليهودي على تكوين مقر معترف به ويكفله الحق العام بفلسطين. ولبلوغ هذه الغاية ينوي المؤتمر استخدام الوسائل التالية:

(1) تشجيع مبدأ استعمار فلسطين من قبل الزراع والحرفيين والعمال اليهود.

(2) تنظيم جميع اليهود وتوحيدهم في جمعيات محلية وعامة وفق قوانين مختلف البلدان.

(3) توكيد الهوية والشعور القوميين اليهوديين.

(4) مساع بغرض الحصول من الحكومات على الاتفاق الذي سيكون ضرورياً للتمكين من تحقيق أهداف الصهيونية)[2] .

وهذا البرنامج في حد ذاته حل وسط باستعمال لفظ (بيت) أو مقر بدلاً من (دولة) حتى لا يثير مخاوف الدولة العثمانية وحل وسط بالمساواة بين المساعي الدولية وبين الاستقرار في الأرض. والواقع ان هيرتزل كان نصيراً للصهيونية السياسية وهي برنامج ينص على العمل فقط لدى الدول العظمى للحصول على (ميثاق) يضمن حقوق اليهود بفلسطين. وكان معارضاً للصهيونية العملية الساعية قبل كل شيء الى تطوير الوجود اليهودي بفلسطين، فهو كان يرى ان ذلك لا يجدي فتيلاً ما دام الاستيطان اليهودي يظل خاضعاً لإرادة العثمانيين الذين قد يلغونه في أية لحظة.

ولقد بقى هيرتزل حتى موته سنة 1904 يدافع عن صهيونيته السياسية لدى السلطات العثمانية والروسية والالمانية والانجليزية. وكان يلوح باستمرار بأسطورة قوة اليهود الخفية مستعملاً بذلك احد مضامين المعادين للسامية ليوهم بأن حركته لها وسائل هامة ولم يكن ذلك حقيقياً. وكان يلفت الانتباه الى وضع يهود روسيا الذي يتسارع سيره نحو الكارثة والى ضرورة اعادة توطينهم بفلسطين، وكانت الحجة الانسانية مصحوبة بترديد أهم مضامين الفكر الاستعماري الاوروبي، فالبيت اليهودي بفلسطين سيكون موقعاً متقدماً للحضارة في ذلك العالم المتأخر والبربري الذي هو الإمبراطورية العثمانية. وكان أول من طرح مسألة فلسطين أمام الرأي اعلام الغربي.

ورغم معارضة هيرتزل، كان دعاة الصهيونية العملية يقومون بالاعداد لهجرة اليهود الى الأرض المقدسة. وبعد موته اصبح لهم هامش مناورة أكبر واستطاعوا تحقيق برنامجهم. ولقد قدمت (العالية) الثانية ـ ولعدة عقود ـ اطارات البيشوف ثم اطارات دولة اسرائيل. وكان دعاة الصهيونية العملية يريدون تحطيم قوالب المناهضة للسامية التي استنبطوها تقريباً وهي صورة اليهود ساكن المدينة الطفيلي المريض جسمياً والجبان وتقديم رجل جديد مزارع خاصة وشغيل مسمرّ بلفح الشمس ومقاتل. فالصهيونية التي كانت برنامج (خلاص) بالعمل كانت تعرف نفسها بأنها رفض عالم الشتات. وهي فكرة قومية، لذلك طورت استعمال اللغة العبرية دون سواها وكانت هذه لا تستعمل منذ آلاف السنين إلا في الاعمال الدينية. واستعمالها هذا يتم على حساب اللغات التي يتكلمها اليهود في الشتات. وبما أن الهجرة جاءت من روسيا خاصة فقد أصبحت الافكار الاشتراكية مسيطرة. وكانت الهياكل الجديدة تتجه نحو الاستغلال الجماعي حيث يمنع استعمال النفوذ وذلك ما أفضى الى بلورة ما اصبح عشية الحرب العالمية الاولى الكيبوتس. الا ان المزارعين اليهود كانوا لا يمثلون الا سبع سكان فلسطين اليهود عام 1914. وبالاضافة الى الدوافع الايديولوجية كانت الحاجة الى التكتل في وجه مجتمع معاد وللاستفادة بالوجه الامثل من الموارد المالية الضئيلة تدفع الى تكوين أشكال من الملكية الجماعية.

بقيت الصهيونية حركة أقلية تماماً في العالم اليهودي. وكانت ميزانية المنظمة الصهيونية المكونة من اسهام المشاركين أقل بكثير من النفقات الانسانية للجاليات اليهودية باوروبا الغربية وأمريكا الشمالية. كان مجموع الهجرة اليهودية من أوروبا الوسطى للفترة ما بين 1901 الى 1914 قد بلغ 1.600.000 مهاجر منهم 90% في اتجاه امريكا الشمالية و8% نحو بلدان أخرى و2% نحو فلسطين[3] . فالتأثير الفعلي للصهيونية قبل عام 1914 كان ضعيفاً. وكان البيشوف القديم والجديد بفلسطين عشية الحرب العالمية الاولى يمثل 85.000 شخص مقابل 650.000 عربي بين مسلم ومسيحي (فالسكان العرب قد زادوا بواقع 200.000 منذ بداية الثمانينيات).

وكانت الهجرة كافية لإثارة قلق السكان العرب خاصة بعد 1908 تاريخ ثورة تركيا الفتاة التي سمحت بتطوير حياة سياسية مكثفة. ولقد أدرك الاعيان الفلسطينيون رؤساء السكان الطبيعيين فعلاً أن للصهيونية إرادة لتأسيس دولة وليست مجرد إرادة إقامة ملجأ. ورأوا ان هذا المشروع لا يمكن ان يكون الا باطراح عرب فلسطين. ولم تلبث المصادمات ان وقعت لاسباب المجاورة (كالخصومات بين المزارعين المستقربين وبني مربي الأنعام) ولاسباب سياسية. وفي أواخر سنوات الدولة العثمانية أصبحت معارضة الصهيونية مضمون تعبئة في العمل السياسي لبلاد الشام كاملة. وكان المستوطنون الصهاينة لا يصلون الى تحديد مكانهم على الساحة السياسية المحلية. وكانوا في غالبيتهم قد احتفظوا بجنسيتهم الاجنبية مستفيدين من الحماية القنصلية التي يمنحهم اياهم نظام الامتيازات وكانوا يترددون بين مساندة السلطات العثمانية المالكة للشرعية السياسية وبين تحالف ممكن مع الحركة الاستقلالية العربية التي كان بإمكانهم ان يضمنوا لها دعماً دولياً.

أثارت الحرب العالمية الأولى مسألة فلسطين مجدداً وقد أصيبت المنظمة الصهيونية العالمية بالشلل لتشتت اعضائها في كل البلدان المتحاربة، ولان إدارتها تبدو قريبة من الامبراطوريات الوسطى. ولقد حصلت على حماية المانيا لسكان فلسطين من اليهود في الوقت الذي كان العثمانيون يفكرون في طردهم منها لقربهم الجغرافي الشديد من مناطق القتال. ولم يكن بوسع الالمان ان يفعلوا اكثر من ذلك بسبب تحالفهم مع العثمانيين.

وعلى العكس من ذلك، استطاعت مجموعة من الصهاينة المستقرين بانجلترا ـ والتي لم يكلفها احد وكانت بقيادة الكيماوي الشهير حاييم وايزمان ـ العمل بفاعلية أكبر. كان للإنجليز المتأثرين بتربيتهم البروتستنتية تعاطف كبير مع الأفكار الصهيونية. وكان عليهم سنة 1919 مواجهة الثورة الروسية ودخول الولايات المتحدة الحرب. وكان يقدر أن الرأي العام اليهودي في هذين البلدين يلعب دوراً عظيماً. ولم تكن المسألة الفلسطينية قد سويت إذ كان الفرنسيون يبدون مجامع في الشام كلها وأن الحل المنصوص عليه في اتفاقيات سايكس بيكو (تدويل تضمنه روسيا) لم يعد قائماً بعد انهيار القيصرية. وكان على البريطانيين ان يجدوا وسيلة لتبرير وجودهم بفلسطين بعد الحرب واللازم للدفاع عن قناة السويس. والمشكلة تزداد تعقيداً بعد التخلي رسمياً عن أشكال الامبريالية التقليدية (الاستعمار الحماية مناطق النفوذ) وأنه ينبغي الآن تقديم ذرائع انسانية في سياق منطق ولسن. وبدا دعم الصهيونية كأحسن حل لأن التوراتية البروتستنتية تتفق فيه مع مصالح بريطانيا العظمى الإمبريالية وحق الشعوب في تقرير مصيرها. وجاء تصريح بلفور يوم 2 نوفمبر 1917 ليرسم آراء بريطانيا الجديدة حول مستقبل فلسطين (إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعطف لإقامة بيت قومي للشعب اليهودي بفلسطين وستستعمل كل جهدها لتسهيل تحقيق هذا الهدف ومن المفهوم بشكل جلي أنه لن يتم أي شيء يمنكه المساس بالحقوق المدنية والدينية للجماعات غير اليهودية الموجودة بفلسطين ولا بالحقوق والأوضاع السياسية التي يتمتع بها اليهود في أي بلد آخر.)

إن الإعلان يعطي الحركة الصهيونية التي أصبح رئيسها وايزمان ذلك الميثاق الدولي الذي طالما أمله هيرتزل. بقى تحديد أهداف الصهيونية بشكل رسمي. فكان البرنامج الغامض الذي أعلنه وايزمان امام (مجلس العشرة) بمؤتمر السلام بفرساي يوم 27 فبراير 1919.

(إننا لا نطلب حكومة يهودية خالصة إننا نطلب ان تقوم بالبلاد تحت حكومة المنطقة، ظروف معينة وإدارة بشكل يمكننا من إرسال مهاجرين الى فلسطين ويمكن ان يكون عدد هؤلاء سبعين ألفاً أو ثمانين الفاً في السنة. وسنجتهد في تأسيس مدارس تدرس فيها اللغة العبرية وسنبني تدريجياً أمة تكون يهودية بقدر ما فرنسا فرنسية وبريطانيا بريطانية).

(وعندما تكون هذه القومية أغلبية السكان عندئذ تأتي اللحظة التي نطالب فيها بحكم هذه البلاد.[4]

وأعلن الفلسطينيون منذ 1920 في سلسلة من المؤتمرات والملتقيات معارضتهم التامة للمشروع الصهيوني. مثل هذه اللائحة التي حررها أعيان القدس المسيحيون والمسلمون في فبراير 1920 رداً على نص وايزمان. (كيف يمكن السماح لليهود (اللذين لا يمثلون حتى 7% من السكان والذين لا تمثل املاكهم حتى جزء من ألف جزء من الأراضي والعقارات بالبلاد) أن يصبحوا سادة فلسطين دون أن يكون لهم حق فيها.

أما حقوقها فيها فهي من اوضح ما يكون. فهي مثل حقوق الانجليز في إنجلترا وحقوق الفرنسيين في فرنسا[5]

ومنذ 1920 قامت مظاهرات عنيفة إعراباً عن معارضة العرب الفلسطينيين للانجليز والصهاينة. غير ان الحالة هدأت في السنوات التالية بسب ضعف الهجرة اليهودية برغم عدم وجود قيود تحد منها وبرغم غلق الولايات المتحدة الباب أمام الهجرات الاوروبية الجماعية. وجدول الهجرة اليهودية الى فلسطين صريح بالخصوص:

وفي هذه السنوات تكونت المؤسسات الصهيونية الرئيسية. فضلاً عن المنظمة الصهيونية العالمية التي تواصل تمركزها في الشتات، كانت الوكالة اليهودية في فلسطين مكلفة بإدارة مصالح البيشوف المادية وبتمثيله لدى

1920 (سبتمبر ـ ديسمبر) 1921 1922 1923 1924 1925 1926 1927 1928 1929 1930 1931 1932

5144 9149 7844 7421 128526 33801 13081 2713 2178 5249 4944 4075 9553

1933 1934 1953 1936 1937 1938 1939 1940 1941 1942 1943 1944

30327 42459 61854 29727 10536 12868 16405 4.547 3647 2194 8507 14464

السلطات البريطانية. والى جوارها تقع الهستدروت أو الاتحادية العامة للعمال اليهود التي كانت تلعب دوراً عظيماً في الاقتصاد والمجتمع بمراقبتها لعدد من المنشآت والمزارع الجماعية فضلاً عن الدفاع عن منخرطيها. وكل تلك المنشآة الحضرية والريفية كانت مقامة على مبدأ العمل اليهودي دون سواه وعلى رفض أي مؤسسة مشتركة مع السكان العرب. وحيث إن الملكية كانت جماعية في أغلب الحالات فإن شراء الاملاك العربية لارجعة فيه ولا يتم أي بيع في الاتجاه المعاكس. والمنطق هو منطق لعبة مجموعها صفر حيث كل تقدم يهودي لا يتم إلا على حساب المصالح العربية. ولقد سيطر الاشتراكيون بقيادة بن غريون تدريجياً على المؤسسات الصهيونية. واكتملت العملية في الثلاثينيات عندما اصبح بن غريون والاشتراكيون يسيطرون على المنظمة الصهيونية العالمية على حساب وايزمان.

في ذلك التاريخ أصبحت الصهيونية حركة رئيسية في العالم اليهودي فتصاعد التعصب في أوروبا الشرقية وصعد انتصار النازية في ألمانيا وضع وجود اليهود بأوربا في خطر ولم تعارض القوى الغربية ذلك ورفضت استقبال اليهود المضطهدين والذين كانوا عرضة للموت فقد كانت المنظمات القومية والمناهضة للأجانب، مثلما كان الشأن بفرنسا، تتهم الضحايا المساكين بأنهم مثيروا حروب. وبينما كانت أخطار الافناء الجماعي تتضح انغلقت مختلف بلدان العالم أمام هجرة اليهود. وأصبحت فلسطين ملاذاً ليس اختيارياً بقدر ما كان اضطرارياً واستفادت المنظمات الصهيونية من الوضع للإسراع بتهجير اليهود (انظر الجدول) وتعاونت مع السلطات النازية لتنظيم نقل السكان ذلك، اما العرب الفلسطينيون فما كان يشكل تهديداً بعيداً قد أصبح حقيقة خطيرة رغم ان السلطات الصهيونية بسبب ميزان القوة منذ العشرينيات لم تعد تشير رسمياً الى تأسيس دولة يهودية في مستقبل قريب فكانت لا تتحدث عنها بالمرة في الوقت ذاته الذي كانت دائمة التفكير فيها.

وقد أدى انتصار الاشتراكيين سنة 1935 الى ظهور انقسام في الحركة الصهيونية. فكان اليمين الرافض مماطلة الصهيونية الرسمية التي لم تعد تبدو في نظره ملائمة مع تصاعد الاضطهادات في أوروبا الشرقية والوسطى ورفض بلدان العالم الاخرى قبول هجرة اللاجئين اليهود، كان هذا اليمين يدافع عن فكرة تأسيس دولة يهودية في الحال فوق أراضي فلسطين التي كانت تحت الانتداب ودمج شرقي الاردن فيها، وينبغي إقامة (جدار حديدي) بين اليهود والعرب الذين ينبغي طردهم وترحيلهم. واتخذت هذه الحركة اسم (الصهيونية المعدلة)، وبعد موت مؤسسها فلاديمير جابوتنسكي تجسدت هذه الحركة في الارغون التي اصبح مناحيم بيغن رئيسها منذ الحرب العالمية الثانية وفي مجموعة منشقة الليهي أ, مجموعة شتيرن التي كان احد قادتها اسحاق شامير.

كانت سنوات العشرينيات هادئة نسبياً بسبب ضعف الهجرة اليهودية، باستثناء مظاهرات 1929 العنيفة انطلاقاً من القدس وكانت نتيجة الصراع من اجل السيطرة على حائط المبكى المكان المقدس اليهودي الذي أدخل في البقاع المقدسة الاسلامية والذي كان ملكاً للسلطات الدينية المسلمة. وكان المسلمون يخشون من نية اليهود في الاستيلاء على كل جبل المعبد ورفضوا أي تعديل للوضع القائم.

والهدوء يفسر كذلك ببروز قائد معترف به من قبل الفلسطينيين العرب هو مفتي القدس الحاج أمين الحسيني. وكان هذا سليل أسرة من أعيان القدس تولت الافتاء منذ قرون وقد اشترك في مملكة فيصل العربية بدمشق عام 1920 ثم لعب دوراً هاماً في انتفاضات 1920 ومع ذلك تركه الانجليز يتولى الافتاء، آملين تعاونه معهم في الحفاظ على النظام. وتبين ان الحساب مفيد لمدة طويلة فقد كرس المفتي السنوات الاولى من وظيفته لتوطيد مكانته بين الطائفة العربية وللبحث عن حل وسط مع الانجليز ويبدو أنه لم يكن المسئول عن انتفاضات 1929 وانه على العكس من ذلك كان قد أراد تهدئتها. وأدرك في الثلاثينيات أن الانجليز لن يلبوا طلبات العرب في فترة زادت فيها الهجرة اليهودية زيادة كبرى وتجذر الرأي العام العربي. وهو لا يبدو المخطط للثورة الفلسطينية الكبرى التي بدأت سنة 1936 لكنه سرعان ما تزعمها. وكان القمع شديداً واعتمد الانجليز على الهجانة، قوات الدفاع الذاتي اليهودي. وهي منبثقة عن الصهيونية الرسمية. وظن الإنجليز أنهم سيصلون الى حل باقتراح تقسيم لفلسطين يكون للعرب فيه القسط الأوفر من فلسطين. ورفض الفلسطينيون ما يعتبرونه اقتطاعاً لا مبرر له من أرضهم وزاد عنف الثورة تأججاً. واغتيل المتعاونون مع الانجليز بينما غادرت أعداد كبيرة من الطبقات الغنية فلسطين في انتظار عودة الهدوء.

وتم اعتقال العديد من القادة العرب واضطر المفتي الى الهجرة وتوقفت حركة الثورة تلك سنة 1939 بسبب إنهاك السكان الذين فقدوا الآلاف من الاشخاص في القمع والصراعات الداخلية وبسبب التنازلات التي اقترحها البريطانيون في الكتاب الابيض عام 1939. وكان هذا الكتاب الذي تفاوض فيه الانجليز أصحاب الوصاية مباشرة مع الدول العربية لا مع الفلسطينيين يحدد هجرة اليهود بـ75.000 لمدة خمس سنين ويمنع بيع العقارات بين العرب واليهود ويعد باستقلال فلسطين الموحدة بعد عشر سنين.

ظل المفتي متشدداً خاصة وأن العديد من أنصاره أعدمهم الانجليز بعد نشر الكتاب الابيض وحاول الانجليز إعدامه بالتعاون مع منظمة صهيونية واشترك القائد الفلسطيني في الثورة العراقية ضد بريطانيا العظمى وتمكن من الفرار أثناء الاحتلال البريطاني الثاني وبعد مغامرات لجأ الى المانيا النازية، وسعى الى الحصول على تصريح ألماني يضمن للعرب استقلالهم ورفض هتلر طويلاً مخافة تعريض تعاون نظام فيشي الفرنسي للخطر وهو النظام الذي احتفظ بالسيطرة على شمال افريقيا وكذلك تعاون إيطاليا الفاشية المهيمنة على ليبيا. ولما التزم هتلر بشكل صريح جاء التزامه متأخراً لان شمال افريقيا فقدت إثر الانزال الامريكي. ولم يكن من فائدة من المفتي الا انه حصل على تحالف مسلمي البلقان مع المحور. ولكن لجأ بعض القادة العرب الى الاستعانة بألمانيا النازية للحصول على تحرير بلادهم من السيطرة الفرنسية الانجليزية فينبغي ان نلاحظ أنه لم يقم تمرد عربي ضد بريطانيا بعد ربيع 1941 وأن سكان فلسطين العرب لم يتحركوا بالمرة برغم دعوة ألمانيا إياهم الى الثورة وعندهم تجربة 1936 ـ 1939. بل ان 8000 عربي فلسطيني قد انخرطوا في القوات البريطانية.

ولئن كان السكان العرب هادئين فإن السكان اليهود كانوا يتسببون في أكثر المشاكل للدولة المنتدبة. فقد كان مذهب بن غريون هو الحرب كما لو لم يوجد الكتاب الابيض ومحاربة الكتاب الابيض كما لو كان لا وجود للحرب. وهكذا انخرط 30.000 يهودي من يهود البيشوف في الجيوش الحليفة وذلك ما أعطاهم خبرة عسكرية وفي الاثناء كانت الهجانة تقوم بتنظيم الهجرة اليهودية السرية التي لم تتم دون مآس مثل غرق سفن كانت تنقل اللاجئين والمصادمات مع البحرية البريطانية. كان بن جوريون ووايزمان واثقين من أن القوة العظمى مستقبلاً هي الولايات المتحدة وركزا دعايتهما على هذا البلد وفي 12 مارس جعل بن غريون ممثلي المنظمات الصهيونية الامريكية المجتمعين بفندق بلتمور بنيويورك يقرون بالتوصية مبدأ تحويل فلسطين بعد الحرب الى كومنولث يهودي وهو لفظ فيه لبس إذ يمكن ان يعني دولة ذات سيادة كما يمكن ان يعني دومنيون بريطانيا او عضواً في اتحاد دول الشرق الاوسط. اما اليسار المتطرف ذو الميول الماركسية المابام المتمركز تمركزاً قوياً في الكيبوتسات فقد كان يرفض هذا البرنامج ومستمراً في الدعوة الى دولة ثنائية القومية عربية ويهودية حلاً مستقبلاً.

فضلت المنظمات التعديلية المواجهة المباشرة مع الانجليز للحصول على استقلال البيت القومي اليهودي بل ان مجموعة شتيرن بقيادة إسحاق شامير ذهبت الى حد محاولة الاتصال بألمانيا النازية لتقترح عليها تحالفاً ضد الانجليز مقابل ضمان استقلال الدولة اليهودية. ولم يستجب الألمان لتلك العروض. أما على عين المكان فكانت شتيرن تنظم عمليات اعتداء على القوات البريطانية المرابطة بفلسطين وفي بداية 1944 التحقت الارغون بشتيرن في هذه العمليات (الارهابية) وكانت أكبر عملية مذهلة هي اغتيال اللورد موين بالقاهرة يوم 6 نوفمبر 1944 وكان هذا الوزير المقيم البريطاني بالشرق الاوسط وصديق تشرشل الشخصي. وتولى، هذه المرة، بن غريون القلق من الآثار السلبية لتلك العمليات وأمر الهجانة بالتعاون مع الانجليز ضد التعديليين وهو ما قامت به بفعالية أثناء (الموسم) من نوفمبر 1944 الى مايو 1945. لذلك نشأت العداوة الراسخة بين هاتين النزعتين الصهيونيتين.

كانت فلسطين سنة 1945 يسكنها حوالي 550.000 يهودي و1.240.000 عربي. ولكن أرقام الوضع العقاري كانت أكثر تعبيراً فالأراضي التي حصل عليها الصهاينة تبلغ في تقديرات الانجليز 12.75% من الاراضي الزراعية و5.67% من أراضي فلسطين. وكانت أوائل المستوطنات اليهودية قد قامت في فجوات الوجود البشري العربي قرب المناطق الساحلية. ومنذ بداية الثلاثينيات كانت المستوطنات الجديدة تستجيب لاسباب استراتيجية لا اقتصادية إذ كان الامر يتعلق بحصر التراب الفلسطيني في شبكة من المستعمرات تسمح بالسيطرة على البلاد وتبرير المطالبات الترابية إذا ما عادت فكرة التقسيم الى الظهور.

الصراع من أجل فلسطين

1945-1947

التدخل الأمريكي:

كان حزب العمال الانجليزي، عندما يكون خارج السلطة، غالباً ما يظهر تعاطفاً مع الحركة الصهيونية غير أن وزير الشئون الخارجية أرنست بيفن لم يلبث أن ادرك ما للمسألة الفلسطينية من تعقيد. وبعد استشارة الخبراء قرر الابقاء على سياسة الكتاب الابيض لعام 1939 إذا أن فلسطين ستصبح المكان الوحيد لحشد الاحتياطيات العسكرية البريطانية في الشرق الاوسط الذي يهدده، على ما يبدو التوسع السوفييتي، هذا في حالة إجلاء قاعدة قناة السويس ولنفس هذا السبب ينبغي، استرضاء الدول العربية وعدم التنازل امام المطالب الصهيونية ـ لكن بريطانيا في حاجة متزايدة للقروض الامريكية على الأقل لضمان مجرد غذاء سكانها اليومي. لذلك لم يعد بوسعها اتخاذ القرار وحدها مثلما كان الامر سنة 1939 بعد أن اصبحت تابعة.

ولقد دفعت الولايات المتحدة الى الاهتمام بالشرق الاوسط بسبب المسائل النفطية وبسبب مسئولياتها العالمية الجديدة. ويعود اتصالها الفعلي بالمنطقة الى 1945 حيث تحادث روزفلت لدى عودته من مالطا مع بن سعود وفاروق وتبادل الرسائل مع رؤساء الدول العربية. والتزم الرئيس الامريكي الذي كان حتى وقتئذ مناصراً علناً للصهيوينة بألا يقوم بأي عمل لمساعدة اليهود على العرب ولا بأي عمل معاد للعرب.

ولما تقلد ترومان السلطة أعلن انه سيواصل سياسة روزفلت لكن في شكل توفيق مشبوه بين تصريحات علنية مؤيدة للصهيونية وتأكيدات فردية للعرب بألا لايتم أي شيء دون مشاورتهم. ولقد كان الرئيس الجديد صادق التأثير للمشهد الرهيب لوضع الشعب اليهودي إثر كارثة الحرب العالمية الثانية وكان ترومان سياسياً غير معروف كثيراً قبل انتخابه وكان يواجه معارضة سياسية نشطة وكان في حاجة الى الاصوات اليهودية التي قد تكون حاسمة إذا كان ميزان القوى الانتخابية متكافئ وكانت وزارة الخارجية من جانبها تدفع الى سياسة استمالة الدول العربية بسبب مخاطر التوسع السوفييتي في الشرق الاوسط وضرورة الدفاع عن مصالح شركات النفط الامريكية، لكن يبقى أن العرب لا يصوتون في الولايات المتحدة حسبما قاله ترومان لبعض الدبلوماسيين الامريكان.

فمنذ يوليو 1945 طلب ترومان من الانجليز منح 100.000 شهادة هجرة الى فلسطين للأشخاص اليهود المرحلين بأوروبا. ورفض الانجليز الذين طلبوا من الامريكان المشاركة في المحافظة على النظام بفلسطين حتى يطلعوا على حقيقة المشاكل. ولم يستجب ترومان وجعل النقاش علنا في سبتمبر 1945 في إطار حملة انتخابات بلدية نيويورك. وانزعجت الدول العربية لعدم احرام الوعد بالمشاورة المسبقة. واقترح بيفن في اكتوبر تشكيل لجنة تحقيق انجليزية امريكية حول وضع اليهود بأوروبا. واغتنم ترومان فرص العرض ووسع من جال التحقيق الى امكانية الهجرة الى خارج اوروبا وخاصة في اتجاه فلسطين.

واستمرت تحقيقات اللجنة من يناير الى ابريل 1946 وتوصلت الى ضرورة الابقاء على الانتداب او على وصاية للأمم المتحدة على فلسطين ولكنها توصلت كذلك في ذات الوقت الى تفكيك اكبر جزء من قرارات الكتاب الابيض وكان التقرير غير مقبول من الطرفين. وعلى كل، الح ترومان في تصريح علني بتاريخ 30 أبريل 1946 على التسليم الفوري لـ100.000 شهادة هجرة وعلى إلغاء الكتاب الابيض. ورد الانجليز بأن على الامريكان المشاركة المالية والعسكرية لادارة الشئون الفلسطينية. واعلن بيفن يوم 12 يونيو 1946 بأن الحاح الحكومة الامريكية على حرية الهجرة الى فلسطين يرتكز على الرغبة في منع اليهود من الهجرة الى الولايات المتحدة. وهاجمت الصحافة الامريكية الوزير البريطاني واتهمته بمناهضته للسامية بينما أعلن ترومان رفض بلاده ادارة فلسطين لا وحدها ولا بمشاركة انجليزية وكان المأزق مستحكماً.

اقترح الانجليز في يوليو 1946 تقسيم فلسطين الى مقاطعات ذات حكم ذاتي وتبقى المصالح الجماعية من مشمولات الدولة المنتدبة (تقرير موريسن غرادي) وكان ترومان ميالا الى قبول المشروع الانجليزي لكن الصهاينة الامريكان مارسوا ضغوطاً قوية على الرئيس. وجمع بيفن مؤتمراً بلندن كلف بالتفاوض حول مستقبل فلسطين مع العرب والصهاينة واصطدم الانجليز برفض عروضهم من قبل الدول العربية وبدأوا في التفاوض مع الصهاينة لكن الرئيس ترومان يوم 4 أكتوبر 1946، (يوم العيد اليهودي كيبور) وقبل شهر من الانتخابات الامريكية للكونغرس، أدلى بتصريح مؤيد لتقسيم فلسطين بين العرب واليهود فنسف محاولات التوفيق البريطانية.

وفي فبراير 1957 قام بيفن بمحاولة أخيرة مبنية على حرية الهجرة اليهودية مقابل استقلال فلسطين الموحدة من اجل خمس سنين. وتقدم الصهاينة بمشروع لتقسيم فلسطين يعطيهم أ:بر جزء من البلاد وطالب العرب باستقلال فلسطين الموحدة فورياً.

ورغم معارضة المسئولين السياسيين الذين حذروا من الخطر الاستراتيجي المتمثل في التخلي عن فلسطين، قرر بيفن عرض تسوية الملف الفلسطيني على الامم المتحدة يوم 7 فبراير 1947.

الوضع بفلسطين:

منذ نهاية الحرب كان بن جوريون مقتنعاً بان الصراع ضد الانجليز وضد العرب فيما بعد أمر لا مرد له. وفي أكتوبر 1945 امر الهجانة بأن تدخل في عمليات تخريب على أن يبقى (الارهاب) خاصاً بشتيرن وبالإرغون رغم ان عمل مختلف المنظمات كان منسقاً على أعلى مستوى. ولوضع حد لهذه الهجمات التي كانت تضرب شبكات المواصلات خاصة الطرق وسكك الحديد ـ اضطر الانجليز الى زيادة قواتهم المرابطة بفلسطين من 50.000 سنة 1945 الى 80.000 سنة 1947. وكان المجهود مبالغاً فيه بالنسبة الى اقتصاد بريطاني انهكته الحرب وبالنسبة لبلد يرى ان الخطر يأتي من أوروبا مع بدايات الحرب الباردة فأصبح من غير المنطقي القيام بمجهود كهذا في الوقت الذي منحت فيه امبراطورية الهند الاستقلال دون اية مقاومة تذكر.

كان العسكريون الانجليز يردون على عمليات المنظمات اليهودية بعمليات تمشيط وتفتيش بحثاً عن الاسلحة. ووضعت مجموعة تشريعات استثنائية كانت قد طبقت ضد العرب بين 1936 و1939 منها الاعتقال دون محاكمة عدة اشهر لاشخاص يقدر أنهم خطرون على الأمن. وردت المؤسسات الصهيونية على الاجراءات الانجليزية بسياسة عدم التعاون مع السلطات ومنذ يونيو 1946 انسحب الهجانة من عمليات القتال واكتفت بتنظيم عمليات دعاية مثل قضية إغزودوس والهجرة السرية. ومكّن ذلك من العودة الى التفاوض بين الانجليز وبين المؤسسات الصهيونية الرسمية.

وواصلت المنظمات التعديلية العمل. فقامت الارغون يوم 22 يوليو 1946 بنسف جزء من فندق الملك داوود بالقدس الذي كان قد أصبح مقر القيادة العامة للجيش البريطاني متسببة في مقتل 92 شخصاً (وثمة جدال لمعرفة ان كان قد أعطى تحذيراً في الوقت المناسب أم لا) ونشأ مناخ كراهية حقيقي بين الجنود الانجليز والسكان اليهود وأصبح العنف واقعاً معاشاً، وحيث إن السلطات البريطانية قد حكمت بالموت على مناضلي الارغون الذين قتلوا جنوداً أو موظفين بريطانيين فقد ردت منظمة مناحيم بيغن باختطاف رهائن وبإعدام أسرى كما ارسلت طرود مفخخة في أوروبا وفي بريطانيا العظمى الى مؤسسات رسمية بريطانية.

كان فشل السياسية الانجليزية على عين المكان بيناً، وكانت مسئولية حفظ الامن تتعاظم باستمرار ولا تتناسب لا مع إمكانيات البريطانيين ولا مع مصالحهم. وذلك ما يفسر عرض الملف على الامم المتحدة.

كان عرب فلسطين منقسمين بين مؤيد ومعاد لمفتي فلسطين وكانت ذكرى عنف فترة 1936 ـ 1939 قد جعلت التصالح مستحيلاً. وفي عام 1945 كان المفتي ما يزال في أوروبا حيث احتفظ به الفرنسيون في إقامة جبرية وقد رفضوا طلب الانجليز تسليمه. وأعدت إرغون عملية فدائية لاغتياله لكنه تمكن من الهرب في مايو عام 1946 ولعل ذلك تم بتواطؤ السلطات الفرنسية التي رفعت كل الاجراءات الامنية، ولجأ الى مصر وأعاد السيطرة على منظمته (اللجنة العربية العليا).

وأكبت الجامعة العربية منذ تأسيسها على المسألة الفلسطينية وكانت ترى ان الكتاب الابيض لعام 1939 اجراء مرحلي نحو تأسيس دولة فلسطينية موحدة عربية في غالبيتها وكلفت موسى العلمي وكان شخصية محايدة وحائزة على احترام الجميع بتمثيل فلسطين. فاقترح السياسي الفلسطيني العملي مجموعة من اجراءات المساعدة تمكن السكان العرب من مواجهة التفوق الاقتصادي للمستعمرات اليهودية غير أن عودة الحسيني قضت على جهوده إذ اعترف به الناطق باسم الفلسطينيين في مؤتمر بلودان (بسوريا) في يونيو 1946.

لعبت الدول العربية خاصة دوراً في السياسة الدولية إذا كانت تضغط على الانجليز والامريكان. وفاجأهم تطور السياسة الامريكية في عهد ترومان فقد كانوا يثقون في الالتزامات التي تعهد بها روزفلت سنة 1945.

وطيلة المدة من 1945 الى 1947 بقى السكان العرب الفلسطينيون هادئين في وقت تضاعف فيه العنف بين الانجليز والصهاينة. وكان الانقسام السياسي في اوجه، وقد تجمع المتشددون خلف المفتي بينما كانت بعض المجموعات اليسارية التي ظهرت حديثاً في المدن تحاول الوصول الى تسوية مع الصهاينة وكان بن جوريون من جانبه ضد أية مفاوضة تفضي الى دولة ثنائية القومية. والتفت اعداء الحسيني الى عبد الله ملك شرقي الاردن. وكان هذا يرى في القضية الفلسطينية الوسيلة لتحقيق المرحلة الاولى من مشروع (سوريا الكبرى) الذي وضعه. وأعاد سراً للصهاينة توكيد مشروعه بحكم ذاتي واسع لليهود في مملكته العربية. وتقدم منذ 1946 بفكرة أكثر عملية تتمثل في تقسيم فلسطين بالتراضي بين الصهاينة والأردنيين. ولئن الاتصال قد استمر بين الملك وممثلي الوكالة اليهودية فإنه لم يتم التوصل الى أي اتفاق. وكان للمفتي والدول العربية شكوك حول نوايا عبد الله وقرروا معارضتها بجميع الوسائل.

خطة تقسيم الامم المتحدة:

شكلت الامم المتحدة لجنة تحقيق جديدة مكونة من ممثلي إحدى عشرة دولة مكلفة بتقديم مقترحات لتسوية المسألة الفلسطينية، وتمسكت الجامعة العربية باقتراحها تأسيس دولة فلسطينية موحدة في الحال. وكان الاردن يتبع رسمياً هذا الخط السياسي وكان يعلم الصهاينة أن الأمر في ذلك يتعلق فقط بارضاء الرأي العام العربي.

رفضت اللجنة العربية العليا الاعتراف بشرعية التدخل الدولي وطالبت باستقلال فلسطين الفوري باسم حق تقرير المصير الذي لا يمكن التصرف فيه فنظمت مقاطعة مشاورات اللجنة من قبل عرب وفلسطين بينما كان الصهاينة بما في ذلك الارغون يدافعون عن قضيتهم أمام الممثلين الدوليين، وتصاعد التوتر بين العرب واليهود وبقى الانجليز والامريكان في موقف التحفظ إذ كانوا يخشون تدخل السوفييت في الشرق الاوسط الذي ظل حتى تلك الفترة منطقة نفوذهم المحفوظة.

كانت سنة 1947 سنة القطيعة الكبرى بين حلفاء الحرب العالمية الثانية والحال أن ستالين كان منذ 1946 قد سمح بل شجع هجرة يهود أوروبا الشرقية (باستثناء الاتحاد السوفييتي) الى المناطق التي كانت تحت السيطرة الغربية ليزيد في تعقيد مشكلة الاشخاص المرحلين وليزيد من صعوبة التسوية الانجليزية الامريكية للمسألة الفلسطينية. وكان يسعى الى عرض المسألة الفلسطينية أمام الامم المتحدة وذلك ما تحقق في فبراير 1947. وتقدم الاتحاد السوفييتي خطوة جديدة في مايو 1947 بالإعلان عن استعداده للمشاركة في حل دولي ربما يتضمن وجوداً عسكرياً بفلسطين لضمان احترام القرارات المتحدة. ورفض الانجلوسكسونيون قبول حضور الجيش الاحمر وذلك ما أدى الى منع كل عمل للقوى العظمى في اطار قوات أمن فعلية بفلسطين. وأعلن السوفييت تأييدهم لدولة ثنائية القومية أو الى التقسيم الى دولتين في حالة استحالة الدولة الواحدة.

نشرت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة تقريرها يوم 31 أغسطس 1947: قلص الجزء اليهودي الى 55% من مجمل أرض فلسطين الواقعة تحت الانتداب وقررت بريطانيا الامساك عن المشاركة في المناقشات وألا تقبل الا حلاً معترفاً به من اليهود والعرب في ذات الوقت. أي انها بكل وضوح كانت ترفض المساعدة في تجسيد التقسيم. أما المسئولون الامريكان فكانوا منقسمين إذ كانت الخارجية ترى ان التقسيم سيجعل العلاقات مع الدول العربية صعبة وكان العسكريون يرون انه لا يمكن تطبيقه بدون حرب فعلية. وكان البيت الابيض يدرك دعم الرأي العام الامريكي للمشاريع الصهيونية وقرر عدم الاكتراث بذلك. وبما ان الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفييتي قد اعلنت عن نيتها في التصويت لصالح التقسيم فقد تركزت الضغوط الامريكية على دول امريكا اللاتينية التي كانت في تبعية الولايات المتحدة وكأن المشكل لا يعنيها. وكانت الحكومة الفرنسية ـ تبعاً لتحاليل الخارجية الفرنسية، الراغبة في الاحتفاظ بعلاقات جيدة مع العالم العربي وفي عدم إثارة استياء سكان شمال افريقيا العرب الذين كانوا تحت السيطرة الفرنسية ـ تميل الى الامساك عن التصويت. لكنها اختارت دعم خطة التقسيم امام ضغوط الولايات المتحدة في فترة كان تزويد السكان الفرنسيين بالمواد الغذائية متوقفاً على المساعدات الامريكية. وإثر تدخل ليون بلوم المؤيد التقليدي للقضية الصهيونية.

تم التصويت على الخطة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 29 نوفمبر 1947 بـ33 صوتاً مقابل 13 صوتاً أي بزيادة صوت واحد على أغلبية الثلثين اللازمة لتصبح سارية المفعول:

تمهيد لخطة تقسيم يوم 29 نوفمبر 1947.

(الجمعية العامة):

(بعد اجتماعها في دورة خاصة بطلب من القوة المنتدبة بغرض المباشرة في تشكيل لجنة خاصة وتحديد مهامها تكلف بإعداد دراسة مسألة حكومة فلسطين القادمة من قبل الجمعية في دورتها العادية الثانية.

(بعد تشكيلها لجنة خاصة وبعد أن عهدت لها بالتحقيق حول كل المسائل المتعلقة بمشكل فلسطين ولإعداد مقترحات لحل هذا المشكل.

وبعد أن تلقت ودرست تقرير اللجنة الخاصة الذي يحوي عدداً من التوصيات قدمت بالاجماع عما يحوي خطة تقسيم مع اتحاد اقتصادي أقر بأغلبية اللجنة:

(تقدر بأن وضع فلسطين الحالي قابل للإضرار بالصالح العام وللعلاقات الودية بين الأمم..

(تسجل إعلان القوة المنتدبة الذي تعلم فيه بأنها تنوي الانتهاء من الجلاء عن فلسطين يوم غرة أغسطس 1948.

(توصي المملكة المتحدة باعتبارها القوة المنتدبة لفلسطين كما توصي كل الدول الاخرى الاعضاء في منظمة الامم المتحدة بتبني خطة التقسيم مع اتحاد اقتصادي مبين أسفله.

(تطلب:

(أ) ان يتخذ مجلس الامن الإجراءات اللازمة المنصوص عليها في الخطة لوضعها موضع التنفيذ.

(ب) ان يحدد مجلس الامن إذا ما دعت الظروف أثناء الفترة الانتقالية إن كان الوضع بفلسطين يمثل تهديداً للسلم. وإذا قرر أن مثل هذا التهديد قائم. وحفاظاً على السلم والامن الدوليين سيقوم مجلس الامن بإكمال إذن الجمعية العامة بإجراءات تتخذ طبقاً للمادتين 39 و41 من الميثاق اللتين تخولان لجنة الامم المتحدة المنصوص عليها في هذا القرار سلطة ممارسة المهام الموكلة اليها بفلسطين في هذا القرار.

(ج) أن يعتبر مجلس الامن تهديداً للسلم أو خرقا للسلم أو عملا عدوانيا ـ طبقاً للمادة 39 من الميثاق ـ كل محاولة تهدف الى تغيير التسوية المنصوص عليها في هذا القرار، بالقوة.

(د) أن يتم إعلام مجلس الوصاية بالمسئولية التي تقع عليه طبقاً لهذه الخطة.

(تدعو سكان فلسطين الى اتخاذ كل الإجراءات التي تكون ضرورة من جانبهم لضمان تطبيق هذه الخطة.

(تتوجه بالدعوة الى كل الحكومات وكل الشعوب للإحجام عن كل عمل قد يعيق أو يؤخر تنفيذ هذه التوصيات)[6]

وينتهي الانتداب قبل الاول من أغسطس 1948 وينبغي على القوة المنتدبة أن تجلو قبل اول فبراير عن منطقة ساحلية من الدولة اليهودية القادمة لتسمح بحرية الهجرة وقبل أول أكتوبر سيتم تأسيس الدولتين ومنطقة القدس الدولية.

وعلى الدولة المنتدبة تسليم سلطاتها تدريجياً الى لجنة من خمسة اعضاء من الامم المتحدة يمثل كل منهم دولة تكلف بتطبيق خطة التقسيم بالتعاون مع المجلس المؤقتة المنتخبة الممثلة للعرب واليهود. ثم تتخلى اللجنة تدريجياً عن سلطاتها الى المجالس المنتخبة. وينبغي للدولتين أن يكون لهما نظامان ديموقراطيان يضمنان لكل المواطنين كامل حقوق الإنسان ولا يمكن لأي تمييز أن يمارس تحت أي ذريعة، وهاتان الدولتان هما وريثتا الاتفاقيات الدولية الموقعة من قبل القوة المنتدبة، وستعرض الخلافات الخاصة بهذه الاتفاقيات أمام محكمة العدل الدولية.

كان التقسيم الترابي قد رسم بطريقة تجعل من الأراضي الثلاث كلا لا يمكنها العيش اقتصادياً ولا سياسياً الا بالتعاون الوثيق فيما بينها. فالاتحاد الاقتصادي ضرورة حتمية وهو في رأي واضعي الخطة، الضمان لسلم دائمة في المنطقة. غير أن بيانات الارقام تبعث على القلق.

المنطقة

اليهود

العرب

المجموع

الدولة اليهودية الدولة العربية القدس

498.000 10.000 100.000

407.000 725.000 105.000

905.000 735.000 205.000

ولا يحسب التعداد حساباً للبدو الرحل، وينبغي ـ حسب التقديرات البريطانية ـ اضافة 22.000 بدوي في الدولة العربية و105.000 في الدولة اليهودية وذلك ما يعطي في الواقع أغلبية من السكان العرب يمتلكون الجزء الأكبر من الممتلكات العقارية في الجزء اليهودي.

نهاية الانتداب البريطاني

(20) نوفمبر 1947 ـ مايو 1948

قسمة بالتراضي!

قبلت السلطات الصهيونية خطة التقسيم لأنها تمنحها ما كانت تريده في المقام الاول، ألا وهو الدولة. وهذه الدولة ضعيفة بسبب نسبة السكان العرب فيها فحتى الهجرة اليهودية الهامة والسريعة قد لا تستطيع تعديل التوزيع العرقي بصفة مستديمة لان نسبة النمو الديموغرافي الكبيرة لدى السكان العرب سرعان ما تعوض الفارق. ثم ان العرب يملكون أكبر جزء من الارض بالدولة اليهودية والقوانين التي فرضتها الامم المتحدة تمنع حالياً تطبيق إجراءات تمييزية. ودرست الوكالة اليهودية مشروع اكراه السكان العرب بالدولة اليهودية على تبني مواطنة الدولة العربية حتى لا يكونوا غير أجانب ليس لهم دور سياسي وربما يمكن طردهم او حبسهم في حالات التوتر. وكان بن جوريون مدركاً تمام الادراك لهذا الوضع وأعلن بعد أربعة أيام من التصويت (انه ليس مؤكداً البتة بتركيبة سكانية كهذه ان الحكومة ستكون بين أيدي اغلبية يهودية. ولا يمكن تكوين دولة يهودية قوية ومستقرة ما دام اليهود لا يشكلون سوى 60% من السكان. فينبغي إذن دراسة المسألة بطرح جديد. ينبغي علينا التفكير باعتبارنا دولة[7] .

ودفع الوضع نفسه السكان العرب الى الشعور بأن التقسيم كان ظلماً حقيقياً في حقهم. فلم يؤخذ بالفعل حقهم في تقرير المصير في الحسبان ومصيرهم في المستقبل يبعث على القلق. وكان الانقسام السياسي على أشده. والكثير من الفلسطينيين كانوا لا يقبلون بعودة المفتي الذي كان مهيأ ليصبح رئيساً للدولة الجديدة. وكان لغياب تنظيم سياسي مهيكل ان تعددت المحلية منذ بداية 1947 والاتفاقيات المحلية بعدم الاعتداء بين التجمعات السكانية العربية واليهودية فيما يتعلق بمدن مثل يافا وتل أبيب وكذلك بقرى من الكيبوتسات المجاورة، وشمل هذا كامل فلسطين. ويبدو حسب بعض الملاحظين أن غالبية السكان العرب قبلت التقسيم باعتباره أمراً واقعاً أليماً ولكنها لا يمكنها رده. وأخيراً لا يمكن لعبد الله ان يقبل ان تكون دولة فلسطين القادمة تحت رئاسة عدوه اللدود مفتي القدس، ومنذ سبتمبر 1947 جدد عروضه للمسئولين الصهاينة بتقسيم فلسطين تقسيماً ودياً. ورد هؤلاء بالايجاب على عروضه. لكن الملك في حاجة الى موافقة الانجليز فاقترح عليهم إرسال الجيش العربي في الجزء العربي من فلسطين لمساعدتهم في المحافظة على النظام ولتجنب تسلم أنصار المفتي السلطة ورفض الانجليز مع أنهم بينوا لعبد الله أنهم ليسوا ضد اتصالاته بالصهاينة وأعلنوا انسحابهم النهائي في يوم 15 مايو 1948 و هو التاريخ الذي سيكون نهاية الانتداب ومنعوا لجنة الامم المتحدة المكلفة بتنظيم نقل السلطة دخول فلسطين.

ولما تفاقمت الفوضى فضل الانجليز الخيار الاردني على تشكيل دولة فلسطينية بقيادة المفتي. واتخذ القرار النهائي يوم 7 فبراير 1948 بلندن في اجتماع بين مسئولين أردنيين: غلوب باشا وأرنست بيفن فيترك الانجليز الجيش العربي يدخل يوم 15 مايو 1948 على ألا يحتل سوى الجزء العربي من خطة التقسيم وألا يدخل منطقة القدس ولا الدولة اليهودية. ولما حصل عبد الله على الموافقة الانجليزية بلغ الرسالة الى المسئولين الصهاينة واتفق الاردنيون والصهاينة ضمنياً ودون معاهدة حقيقة، على ألا تتكون دولة فلسطينية عربية.

الحرب الفلسطينية:

كانت الامور بالنسبة للمفتي واضحة، فاستقلال فلسطين العربية يكون عبر الكفاح ضد الدولة العبرية وضد الاردن في المقام الاول من ناحية وضد الصهاينة من جهة أخرى. ولقد قدر أن بوسعه رفض خطة التقسيم لاعتقاده أن ميزان القوى هو نفس ميزان قوى فترة 1936 ـ 1939.

اصدر الامر بالاضراب العام في كامل فلسطين يوم غرة ديسمبر 1947. وصحبت الاضراب مصادمات عنيفة مع السكان اليهود لان الصهاينة أيضاً كان لهم متطرفوهم. وكان التعديليون المطالبون بفلسطين كبرى تشمل شرق الأردن قد رفضوا خطة التقسيم وكانوا يأملون اهتبال الفرصة لرفض التقسيم الترابي، ولقد امتد العنف في شهر ديسمبر الى المراكز الحضرية الساحلية والى القدس، وكانت القدس معقل تمركز أنصار المفتي وكان ابن أخيه عبد القادر الحسيني هو الذي يقود العمليات بالمنطقة. أما في الشمال فقد تمركزت في يناير 1948 قوة عربية من المتطوعين العرب، تابعة للجامعة العربية وبقيادة فوزي القاوقجي. كان القاوقجي أحد ابطال النضال من اجل الاستقلال العربي. كان ضابطاً سابقاً في القوات الخاصة بالمشرق وكان أحد قادة الثورة السورية الكبرى (1937 ـ 1938) ثم حارب الى جانب قوات فيشي ضد الانجليز وقوات ديغول سنة 1941 قبل ان يلجأ الى ألمانيا وكانت علاقاته بالمفتي رديئة وكان كل تنسيق بين القوتين العربيتين غير النظامين غير ممكن.

كانت استراتيجية الحسيني بسطة: ينبغي الاستفادة من توزع المستعمرات اليهودية لقطع الاتصالات فيما بينها. ولم يكن للحسيني الا قوات ضعيفة: ألفان الى ثلاثة آلاف فلسطيني ونحو من خمسة آلاف متطوع عربي خاصة من الاخوان المسلمين. وكان للصهاينة ضعفا هذا العدد أو ثلاثة اضعافه. وكانت مشاركة السكان الفلسطينيين في القتال إجمالا أقل من فترة 1936 ـ 1939 وفضلوا محاولة احترام الاتفاقات المحلية بعدم الاعتداء.

اختار الصهاينة في البداية البقاء في مواقع دفاعية وكانوا يخشون تدخل القوات البريطانية التي كانت في طريقها الى الجلاء والتي كانت ما تزال تمنع دخول المهاجرين اليهود، إلا أن منظماتهم قامت مع ذلك بعمليات انتقامية. واستعملت مجموعة شتيرن لاول مرة في الشرق الاوسط طريقة السيارة المفخخة في شوارع يافا يوم 4 يناير 1948. وبدءاً من فبراير 1948 صار التفوق من نصيب الصهاينة. وفي التجمعات السكانية الساحلية الكبرى فر جزء من السكان العرب من القتال وخاصة الطبقات الميسورة والنساء والاطفال وكانت تلك الموجة الأولى من الرحيل الشبيهة بتلك التي سجلت أثناء ثورة 1936 ـ 1939 وفي تلك الفترة لا بيد أنه قد وضعت سياسة لطرد السكان.

أمام انتشار الفوضى اعتقد الامريكان أن العودة الى نظام الوصاية (أو الولاية) أكثر فائدة للمستقبل (فالوصاية، على عكس الانتداب يمكن ان تمارسها الامم المتحدة مباشرة). وكانت وزارة الخارجية الامريكية ما زالت قلقة لمصير العلاقات بين الولايات المتحدة وبين العالم العربي وترى ان نفط الشرق الاوسط لازم للانتعاش الاقتصادي الاوروبي الذي أعدته خطة مارشال. وكان ترومان في حاجة مستمرة لاصوات اليهود لكسب الانتخابات المقبلة وتنصل من مبادرات الدبلوماسية الامريكية والتي كان قد أقرها في السابق. فقد بدت له كأنما ذهبت بعيداً في اتجاه القضية العربية، وقد رد مستشارو البيت الابيض على حجج الدبلوماسيين بأن الدول العربية المصدرة للنفط تخضع للغرب لبقائها الاقتصادي والسياسي وأنه لا خوف من استعمال ممكن لسلاح النفط.

ويرى الصهاينة ضرورة كسب حرب العصابات قبل تدخل الدول العربية الذي كان محتملاً. كان ذلك موضوع خطة داليت التي تستهدف تهدئة مناطق المستوطنات اليهودية وذلك يعني استسلام القوى العربية وطرد السكان وهدم المنازل. وكان المعنى الاساسي للخطة هو استبعاد القوى المعادية داخل أرض خطة التقسيم وفي المناطق الممكن ضمها كذلك وينبغي ضمان تواصل ترابي للمجال اليهودي الذي كان في طور التكوين والسماح بإقامة حدود أمن للدولة القادمة. وكل السكان العرب يعتبرون معاديين. فألغيت اتفاقيات عدم الاعتداء. وكان المسئولون الصهاينة يعلنون تمسكهم بخطة التقسيم وفي الوقت ذاته يعدون لضم مناطق إضافية يبررونها بأسباب أمنية. كان واضع خطة داليت هو رئيس عمليات الهجانة إيغال يادين. وينبغي ان تجرى العمليات قبل 15 مايو 1948 وأن تجدري بحسب انسحاب الجيوش البريطانية. كان لخطة (داليت) هدف عسكري خاصة. ولم تكن خطة سياسية لطرد السكان العرب غير أنها كانت تتضمن في الواقع هذا الطرد وذلك مالا يثير حزن احد على مستوى السلطات والمنفذين. وفي أغلب الاوقات لم تنفذ أوامر الطرد إذ ان المعارك كانت قد دفعت بالسكان الفلسطينيين الى الفرار. ولا يمكن لتلك الفترة الكلام عن سياسة طرد مسبقة ومنسقة من قبل مراكز القرار الصهيونية الرئيسة.

بدأت العمليات في بداية أبريل وبدت ناجحة جداً. ولقد عجل بتفكك المجتمع الفلسطيني رحيل السلطات البريطانية وفرار الوجهاء الفلسطينيين. وكان لدى السكان شعور بأنهم تركوا دون سلاح في مواجهة الجيوش الصهيونية. أما في المدن فإن الانهيار الاقتصادي ونهاية النظام العام قد زادا من اضطراب السكان. ولقد فوجئ المسئولون الفلسطينيون والعرب لهجرة المدنيين الجماعية وحاولوا إيقافها او قصرها على الأقل على النساء والاطفال والمسنين وأدراك جماعة الحسيني أن المعركة مع اليهود قد خسرت والأمل الوحيد المتبقي هو تدخل الدول العربية. ولكنهم سكتوا عن الهجرة ذاتها. ولم تتفطن الدول العربية للخطر المتمثل في هجرة الفلسطينيين في نهاية أبريل وفر السكان. ولكن الصدمة الكبرى جاءت من الاستيلاء على حيفا. بدأ الهجوم يومي 21 ـ 22 أبريل وسقطت المدينة يوم 22 أبريل بعد استعمال واسع للمدفعية وبدأت الهجرة قبل اقتحام العدو وحصل الاعيان على الحماية البريطانية لتأمين الجلاء ولقد حاولت السلطات المدنية الصهيونية، كما في مراحل أخرى من الحرب. أن تصل الى مصالحة بينما كانت وحدات الهجانة المسيطرة على الوضع مع فرض القانون العرفي تبدو ميالة لسياسة الشدة، فلم يكن لسكان المدينة الحق في العودة لأخذ أمتعتهم من بيوتهم المهجورة وتحسن الوضع قليلاً في نهاية الشهر. ولقد سعى أعضاء وحدات الهجانة ـ ما وسعهم ذلك ودون تلقي الامر ـ الى ارهاب الناس لإكراههم على الرحيل. وهوجمت القرى المحيطة بالمدينة في الاسبوع الاخير من أبريل. حاول الانجليز الوقوف بين الطرفين وتدخلوا في الغالب لتنظيم الرحيل ـ ولم يبق في بداية مايو غير ثلاثة او أربعة آلاف عربي من مدينة يقطنها 70.000 ساكن ـ وهو ما يمثل 10% من مجموع اللاجئين الفلسطينيين. ورأى بن جوريون في فرار السكان العرب سبباً شرعياً لامتلاك اليهود أراضي الفارين.

أما في يافا حيث حدث الهجوم يوم 25 أبريل فما زال فيها من 50 الى 60 ألف عربي من واقع سبعين الى ثمانية ألف سكان اصلي. ولم تخطط الهجانة لمعارك في هذا التجمع السكاني اعتقاداً منها بأن الحصار سيكون كافياً. وكان الاقتحام مبادرة من الارغون التي قصفت السكان. دحر الهجوم. لكن معنويات السكان كانت في الحضيض على إثر الخسائر المدنية العديدة. واتهمت الدول العربية الانجليز بالتعاون مع الصهاينة لطرد سكان حيفا. وهاجم بيفن السلطات العسكرية البريطانية المتهمة بأنها تركت السكان العرب يقتلون وأثار ذلك سخط مونتغومري. وعلى إثر هذه الأزمة الصغيرة قرر الإنجليز التدخل لإنقاذ سكان يافا وحصلوا على انسحاب الإرغون من مواقعها المتقدمة تحت التهديد بالتدخل. ولكنهم لم يفلحوا في منع الهجرة. وفي الوقت ذاته استولت قوات الارغون والهجانة على القرى المجاورة متسببة في فرار سكانها وزائدة من عزلة سكان المدينة. وكان هؤلاء يدركون أن حماية بريطانيا لن تدوم الى ما بعد 15 مايو وأنهم سيبقون وحدهم في مواجهة الصهاينة. ولم يبق لدى استسلام المدينة يوم 13 مايو سوى 4 الى 5 آلاف عربي.

وتنص خطة داليت (د) على العمل بالجليل قرب الحدود السورية والأردنية لتأمين موقع متين في وجه القوات العربية وذلك ما حدث في بداية شهر مايو وفر السكان في اتجاه سوريا ولبنان.

ودارت المعارك الاخرى حول القدس في المنطقة المخصصة لكي تكون دولية وصدر الامر بتخريب جميع القرى العربية على الطريق الرابطة المدينة بالساحل. وفي هذا الاطار تم الهجوم من قبل الارغون وشتيرن ضد قرية دير ياسين بدعم من مدفعية الهجانة وكانت هذه القرية قد وقعت اتفاقية عدم اعتداء واحترامها. وكانت حصيلة المذبحة 250 عربياً غير مقاتل في الاغلب وانتشر خبر المذبحة بسرعة وبث الرعب في القرى الأخرى.

استمر طرد السكان العرب مما كان سيشكل النواة الجغرافية للدولة العبرية حتى شهر مايو، وكانت القرى العربية تهدم في الغالب وكان السكان في الغالب يفرون قبل وقوع الهجوم على إثر عمليات تخويف من مثل بث الشائعات أو رفض اية هدنة او أي اتفاق بعدم الاعتداء. وحدث للتجمعات السكانية التي وقعت اتفاقيات سلام وود مع المستعمرات اليهودية المصير نفسه ولم تكن موجة اللاجئين الثانية التي شملت من 200 الى 300 الف شخص ثمرة سياسة متعمدة بل نتيجة اعتبارات عسكرية لتأمين طرق المواصلات وأمن خطوط الجبهة القادمة لما بعد 12 مايو كان انهيار الامن العام والاقتصاد في المدن الكبرى وفرار الوجهاء السبب الرئيسي للهجرة الجماعية من المدن الكبرى بالاضافة الى عامل العدوى منذ سقوط مدينة طبرية. لكن لم يتم أي جلاء جماعي قبل هجوم القوات اليهودية والذي كان العامل الرئيسي. ولقد شوهدت ظواهر مشابهة في أوروبا وفي فرنسا خاصة أثناء الحرب العالمية الثانية، أما في الريف فإن عمليات التهديد والشائعات عن الفظائع كانت الاسباب الرئيسية للهجرة التي كانت تتم في الغالب قبل احتلال القوات اليهودية الأماكن احتلالاً نهائياً. ولئن لم يصدر المسئولون الاسرائيليون الامر بالطرد بل إن ضباط الهجانة على عين المكان قد استفادوا من غموض تعليمات خطة (د) لتأمين مستقبل الدولة العبرية.

اتساع رقع النزاع:

أخذت هجرة السكان اللجنة العربية العليا على غرة وأظهرت هزيمتها ولم تكن الدولة العربية تستطيع التحرك قبل يوم 15 مايو واستدرجت بالرغم منها الى ضرورة التدخل العسكري الذي لم تكن ترغب فيه، كما أنها كانت مرتابة من نوايا الاردن الذي تتهمه بارادة تحقيق مشروعه الخاص بسوريا الكبرى. واضطر عبد الله الى اتخاذ موقف حازم علنا وانتظر يوم 15 مايو 1948. وتخوف بن جوريون من نوايا الملك وظل غلوب باشا وفيا لخطته وأعد خطة للتدخل في الضفة الغربية لا تشمل منطقة القدس. وكانت قوات من الجيش العربي قد جاءت لتحل محل القوات البريطانية. لكن القوات الصهيونية بخطة داليت قد دخلت في المنطقة العربية من خطة التقسيم ناقضة بذلك الاتفاق الضمني مع الأردن. واصطدم الجيش العربي لأول مرة مع القوات الصهيونية بتاريخ 28 ـ 29 أبريل. وأعلم غلوب باشا الهجانة مباشرة بأنه لن يقاتل في الجزء اليهودي من خطة التقسيم.

اقترح الامريكان وقفا للقتال تكون نتيجته تأجيل إعلان الدولة اليهودية وقبلت الجامعة العربية هذا المبدأ والذي يمنع أي تقسيم في الحال ورفض مسئول الشئون الخارجية الصهيونية موشي شاريت هذا المشروع متذرعاً أمام مارشال وزير الخارجية الامريكي بأن الاتصالات بين الهجانة والجيش العربي تجعل هذا المشروع لا لزوم له. فاتهم مارشال الحانق الانجليز بالازدواجية، ومن جهة أخرى أخطر ترومان وايزمان بأن الولايات المتحدة ستعترف بالدولة اليهودية إعلانها. وبالتالي فبوسع الصهاينة إلا يحسبوا حسابا لتحذيرات وزارة الخارجية الأمريكية. وواصل الدبلوماسيون الأمريكان النقاش بمجلس الامن حول هدنة ليعلنوا في آخر لحظة الاعتراف فعلاً بدولة إسرائيل بعد تأسيسها مباشرة.

كان عبد الله يريد حرباً صورية تسمح بتبرير الضم أمام الرأي العام العربي. ورأى السوريون والمصريون في سياسته الفلسطينية الخطوة الاولى نحو سوريا الكبرى وقرروا التدخل في فلسطين. وحاول الانجليز فرض وقف للقتال بالقدس (10 ـ 11 مايو) لكن الصهاينة رفضوا الدخول في هذه المفاوضات. ودخلت الدول العربية المعادية للهاشميين الحرب منعاً لتوسيع رقعة الاردن، لذلك كان من المستحيل التنسيق بين الجيوش العربية ولم يوجد أي علم بميزان القوى، ورفض عبد الله كل مشاريع الجامعة العربية واستعد لارسال الجيش العربي الى الضفة الغربية. وكان هدفه القضاء على أية إمكانية لتأسيس دولة فلسطينية مستقلة وفرض الامر الواقع بخصوص الضم مع رفض الاقتتال مع الصهاينة. وكان رفض عبد الله يستند على تقدير صحيح لميزان القوى. وكان يغطي بغطاء الجامعة العربية ودعم الانجليز للعمل، ولم يخن، بل يمكن القول انه كان أكثر واقعية من شركائه العرب الذين استهانوا بلا روية بالحقائق الميدانية.

حاولت غولدا مائير مساعدة شاريت آنذاك ـ ثني عبد الله عن نيته باتخاذ موقف الجامعة العربية واجتمعت به سراً يوم 10 مايو وسعى الملك الى معرفة إن كان الصهاينة سيتخلون له عن أراض أكثر من الاراضي العربية التي تنص عليها خطة التقسيم. فأجابوه بأنهم في حالة قيام حرب لن يكتفوا بالحدود التي وضعها الامم المتحدة وأنهم سيحتفظون بما سيكسبونهن من أراض ـ وحذرته مائير من الخطر الذي يتهدده من مواجهة عسكرية ووجهت اليه إنذاراً نهائياً حقيقياً لا يترك له هامش المناورة للتفاوض. كانت الحرب حتمية. ولم يحدد إعلان الاستقلال الاسرائيلي يوم 15 مايو أية حدود ترابية للدولة الجديدة (ولكن ممثل الحكومة المؤقتة الاسرائيلية بواشنطون أعلم الرئيس ترومان بأن حدود الدولة الجديدة ستكون خطة التقسيم.)

وفي يوم 13 مايو، قدم وزير خارجية أمريكا مارشال في رسالة دورية للسفارات الامريكية بالشرق الأدنى تحليلاً تنبؤياً للظروف التي سيجري فيها الصراع العربي الإسرائيلي.

(إن الضعف الداخلي لمختلف البلدان العربية سيجعل من العسير عليها التدخل في فلسطين. فكل الهيكل الحكومي بالعراق مهدد بالفوضى السياسية والاقتصادية ولا يمكن للحكومة العراقية حالياً أن تضمن ارسال اكثر من بضع المفارز التي قد أرسلتها. ولقد عانت مصر مؤخراً من اضرابات واضطرابات وجيشها مجهز تجهيزاً غير كاف بسبب رفض المساعدة البريطانية والمتوفر الآن ضروري لمهام الشرطة بالداخل. أما سوريا فليس لها سلاح ولا جيش يستحق هذه التسمية ولم تستطع إعداد جيش منذ رحيل الفرنسيين قبل ثلاث سنوات. وليس للبنان جيش حقيقي. أما السعودية فلها جيش صغير لا يكاد يكفي للمحافظة على النظام بين القبائل. وان التحاسد بين السعوديين والسوريين من جهة وبين هاشميي العراق وشرقي الاردن من جهة أخرى يمنع العرب حتى من الاستعمال الأمثل. وبدون الضباط الانجليز لن يكون للجيش الأردني مظهر لائق لأن تنظيم الجيش مرتهن بالضباط البريطانيين في الأماكن الهامة، لكن هذا لا يعني أن الدولة اليهودية ستتمكن على المدى البعيد من البقاء باعتبارها مجموعة مكتفية ذاتياً في وجه عداوة العالم العربي، وإذا ما اتبع اليهود رأي متطرفيهم الراغبين الى سياسة احتقار للعرب فأيا كانت الدولة اليهودية التي ستؤسس فإنها لن تكون قادرة على البقاء الا بالمساعدة الدائمة الآتية من الخارج..[8] .

ولقد كانت الحرب العربية الاسرائيلية الأولى التي تلت الصراع الداخلي بفلسطين، نتاجاً لخوفين اثنين. فالمسئولون الاسرائيليون قدروا منذ البداية أن الدول العربية ستدخل الحرب واستعدوا لها. وذلك مغزى خطة داليت وطرد السكان. ورأي المسئولون العرب منذ الثلاثينيات ان الحركة الصهيونية تشكل خطراً جسيماً على الوحدة الترابية لبلدانهم. ولقد جاءت الاحداث التي جرت من نهاية نوفمبر الى 15 مايو 1948 برهاناً على رؤيتهم، ولقد اضطرهم وصول موجات اللاجئين الفلسطينيين الاولى الى الدخول في الحرب بسبب ضغط الرأي العام لديهم. وهذان الخوفان يرتكزان على التقرير والاثبات نفسيهما وهو أن دولة اسرائيل لا يمكن ان تصبح دولة ذات سكان يهود متجانسين الا بتسويتها بطريقة أو بأخرى مسألة الوجود الدائم لسكان عرب يشكلون أقلية قوية قادرة على ان تصبح من جديد وبسرعة أغلبية وهي الى ذلك تمتلك القسط الاوفر من التراث العقاري. وكما قال بن جوريون ينبغي التصرف طبق مبادئ المصلحة العليا. وفي خاتمة المطاف، كل شيء يعود بنا الى الامر الأساسي وهو أن النزاع لعبة المجموع فيها صفر وأن أي مكسب صهيوني بدءاً من وجود أول مستوطن وانتهاء بالغزو المحتمل لفلسطين الموصى عليها، لا يمكن أن يحدث إلا على حساب السكان العرب.

وكان هيرتزل محقاً في إلحاحه على ضرورة الحصول المسبق على (ميثاق) دولي. ولولا الانتداب البريطاني لما أمكن للمشروع الصهيوني ان يتحقق، وبدون ان تنكر مكاسب الصهيونية العملية التي مكنت إسرائيل من كسب الحرب ميدانياً. فإن الصهيونية السياسية في معناها الواسع ـ باعتبارها الحاجة الدائمة لدعم دولي عملي ـ هي أساس السياسة الخارجية الصهيونية ثم الاسرائيلية، وكان هيرتزل في آفاق 1900 يتحدث عن المشاركة اليهودية في رسالة أوروبا التمدينية وفي عبء الرجل الأبيض، أما في آفاق 1917 فقد كان وايزمان يتحدث عن حق الشعب اليودي في تقرير مصيره. وفي آفاق 1945 ألح بن جوريون على ضرورة التعويض الواجب منحه للشعب اليهودي بعد المذابح. وبالاضافة الى الحجج الاستراتيجية التي عرضت على المسئولين الانجليز سنة 1920 لوطن قومي يهودي يكون ركيزة للنظام الامبريالي البريطاني وبدءاً من عام 1948 وبعد تقويض النظام الامبريالي البريطاني بالمنطقة لصالح الاتحاد السوفييتي والى الحجج الاستراتيجية لدولة اسرائيلية تكون موقعاً متقدماً للعالم الحر، فالصهيونية السياسية لا يمكن ان تكون فعالة إلا بكسبها عطف الرأي العام الغربي. وإن صدمة المجازر وشعور التواطؤ المبرر في جزء كبير منه، أثناء هذه الكارثة قد منحا إسرائيل هذا التعاطف دون إشكال. ولم يكن الحرص شديداً على متابعة ما يجري فعلاً في فلسطين بجزئياته في عالم بدأت فيه الحرب الباردة وكان العنف فيه جزءاً من المسرح السياسي منذ عام 1939 ـ ولقد نشأ عن هذا الوضع موقف ثابت للرأي العام الغربي فإذا ما شدت انتباهه المسألة الفلسطينية فلن يستطيع ألا يكترث بها.

الحرب العربية الاسرائيلية

المرحلة الأولى للعمليات (15 مايو 1948 ـ 11 يونيو 1948)

كانت القوات العربية تضم حوالي 21.000 رجل: 10.000 مصري و4.500 أردني من الجيش العربي و3.000 سوري و3.000 عراقي و3.000 لبناني ومتطوع من الجامعة العربية. وكانت أهم القوات الفلسطينية قد تم القضاء عليها. وكان الاسرائيليون يتصرفون في 30.000 رجل. كان تفوق العرب في البداية نوعياً: عتاد افضل وتدريب أطول ووحدات غير منهكة. لكن لم يكن التنظيم منعدماً فحسب بل الأسوأ من ذلك أن الريبة المستحكمة والمبررة كانت سائدة بين الجيوش العربية: اضف الى ذلك ان العرب كانوا تابعين للغربيين وللانجليز في المقام الاول لتزويدهم بالسلاح والذخيرة. وتحت ضغوط الولايات المتحدة الامريكية فرض حظر عام على السلاح بالشرق الاوسط تجنباً لوضع لا معقول يزود فيه الانجليز العرب والامريكان الاسرائيلي. ولم يلعب الاتحاد السوفييتي اللعبة الغربية. ففي فترة بدأت فيها أزمة برلين تجلت بلدان الكتلة الشرقية من هجرة اليهود ونقلت أسلحة تشيكية الى إسرائيل عبر الموانئ اليوغسلافية والرومانية. ومنذ فتح الموانئ أصبح تفوق القوات الاسرائيلية في الرجال والعتاد ساحقاً.

بدأ الهجوم السوري في الشمال يوم 16 مايو 1948 وجرف خط الكيبوتسات القريب من الحدود وفر السكان اليهود من المعارك. واستطاع ضابط اسرائيلي شاب، هو موشي ديان أن يوقف التقدم السوري يوم 20 مارس واقتصرت العمليات على تبادل بعض الطلقات حتى يوم 10 يونيو حيث نح السوريون في تقدم جديد ملموس توقف بوقف القتال لليوم التالي ـ وعلى الجبهة اللبنانية حدثت معارك ضارية حيث تداول الطرفان المواقع نفسها، وكان الهجوم الرئيسي في الجنوب بفعل الجيش المصري فسرعان ما احتل المصريون منطقة غزة على الطريق الساحلية لكنهم واجهوا مقاومة قوية من المستعمرات اليهودية أعاقتهم وفي يوم 19 مايو دخلوا منطقة كثيفة بالسكان اليهود وتوقف تقدمهم تقريباً عند نهاية المنطقة المخصصة للعرب. وفي الداخل مكن تقدم مصري آخر من احتلال النقب وبلوغ الضفة الغربية.

كان مصير فلسطين يدور في منطقة القدس وقد تمسك غلوب باشا بمخططه الاول وهو احتلال المنطقة العربية من خطة التقسيم دون صدام مع الاسرائيليين ولكن هؤلاء ضاعفوا من ضغوطهم على القدس التي كانوا يهددون باحتلالها كلها. واستنجد السكان العرب بالاردنيين وقرر عبد الله ارسال الجيش العربي الذي دخل المدينة المقدسة يوم 19 مايو واستولى على الحي اليهودي بالمدينة القديمة يوم 28 مايو ثم تولت المعركة على طريق الاتصال بين القدس والساحل وكان الاردنيون يمسكون بموقع اللطرون الهام وفشل الاسرائيليون في الاستيلاء عليه متكبدين خسائر فادحة. وكان عليهم استنباط طريق جديدة للحافظ على الاتصال بالقدس، وفي جنوب الضفة الغربية ترك الاردنيون المكان للعراقيين الذين تمركزوا في المنطقة المسماة بالمثلث (جنين ـ نابلس ـ طولكرم) ومنها يمكن التهديد بالتدخل في المنطقة الساحلية، ودحر هجوم اسرائيلي على المثلث في بداية يونيو.

عينت الامم المتحدة وسيطاً مكلفاً باعادة السلام هو الكونت برنادوت. فاستفاد من انهاك مختلف الخصوم للحصول على وقف للقتال، يسري بدءاً من 11 يونيو 1948. وفي ذلك التاريخ سجل بن جوريون في مذكراته وجود جبهات ثلاث: القدس والجبهة الوسطى (متضمنة المثلث) حيث مهمتنا هي القضاء على الجيش العربي والاستيلاء على المثلث، وجبهة الجنوب والنقب وجبهة الجليل وحيفا وفي الجليل هدفنا هو ضرب بيروت (صور وصيدا) واثارة تمرد مسيحي وضرب القنيطرة ودمشق من الجانب الآخر. وفي الجنوب علينا مواجهة مصر التي سيأتي دورها بعد ان تكون قد قصمنا قوة الجيش العربي وحملنا لبنان على الخروج من اللعبة[9].

اما بالنسبة لعبد الله فالمكاسب الترابية المؤملة قد تم الحصول عليها في أغلبها، وكان لا يفكر الا في ايجاد نهاية مشرفة لحرب تهدد بتقويض جيشه الصغير.

الوساطة وحرب الايام العشرة:

اقترح برنادوت تقسيماً جديداً لفلسطين واقعياً أكثر من الأول يعطي الضفة الغربية للأردن واتحاد اقتصادي بين الاردن وإسرائيل وإعطاء الجليل لإسرائيل والنقب للعرب. وتبقى القدس عربية وتصبح حيفا ميناءً حراً ورفضت الدول العربية وإسرائيل مقترحات برنادوت فالعرب كانوا ضد توسيع ارض الاردن ويرى اليهود ان الحدود الترابية يحددها السلاح. ورغم الحظر على السلاح، اغتنم كل طرف الهدنة لتدعيم قواه. وبلغت الجيوش العربية 35.000 رجل لكن المفارز الجديدة لم تكن لها التدريب العسكري الاول الذي كان ميزة الجيوش العربية الوحيدة وبلغت القوات الاسرائيلية 60.000 رجل مع تدعيم عظيم في العتاد. وهكذا ظهرت بداية قوات جوية اسرائيلية تكونت من مخزون الحرب العالمية الثانية. دامت الهدنة حتى 8 يوليو وحاول عبد الله الحصول على تمديدها ولكن المسئولين العرب بالرغم من تحذير قادتهم العسكريين حول ميزان القوى الفعلي، قرروا استئناف المعارك. وكانوا يعتقدون أنهم ببقائهم في مواقع دفاعية يمكنهم من الصمود حتى الهدنة القادمة. واستأنفت مصر المعارك يوم 8 يوليو.

ظن غلوب بأن الاسرائيليون سيركزون جهودهم على القدس. فجرد دفاعات اللد ورام الله ليتمكن من الدفاع عن لطرون، واطلق الاسرائيليون عندئذ عملية (داني) بقيادة اسحاق رابين. واستولوا بسهولة على المدينتين اللتين كانتا دون دفاعات يوم 12 يوليو. وطرد السكان العرب في اليوم التالي بأمر شفوي من بن جوريون. واضطر حوالي 50 الفاً أو 70 الف فلسطيني (10% من مجموع اللاجئين النهائي) الى السير عدة كيلو مترات تحت شمس يوليو ومات الضعفاء بأعداد كبيرة من نساء واطفال وشيوخ. ثم احتدمت المعركة أمام لطرون حيث تمكن الجيش العربي الذي كان على حافة الانهيار من ايقاف الهجوم الاسرائيلي. أما في الجنوب فقد استولت القوات الاسرائيلية على قرى عربية متسببة في هجرة ما يزيد على 20.000 لاجيء. وفي الشمال استولت على الجليل الغربي، واتبع الاسرائيليون سياسة التفرقة الطائفية فالتكتلات السكانية المسيحية مثل الناصرة والدرزية روعيت بينما قصفت القرى المسلمة وطرد سكانها. وهكذا طرد 20 الى 30 ألف لاجيء إضافي. وبعد الايام العشرة استمر الطرد في اطار عمليات التطهير. فكان مجموع لاجئي هذه الفترة أكثر قليلاً من 100.000.

وفي يوم 15 يوليو صوت مجلس الامن لفائدة وقف للقتال جديد وأرفقه بتهديد بعقوبات في حالة عدم احترام القرار. ولما كانت الجيوش العربية قد خسرت جميعها أراضي السياسيون وقف القتال لمدة غير محدودة بدءاً من 18 يوليو.

ومنذ ذلك التاريخ ظهرت مسألة اللاجئين الفلسطينيين في المباحثات الدبلوماسية. ولقد ردت اسرائيل يوم 27 يوليو على تساؤلات الحكومة الامريكية (بأن الحكومة الاسرائيلية ترفض أية مسئولية لها في خلق هذا المشكل. وإن الاتهام بأن العرب قد طردتهم السلطات الاسرائيلية بالقوة خال من الصحة. بل بالعكس بذلت كل الجهود لمنع هجرة هي من نتيجة مباشرة لغباء الدول العربية التي نظمت وقادت حرباً عدوانية ضد إسرائيل. وإن حركة رحيل السكان العرب المدنيين خارج مناطق الحرب لتحاشي التورط في المعارك قد تعمد القادة العرب تخطيطه لأسباب سياسية، فلم يكونوا يودون ان يواصل السكان العرب العيش الهادئ في المناطق اليهودية ويرغبون في استغلال الهجرة سلاح دعاية في البلدان العربية المجاورة وفي العالم الخارجي. إن هذه السياسة اللاإنسانية قد وضعت الآن الحكومات المعنية مع المشاكل العملية التي يتوجب عليها تحمل مسئوليتها كاملة.

(إن مسألة عودة اللاجئين العرب لا يمكن فصلها عن سياقها العسكري. وما دامت حالة الحرب قائمة بين اسرائيل والبلدان العربية المجاورة فسيكون من الخطر على أمن اسرائيل ودفاعها أن تفتح حدودها على مصراعيها امام مد لا محدود من العرب القادمين من تلك الدول، يكون عنصر اضطراب للقانون والنظام الداخليين وطابوراً خامساً هائلاً للأعداء الخارجيين.

((…) ان المسألة العامة يمكن فقط اعتبارها عنصراً من عناصر تسوية السلام الشاملة مع الدول العربية.

(ينبغي كذلك الأخذ في الاعتبار وضع الاقليات اليهودية في البلاد العربية ومعاملتهم فيها[10] .

وهكذا فالمسالمون العرب الذين كانوا يريدون التعايش مع الاسرائيليين قد يصبحون طابوراً خامساً إذا ما عادوا الى ديارهم. وظل الموقف الاسرائيلي دائماً هو ذاته لا يقبل الا بعض حالات العودة الرمزية لأسباب إنسانية ويرفض أية مسئولية في هجرة الفلسطينيين، وفي الحالة الحاضرة تكسب الدبلوماسية الاسرائيلية الوقت بمهارة بتأجيل النظر في الملف الى مفاوضات السلام القادمة.

الهدنة الثانية ونهاية المعارك:

إن ضياع اللد ورام الله والهزائم الميدانية قد أدت بالسياسيين العرب الى اتهام عبد الله بالخيانة. فالعراقيون علقوا لفترة علاقاتهم مع ملك الاردن. وحاول هذا الاخير استئناف اتصالاته بالاسرائيليين لكن عروضه بعودة سكان اللد ورام الله رفضت. وطرح برنادوت خطته من جديد مقترحاً مبادلة الجليل الغربي بالنقب وربط الضفة الغربية بالاردن وتدويل القدس وعودة اللاجئين الى ديارهم. وأيد الانجلوسكسونيون خطة الوسيط وبسبب الجزء الكبير المسلم للأردن رفضتها الدول العربية كما رفضتها اسرائيل التي ظلت تطالب بالنقب وترفض عودة اللاجئين. وفي يوم 17 سبتمبر قامت مفرزة من مجموعة شتيرن باغتيال برنادوت. ويبدو أن عملية الاغتيال هذه رسمها وأعدها إسحاق شامير. لكن السلطات الرسمية الاسرائيلية لم تكن مستاءة من النتيجة.

ولمعارضة مشاريع عبد الله سمحت مصر في أكتوبر للمفتي بإقامة حكومة عربية لكل فلسطين بغزة. ورغم اعتراف كل الدول العربية اعضاء الجامعة العربية، باستثناء الاردن، بهذه الحكومة الجديدة فإن هذه الاخيرة ظلت تفتقر الى كل الامكانات وخاضعة تماماً لمصر ورد عبد الله بمؤتمر للأعيان الفلسطينيين بعمان الذين بايعوه. وفي المناطق التي يراقبها الجيش العربي تم تجريد أنصار المفتي ووضعهم تحت المراقبة.

وأغتنم بن جوريون انقسام العالم العربي فقرر مهاجمة القوات المصرية لتسوية مسألة النقب بالقوة وهي المسألة التي كانت لغير صالح اسرائيل على الصعيد الدبلوماسي. وكان اختيار التاريخ القريب من تاريخ الانتخابات الامريكية يسمح بالأمل، حقاً، بأن ترومان يقف ضد تصويت مجلس الامن على عقوبات ضد اسرائيل لخرقها الهدنة يوم 15 أكتوبر هاجم الجيش الاسرائيلي المصريين ولم تتحرك القوات العربية الأخرى، وتلقى العسكريون الاسرائيليون أمراً بألا يتركوا سكاناً مدنيين خلف خطوطهم. وقسم المصريون الى مجموعات عديدة وحارب الذين كانوا محاصرين في جيب الفالوجة بكل شجاعة (وكان منهم عبد الناصر). هاجم الاسرائيليون في المنطقة الوسطى من الجبهة وطردوا في اتجاه الغرب (لا في اتجاه الشرق مثلما فعلوا سابقاً) السكان العرب في شريط غزة التي كانت محاصرة تقريباً، وأحصي حوالي 130.000 لاجيء جديد. ودخلت القوات المسلحة الاسرائيلية بقيادة إيغال ألون سيناء، وهددت انجلترا باسم معاهدة 1936 بالتدخل مباشرة في المعركة إذا لم يتم جلاء الاسرائيليين سريعاً عن التراب المصري. وتوقفت المعارك يوم 7 يناير 1949.

وفي تلك الاثناء قام الجيش العربي باحتلال شمال الضفة الغربية التي تركها المصريون (منطقة الخليل). أصبح عبد الله سيداً للجزء الاكبر من الضفة واغتنم فرصة الهزائم المصرية (التي جرت رحيل المفتي من غزة الى القاهرة) لعقد مؤتمر من الوجهاء الفلسطينيين يوم غرة نوفمبر بأريحا، صوت لصالح الاتحاد بين الضفة الغربية وبين شرقي الأردن.

وفي نهاية أكتوبر قام الاسرائيليون بهجوم في الشمال لاستكمال غزو الجليل، وتوافد عدة آلاف من اللاجئين الجدد في اتجاه لبنان. ولم يسمح إلا لسكان بعض القرى المسيحية بالعودة الى مساكنهم وتم ذلك في اطار سياسة تقسيم لبنان على أساس طائفي وتلك خطة قديمة لبن جوريون.

وفي نهاية 1948 انتهت فعليا كل العمليات العسكرية باستثناء بعض المعارك على الجبهة المصرية.

زمن المفاوضات

منظمة الامم المتحدة ومشكل اللاجئين:

أصبح تقرير برنادوت بعد وفاته المذهب الرسمي للأمم المتحدة ووجد تجسيده في القرار 194 (3) الذي تبنته الجمعية العمومية يوم 11 ديسمبر 1948:

(الجمعية العمومية (…)

(2 ـ تشكل لجنة توفيق مكونة من ثلاثة أعضاء من الامم تكلف بالمهام التالية:

(أ) الاضطلاع بالمهام الموكلة لوسيط الامم المتحدة لفلسطين إذا ما ارتأت أن الظروف تحتم ذلك. (…)

(ب) القيام بالمهام والأوامر المحددة التي يعطيها إياها هذا القرار والقيام بالمهام وتنفيذ الاوامر الاضافية التي قد تصدرها لها الجمعية العمومية أو مجلس الامن. (…)

(5) تدعو الحكومات والسلطات المعنية الى توسيع مجال المفاوضات المنصوص عليها في قرار مجلس الامن بتاريخ 16 نوفمبر 1948 والى البحث عن اتفاق عن طريق المفاوضات إما المباشرة وإما مع لجنة التوفيق من أجل تسوية نهائية لكل المسائل التي ظلت غير متفق حولها.

(6) تعطي التعليمات للجنة التوفيق باتخاذ الاجراءات من أجل مساعدة الحكومات والسلطات المعنية في تسوية كل المسائل التي ظلتا غير متفقتين حولها تسوية نهائية. (…)

(8) تقرر أنه بسبب علاقاتها بأديان عالمية ثلاثة ينبغي لمنطقة القدس ـ بما في ذلك البلدية الحالية للقدس وكذلك القرى والمراكز المحيطة والتي اقصاها شرقاً أبوديس وجنوباً بيت لحم وغرباً عين كريم (بما في ذلك تجمع مسطا السكاني) وشمالاً شعفية، أن تتمتع بمعاملة خاصة ومتميزة عن مناطق فلسطين الأخرى وينبغي أن توضع تحت مراقبة الامم المتحدة الفعلية. (…)

(11) تقدر بأن هناك ما يدعو الى السماح للاجئين الذين يرغبون في ذلك بالعودة الى ديارهم بأسرع ما يمكن والعيش في سلام مع جيرانهم وأن تعويضات ينبغي أن تدفع لقاء أملاك الذين يقررون عدم العودة الى ديارهم ولقاء كل مال ضاع أو تضرر، بموجب مبادئ القانون الدولي أو عدلا، عندما يكون هذا التلف او الضرر ينبغي أن تعوض عنها الحكومات أو السلطات المسئولة.

(تعطي للجنة التوفيق تعليمات تسهيل عودة اللاجئين الى وطنهم واستقرارهم ونهوضهم الاقتصادي والاجتماعي وكذلك دفع التعويضات والبقاء على اتصال وثيق مع مدير مساعدات الامم المتحدة للاجئين الفلسطينيين والبقاء عن طريق هذا المدير على اتصال وثيق مع الأجهزة والمؤسسات المختصة للامم المتحدة. (…)

(14) تدعو كل الحكومات والسلطات المعنية الى التعاون مع لجنة التوفيق والى اتخاذ كل الاجراءات الممكنة لمباشرة تطبيق هذا القرار.)

رفضت اسرائيل أي عودة للاجئين واتبعت سياسة ترمي الى جعل تنقل السكان الفلسطينيين لا رجعة فيه. وكان توقيت الاحداث ذا مغزى. إن هجرة الفلسطينيين سببها التعارض الأساسي بين المذهب الصهيوني الذي يعتبر الارض المقدسة أرضاً خاصة بالشعب اليهودي دون سواه وبين رغبة السكان العرب في البقاء على أرضهم، والمجتمع العربي الفلسطيني الذي كان قد تعرض الى اختلال كبير في نظامه السياسي إثر القمع البريطاني لسنوات الثلاثين، لم تكن له القدرة على الابقاء على تماسكه في وجه الضغط الصهيوني، فانهار بطبيعة الحال منذ المعارك الأولى. وبدءاً من أبريل 1948 صار طرد العرب عملا منظماً دون أن يكون هناك حاجة لأمر عام أو لسياسة معنية. فعلى كل المستويات كان المسئولون الصهاينة عازمين على وضع حد ـ ما أمكن ذلك ـ للوجود العربي بالأراضي التي كانوا يسيطرون عليها، ومن أجل ذلك تم هدم التجمعات السكانية العربية (منها 350 قرية) ومصادرة الأراضي الزراعية وإلغاء الانشطة الاقتصادية العربية، ومنذ عام 1948 أظهر السكان إرادة في الصمود وقلت الهجرة الناشئة عن الخوف وكثر استعمال القوة المباشر. واستمر الطرد حتى عام 1950 بل الى 1957 في بعض الحالات.

ويمكن تقدير العدد الإجمالي للاجئين في الفترة من 1948 الى 1949 على أساس واسع بين 600.000 و760.000. ومنذ يوليو 1948 طلبت الجامعة العربية تدخل المنظمات الانسانية الدولية. اهتم برنادوت بشكل خاص بالحصول على مساعدة من وكالات الامم المتحدة المتخصصة وبتنسيق جهود مختلف المؤسسات (كانت المنظمات البروتستنتية الامريكية أنشطها) وفي يوم 19 نوفمبر 1948 أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة تخصيص مساعدة عاجلة لمواجهة مخاطر الشتاء القادم وأنشأت منظمة مؤقتة للعون. وفي مايو 1950 تم تعويضها بمؤسسة دائمة هي الـUNRWA المكلفة ليس ببقاء السكان على قيد الحياة فحسب بل كذلك بتأمين مجموعة من الخدمات الاجتماعية (الطب، التربية…) التي كانت الدول العربية غير قادرة على توفيرها، وفي السنوات التالية ورغم دمج جزء متزايد من اللاجئين في الحياة الاقتصادية العربية (في بلدان الخليج خاصة) كان عدد المستفيدين من المساعدة في تزايد بسبب النمو السكاني.. وتنزع مخيمات الفلسطينيين بعامل التجميعات الاسرية الى أن تكون انعكاساً للجغرافيا البشرية لفلسطين ما قبل النكبة وصارت ملاذا للذاتية الفلسطينية. وإن مشاريع الدمج الاقليمي للاجئين لا ينبغي أن تحجب حقيقة التعلق القوي بأرض الحدود وبالجنسية المفقودتين.

أما في العاجل وقبل تشكيل لجنة التوفيق كان على وسيط الامم المتحدة بالوكالة رالف بانش تنظيم الهدنات.

هدنات 1949:

بدأت المفاوضات الأولى بردوس على أساس ثنائي بين المصريين والاسرائيليين. وقعت المحادثات التمهيدية بشكل منفصل ثم تمت لقاءات (غير رسمية) بين الوفدين. وما سمي فيما بعد (بصيغة رودس) هو خلط دقيق بين (مفاوضات بين الاطراف) (يفهم منها بواسطة الوسيط) وبين المفاوضات (وبين ممثلي الطرفين). وبفضل مرونة الوسيط تم التوصل الى عقد اتفاق هدنة يوم 24 فبراير 1949 بين مصر وإسرائيل، اتخذت نمطاً للبلدان العربية الأخرى.

(مقتطفات من اتفاق الهدنة بردوس بين حكومة مصر وحكومة إسرائيل (24 فبراير 1949) مشتركة مع اتفاقات الهدنة الأخرى (23 مارس مع لبنان و3 أبريل مع الأردن و20 يوليو مع سوريا)

(مادة أولى:

(تشجيعاً لقيام السلام الدائم بفلسطين واعترافاً بالأهمية التي تكتسبها بهذا الخصوص، الضمانات المتبادلة فيما يتعلق بالعمليات الحربية القادمة للطرفين يقبل الطرفان بهذه الاتفاقيات المبادئ التالية التي سيحترمانها تماماً مدة الهدنة.

((1) ـ سيحترم الطرفان بدقة مستقبلاً تحريم مجلس الامن اللجوء الى القوة العسكرية لتسوية المسألة الفلسطينية (…)

(وجود هدنة بين القوات المسلحة للطرفين معترف بها أنها خطوة ضرورية نحو إنهاء الصراع المسلح وإعادة السلام بفلسطين (…)

(المادة 4:

(…) الطرفان يوافقان على المبادئ والأهداف التالية:

(1) يقران المبدأ بألاّ تجني أية فائدة عسكرية أو سياسية من الهدنة التي أمر بها مجلس الامن (…)

(3) يعترفان كذلك بأن الحقوق والمطالب والمصالح ذات الطابع غير العسكري، في منطقة فلسطين المشار اليها بهذا الاتفاق يمكن أن يؤكدها هذا الطرف أو ذاك وأنه بإمكانها، بحسب رغبة الطرفين، أن تكون موضوع تسوية لاحقة، إذ أنها تم استبعادها، باتفاق مشترك، من مفاوضات الهدنة. وتجدر الملاحظة أن هذا الاتفاق لا يسعى الى إقامة ولا الى الغاء الحقوق أو الصفات او المصالح الترابية في المراقبة أو غيرها والتي قد يطالب بها هذا الطرف أو ذاك في أرض فلسطين أو في أي إقليم آخر أو بلدة معنية بهذا الاتفاق سواء أكانت هذه الحقوق أم الصفات أم المصالح المطالب بها ناشئة عن قرارات مجلس الامن، (…) أو كانت آتية من أي مصدر آخر. وإن تراتيب هذا الاتفاق تمليها اعتبارات عسكرية ليس إلا، وليست صالحة إلا لمدة الهدنة. (…).

المادة 5:

(..) (2) إن الخط الفاصل لا يمكن بحال اعتباره حداً سياسياً أو ترابياً، ولقد خط دون الاضرار بحقوق الطرفين أو مطالبهما أو مواقعهما في لحظة الهدنة فيما يتعلق بالتسوية النهائية للمسألة الفلسطينية. (…)

(4) إن أوامر القوات المسلحة وتنظيماتها التي تخطر على المدنيين عبور خطوط المعارك أو دخول المنطقة الواقعة بين تملك الخطوط ستبقى سارية المفعول بعد توقيع هذا الاتفاق، فيما يختص بالخط الفاصل للهدنة).

وكان موضوع النقاش رفض مصر الاعتراف بغزو الأرض الناتج عن الهجوم الاسرائيلي الاخير ضد الارض الفلسطينية والاستيلاء على بئر السبع وهي عملية أدانها مجلس الامن الذي طالب، دون جدوى، بعودة الاسرائيليين الى خطوط انطلاقهم، وكان الحل لتجنب هذا المأزق هو تحديد الهدنة في عبارات عسكرية فقط لا تثير الخلافات الترابية. وتم الإبقاء على الحدود الدولية لمصر مع منطقة منزوعة السلاح من الجانب الفلسطيني بالعودة وإلزام المصريين بالحد من قواتهم قرب هذه المنطقة منزوعة السلاح (على عمق 14 ميلاً).

وبما أن الدول العربية تعاقبت في المفاوضات بردوس فقد كانت في موقع ضعف وذلك ما يفسر المطالبة التقليدية لدى اسرائيل بالتفاوض مع كل دولة عربية، وكان توقيع أول اتفاق للهدنة دليلاً على ذلك، فمنذ يوم 4 مارس 1949 استولى الجيش الاسرائيلي على جنوب النقب والمنفذ الى خليج العقبة في إطار (عملية الامر الواقع) ويتذرع الاسرائيليون بأن هذه الأرض قد منحتها لهم خطة التقسيم، ورد العرب أنه، ينبغي في هذه الحالة العودة الى كامل خطة التقسيم والتخلي عن الأراضي المغزوة الاخرى.. وأوقف القتال يوم 11 مارس 1949، وقامت انجلترا التي كانت متخوفة من تهديدات مباشرة ضد الاردن، إرسال الامدادات الى العقبة لاظهار إراداتها حماية التراب الأردني. وأعربت مصر عن سخطها عما تعتبره انتهاكا لاتفاق الهدنة الذي يمنع ما رأيناه، اللجوء الى القوة. وقررت عدم الاعتراف (بالامر الواقع) والاعتراض على وصول الاسرائيليين الى البحر الاحمر. وكان تلك بداية موضع خلاف اصبح سبباً لحربي 1956 و1967.

ووقعت الهدنة مع لبنان يوم 23 مارس 1949. وجلت إسرائيل عن قرى لبنانية أربع كانت تحتلها قواتها. وكان الخط الفاصل يتبع الحدود الدولية وأنشئت منطقة منزوعة السلاح على جانبي الحدود لا ينبغي لكلا الطرفين الاحتفاظ فيها بأكثر من 1500 جندي.

أما المفاوضات مع الاردن فبدأت بداية سيئة بسبب (الامر الواقع) وسرعان ما اغلق النقاش حول انسحاب القوات العراقية من جنوب الضفة العربية. ورفض العراقيون التفاوض مع الاسرائيليين وتخلوا عن مواقعهم لصالح الجيش العربي البالغ 11.000 جندي مقابل 110.000 جندي للجيش الاسرائيلي. وفي 18 مارس وجهت اسرائيل انذار الى الأردن. وقالت ان اسرائيل لا تقبل بنشر الجيش العربي الا بشرط التخلي عن أراض اضافية، وجرت المباحثات مباشرة بالقصر الملكي الأردني. وناشد الملك عبد الله مساعدة الولايات المتحدة. ورد عليه الرئيس ترومان بأن لإسرائيل الحق في الاراضي التي منحتها إياها خطة التقسيم وأن التعديلات ينبغي أن تتم على أساس تعويضات ترابية تعطي للعرب. لكن بما أن اتفاق الهدنة لا يمس التسوية النهائية فلم تتحرك الولايات المتحدة الا من خلال لجنة التوفيق. واضطر الاردنيون الذين تخلى عنهم الامريكيون لتسليم مساحة تمتد على ميلين اثنين من العمق و55 ميلاً من الطول تقريباً. والتزم الاسرائيليون باحترام حقوق السكان العرب المعنيين. وفي والواقع تم طرد من 12.000 الى 15000 عربي في نهاية يونيو 1949، لاسباب امنية رسمياً (لاستحالة الابقاء على سكان عرب بأعداد كبيرة على طول الحدود) وعندما تحرت لجنة الهدنة حول هذا الخرق، كان الرد بأنه من الأفضل لهؤلاء السكان ألا يعودوا الى اسرائيل بالنظر الى المعاملة التي تنتظرهم.

وقعت الهدنة يوم 3 أبريل 1949. وفي إسرائيل انتقد اليمين القومي بزعامة بيغين بن جوريون لعدم اغتنامه فرصة التفوق العسكري الساحق لغزو كامل فلسطين المنتدبة. وحدد بن جوريون السياسة الاسرائيلية بأولويات اخرى اذ ينبغي تعويض العرب بيهود مهاجرين يستقرون فوق الأراضي المصادرة لجعل الغزو لا رجعة فيه. فامتلاك الارض ينبغي أن يتم قبل التوسع الترابي، وعلى كل ـ، وحسب فحوى اتفاق الهدنة ـ فإن اسرائيل لا تعترف بشرعية ضم الضفة الغربية وتحتفظ بامكانية العمل في المستقبل. والتوسع الجديد سيتم في فترة قادمة والأولوية السياسية الحالية تتمثل في إبعاد العرب عن حماية القوى العظمى لبناء منطقة نفوذ إسرائيلية بالشرق الأوسط. وجرت مفاوضات جديدة بالقدس لتحديد خطوط الهدنة في المدينة المقدسة بشكل أدق. وطالب الإسرائيليون بتعديلات لصالحهم دون عرض تنازلات معادلة من جانبهم، لذلك فشلت هذه اللقاءات.

وأما مع سوريا فإن مسألة الهدنة كان موضوعها وضعية الشريط الترابي الفلسطيني الذي كان ما يزال بين أيدي الجيش السوري. والحال أ، سيد سوريا الجديد بعد انقلاب عسكري حسني الزعيم المقرب من الولايات المتحدة قد اقترح معاهدة سلام مع اسرائيل وتبادل سفراء وعلاقات وثيقة مقابل ضم هذا الشريط الى سوريا. فرفض الإسرائيليون وطلبوا انسحاب سوريا الفوري الى الحدود الدولية وأكدوا بأن ذلك سيكون تنازلاً عن جزء من التراب الفلسطيني لدولة عربية وهو عمل مخالف لروح خطة التقسيم، ذلك لعدم وجود دولة عربية مستقلة بفلسطين ولأن احتمال قيامها يبدو مستبعداً في المستقبل ويفهم من هذه المحاجة أن إسرائيل هي الوريث الوحيد لوصاية بريطانية على فلسطين مثلما أظهر ذلك موقفها من مصير الضفة الغربية. فاقترح حسني الزعيم مقابلة بن جوريون وقبول مبدأ إعادة توطين 25.000 لاجيء فلسطيني أو أكثر بشمال سوريا. وتمسك بن جوريون بمطالبته بالانسحاب المسبق الى الحدود الدولية مع أن حسني الزعيم رفع عرضه الى 300.000 لاجيء فلسطيني. وفي النهاية التزمت سوريا بالجلاء عن الشريط الذي كانت تحتله بشرط أن يكون منزوع السلاح كلية وذلك ما خلق موضوع خلاف ترابي أصبح في العقود الموالية مسألة الجولان.

المحاولات الأخيرة للتسوية

كلفت منظمة الأمم المتحدة لجنة الوفاق بإيجاد حل للمشكل الفلسطيني. وكانت هذه اللجنة مكونة من ممثلي فرنسا وتركيا والولايات المتحدة. ومنذ البداية حاولت تطبيق قرار ديسمبر 1948 حول عودة اللاجئين. واعترض بن جوريون على ذلك اعتراضاً مطلقاً، وقررت اللجنة عقد مؤتمر بلوزان من مختلف الاطراف المعنية، وكان للقوى الغربية وسائل ضغوط قوية على إسرائيل إذ كان مفهوماً أن قبول إسرائيل بالأمم المتحدة يتوقف على تصرفها في المفاوضات.

افتتحت الندوة بلوزان يوم 27 أبريل 1949 واستمرت حتى 15 سبتمبر 1949. ووضع العرب عودة اللاجئين شرطاً مسبقاً وفق قرار الأمم المتحدة وأراد الإسرائيليون البدء بتسوية الخلافات الترابية قبل التعرض لهذه المسألة. ومع ذلك فقد أحرزت اللجنة نجاحاً كبيراً بمصادقة كل الاطراف على اتفاق لوزان يوم 12 مايو 1949 الذي ينص على أن أساس المفاوضات سيكون خطة التقسيم ليوم 29 نوفمبر 1947 التي اعترفت بها هكذا الدول العربية رسمياً، واقترحت في الحال الاعتراف بحق العودة للاجئين القادمين من الأراضي العربية التي جددتها خطة التقسيم وغزتها إسرائيل.

ومنذ أبريل 1949 وإثر عروض جاءت من بن جوريون اقترحت اللجنة ضم شريط غزة لإسرائيل التي تقوم بتوطين اللاجئين به. وأيدت الولايات المتحدة المشروع الذي ربما يفسر على أنه قبول من اسرائيل بمبدأ عودة اللاجئين وأدرك الاسرائيليون أنهم قدروا عدد لاجئي قطاع غزة دون عددهم الحقيقي الذي ارتفع الى 230.000 لا الى 100.000 حسب تقديرهم الاول. وذلك ما يجعل سكان هذا القطاع 310.000 لا 180.000 فعدلوا عن عرضهم (أبريل، يوليو 1949) الذي رفضته مصر بدورها.

ومع ذلك أبدى العرب تساهلاً، إذ بد عرض حسني الزعيم باستقبال 300.000 لاجيء كان دور العراق الهاشمي ان اعلن استعداده لاخذ 300.000 بشرط ان تخضع اسرائيل لمبادئ خطة التقسيم ولقرار 11 ديسمبر 1948، وصار الأمر قريباً من العروض الامريكية التي تقترح توطين 500.000 لاجيء في البلدان العربية و200.000 باسرائيل. وفي يوم 31 يوليو اقترح في نهاية كل حساب عودة 100.000 لاجيء وهو رقم سحري يذكر برقم الاشخاص اليهود الذين تم نقلهم سنتي 1945 ـ 1947. ويدخل الاسرائيليون في ذلك المجموع 25.000 لاجيء قد عادوا بالتسلل عبر الخطوط الفاصلة و30.000 تم قبولهم في اطار برنامج اعادة جمع العائلات. وكان العرض الحقيقي لا يهم سوى 45.000 شخص وذلك امر لا يمكن للعرب قبوله ولا للجنة المصالحة.

وفيما يخص مسألة الحدود، أعلن الوفد الاسرائيلي الواثق الآن من موافقة الولايات المتحدة غير المشروطة لقبول اسرائيل بالأمم المتحدة، أعلن على الملأ ان الارض الاسرائيلية تتكون من الارض التي أعطتها اياها خطة التقسيم مضافاً اليها الغزوات الترابية وأن الخطوط الفاصلة ينبغي اعتبارها حدوداً نهائية. وجرت اتصالات سرية على هامش المؤتمر بين الاسرائيليين والأردنيين والمصريين (بشكل منفصل) واقترح العرب أثناءها إعادة الاتصال الترابي للعالم العربي (الأردن حتى البحر المتوسط ومصر حتى البحر الميت) مقابل الاعتراف باسرائيل وعلاقات حسن الجوار. ورفض الاسرائيليون واقترحوا حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم لاقتراح تأسيس دولة فلسطينية بالضفة الغربية تحت اشرافهم المباشر، وهي خطة حكم ذاتي للضفة في اطار اسرائيل. وكانت تلك وسيلة للضغط على الأردن أكثر منها رغبة حقيقية من جانب اسرائيل.

وفي خريف 1949 استؤنفت الاتصالات بين الاسرائيليين والأردنيين حول إمكانية استحداث ممر أردني حتى البحر المتوسط، ورأى الاسرائيليون أن هذا الممر ينبغي ان يكون رمزياً أساساً ذا عرض يتراوح بين 50 مترا و100 متر. أما الاردنيون فكانوا يتصورونه ارضاً حقيقية عرضها عدة كيلو مترات وفي فبراير 1950 اقتصر النقاش دون جدوى حول اتفاق عدم اعتداء بين إسرائيل والأردن. وكانت المواقف لا تقبل التوفيق فيما بينها الا بخصوص رفض تدويل القدس الذي طلبته الامم المتحدة. وفي أبريل 1950 جرت الانتخابات في الاردن في حرية نسبية. وفي 24 أبريل 1950 صوت البرلمان الجديد لصالح دمج الضفة الغربية وشرق الأردن. واعترفت الجامعة العربية بالضم اعترافاً فعلياً لا اعترافاً قانونيا. وفي يوم 27 ابريل اعترفت بريطانيا العظمى بإسرائيل ومدت في ذات الوقت مجال عمل الاتفاقية الانجليزية الاردنية لتشمل الضفة الغربية باستثناء القدس.

كانت القوى الغربية المهتمة باعادة تنظيم جهازها العسكري بالشرق الأوسط في اطار حرب بارادة بدأت تهدد جدياً، كانت في حاجة لتنشيط اتفاقات التعاون العسكري مع دول الشرق الأوسط ولإقامة احلاف حقيقية. فقررت استئناف تسليم الاسلحة. ولكي لا يتحول النزاع العربي الاسرائيلي الى سباق للتسلح اختارت تجميد الحدود الترابية بضمان جماعي للقوى العظمى. وكانت واثقة بأن هذه الضمانات ستسمح بتهدئة مخاوف الدول العربية في وجه التوسع الصهيوني الاسرائيلي. كان ذلك معنى الاعلان الثلاثي (فرنسا وبريطانيا العظمى والولايات المتحدة) بتاريخ 25 مايو 1950.

(إن حكومات المملكة المتحدة وفرنسا والولايات لمتحدة التي أتيحت لها اثناء لقاء لندن الأخير لوزراء الخارجية ـ فرصة بحث بعض المسائل المتصلة بسلام الدول العربية واسرائيل واستقرارها وخاصة مسألة ارسال الاسلحة والعتاد الحربي الى هذه الدول قررت إصدار الاعلان التالي:

((1) إن الحكومات الثلاث تعترف بأن الدول العربية وإسرائيل في حاجة للإبقاء على مستوى معين من القوات المسلحة بنية ضمان أمنها الداخلي ودفاعها المشروع ولتتمكن من لعب الدور العائد لها في الدفاع عن كامل المنطقة. وإن كل طلب للحصول على السلاح والعتاد الحربي لهذه البلدان سيدرس على ضوء هذه المبادئ. لذا ترغب الحكومات الثلاث في التذكير والتأكيد على نص الاعلان الصادر عن ممثليها بمجلس الامن بتاريخ 4 اغسطس 1949 والذي أعلنت فيه عن معارضتها لتطور سباق التسلح بين الدول العربية وإسرائيل.

(2) تعلن الحكومات الثلاث انها تلقت من كل البلدان المستفيدة حالياً من شحنات الاسلحة التأكيد بأن الدولة المشترية لا تنوي القيام بأي عمل عدواني ضد دولة أخرى. وستطلب تأكيدات مماثلة من أي دولة من هذه المنطقة ستسمح الحكومات الثلاث بأن ترسل اليها أسلحة في المستقبل.

(وتغتنم هذه الحكومات الفرصة لاعلان اهتمامها العميق بهذه المسألة ورغبتها في المساعدة في إعادة السلام والاستقرار في المنطقة والإبقاء عليهما ولإعلان معارضتها الدائمة لكل استعمال للقوة وكل تهديد باللجوء الى القوة بين أي من بلدان المنطقة. وإن الحكومات لثلاث إذا ما لاحظت أن دولة ما من هذه الدول تستعد لخرق الحدود أو خطوط الهدنة، لن تتوانى ـ تماشياً مع التزاماتها باعتبارهما أعضاء في الأمم المتحدة ـ عن العمل في الحال داخل إطار الامم المتحدة وخارجه لتوقيف هذا الخرق.)

والإعلان الثلاثي، في رأي العرب، اعتراف من جانب واحد بعمليات ضم الأراضي الإسرائيلية وهو يظهر عداء الغرب لمواقفهم ومصالحهم.

اعتقد البريطانيون أن بإمكانهم تسوية خلافاتهم مع المصريين حول مسألة قاعدة السويس باقتراح نقلها الى قطا غزة وذلك ما يمكن الانجليز من الوقوف حائلاً بين المصريين والاسرائيليين وبالتالي من الحد من خطر النزاع دون المساس بسيادة اولئك وهؤلاء الترابية (إذ لم الفلسطينيون يعتبرون معنيين بالقضية). وان مثل هذا العمل يفترض معاهدة سلام بين اسرائيل وامصر ولم يلبث هذا المشروع ان تم التخلي عنه.

أصبحت خطوط الهدنة فرصاً للنزاع إذ كان اللاجئون يسعون للعودة الى أراضيهم او الى استعادة جزء من املاكهم المصادرة. وكان الاسرائيليون يردون بعمليات انتقامية ضد مناطق انطلاق التسللات. وصارت هذه الأخيرة تتحول الى عمليات فدائية. وكان ديان القائد الميداني للقوات الاسرائيلية يدعو الى توسع اسرائيلي جديد في الضفة الغربية. وكان شاريت من انصار استئناف الاتصالات مع الأردنيين الذين يجتهدون في منع التسللات. وكانوا يريدون دمج السكان الفلسطينيين في المملكة ولكن هؤلاء كانوا يعبرون عن إرادتهم البقاء فلسطينيين قبل كل شيء. ولقد أصبح النظام الاردني غير محبوب شعبياً نتيجة قمع الوطنية الفلسطينية وفشل الجيش العربي أمام الغارات الاسرائيلية في الوقت الذي كانت فيه اسرائيل تواصل المطالبة والاستيلاء أحياناً على مساحات اردنية صغيرة تحت ذرائع شتى. مع أن عبد الله حاول في بداية 1951 أ، يستأنف من جديد اتصالاته بالاسرائيليين غير أ، النقاش لم يعد يدور الا حول اتفاقيات الهدنة. وإثر خلافات مستمرة حول تأويلها اقترح الأردن عرض الملف على محكمة العدل الدولية أو على هيئات قضائية أخرى من نفس القبيل. ورفض الاسرائيليون. وفي يونيو 1951 أعرب ملك الاردن عن مرارته امام مبعوث لممثل الولايات المتحدة بلجنة توفيق الامم المتحدة.

(إني رجل مسن وأعلم ان سلطتي محدودة وأعلم أن ابني ذاته يكرهني (…) وأعلم كذلك ان شعبي يكرهني بسبب محاولاتي من اجل السلام. ولكني رغم كل ذلك أعلم أن بإمكاني الحصول على تسوية سلمية لو أن لي فقط بعض التشجيع ولو أني أتمكن من الحصول على تنازلات معقولة من إسرائيل)(…)

إنه يقول إن شعبه يكرهه لانه يتهمه بأنه يريد إبرام السلام دون تنازلات من جانب اسرائيل. وألح على ان ذلك عائق لا يمكنه تخطيه. ويقول: (أرجوكم افهموا أنه برغم الجامعة العربية سأحصل على تأييد شعبي وموافقة البريطانيين الضمنية على الأقل لو أستطيع تبرير السلام بإظهار التنازلات التي يقوم بها اليهود. أما بدون أية نازلات فإني مهزوم حتى قبل أن أبدأ.)

(وبخصوص اللاجئين قال: إنه يشعر أن إعادتهم جميعهم الى بلادهم أو حتى تعويضهم الكامل مستحيل لكنه اعرب عن اقتناعه بأن غمهم سيخفف منه لو ان اللاجئين الملاك يمكنهم العودة الى اسرائيل لفترة لتسوية شئونهم وإذا ما استطاع اللاجئون الحصول على عادات أملاكهم إن لم يحصلوا على أملاكهم ذاتها. وأن هذا بالاضافة الى تسوية معقولة للحسابات المصرفية المجمدة سيجعل من الممكن للكثير الاستقرار في أماكن أخرى ونسيان مرارتهم.

(وأنهى الملك اللقاء قائلاً (من فضلكم ساعدوني فبإمكاني التصرف إذا ما حصلت على المساعدة والتشجيع ولكني شيخ ولا أريد أن أموت مكسور الخاطر)[11] .

كان لقاء جديد سيتم بالقدس بين الملك وبين الممثلين الاسرائيليين. وذهب الملك الى هناك يوم 20 يوليو 1950 فاغتيل في المسجد الاقصى حيث قتله أحد انصار مفتي القدس. واتخذ الاسرائيليون مصير الملك مثلاً لإظهار تصلب العرب تجاه اسرائيل. لكن فشل عبد الله الذي حاول كل أشكال التسوية الممكنة مع الحركة الصهيونية يدل على الأصح على أن المسئولين الصهاينة لم يكونوا مستعدين للقيام بأبسط تنازل للمصالح العربية وأن موقف العرب في حالة إجراء مفاوضات ثنائية كان أضعف من أن يحصل على أي شيء. وعلى العكس من ذلك كان العرب عرضة للأوامر المفروضة مثلما كان الأمر لدى إبرام اتفاقية الهدنة الاسرائيلية الأردنية.

وفي يوم 21 يوليو استخلص بن جوريون الدرس من قطع الاتصالات نهائياً مع العرب. واقترح خطة لغزو الضفة الغربية وسيناء بالتحالف مع بريطانيا التي تضمن بذلك قواعدها بمنطقة القناة. ورد المسئولون البريطانيون سلباً على العروض الإسرائيلية.

وفي سنة 1951 قامت لجنة توفيق الامم المتحد بمجهود جديد وأفلحت في جمع مؤتمر على نمط لوزان بباريس في سبتمبر 1957 وأرادت أن تكون واقعية فاقترحت خطة إجمالية تعتمد على توطين أغلب اللاجئين في البلدان العربية ويعطي لجزء فقط الحق في العودة. كما اقترحت خطة تنمية إقليمية على أساس سلطة جماعية تدير مياه الأردن. وتتم تغييرات ترابية صغيرة لصالح العرب ويستحدث ميناء حر بحيفا. وأن استئناف العلاقات السلمية سيمكن من نمو اقتصادي مفيد للجميع.

وفي وجه تحذير الرأي العام المتزايد ألحت الدول العربية على التطبيق الكامل لقرارات الأمم المتحدة، قرار التقسيم وقرار اللاجئين. أما الإسرائيليون فقد زعموا ان هجرة يهود البلدان العربية (خاصة يهود العراق) يعني تقريباً تبادلاً حقيقياً للسكان يحرر الدولة العبرية من ضرورة قبول حق عودة اللاجئين الفلسطينيين المستحيلة لاسباب أمنية واقتصادية وسياسية، ولن تدفع إسرائيل تعويضات إلا بعد رفع إجراءات المقاطعة والحظر ضد اقتصادها، أما خطة التقسيم فقد أصبحت لاغية بالاجتياح العربي في مايو 1948 (الذي حملوه كذلك مسئولية مشكل اللاجئين).

بعد فشل المؤتمر طالبت إسرائيل بإلغاء لجنة التوفيق وتعويضها بلجنة مساعي حميدة للأمم المتحدة. وبما أن الدول العربية لم تحصل على أي شيء من هذه المؤسسة التي كانت من وحي الغرب وأن الغرب في مجمله كان يبدو لهم بشكل متزايد أنه حليف لإسرائيل فإن هذه المؤسسة قد علق نشاطها رغم تجديد مهمتها في يناير 1952 ما دام لم يلجأ اليها أي طرف.

ان النزاع العربي الاسرائيلي يقوم أساساً على إرادة الحركة الصهيونية أن تعتبر نفسها المالك الشرعي الوحيد للأرض الموعودة وعلى رفض السكان الفلسطينيين القبول بحرمانهم منها، وكان التصلب والشدة في السياسة الصهيونية ثم الإسرائيلية أساسهما الانضمامية الترابية وكذلك نقل التجربة الاوروبية المعادية للسامية والمذابح النازية فكل خصم للمشروع الصهيوني كان يعتبر معادياً للسامية بل نازياً وكان بالتالي يحارب على هذا الأساس. وقد تم جر الدول العربية الى النزاع بسبب تعاطفها الحقيقي مع القضية الفلسطينية والخوف من توسع اسرائيلي ينمو خارج حدود فلسطين الانتداب وبعدائها بعضها لبعض الذي تحول الى شكوك مبررة بإرادة الاستيلاء أو السيطرة على جزء من فلسطين العربية.

وفي سنة 1949، كان الاتفاق ممكناً مادامت الكارثة قد قضت على القوى الحية للسكان الفلسطينيين المراقبين من قبل السلطات العسكرية في اسرائيل بخصوص السكان العرب الباقين أو من قبل القوات البوليسية في مختلف الدول العربية التي كانت تدير ما تبقى من فلسطين العربية أو التي استقبلت اللاجئين على أراضيها. ولقد قبلت الدول العربية سنة 1949 بوجود دولة إسرائيل وبمبدأ توطين أغلبية اللاجئين الفلسطينيين في الدول العربية لقاء عودة جزء من اللاجئين وتخلي اسرائيل عن جزء من غزواتها الترابية، أما إسرائيل فلم تكن تعرض غير الاعتراف بالامر الواقع الترابي والبشري لذلك لم تجر أية مفاوضات حقيقية.

منذئذ قدر للنزاع العربي الاسرائيلي أن يدوم مع رغبة اسرائيل في تأكيد وجودها وعرضياً بعد فترة توطيد، استئناف توسعها الترابي ومع عودة المطالبة الفلسطينية الى الظهور تدريجياً بالعمليات الفدائية الأولى على طول الخطوط الفاصلة وبالتجذير الثوري والقومي للعالم العربي منذ الخمسينيات. غير أن المشهد السياسي للشرق الأوسط تحدد كذلك بانهيار الجهاز الدفاعي البريطاني وتوسع نزاع القوى العظمى في هذه المنطقة من العالم.

 

[1]  ثيودور هرتزل L Etat Juif، باريس، ستوك، 1981 ص 40.

[2] ألان بواييه، Les Drigines du sionisme، باريس، 1988 ص ص 93 ـ 94.

[3] دافيد فيتال، Zionism: the Crucil Phase، اكسفورد 1987 ص ص 61 / 62.

[4] رونيه نبهير برهايم La Declaration Balfoor جوليار، باريس مجموعة (Archives) 1969 ص 366

[5] Correspondance D' Orient 1920 ـ الجزء الأول ص 360.

[6] Les Cahier de' L'Orient Contemporain 1948 ص ص 163 ـ 164.

[7] بني موريس The Birth of Palestinian Refuge Problem 1947 ـ 1949. كامبريدج، 1978. ص 28.

[8] Foreign Relations of United States, 1948 مجلد 5/2 ص ص 983 ـ 984 واشنطن 1976.

[9] آفني شليم Collustion Across the Jordan، اكسفورد، 1988 ص 256.

[10]  Foreign Relations of United States, 1948 مجلد 5/2 ص ص 1284 ـ 1249، 1976 واشنطون.

[11]  Foreign Relations of United States, 1951 مجلد 5 ص 73 واشنطون 1982.

 

 

 
 

 

موارد نصيـة

هنري لورانس

 

اللعبة الكبرى

المشرق العربي والأطماع الدولية

ترجمة: عبد الحكيم الأربد

مراجعة: د. رجب بودبوس

المحتــوى

مقدمـة

الفصل الأول: المشرق العربي عقب الحرب العالمية الثانية. جذور مصر المعاصرة

الفصل الثاني: النزاع العربي الإسرائيلي

الفصل الثالث: زمن الثورات. الثورة المصرية

الفصل الرابع: الإبقاء على الدول العربية

الفصل الخامس: من حرب إلى أخرى (1967-1973)

الفصل السـادس: الحـرب أو السـلام

الفصل السابع: العروبـة في أزمـة

الفصل الثامـن: التشكـلات الجديدة

الخاتمــة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.