التنازع من اجل سوريا
انتخابات سنة
1954
صحب سقوط الشيشكلي العودة الى مؤسسات الجمهورية
النيابية. وفي غرة مارس عام 1954 شكل الحكومة الجديدة احد
الاعيان التقليديين هو صبري العسلي.
وكان تمثيل احدى تلك العائلات الكبرى التي كانت تهيمن على المجتمع السوري
وكان قومياً عربياً اشتهر بـالنضال ضد الانتداب الفرنسي. واعتمدت حكومته على تحالف حزبين من أحزاب الوجهاء هما الحزب
الوطني وحزب الشعب. ورفض دعم قادة
حزب البعث الذين يفضلون اندماج حزب الاشتراكيين العرب لاكرم حوراني مع
حزبهم لاصبحت لهم قوة من الطراز الاول ولعبوا دوراً رئيسياً في الكفاح ضد
الدكتاتورية العسكرية.
استفاد العراق من اسقاط الشيشكلي لاعادة طرح مشاريعه
الخاصة بالهلال الخصيب. وكانت مصر
تبدو منشغلة بالصراع على السلطة بين عبد الناصر ومحمد نديب والمفاوضات مع
بريطانيا العظمى. وكان جمال عبد
الناصر ينظر اليه على انه مناصر للامريكان وسلطوي مفرط، ولقد زاد من حذر
القوميين العرب تجاهه توقيعه المعاهدة الانجليزية المصرية وقمعه الاخوان
المسلمين.. وفي السعودية توفي الملك
عبد العزيز بن سعود سنة 1953 وكان
خلفه سعود ذا مواهب وطبع دون تلك التي كانت لابيه، ولئن واصلت فرنسا
دعمها استغلال سوريا فان بريطانيا كانت تفضل بقاءه على الحياد مادام
بترول الشركة العراقية للنفط يمر بحرية عبر سوريا. لذا كان العراق مستفيداً من وضع ملائم وبشكل خاص.
تفاوض العسلي سراً مع العراق في شان مشروع الهلال
الخصيب الذي يتم تحقيقه بتدخل عسكري عراقي. كما كان مهتماً بان يسعى الى تقارب مع الولايات المتحدة. وكان القادة العسكريون ضد هذا المشروع ومارسوا ضغوطاً ادت الى
سقوط الحكومة يوم 11 يونيو سنة
1954.
وشكلت وزارة جديدة برئاسة سعيد الغازي وكان توجهها لا
حزبياً وهدفها الوصول الى انتخابات حرة من كل ضغوط. وحدد لهذه الانتخابات يوم 20
اغسطس 1954 ثم يوم 24 سبتمبر بناء على طلب من الاحزاب
السياسية. وتوصل الغازي الى ضمان
حملة انتخابات حرة وخاصة الى تصويت سري مع اقامة معازل تكفل استقلال خيار
الناخبين.
سمحت الحملة الانتخابية لكل حزب بعرض مواضيعه الهامة،
ولقد وجد الحزب الوطني التشجيع في عودة مؤسسه شكري القوتلي من المنفى،
وكان اعداؤه يصفونه بانه ممثل المملكة العربية السعودية والولايات
المتحدة، وكان حزب الشعب يبدو دوماً رغم ما يقوم به من نفي، كما لو كان
حزب المناصرين للاتحاد مع العراق وكان حزب البعث بقيادة عفلق وحوراني له 6000 مناضل منضبطين، ولقد قام
حوراني بجهود كبرى للدعاية ضمن طبقة المزارعين (التي كانت ماتزال تمثل ثلاثة أربع
مجموع السكان)، وكان يظهر بمظهر
العدو لكبار الملاك. وبالاضافة الى
ذلك كان حزب البعث مع الشيوعيين الحزب الوحيد الذي كان له برنامج سياسي
شامل، وكان هذا الحزب يطالب كذلك بتشريع يحمي العمال امام أرباب عملهم
باصلاح زراعي لصالح المزارعين. ورغم
هجمات السلطات الدينية الاسلامية العديدة المتهمة هذا الحزب بالالحاد فقد
كانت اجتماعاته تلاقي نجاحات. وتبع
الحزب الشيوعي لخالد بقداش تغيير الخط الذي امرت به موسكو بعد موت ستالين. فالاحزاب القومية لا ينبغي ان تعتبر عدوة الطبقة بل حليفة في اطار
الكفاح ضد الامبريالية، غير ان البعث كان يرفض التعاون معه. وكان مرشحو الحزب يستعملون بطاقات اخرى مثل (الاتحاد الوطني) فلم يكن يسمح لهم بالترشح باعتبارهم شيوعيين. وظل الحزب القومي السوري قوة هامة رغم افتقارها للدعم الشعبي. وبعد منعه في لبنان سنة 1949،
اتخذ مقره في دمشق، وكانت دعايته تلح على الخطر الاحمر وعلى المعاداة
للشيوعية بشكل عام وللاشتراكية، ولم يتقدم الاخوان المسلمين للانتخابات
بصفتهم تلك ولكنهم اظهروا تضامنهم مع اخوانهم المصريين الذين كان النظام
الناصري يلاحقهم وقاموا بحملة عنيفة جداً ضد الناصرية. وكان يوجد بعض الاحزاب السياسية الصغيرة خاصة مستقلون ذوو مشارب
شتى.
جاءت النتيجة من 142 مقعداً كالتالي: 64 مستقلاً
و30 لحزب الشعب و22 لحزب البعث و19 للحزب الوطني
و2 للحزب القومي السوري و4 لاحزاب شتى وواحد للحزب الشيوعي. وبالاضافة الى فوز المستقلين الذي كان دليلاً على ضعف الاحزاب،
كان الحدث الاكبر هو صعود حزب البعث المرتبط خاصة نشاطات حوراني في منطقة
حماة.. وكان خالد بقداش اول نائب
شيوعي يتم انتخابه في العالم العربي.
وضع فشل حزب الشعب في الانتخابات حداً لكل أمل في تحقيق
الهلال الخصيب بواسطة اقتراح نيابي.
فالتفت العراق نحو استراتيجية اخرى هي حلف بغداد. كان الامريكان قلقين للتوجه السوري ورأوا في تلك الانتخابات
الدليل على ان تلك البلاد على استعداد للسقوط بين ايدي اليسار الراديكالي
والشيوعية. ورأت بعض الصحف
الامريكية ان سوريا قد اصبحت زعيمة الشيوعية العربية والمنتصر الحقيقي
كان الحياد أي رفض كل حلف عسكري مع الغرب.
سوريا في مواجهة حلف بغداد
لقد جعل تأسيس حلف بغداد في فبراير سنة 1955 من سوريا الرهان الرئيسي
للنضال من اجل السيطرة على الشرق العربي. وكان النظام النيابي الهش واقعاً تحت ضغوط قوية زاد قوتها ان
ممثلي المسرح السياسي كانوا يتقمصون النزعات السياسية الهامة التي كانت
تتنازع العالم العربي.
كان حوراني ينشط الائتلاف المعادي لحلف بغداد والذي كان
يجمع اعضاء من الحزب الوطني مع صبري العسلي خاصة الذي تحول الى الجانب
المعادي للعراق ومجموعة المستقلين الذين كان يحركهم خالد العظم سليل احدى
كبريات الاسر السورية والذي لقب (بالمليونير
الاحمر) بسبب آرائه التقدمية وتغلبت
النزعة المؤيدة لمصر. وشكل صبري
العسلي حكومة جديدة يوم 10 فبراير
عام 1955 تولى فيها خالد العظم
وزارة الخارجية. وقام سفير مصر
الجديد محمود رياض (الذي اصبح فيما
بعد وزير خارجية عبد الناصر ثم اميناً للجامعة العربية) بدعم الائتلاف الذي كان في السلطة بقوة. وعلى اثر الغارة الاسرائيلية على غزة يوم 28 فبراير سنة 1955 حصل منذ 2 مارس 1955 على اتفاق التعاون العسكري بين
سوريا ومصر. ويعلن هذا الاتفاق رفض
كل تحالف عسكري على غرار حلف بغداد، وكان دور العقيد المالكي محرك
المعارضة العسكرية للشيشكلي رئيسياً في قبول العسكريين لهذا التوجه
الجديد للسياسة السورية واشتركت السعودية في هذا الحلف الموجه ضد السياسة
العراقية.
لم يكن أحد آنذاك يرى التعارض بين مذهب البعث والسياسة
الناصرية. ومع ذلك كانت العروبة عند
عبد الناصر تتمثل في التضامن العربي مع سياسة الاستقلال المصرية تجاه
القوى العظمى وفي الرغبة في ان يجعل من العرب قوة معترفا بها في المشاكل
العالمية، اما البعث فقد كان يسعى الى رباط عضوي والى اندماج بين كل
العرب يسمح بنهضة كاملة للعالم العربي وباعادة بناء حقيقي للمجتمع
والثقافة، وكانت وحدة العمل مع مصر تبدو للبعثيين مرحلة أولية لا غاية في
حد ذاتها غير ان سوء التفاهم هذا لا يبدو حقاً إلا بتأسيس الجمهورية
العربية المتحدة سنة
1958.
وجدت سوريا نفسها امام نفس مشكل شراء الاسلحة الذي
واجهته مصر، ومنذ سنة 1956 حصلت على
كميات صغيرة من الاسلحة التشيكية إذن فقد كانت الشحنات الاولى الآتية من
الكتلة الشرقية تخص سوريا لا مصر غير ان هذه العملية قد تمت في سرية
كبرى، اما الان فبإمكان سوريا ان تتصرف علناً، لمنعها من ذلك مارست تركيا
في مارس سنة 1955 ضغوطاً بحشدها
الجيوش على الحدود السورية وحذر الاتحاد السوفييتي تركيا بأنه لن يبقى
مكتوف اليدين في حالة تدخل عسكري تركي بسوريا. وبعد مدة قصيرة أبرم اتفاق لبيع أسلحة تشيكية لسوريا ومثلما كان
الامر لمصر كانت أسباب هذا التوجه الجديد رفض الغربيين تسليم الاسلحة
والتوتر مع اسرائيل.
وفي يوم 22 ابريل
سنة 1955 اغتيل مالكي صاحب السياسة
المناصرة لمصر داخل الجيش واقرب العسكريين الى حزب البعث، وسرعان ما تم
التعرف على القاتل باعتباره من مناضلي الحزب القومي السوري وكان هذا
الحزب يسعى للتسلل الى الجيش وكان المالكي عقبته الكأداء، وجاء القمع
شديداً وحكم على قادة الحزب القومي السوري بالاعدام غيابياً والقي القبض
على العديد من المناضلين الذين حكم عليهم بأحكام بالسجن قاسية، وكانت
التهمة الموجهة اليهم هي التآمر مع العراق والولايات المتحدة (ويبدو أن ثمة شيء من الحقيقة بخصوص
هذه الأخيرة) ومنذئذ استبعد الحزب
القومي السوري من المسرح السياسي السوري فانكمش في لبنان حيث واصل نشاطه.
أما في الجيش فالرجل الصاعد كان يدعي عبد الحميد السراج
المولود في حماة سنة 1925 وكان من
المقربين من حوراني وحارب بفلسطين سنة 1948 في فرق المتطوعين السوريين.
ولقد اصبح في مارس 1955 رئيس المكتب
الثاني (مصلحة الاستخبارات) وترأس التحقيق ضد الحزب القومي السوري. وأصبح الجيش مجدداً مركز سلطة حقيقياً كانت له سياسة مستقلة عن
سياسة الحكومة.
في أغسطس سنة 1955
انتخب القوتلي من جديد رئيساً للجمهورية، وكان مرشح المصالحة الشعبية
بسبب ماضيه قائداً قومياً لكنه وجد نفسه مع ذلك عاجزاً عن مواجهة الازمات
المتعاقبة التي كانت تصيب سوريا.
ورغم تشكيل وزارة معتدلة برئاسة سعيد الغزي، واصلت سوريا التقرب من مصر. وفي اكتوبر عام 1955 ابرمت
معاهدة تحالف عسكري مع مصر. ووضعت
قيادة عسكرية مشتركة تحت قيادة عبد الحكيم عامر. والواقع ان اغلب بنود المعاهدة العسكرية ظلت غير مطبقة.
ورداً على ذلك قامت اسرائيل في منتصف ديسمبر سنة 1955 بغارة عسكرية على طول بحيرة
طبرية لتبين لسوريا ان تحالفها مع مصر يزيد من المخاطر ولا يضمن لها
أمنها، وكان الأثر عكسياً فكانت مصر والاتحاد السوفييتي المستفيدين
الرئيسيين من التحذير السياسي في سوريا، وحاول الحزب الشيوعي السوري
الاستفادة من زيادة الاعانة السوفييتية ليفرض نفسه قوة اساسية. وتعاون البعث مع الشيوعيين مع انه كان يتوفى تأثيرهم. وفي شهر يوليو سنة 1956 شكل
صبري العسلي حكومة اتحاد وطني وشارك فيها البعث مشاركة نشطة وتسلم صلاح
البيطار فيها وزارة الشئون الخارجية وهي وزارة رئيسية. كانت الولايات المتحدة منذ عام 1955 تعد مع بريطانيا لقلب نظام الحكم في سوريا. وكانت خطة (التنازع) رسمت حوادث حدودية تنظمها تركيا وتمرداً قبلياً تحركه بريطانيا
ونشاطات للحزب القومي السوري تدعمها الولايات المتحدة تفضي جميعها الى
استيلاء المناهضين للشيوعية على السلطة بمساعدة الجيش العراقي عند
الاقتضاء.
غير أن أزمة السويس أدت الى توقف المباحثات بين
الأنجلوسكسونيين. وحددت وكالة
الاستخبارات المركزية الامريكية تاريخ العملية ليوم 25 أكتوبر ثم ليوم 30 اكتوبر دون أن تعلم ان ذلك يوافق (الروزنامة) التي وضعت بسافر.
كان أثر أزمة السويس على سوريا عظيماً. وقد اشار خطاب التأميم بتاريخ 26 يوليو صراحة الى التضامن والاتحاد بين مصر وسوريا. وكان الرأي العام السوري يرى ان عبد الناصر قد أصبح بحق البطل
العربي. وفي يوم 30 أكتوبر سافر القوتلي الى موسكو
طالباً مساعدة السوفييت للعرب. ورد
هؤلاء بأن التدخل العسكري من جانبهم غير وارد وأن على عبد الناصر ان يلعب
ورقة الامم المتحدة والرأي العام العالمي. اما سوريا فقد تلقت كميات هامة من الاسلحة وقام بعض الضباط بتخريب
خط أنابيب شركة النفط العراقية وقطعت الطرق الرئيسية لتزويد أوروبا
الغربية بالنفط رغم ان خط أنابيب التابلاين التابع لأرامكو قد أبقي عليه
استجابة لطلب عبد الناصر، وقد اكتشفت المؤامرة وتم اعتقال منظميها. وظنت مصالح الاستخبارات الغربية وجود جسر جوي موجه الى سوريا،
ربما كان توطئة لحرب عالمية ثالثة (5/6 نوفمبر عام 1956) وكان ذلك
أحد اسباب الضغوط الامريكية للحصول على وقف لاطلاق النار بالسويس.
ولقد كان لفشل المؤامرة ان تدعم موقف العناصر الجذرية
السورية وصار السراج وحوراني والعظم وخالد بقداش سادة البلاد الحقيقيين. وقد أقصي عن السلطة اكثر العناصر اعتدالاً.
مذهب ايزنهاور والازمة السورية لسنة 1957
لقد اضطرت قضية السويس الولايات المتحدة الى اعادة
تحديد سياستها بالشرق الأوسط حتى تحسب حساباً لانحسار بريطانيا وصعود
الاتحاد السوفييتي. وقدم إيزنهاور
يوم 5 يناير سنة 1957 الخط السياسي الامريكي الجديد
الذي يتم التصويت عليه بالكونغرس يوم 9 مارس 1957 ـ وبرر مذهب
أيزنهاور الوجود الامريكي بالمنطقة باهمية البقاع المقدسة التي لا ينبغي
ان تسيطر عليها قوة ملحدة وبموقع المنطقة الاستراتيجي وبالثروات النفطية
الطائلة.
كان ينظر الى الوجود الامريكي بانه ضروري ضرورة حتمية
لملء أي فراغ قوة في المنطقة ذلك الفراغ المترتب عن اختفاء دور فرنسا
وبريطانيا، ويسمح هذا المذهب لرئيس الولايات المتحدة، اضافة الى المساعدة
الاقتصادية والمالية (باستعمال
القوة المسلحة اذا ما رأى ضرورة ذلك، لمساعدة أية أمة أو مجموعة أمم تطلب
مثل تلك المساعدة ضد عدوان مسلح آت من أي بلد تسيطر عليه الشيوعية
الدولية).
أكدت الولايات المتحدة علناً ولأول مرة على اراداتها
أخذ مكان حليفتيها الأوروبيتين في المنطقة. ولقد تم التخلي عن فكرة سياسة منسقة مثلما كان الامر في عهد
الاعلان الثلاثي او عهد الميثاق المشترك ـ وأظهرت ازمة السويس ان تحالف
الحلف الاطلسي لا يمكن تطبيقه خارج القارة الاوروبية، ويقر مذهب ايزنهاور
إقامة علاقات من جانب واحد بين كل دولة عربية تقبل ذلك وبين الولايات
المتحدة. وهو يعتمد على ان اغلبية
الدول العربية في بداية عام 1957
كانت ما تزال تقودها حكومات صديقة للغرب. ورغم ان سوريا كانت المستهدفة اكثر من مصر فلم يستطع عبد الناصر
أن يرى في الموقف الامريكي الجديد غير استئناف في كل آخر للسياسة الغربية
الهادفة الى عزل مصر عن العالم العربي. ولقد اختفت امكانيات التقارب المصري الامريكي التي ظهرت على اثر
تصرف الولايات المتحدة اثناء ازمة السويس وجلاء اسرائيل عن سيناء تحت
الضغط الامريكي. ورد الاتحاد
السوفييتي يوم 11 فبراير سنة 1957 بخطة شيبيلوف الموجهة مباشرة
الى الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وتنص هذه الخطة على حل سلمي
لنزاعات الشرق الاوسط وعدم التدخل في الشئون الداخلية لبلدان المنطقة
والغاء كل الاحلاف العسكرية والغاء كل تزويد بالاسلحة. واقترح الاتحاد السوفييتي على الغربيين دون المرور بالعرب، تحييد
الشرق الاوسط بشكل يسمح للاتحاد السوفييتي بتحديد منطقة نفوذ معترف بها
من قبل الامريكان. ورفض هؤلاء
المقترح. وكان لسياستهم هدف رئيسي
ودائم هو طرد الاتحاد السوفييتي من الشرق الاوسط أما غاية هذا الأخير
الدائمة ايضاً فهي حمل الغربيين على ان يعترفوا له بوجود دائم ومشروع في
المنطقة. وكان سنة 1957 السنة الاولى في هذه المجابهة.
انضمت السعودية الى مذهب أيزنهاور وهي التي سلكت حتى
ذلك الوقت سياسة تقليدية معادية للهاشميين ومؤيدة لمصر، وحصلت على الغاء
عبارة (فراغ) وقدمتها على انها الصراع ضد أي نشاط شيوعي وأي شكل آخر من اشكال
الامبريالية واي خطر يهدد السلام والنظم في المنطقة)[1]
.
كما ان لبنان بقيادة كميل شمعون انضم هو الآخر الى مذهب
ايزنهاور الذي قبلته البلاد الاعضاء في حلف بغداد. وفي الاردن اضطر الملك حسين على اثر انتخابات 1956 الى تشكيل وزارة قومية عربية. ثم اصبح يتمتع بتأييد السعودية منذ فبراير سنة 1957 فبدأ مواجهة مع وزارته وانفجرت
الأزمة للعيان في ابريل عام 1957
عندما ارادت الحكومة الاردنية اقامة علاقات دبلوماسية مع الاتحاد
السوفييتي وتكوين اتحاد فدرالي مع سوريا ومصر فأقال الملك الحكومة. وأرادت الاحزاب الموالية لعبد الناصر ان ترد بتمرد شعبي ضد
الملكية وساند الحركة بعض الضباط الذين كانوا من أصل فلسطيني لكن البدو
الذين يشكلون أغلبية المجندين ظلوا أوفياء للملكية ورفضوا طاعة المتمردين
وتمكن الملك حسين بفضل الجنود الموالين له من استعادة النظام والسيطرة
على البلاد.
بدا ان مذهب أيزنهاور نجح نجاحاً عظيماً فقد كان العراق
والاردن ولبنان وتركيا جيران سوريا المحاصرة حصاراً كاملا وكان نظامها
السياسي غير مستقر بالمرة كما انها كانت الهدف الاول للسياسة الامريكية. كانت المؤامرة العراقية في نوفمبر عام 1956 قد اضعفت القوى الموالية للغرب
في سوريا. وكانت سمعة الاتحاد
السوفييتي في نوفمبر سنة 1957 في
القمة. ولقد صرح القوتلي لدى عودته
من الاتحاد السوفييتي بان (الألوف
من المسلمين السوفييت عبّروا عن رغبتهم في المجيء الى الشرق الاوسط
لتلخيص الارض المقدسة من المعتدين الامبرياليين). وكانت دعاية موسكو تستعمل المسلمين السوفييت الذين تحسن انتقاءهم
فكانوا يمتدحون مزايا وطن الاشتراكية ويلحون على عدم التعارض بين الاسلام
والاشتراكية العلمية، كما أرسل رجال دين أرثوذوكس روس الى نصارى المشرق
الارثوذوكس (وهي الطائفة الاكثر
عدداً بني الطوائف المسيحية بالمشرق مع اقباط مصر واكثرها تأييداً
للقومية العربية). ومنذ بداية سنة 1957 ظهرت شائعات يروج لها خاصة
سوريون منفيون بان كميات كبيرة من الاسلحة يتم تسليمها الى سوريا كما
تذكر تضاعف عدد المستشارين والخبراء السوفييت. وتردد الصحافة الغربية هذه الاخبار وتقدم سوريا على انها في
طريقها الى ان تصبح ذيلاً من ذيول الاتحاد السوفييتي. وتفاقمت الازمة اثناء صيف عام 1957. ففي 6 أغسطس وقع خالد العظم
بموسكو اتفاقاً هاماً للتعاون الاقتصادي والتقني ـ وكان هدفه هو تسوية
تمويل مشتريات الاسلحة والسماح بتطوير الاقتصاد السوري بفضل المساعدة
الاقتصادية السوفييتية وفي يوم 13
أغسطس قامت الحكومة السورية بطرد ثلاثة دبلوماسيين امريكان اتهموا بتنظيم
مؤامرة لقلب النظام، وفي الواقع اعدت وكالة الاستخبارات المركزية عملية
جديدة هي عملية (وابن) التي فشلت فشلاً ذريعاً وكانت الصحافة الامريكية تلجأ الى التهديد. بان الولايات المتحدة وجيران سوريا الموالية للغرب لا يمكنهم
السماح بوجود ذيل للاتحاد السوفييتي او شيء يشبهه كثيراً في قلب الشرق
الاوسط.
واكدت الحكومة السورية تمسكها بالحياد الايجابي واتهمت
الغرب بدفع السوريين نحو الاتحاد السوفييتي وحشدت جيوشها على حدود سوريا. واعلن الاتحاد السوفييتي انه سيحمي استقلال سوريا (آخر اغسطس سنة 1957) وهاجمت الصحافة والاذاعة
المصريتان بشدة كل اشكال الامبريالية: المحلية فيها والدولية.
واعرب شركاء الولايات المتحدة من العرب عن قلقهم من هذا التوتر الذي
يجعلهم يبدون بمظهر المتواطئ مع الامبريالية والاتراك الذين كانوا
يسيطرون قديماً على العرب، وهم مستعدون لمقاومة الشيوعية لكنهم ينبغي لهم
الظهور بمظهر أعداء الامبريالية التي كانت وقتئذ تمثل في الشرق الاوسط
حقيقة ملموسة قبل ان تكون تعبيراً عن الخصم بحسب النظريات ذات النزعة
الماركسية اللينينية واخذت القوى المصنفة الى اليمين تهاجم الفرنسيين
بالجزائر والاسرائيليين بفلسطين والسياسة العنصرية بجنوب افريقيا.
وحاول الملك سعود الوساطة، فذهب الى سوريا من 25 الى 27 سبتمبر سنة 1957 للتعبير عن التضامن الغرب مع
سوريا ضد أي عدوان ـ وبدأ الامريكان اقل قلقاً على مصر وسوريا، وكان
الملك سعود آنذاك يبدو الزعيم الروحي للعالم العربي في فترة كان فيها
اطلاق اول قمر صناعي سوفييتي في الفضاء (4 سبتمبر عام 1957) تجسيداً
للتقدم العلمي والتقني للاتحاد السوفييتي.
الاتحاد بين مصر وسوريا:
لم يستشعر سعود عبد الناصر في عمله وكان يسير ضد سياسته
فرد عبد الناصر على ذلك بالاستجابة لمطالب القوميين العرب انصار الوحدة
الاندماجية بين سوريا ومصر، فانزل قوات مصرية في ميناء اللاذقية السوري
يوم 13 أتوبر سنة 1957، فاتخذت مواقعها على طول
الحدود مع تركيا الى جانب الجيش السوري في وقت خف فيه التوتر. وكان البعث يدفع الى الاندماج مع مصر. فهذا يوافق ايديولوجيته كما يوافق تحليلاً سياسياً محدداً. وقد شرح عفلق ذلك في يناير عام
1961.
(كنا مقتنعين بأن الوحدة العربية لن تقوم بدون
مصر، ولم يكن ذلك لاقناعنا بأنها ستكون بروسيا العالم العربي وستحقق
الوحدة بالقوة ولا لأننا كنا نعتقد بانه لا يمكن لاي بلاد اخرى ان تتخذ
مركز التقاء ولكننا فعلنا ذلك خاصة لانه كانت أمامنا قوة العرقلة المصرية
فقد كانت قادرة وتريد ان تقف بنجاح في وجه أي حركة نحو الوحدة العربية
تستبعد مصر، مثلما اظهرت ذلك قصة مشاريع الهلال الخصيب المؤسفة.)
والح صلاح البيطار من جانبه في سبتمبر سنة 1960 على ضرورة دعم اعتناق مصر
للعروبة.
(ان فكرة عبد الناصر قد تنبه للعروبة حوالي سنة 1953 او 1954. فكانت المرة الاولى التي تشرع
فيها حكومة مصر في التفكير في العالم العربي بالفاظ غير تلك التي لا تعبر
الا عن مجرد الهيمنة، غير ان فكرة العروبة لم تعمق قط في مصر. والمصري العادي مازال لا يشعر بأنه عربي. ولقد كان أملنا دوماً ـ نحن في البعث ـ ان يولد الاتحاد في مصر
نفس المشاعر القومية التي تحركنا).
كان عبد الناصر يرى ان الوحدة العربية ينبغي ان تكون في
الاساس وحدة عمل ضد الهيمنة الاجنبية بزعامة مصر، ولقد كانت الدعاية
القومية في رأسه سلاحاً سياسياً وكان يتخوف من أي اندماج سابق لاوانه،
ولكنه سقط في شراك لعبته: فالبعث
يقدم له سوريا بشرط الاتحاد فان رفض ربما خسر كل شيء وكان الشريكان قلقين
لتقدم تأثير الحزب الشيوعي السوري بزعامة خالد بقداش والذي تم بفضل ما
كان الاتحاد السوفييتي يحظى به من سمعة. وكان الطرفان يعرفان ان ميزان القوى لم يكن لصالح الشيوعيين لكن
محاولة انقلابية شيوعية قد تجر رد فعل من اليمين السوري وقد تجر خاصة
تدخلاً غربياً ـ ولقد كان الشيوعيون عند عبد الناصر وعند البعثيين
منافسين خطرين على الصعيد السياسي لدى الجماهير الشعبية وكذلك على الصعيد
المذهبي ـ والدولية البروليتارية لا يمكن ان يقبل بها دعاة الوحدة
العربية. وبما أنهما كانا واقعيين
فقد كانا يعلمان بضرورة القضاء على كل نفوذ شيوعي في الداخل ليتمكنا من
التفاوض مع الاتحاد السوفييتي من موقع القوة.
حرر البعث مشروع الاتحاد مع مصر في ديسمبر 1957. وكان الجيش السوري شديد
الانقسام على نفسه بحسب التفرق السياسي ومهدداً بان ينشطر الى مجموعات
صغيرة متناحرة. فرأى البعث ان
السلطة المصرية تمتلك قوة تحكيم تسمح بتفادي هذه الكارثة. فأيد العسكريون مشروع الاتحاد وفي يناير 1958 قبل عبد الناصر نهائياً إذ
أدرك التدعيم الهائل الذي يحصل لقوته من هذا الاتحاد. ورفض فكرة الاتحاد وطالب بالاندماج الام للبلدين على النمط المصري
أي بحل الاحزاب السياسية وتأسيس حزب واحد هو الاتحاد القومي وقبل البعث
بهذا الحل الذي يلغي كل منافسيه.
وأكد له عبد الناصر ان البعثيين سيكون لهم مكانهم الفسيح في الحركة
الجديدة. فرأوا انفسهم وقد أصبح لهم
تأثير مباشر على مصر.
وفي غرة فبراير 1958 اعلن الاتحاديين مصر وسوريا واتخذ هذا الكيان الجديد اسم
الجمهورية العربية المتحدة. ويبدو
ان شكري القوتلي قال لعبد الناصر بعد ان تخلى عن مهام الرئاسة لصالحه.
(ليست لك فكرة يا سيادة الرئيس عن المهمة التي
اضطلعتم بها. ستجدون ان سوريا صعب
حكمها. ولقد تلقيتم شعباً يظن كل
افراد انهم سياسيون ويظن نصفهم انهم قادة قوميون وربعهم بأنهم انبياء
وعشرهم على الاقل بأنهم آلهة.
وستتعاملون مع اناس يعبدون الله والنار والشيطان[2]
.
الازمة اللبنانية
النظام السياسي اللبناني
إن الطائفية هي العنصر المنظم للنظام السياسي للبناني
وهي تتضافر مع تعميم نظام التبعية.
فحيثما ذهبت وجدت زعيماً له اتباع سياسيون حضر او ريفيون، ويتوجب على
الزعيم ان يوفر لمنخرطي حزبه اقصى ما يمكن من الخدمات بفضل نفوذه
السياسي، والاتباع نظير ذلك يظلون اوفياء له في جميع اعماله. والزعماء هم قبل كل شيء اعيان تقليديون يعتمدون على مزارعهم مثل
شيعة الجنوب وموارنة الشمال او يعتمدون على سكان المدن مثل اعيان السنة. وقد يظهر رجال جدد ويتبنون لانفسهم اتباعاً. وذلك ما حدث خاصة لدى الموارنة الذين حررهم التطور الاقتصادي
والاجتماعي من السلطات التقليدية (باستثناء
الشمال مع أسرة فرنجية). وهؤلاء
الرجال الجدد مثل كميل شمعون يحاولون بناء اتباعهم بجعل انفسهم الناطقين
باسم الطبقات الوسطى المارونية.
وخير مثال على ذلك بيار الجميل الذي اسس سنة 1936 حزب الكتائب اللبنانية وهو
تنظيم عصري مركب له تنظيمات شباب وتشيكله شبه عسكرية وطريقة علم
استبدادية. وبرنامجه قومي لبناني
لكنه يستقطب خاصة الطائفة المارونية اما الخلط بين التقليدي والجديد
فنجده في الحزب الاشتراكي التقدمي الذي اسسه كمال جمبلاط سنة 1949. وهذا الاخير سليل أسرة كبرى
لها على الطائفة الدرزية نفوذ قوي منذ قرون. غير انه هو ذاته اعتنق الاشتراكية والقومية العربية جاراً معه
طائفته[3]
.
والفساد كبير في هذا العالم حيث الحصول على الامتيازات
غير المشروعة والاحتيال اشياء شائعة. وسيد اللعبة الحقيقي هو رئيس الجمهورية الذي يتم انتخابه من قبل
مجلس النواب مدة ست سنوات وهو الذي يبت في تركيبة الوزارة طبقاً لقواعد
التوازن الطائفي المعقدة. وهو سيد
الادارة وبالتالي فه له سلطة واسعة للمحاباة وخاصة التعيين في الوظيفة
العمومية على أن ذلك ينبغي ان يخضع لنظام الحصص الطائفي بالنسبة للوظائف
السامية على الاقل. ولكي يسير هذا
النظام لابد من تعاون مختلف النخب الطائفية. وذلك ما ينطوي على حد أدنى من الاجماع على كبريات مسائل الساعة. والقوى التقليدية اكثر من غيرهم تتأقلم بشكل أيسر مع هذا التعاون
المثمر على الصعيد المالي، ذلك ان قاعدتها السياسية مؤسسة قبل كل شيء على
وفاء عريق بين اسرة وبين مجموعة وحيث ان المحتوى المذهبي لرسالتها
السياسية ضعيف. أم الرجال الجدد فلا
يمكن ان يكون لهم على العكس من ذلك، إلا منهاج مذهبي واضح مستمر في
الغالب من نظرة كل طائفة للعالم كالوطنية (الترابية) عند المارونيين والانفتاح القومي العربي عند السنيين والمأساة
اللبنانية مصدرها جزئياً ان قوى التجديد الاجتماعي لا يمكنها ان تتأكد
إلا في تعزيز الوعي الطائفي[4]
.
التحرك السياسي
كان ثنائي الميثاق الوطني رئيس الجمهورية وبشارة الخوري
ورئيس مجلس الوزراء السني رياض الصلح يسير البلاد لحظة الاستقلال، ولم
يتأثر لبنان نسبياً بالحرب العربية الاسرائيلية الاولى. ولم يكن أداء الجيش اللبناني صغيراً شأنا اذا ما قورن بالجيوش
العربية الاخرى. ولقد سعى بن جوريون
الى مراعاة البلاد أملاً منه في الوصول الى تفاهم مع النخبة المسيحية
يسمح لاسرائيل بضم جنوب لبنان والحصول على تحالف دولة صغيرة طائفية
مسيحية.
لقد كان يتزعزع المجتمع اللبناني بسبب آثار الحرب حيث
كان على البلاد ان تستقبل مئات الالاف من اللاجئين الفلسطينيين أغلبهم من
المسلمين. وفي الوقت الذي أصبحت فيه
التوازنات السكانية الكبرى بين الطوائف غير مستقرة، تدعم الوزن السكاني
السني بشكل هائل رغم ان الجنسية اللبنانية كانت تمنح اللاجئين بتقتر. فأبدى بعض المسيحيين تجاوباً مع العروض الاسرائيلية غير ان القلق
لم يلبث ان سكن. فاللاجئون كانوا
مراقبين مراقبة ضعيفة من قبل الشرطة اللبنانية وكانوا يقدمون يداً عاملة
رخيصة مفيدة جداً في فترة بدأ فيها الاقتصاد اللبناني نمواً سريعاً
مرتكزا على ليبرالية مطلقة العنان.
وكان التضامن الصريح مع الفلسطينيين يسمح بالضبط بتحديد اجتماع بين مختلف
النخب الطائفية[5]
.
كان للانقلابات السورية سنة 1949 اهمية أكبر، ففي يوليو 1949 قام حسني الزعيم بتسليم الجيش
اللبناني انطوان سعادة زعيم الحزب القومي السوري الذي أعدم بعد محاكمة
سريعة. فقرر مناضلو هذا الحزب
الانتقام وأفلحوا في اغتيال رياض الصلح في يوليو 1951 محدثين اختلالاً خطير في
التوازن السياسي. وحيث ان بشارة
الخوري كان نجح كثيراً في احتكار الفوائد التي منحها اياه سيطرته على
الادارة فقد تكتل منافسوه السياسيون الاخوة فرنجية وكمال جمبلاط وكميل
شمعون في 1952 ودعوا الى اضراب عام
باسم الكفاح ضد الفساد ورفض الجيش التدخل لصالح الرئيس فاستقال.
كان المنتصر الاكبر كميل شمعون الذي انتخب رئيساً
للجمهورية فاتبع سياسة موالية للغرب مرتبطة بالتوازنات الاقتصادية
الجديدة في البلاد وفي سنة 1948 خرج
لبنان من منطقة الفرنك واختار عدم وضع اية رقابة على الصرف وكان هذا
الخيار ضرورياً لتخصيص الاقتصاد اللبناني في القطاع الثالث وفي دور
الوسيط المالي والبشري بين العالم العربي وبين الغرب المصنع، وفي سنة 1950، فسخ الاتحاد الجمركي والنقدي
مع سوريا ولقد اصطدم هذا التوجه الموالي للغرب بالتحرك السياسي العام
بالمنطقة بعد فشل حلف بغداد وأزمة السويس، وكان للخطاب القومي لعبد
الناصر مزيد من الدوي المتحمس لمسألة الوحدة العربية، بل الاخطر من ذلك
ان قطع تضامن الملاك السياسي بين الطوائف بمساندته رجالاً له في وجه
الزعماء التقليديين، ولقد افلح (ضائع) شمعون هؤلاء بدعم نشط من الادارة في الحاق الهزيمة في الانتخابات
الفرعية لسنة 1957 بزعماء المعارضة
الهامين (ومنهم جمبلاط) ولما كان شمعون يراقب مجلس النواب الذي أصبح منقاداً له فقط خطط
الرئيس للحصول على تصويت على تعديل دستوري
(مثلما فعل سلفه) يمكنه من
ان يعاد انتخابه لفترة ست سنوات أخرى. وفي هذا الوقت قبل مذهب إيزنهاور وانتهك تقريب الميثاق الوطني
برفضه قبول الوجه العربي للبلاد وبكفه عن لعب ورقة التحكيم السياسي
للنخبة القومية فتسبب بذلك في الحرب الاهلية اللبنانية الاولى.
الحرب الأهلية اللبنانية الاولى ورئاسة فؤاد شهاب:
لقد أثار تأسيس الجمهورية العربية المتحدة حماس السنيين
الذين عادوا الى فكرة الاتحاد بين سوريا ولبنان والتي كانت فكرتهم في
فترة ما قبل الحرب. وبعد توتر
متزايد بدأ التمرد في شهر مايو 1958،
فدخلت الاحياء المسلمة السنية في اضراب عام ضد الرئيس على غرار ما وقع
لسلفه سنة 1952، فعدل شمعون رسمياً
عن المطالبة باعادة انتخابه غير ان المعارضة طالبت باستقالته، ولقد أثارت
اطراف لبنان ضد الرئيس كالشمال السني مثل طرابلس بقيادة رشيد كرامي كذلك
البقاع والشوف (كمال جمبلاط) كما ثارت الاحياء السنية في المدن الكبرى ضد الرئيس الذي كان
يدعمه حزب الكتائب والحزب القومي السوري الذي كان معارضاً للناصرية
معارضة عنيفة. ولقد أبقى قائد الجيش
اللواء فؤاد شهاب هذا الجيش خارج الاحزاب واكتفى بإعطائه دور الحكم في
الميدان بأن جزأ لبنان مناطق منفصلة.
تقدم شمعون بشكوى الى الامم المتحدة ضد التدخل الحقيقي
للجمهورية العربية المتحدة لمساندتها المتمردين وطالب بتطبيق مذهب
ايزنهاور وتردد الرئيس الامريكي في التدخل الى ان جعلته الثورة العراقية (14 يوليو 1958) يعتقد بان كل حلفاء الغرب
اصبوا في خطر، فأنزل جيشاً أمريكياً في بيروت يوم 15 يوليو فكان الوجود الامريكي
رادعاً ومكن من انتخاب قائد الجيش فؤاد شهاب يوم 31 يوليو رئيس وفاق. فحدد هذا الاخير سياسة (لا
غالب ولا مغلوب) وشكل كرامي وزعيم
الكتائب بيار جميل. وزارة وحدة
وطنية في اكتوبر 1958م.
لقد أدرك اللواء شهاب انعدام التوازن الاقتصادي
الاجتماعي في المجتمع اللبناني، وكانت سياسته ترمي الى تأمين التوازن
الطائفي خاصة لصالح الطائفة الشيعية التي كانت أقل حظاً من غيرها. فحصلت المناطق النائية خاصة الجنوب على برامج تنمية هامة. وعلى الصعيد الخارجي عاد هذا الرئيس الى تطبيق الميثاق الوطني
وأظهر حياداً حذراً بين مختلف القوى بالعالم العربي وذلك ما أرضى عبد
الناصر، فلم يعد القوميون العرب ينكرون وجود لبنان.
ولقد حارب فؤاد شهاب السياسيين التقليدين الذين حمّلهم
مسئولية انعدام التوازن اللبناني بفسادهم وعدم مسئوليتهم، وعزز اختيار
الموظفين على اساس الكفاية فحسب دون حساب النسب الطائفية الدقيقة واعتمد
على القوى الجديدة مثل مجموعة من التقنيين الشبان والكتائب والحزب
الاشتراكي التقدمي لكمال جمبلاط، وكان هاتان الحركتان تبدوان له قوى
تجديد للمجتمع اللبناني، وبما انه لم تكن له تنظيمات شهابية بحصر المعنى
وحيث انه كان يحارب السياسيين والتقليديين فقد استخدم المكتب الثاني
بالجيش الذي ازداد تدخله في الحياة السياسية ولقد حاولت مصالح
الاستخبارات العسكرية زعزعة قاعدة السياسيين الاجتماعية ونصبت منافسين
لهم حتى في مناطق نفوذهم وذهبت الى حد تزوير الانتخابات.
كل ذلك جرى في جو من الرخاء المتزايد وكان تنامي
العائدات النفطية للعالم العربي يثير اجتلاباً متزايداً لليد العاملة
اللبنانية التي كانت الاكثر تقدماً تقنياً في العالم العربي، كما كان دور
بيروت وسيطاً مالياً بين الغرب وبين البلدان النفطية يزداد أهمية يوماً
بعد يوم.
وفي سنة 1964، حل
شارل الحلو، احد أقارب فؤاد شهاب، محل هذا الاخير رئيساً للبنان وكان
يريد ان يكون امتداداً له، غير ان الشهابية قد آلت الى الزوال. وكان رجال السياسة يريدون التخلص من وصاية المكتب الثاني الذي كان
متهماً بعرقلة السير الطبيعي للديمقراطية في الوقت الذي عادت المسألة
الفلسطينية مسألة الساعة وحطمت الاجماع اللبناني القيم.
العراق
نهاية المملكة الهاشمية
جلبت حرب فلسطين كثيراً من المرارة لدى الشعب والجيش
واصبحت السياسة الموالية للانجليز وللغرب ممقوتة اكثر من ذي قبل في بلد
كان حتى عام 1941 قلعة العروبة
الأكثر راديكالية، كما ان تكلفة الحرب وسلسلة من السنوات العجاف جعلت
الوضع الاقتصادي للبلاد صعباً.
وزعزعت الطائفة اليهودية بفعل انتفاضات عام
1941 ثم ان معاداة الحكومة والمجتمع للصهيونية كانت تذكي المخاوف
خاصة وان استفزازات مجهولة المصدر كانت تزيد في التوتر. وقد نظمت مصالح الاستخبارات الاسرائيلية هجرة سريعة هامة. وقررت الحكومة اعطاء حرية الرحيل فاغتنم غالبية اليهود الفرصة
لمغادرة البلاد على عجل (اكثر من
مائة الف) وكان لهجرة هؤلاء السكان
الحضر عادة عواقب سلبية بفقدان كفايات اقتصادية كانت تمثلها. وعلى المدى البعيد، مكنت هذه الهجرة الشيعة والمسيحيين من
الارتقاء الاجتماعي. فشكلوا طبقة
وسطى جديدة مثقفة أقل خضوعاً لسند النظام الملكي والمتمثل في كبار الملاك.
عاد نوري السعيد الى السلطة بنهاية الحرب، وصار الان
مناهضاً لمشروع الهلال الخصيب وصار يفضل الانكباب على التطور الاقتصادي
في البلاد وكان الوصي على العرش روح سياسة الاتحاد. ولم يتخل عن مطامعه الشخصية في عرش ممكن على سوريا ولقد قام في
نوفمبر سنة 1949 باقالة نوري السعيد
واختار لسياسته منفذين أكثر انقياداً ليحلوا محله، غير ان وصول الشيشكلي
للسلطة في سوريا قد وضع نهاية مؤقتة لمطامعه واصبح نوري السعيد الرجل
القوي في البلاد من جديد رئيساً للوزراء.
لقد أعطى نمو الواردات النفطية الملكية امكانية الدخول
في سياسة أشغال كبرى جهزت البلاد بالبنية التحتية الضرورية لنموها
الاقتصادي غير ان الاستفادة من هذا العمل قد حدثت على المدى البعيد ولم
تكن له آثار مباشرة على الصعيد الاجتماعي. وفي صيف 1952 استقال نوري
السعيد ليسمح للوصي بتقديم عروض سياسية جديدة، وفي نوفمبر عام 1952 قامت مظاهرات عنيفة ضد السلطة
الملكية واضطر الوصي لمقاومة هذه الانتفاضة الى ان يفرض القانون العرفي
والى منع الاحزاب السياسية المعارضة فكان ذلك دليلاً على ان الملكية لا
تعيش الا بوسائلها القمعية. ورغم
بلوغ فيصل الثاني سن الرشد الا ان الوصي ظل يمارس السلطة الفعلية في
القصر وعاد بعد سقوط الشيشكلي من جديد الى سياسة الهلال الخصيب التي كان
نوري السعيد يرفضها وكان ذلك اخفاقاً جديداً.
وبما ان معاهدة التحالف مع بريطانيا العظمى كانت يتوجب
تجديدها في فترة قريبة لاحقة، فكان من اللازم دعوة نوري السعيد من جديد
الى الحكم فقد كان السياسي الوحيد القادر على التفاوض مع الانجليز، فمنع
النشاط السياسي لاحزاب المعارضة وحصل على مجلس نواب طيع تماماً، وفكر في
جعل مسألة العلاقات مع انجلترا بطرح فكرة تقارب دول المنطقة ضمن ميثاق
حلف يعطي العراق الهيمنة على العالم العربي بفضل موقف مميز في الحصول على
السلاح الذي يقدمه الغرب، وأفضى هذا الخط الى تأسيس حلف بغداد، الا أن
المعركة التي كانت على المملكة خوضها ضد عبد الناصر قد أضعفتها كثيراً
وبشكل خطير. وكانت الدعاية المصرية
تقدم رئيس الوزراء العراقي على أنه خائن للأمة العربية.
تسببت أزمة السويس في مظاهرات اخرى عنيفة ضد السياسة
الموالية للانجليز وكان القمع قاسياً جداً وكانت عزلة النظام في ازدياد. وفي يونيو سنة 1959 استقال
نوري السعيد الا ان الحكومات التالية أبقت على الاتجاه الموالي للغرب. ورداً على تأسيس الجمهورية العربية المتحدة عمل الاردن والعراق
على تأسيس اتحاد بتاريخ 14 فبراير
عام 1959. واصبح نوري السعيد رئيس
وزراء هذا الاتحاد الجديد يوم 19
مارس سنة 1948. وسعى الى دمج امارة
الكويت التي ما زالت آنذاك تحت الحماية البريطانية في هذا الاتحاد. وكان الكويتيون بطبيعة الحال مناهضين لذلك وكان رفضهم لا رجعة
فيه، فانهار النظام بسهولة 14 يوليو
عام 1958 باستيلاء الجيش على
السلطة، وفي ذلك ما يدل على مدى ضعفه الداخلي.
ينبغي ألا نغفل مكاسب المملكة الهاشمية فقد أصبح العراق
حقيقة دائمة قاومت اضطرابات الفترات اللاحقة والحال انه توحيد اصطناعي
لثلاث مقاطعات عثمانية. وان العمل
الاقتصادي هام كما ان الاشغال الكبرى التي شرع فيها في السنوات الاخيرة
كانت لها فوائد اقتصادية لا تقبل الشك فيها. ولئن لم يفلح النظام الملكي في اكتساب قاعدة ثابتة للحكم دون قمع
فان الانظمة الجمهورية التي كانت تتمتع ـ في البداية على الاقل بدعم شعبي
لا شك فيه ـ لم تتوصل بدورها الى اقامة نظام يستطيع الاستغناء عن القمع
البوليسي القوي الذي صار يجنح من سنة الى اخرى الى ان يصبح ارهاباً
رسمياً وتلك ظاهرة لم تكن معروفة في العهد الملكي.
الثورة العراقية:
كان العديد من ضباط الجيش مناهضين للنظام منذ قمع عام 1941. وكانوا غير راضين عن التوجه
المناصر للغرب، كما كانوا في الغالب من انصار الوحدة العربية. ولقد قدمت لهم الثورة المصرية أسوة فتأسست منذ سبتمبر عام 1952 منظمة سرية للضباط الاحرار. وكانت الحركة في جوهرها عربية سنية فالطائفة السنية كانت اكثر
الطوائف تأثراً بالقومية العربية. (فالاكراد
كانوا ضدها لاسباب عرقية والشيعة كانوا يحسون بانها مسألة سنية).
لقد كان انقلاب 14
يوليو سنة 1958م من فعل رجلين اثنين
هما عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف. ولقد سنحت الفرصة بتجميع الجيوش المراد ارسالها الى الاردن
لمواجهة الجمهورية العربية المتحدة.
وفي صبيحة 14 يوليو استولى الجيش
على المباني العامة دون ان يلاقي مقاومة كبيرة ولم يبد النظام الملكي
تقريباً أية مقاومة. وكان عبد
السلام عارف لا قاسم من قاد الحركة.
وهاجمت الجماهير رموز
النظام القديم فقتلت العائلة المالكة ثم اعدم نوري
السعيد. وكان سقوط العديد من
الضحايا بفعل الهيجان الشعبي وذلك ما اعطى لهذه الثورة سمعة العنف الذي
لم تفقده فيما بعد. ورغم ان
السياسيين المعارضين للملكية دعوا للحكم الا ان السلطة الحقيقية كانت عند
الجيش. وكان هذا الجيش منقسما الى
تيارين: تيار عبد السلام عارف
الداعي الى الاتحاد مع الجمهورية العربية المتحدة وتيار عبد الكريم قاسم
الساعي الى الابقاء على العراق رغم تأكيده على الوحدة العربية. ودام الصراع على السلطة أشهراً، واخيراً تم اعتقال عبد السلام
عارف يوم 5 نوفمبر وحكم عليه
بالاعدام لانه كان قد دبر مقتل قاسم وخفف الحكم الى السجن المؤبد.
وكان القوميون العرب التقليديون والناصريون والبعث الذي
اصبح قوة هامة قد تجمعوا خلف عارف.
اما عبد الكريم قاسم فكان معه دعاة الابقاء على استقلال العراق (الشيعة والاكراد) وتنظيمات اليسار بقيادة الحزب الشيوعي الذي كان اهمها وفي مارس
سنة 1959 حاول القوميون العرب ـ
بدعم من الجمهورية العربية المتحدة ـ القيام بانقلاب انطلاقاً من الموصل،
ولكن العملية التي لم تكن منظمة تنظيماً حسناً أخفقت، وقاد الشيوعيون
والاكراد في المدينة عمليات قمع رهيبة ذهب ضحيتها المئات من القوميين
العرب، كما سعى البعث بدوره الى القضاء على قاسم بقتله ولقد افلح (كومنسوس) ضم الشاب صدام حسين في اصابة عبد الكريم قاسم بجروح ولم يفلح في
قتله. وكان القمع ضد البعث اكثر
اعتدالاً.
تطور نظام قاسم:
كانت تبعية عبد الكريم قاسم للشيوعيين تبدو في ازدياد
مطرد. وكان يحظى بتأييد الاتحاد
السوفييتي الذي كان يفضله على عبد الناصر الذي منع الاحزاب الشيوعية بمصر
وسوريا وأبرمت اتفاقيات تعاون اقتصادي بين العراق والاتحاد السوفييتي،
غير ان الشيوعيين كان لهم نفوذ مفرط في النظام العراقي واقترفوا اعمالاً
دموية ضد خصومهم. واغتنم قاسم
الفرصة لينأى بنفسه عنهم. وفي سنة 1960 سمح للاحزاب السياسية بالنشاط
بشرط الا تهدد الوحدة الوطنية ولا النظام الجمهوري. ولم يمنح الترخيص الا لحزب شيوعي منشق تأسس بتحريض من قاسم. وهكذا ضعفت مكانة المنظمات الشيوعية. وبما ان قاسم واصل ممارسة سلطته الشخصية بكثير من الديماغوجية دون
ان يقيم مؤسسات سياسية ثابتة، ولم تفلح الاحزاب السياسية المرخصة في ان
تصبح قوى فاعلة، وسرعان ما تلاشت، حتى انها قد اختفت جميعها تقريباً
بحلول سنة 1962، واصبح عدم
الاستقرار السياسي سمة دائمة من سمات البلاد طيلة العشرية كلها، ومع ذلك
كان النظام الجمهوري قد دخل في سلسلة من الاصلاحات الاقتصادية
والاجتماعية، ومنذ 30 سبتمبر عام 1958 اعلن عن اصلاح زراعي يحد
كثيراً من حجم الملكية. فاصطدم
بمعارضة الملاك الزراعيين الذين حدوا من نشاطهم الزراعي. فاضطر عبد الكريم قاسم الى ايقاف نزع الملكية لانعاش الزراعة. كما ان ميزانية التعليم زيدت زيادة عظيمة وتحققت بداية تخطيط
اقتصادي يهدف الى توجيه التمويلات نحو الصناعة لا نحو الزراعة مثلما كان
الامر في العهد القديم.
كان العراق سنة 1961 مايزال خاضعاً خضوعاً كبيراً للنفط الذي كان يمثل آنذاك 27% من الدخل الوطني و45% من واردات الدولة و90% من
موارد العملة، ولقد أبدى قاسم تشدداً مع شركة النفط العراقية في
المفاوضات التي جرت من اجل تحسين نصيب العراق. وفي يوم 11 ديسمبر عام 1961 استرد من شركة نفط العراق كل
الامتيازات غير المستغلة أي 99% من
المجموع. واحتجت هذه الشركة وبدأت
صراعاً إجرائياً طويلاً ضد الحكومة ولقد انخفض في العاجل انتاج النفط كما
انخفضت العائدات ولكن العراق اصبحت له امكانية تأسيس شركته الخاصة
المستقلة ولم يعد يخضع لاحتكار اتحاد الشركات الدولي.
وكانت أخطر مسألة هي مسألة الاكراد. كانت ثورة 1958 قد سمحت
بعودة الزعيم القبلي الكردي مصطفى البرزاني. وكان البرزاني قد التجأ الى الاتحاد السوفييتي بعد ان كون جمهورية
كردية لم تدم طويلاً، في المنطقة التي احتلها الاتحاد السوفييتي من ايران
ابان الحرب العالمية الثانية، وقد تقارب من تنظيم يساري هو الحزب
الديمقراطي الكردي الذي أسسه شبان مثقفون. وفي بداية الفترة الجمهورية كانت العلاقات جيدة مع الاكراد الذين
اعترفت بهم الجمهورية باعتبارهم جزءاً مكوناً من البلاد. ولقد سروا لخيبة الاتحادات العربية. لكن الاكراد رفضوا القبول بدكتاتورية عبد الكريم قاسم الذي لم
يمنحهم حقوقاً خاصة. وفي سنة 1961 حاول قاسم التخلص من برزاني
بدعمه منافسيه من الاكراد. وكان رد
هذا الاخيران التجأ الى الادغال مع أنصاره في شهر فبراير وطالب بالغاء
الدكتاتورية واعادة الديمقراطية والحكم الذاتي لكردستان. وفي سبتمبر عام 1961 منع
قاسم المنظمات الكردية ودفع بالجيش ضد برزاني ورجاله. وما كان في البداية مجرد ثورة قبلية اصبح حرب انفصال حقيقية. ولقد فر الضباط الاطراد من الجيش والتحقوا ببرزاني معززين قواته. وقاد المتمردون حرب عصابات فعالة ولم يحتفظ الجيش بسيطرته الا على
المدن الهامة. ولقد انهكت الحرب قوى
النظام وازداد كره الشعب لعبد الكريم قاسم.
اما في الخارج فقد كان النظام في عزلة بعد ان جعل الدول
العربية تقف ضده بمطالبته بالكويت سنة 1961م
باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من العراق واختلف مع ايران بعودته الى اثارة
نزاع الحدود حول شط العرب ومطالبته بالحاق خوزستان الايرانية بالعراق
باعتبارها عربية (عربستان) وبمحاولته اجتذاب دول الخليج اليه، وفي سنة 1961 فرض العراقيون في الاستعمالات
الرسمية لفظ (الخليج العربي) بدل الخليج الفارسي وفي بداية عام
1963 كان نظام عبد الكريم قاسم منهكاً جداً بفعل سلسلة الخيبات
تلك، وأعاد حزب البعث تنظيم صفوفه سراً وتحالف مع الناصريين وأعد
انقلاباً عسكرياً بدأ يوم 8 فبراير
سنة 1963 وبعد يومين من المعارك
الدامية التي ساند فيها الشيوعيون عبد الكريم قاسم ألقي القبض على هذا
الأخير وأعدم في (9 فبراير).
ورغم خيبات نظام قاسم العديدة فقد اعطى البلاد عدداً من
التوجهات التي لم تلغ في الفترات اللاحقة. وان الابقاء على الكيان العراقي في الوقت الذي كان الاندماج في
الجمهورية العربية المتحدة يبدو انه سيمكن من تحقيق الوحدة العربية التي
طالما نودي بها في الخطب السياسية، قد سدد للمطامح الناصرية ضربة قاتلة،
فقد اوقف قاسم المد الناصري وحاول ان يعيد للعراق دوره باعتباره قوة عظمى
في العالم العربي وهو الذي كان له في سنوات الثلاثينيات والاربعينيات
مؤكداً بذلك ان الناصرية لم تكن غير اللحظة المصرية من القومية العربية. وبعد انقطاع دام بضع سنوات استأنف من جاء بعده من البعثيين هذا
الطموح القومي العربي، كما اصبحوا ورثة سياسته في السراء والضراء من
قومية علمانية ومن سعي للاستقلال الاقتصادي ومن مكافحة الانفصال الكردي
ومن نزاع حددي مع ايران ومن رغبة في الهيمنة عل الخليج وفي ضم الكويت
فسنوات الجمهورية العربية لم تكن قط فاصلاً زمنياً بل أظهرت ان التوجهات
المختارة لا رجعة فيها كما أظهرت العنف الدائم من اجل تحقيق الاهداف.
الجمهورية العربية المتحدة
الاوهام العاطفية والصراعات العربية والمصاعب مع
السوفييت
تمت الموافقة على الاتحاد المعلن يوم غرة فبراير 1958 في استفتاء شعبي اجري يوم 23 فبراير 1958 بنسبة 99.98% من الاصوات، وفي ذات الوقت
أعلم عبد الحميد السراج رئيس المكتب الثاني عبد الناصر، بان بعض المقربين
من الملك سعود قد اتصلوا به وقد يكونوا عرضوا عليه مبالغ باهظة لمنع
تحقيق الاتحاد بل ولاغتيال عبد الناصر، ونظراً للادلة المقدمة التي تظهر
ايداع مبالغ من المال كانت الفضيحة كبرى وتم تحييد السياسة السعودية
مؤقتاً. وتسلم ولي العهد الامير
فيصل الوزارة وركز على شخصه المسئوليات الأساسية.
ولقد تميزت الفترات الاولى من تاريخ الجمهورية العربية
المتحدة بحماس شعبي كبير، وتحول عبد الناصر مرات عديدة الى سوريا حيث
كانت الجماهير الهائجة تهتف باسمه، فالجماهير ترى في الوحدة وسيلة للتغلب
على المصاعب السياسية الدائمة التي عرفتها سوريا، بل ان الاتحاد كان أبعد
من ذلك يبدو صيغة سحرية تمكن من مجابهة كبريات المسائل الهامة كالنمو
الاقتصادي والتوتر مع اسرائيل. ولم
يتمكن جمال عبد الناصر من التوصل الى توجيه هذه الحركة الشعبية في منظمة
سياسية ذات هيكل ـ إذ ما حل زمان المصاعب وخيبة الامل افتقد النظام
الجديد دعم الجماهير. إذ لم يعد
لنفسه قواعد ثابتة ـ وكانت البرجوازية الصناعية السورية النشطة الجزئية
تؤيد الاتحاد. لانها كانت تعتقد ان
السوق المصرية سيكون من الايسر النفاذ اليها بعد الاتحاد. ولقد كان اللبنانيون والسوريون منذ قرون على صلات وثيقة مع وادي
النيل ويساهمون في تنميته الاقتصادية. وكان السوريون واللبنانيون المقيمون بمصر عنصراً حركياً وامتلكوا
بالبلاد العقارات الهامة. وتبين لهم
ان الاندماج يسير في الاتجاه الحسن.
والواقع ان المصريين كانوا غالباً ما شبهوا الشوام بالاجانب الذين
يعتبرونهم مستغلين وكانوا غالباً ما شبهوا منهم. ولقد أخذ سوء التفاهم هذا يتضح شيئاً فشيئاً فالطبقة السياسية
باستثناء البعث كانت تود اتحاداً لا وحدة اندماجية كاملة مثل تلك التي
وقعت والتي ألغت الاحزاب. وفي
البداية حصل السياسيون السوريون على مناصب هامة في المجلس التنفيذي
بالاقليم الشمالي (الاسم الجديد
لسوريا) ثم تم اقصاؤهم عن
المسئوليات الاساسية فقد كان عبد الناصر لا يطمئن اليهم ويتهمهم بأنهم
جميعاً مرتبطون ببلد او بلدان عربية او غير عربية، وكان بشكل عام يحتقر
الملاك السياسي العربي وإن مال إليه، وكان دائماً متهيئاً لاتهامه
بالانتهازية. ويستثني البعث
والشيوعيون غير أنهم منافسون تجب محاربتهم.
ان الجمهورية العربية المتحدة أذا ما حكم عليها بان تظل
مواجهة ثنائية بين السوريين والمصريين فانها لا يمكنها الا ان تكون هشة
في غاية الهشاشة، فكان عليها ان تمتد لتشمل اراض عربية أخرى، ومن ثم جاءت
اهمية الحرب الاهلية اللبنانية الاولى والتشجيع الذي قدم لخصوم شمعون. وفي يوم 8 مارس اشتركت اليمن
وكانت ملكية مع الجمهورية العربية المتحدة لتؤسس معها الدول العربية
المتحدة. وكان هذا الاتحاد شكلياً
ليس الا، وبعض الضباط اليمنيين وحدهم هم الذين كانوا يرون في الضباط
الاحرار المصريين مثلا يحتذى، كما ان العراق بثورة 14 تموز 1958 بدت انها تحولت الى الناصرية
وستلتحق بالجمهورية العربية المتحدة لتعطيها الدفع اللازم كي تمتد الى
كامل العالم العربي بفعل قوتها الجاذبة فحسب. وتدخل الامريكان في لبنان والانجليز في الاردن حيث ارسلوا جنوداً
لمنع انهيار آمر مملكة هاشمية. لكن
قاسم في العراق اعترض على اندماج العراق في الجمهورية العربية المتحدة
وسرعان ما اتخذ موقف المنافس لجمال عبد الناصر في العالم العربي ولدى
الاتحاد السوفييتي. وكان عبد الناصر
يشجع بكل حيوية محاولات زعزعة استقرار النظام في العراق، وبلغت تلك
المحاولات ذروتها بتمرد الموصل في مارس
1959، وفشلت محاولات مد الاتحاد ليشمل بلداناً أخرى لذا بدا العمل
الوحدوي الذي بدأ بين مصر وسوريا هشاً جداً في الوقت الذي كان يتوجب على
عبد الناصر تأكيد حياده الايجابي من جديد في وجه الضغوط السوفييتية.
لم يستطع الاتحاد السوفييتي القبول بالغاء الحزب
الشيوعي السوري أحد اهم الاحزاب بالمنطقة. وذهب زعيمه خالد بقداش للمنفى بأوروبا الشرقية ومن ثم ضاعف
هجوماته على الجمهورية العربية المتحدة التي كانت كامل الصحافة الشيوعية
ترددها. وبدا الشيوعيون السوريون
بمظهر ألد أعداء الجمهورية العربية المتحدة. ومكنت الثورة العراقية من بروز نظام جديد مناهض للامبريالية ميال
الى الاعتماد على الشيوعيين المحليين. وبدا هذا النظام الجديد للسوفييت جذاباً اكثر من نظام عبد الناصر. وكان الاتجاه الذي اتخذته القومية العربية الناصرية نحو اتحاد كل
العرب لا يروق لموسكو. ولكن ما
يلائمها هو دولة مصرية تقود مجموع الدول العربية في سياسة حيادية و
مناهضة للامبريالية. اما تكوين
مجموعة سياسية موحدة كبرى باسم العروبة و الاشتراكية العربية ومعادية
للبروليتاريا العالمية فذلك ما لا تقبله النظرية الماركسية.
ان النقاش الايديولوجي للسنوات التي دامتها الجمهورية
العربية المتحدة يسمح لنا بان نحدد المطامح الناصرية تحديداً افضل، ففي
يوم 23 ديسمبر 1958 وفي خطاب ببورسعيد بمناسبة
الذكرى الثانية لاجلاء القوات الفرنسية البريطانية والرجعية هاجم عبد
الناصر بالمستوى نفسه كلا من الشيوعيون ومن يساندهم، كما هاجم الصهيونية
والرجعية فقد قال:
(إن الرجعية كانت تدرك ان القومية العربية تحرم
الاستغلال والحزب الشيوعي كان يدرك ان القومية ستقضي على الانتهازية،
لذلك أعلنت الرجعية والحزب الشيوعي معارضتها للقومية العربية والاتحادات
العربية. لكنهما لم يستطيعا ان
يرفعا رأسيهما، في وجه تيار القومية العربية الهادر، لقد وقفت الرجعية
والحزب الشيوعي بسوريا ضد الاتحاد وعملا ضد القومية العربية.
((…) لقد تحالفت الرجعية والصهيونية ضد القومية
العربية وضد الوحدة العربية. ان
اسرائيل تعمل ما في وسعها ضد وحدتكم وضد قوميتكم وضد ثورتكم الاجتماعية. ويؤسفني ان اقول بانه ثمة بعض التجمعات التي اعلنت وقوفها ضد هذه
الوحدة، ويؤسفني ان اقول لهم ان الشعب العربي المؤمن بالوحدة لن يستطيع
ان يعتبرهم جزءاً منه. ان هذه
المجموعات تريد خيانة الشعب وتضليله وان تشيع بينه الشائعات ليكون ذلك
وسيلة للامبريالية واعوانها أو للصهيونية. لقد أعلنت بان على الامة ان تشكل اتحاداً قومياً. غير ان الحزب الشيوعي قد رفض ذلك
(…) ولقد دعا بعض الاعضاء الى صالح الانفصال ورفضوا أي اتحاد مع
القومية العربية. ذلك ما تدعو اليه
الصهيونية التي تريد التمركز في قلب الامة العربية كي تتمكن من جديد
استغلال بلادنا.).
كانت الحكومة العراقية تهاجم يومياً باعتبارها دمية في
ايدي الشيوعيين الذين يريدون اقامة دولة شيوعية خائنة للقومية العربية،
ولقد وصلت قضية الموصل بالمجادلة مع الاتحاد السوفييتي الى أعلى مستوى. ولقد ذهب خرتشوف في مارس 1959 الى حد ادانة السياسة الناصرية على رؤوس الاشهاد:
(عندما أقمنا علاقة ودية مع الجمهورية العربية
المتحدة كنا على علم بافكار عبد الناصر المعارضة للشيوعية. ولقد اعتقدنا انه كان ينبغي اعارة اهتمام اكبر للمطالب
الديمقراطية للشعوب، في فترة كفاح التحرير الوطني التي تتطلب وحدة كل
القوى المعادية للامبريالية. لكن
لسوء الحظ تتخذ الان اجراءات لخنق التطلعات للحرية، ليس في الجمهورية
العربية المتحدة فحس بل كذلك في بلدان أخرى. واننا نريد ان نقول بكل ود بأنه إذا تم الاصرار على اتباع هذه
السياسة فإن مصيرها حتماً الى الافلاس.
((…) انهم يؤكدون ان القومية العربية هي فوق
مصالح مختلف البلدان العربية وفوق مصالح مختلف شرائح سكان البلدان
العربية. وما من شك في انه لا ينبغي
تجاهل مصالح الشعب بعد ان تحررت البلاد من الهيمنة الاجنبية فمصالح جميع
العرب لا يمكن ان تتطابق بحيث ان المحاولات القائمة تحت راية القومية
لتجاهل مصالح العمال خالية من كل أساس.)
واتهمت الصحافة الناصرية الشيوعيين العرب بأنهم
انفصاليون وشبههم عبد الناصر امام المتظاهرين الذين كانوا يرفعون المصاحف (بالخوارج) الذين خرجوا عن الاسلام في بداية التاريخ الاسلامي. والقى السادات خطبة الجمعة بجامع الازهر وأشار الى الصراع بين
الاسلام المدافع عن القيم الروحية وبين المادية. وهدأت المجادلة بعض الشيء في الاشهر الموالية. ولئن كان عبد الناصر يعارض الشيوعية صراحة فلقد اكد في ذات الوقت
التوجه الاشتراكي للجمهورية العربية المتحدة. ومنذ عام 1960 شرع في تأميم
قطاعات كاملة من الاقتصاد.
والاشتراكية العربية في نظر المنظرين. تتميز برفضها صراع الطبقات الذي يؤدي الى دكتاتورية الكادحة. وهذه الاشتراكية هي اتحاد قومي يتلقى فيه المعوزون مساعدة الجميع
وهي تتطور الى حد اختفاء الفروق الطبقية. وهي تعادي الملكية الخاصة ولأولئك الذين يستغلون الشعب غير انها
ليست ضد الملكية الناشئة عن العمل الانتاجي، والملكية الخاصة غير
المستغلة ينبغي بالتالي الحفاظ عليها. والتأميمات في قطاع الاقتصاد لا يمكن الا ان تكون جزئية. والفرد هو اساس المجتمع.
ووجود الدولة ليس له من دور سوى مراعاة العدالة الاجتماعية، وهي ليبست
دولة شمولية مثلما في الاتحاد السوفييتي وترفض الاشتراكية العربية
التضحية بجيل او جيلين من اجل بناء مستقبل مشرف مثلما تفعل الشيوعية
السوفيتية ـ وترفض فرض الصمت والطاعة العمياء لاوامر الدولة والحزب،
فالاتحاد القومي ليس حزب مناضلين يمتهنون النضال بل مكان تجتمع فيه
وتلتقي كل الطبقات.
وتحاول الولايات المتحدة الاستفادة من هذا الخصام مع
الاتحاد السوفييتي كأداة ربط علاقات ثقة مع الجمهورية العربية المتحدة. وهكذا عندما اشتكى المسئولون المصريون سنة 1960 من ان الطلاب الموفدين الى
الاتحاد السوفييتي يفرض عليهم حضور محاضرات اجبارية عن الماركسية، اتصل
عبد الناصر بالامريكيين وقام جسر جوي صغير بنقل الطلبة من الاتحاد
السوفييتي الى الولايات المتحدة حيث اتموا دراستهم الجامعية، كما جرى
تبادل رسائل ودية بين كيندي وعبد الناصر وأعيدت المساعدة الغذائية
الامريكية التي بلغت من عام 1961
الى عام 1964 سبعمائة مليون دولار
تدفع بالعملة المحلية وكانت مصحوبة بقروض شتى ارتفعت الى 500 مليون دولار.
وفي سنة 1961 اكد
جمال عبد الناصر بالتعاون مع تيتو ونهرو على حياده بتأسيس حركة عدم
الانحياز التي اجتمع مؤتمرها الاول ببلغراد من 1 الى
6 سبتمبر 1961، ولم تدع
الصين الشعبية هذه المرة. كون
الافريقيون والآسيويون حركة ذات توجه نحو تحرير العالم الثالث من سيطرة
الغرب، اما حركة عدم الانحياز فهي تبدو راغبة في اقامة توازن بين
الكتلتين. فهي تؤكد بأن (كل محاولة لفرض نظام سياسي او
اجتماعي ما على الشعوب بالقوة ومن الخارج كفيلة بتعريض السلام العالمي
للخطر[6]
.
كان الاتحاد السوفييتي يرى التمييز بين السياسة
والاقتصاد كما يرى ان عليه ان يدخل في اللعبة مع عبد الناصر. ولئن كانت الخلافات السياسية ظاهرة معروفة فان السوفييت لم
يمارسوا أي ضغط اقتصادي على الجمهورية العربية المتحدة. فقد واصلوا تقديم مساعدتهم الاقتصادية جهاراً، هي التي كانت تتمثل
في اعمال السد العالي، وكانوا يرون انه لا شيء نهائي في هذا الصدد وان
عبد الناصر قد يغير سياسته (وكان
لهم موقف مختلف مع السادات في السبعينيات)،
وكانت مساعدتهم تهم خاصة وبشكل اساسي الصناعة الثقيلة. ولابد ان يدعم ذلك الطبقة العاملة المحلية التي قد تكون قاعدة
لحركة عمالية مؤيدة للاتحاد السوفييتي، وكانت إجراءات التأميم وسياسة
الاقتصاد الموجهة المتخذة من قبل عبد الناصر في الفترة نفسها تسير في
الاتجاه الصحيح.
وفي هذه الحال كانت الايديولوجيا الماركسية اللينينية
تحجب واقع الاحداث عن المسئولين السوفييت، فالافكار الشيوعية لم تجد لها
انصاراً في العالم العربي الا لدى المثقفين وفي مهن مثل المهن الطبية
ولدى الاقليات اما الجماهير الشعبية حتى العمالية ـ منها فقد ظلت مرتبطة
بالثقافة الاسلامية ارتباطاً وثيقاً. وكان القمع الذي تمارسه اجهزة الدولة من الفعالية بحيث كان يحول
دون أي اتصال بين المثقفين والعمال.
وكان عراق قاسم ينأى شيئاً فشيئاً عن الشيوعيين وعن
الاتحاد السوفييتي، ولقد وضعت نهاية الجمهورية العربية المتحدة الظروف
الضرورية لتقارب جديد بين القاهرة وموسكو.
ازمة الكويت:
كانت دول المشرق العربي متجمعة نظرياً في كتلتين
مذهبيتين وفق معايير الحرب الباردة بين الشرق والغرب ـ وكانت التسميتان
المألوفتان (تقدميون) و(محافظون) مستعملتين. غير ان هاتين
الكتلتين كانتا شديدتي الانقسام على نفسيهما، فالمصلحة السياسية الآتية
لكل دولة ربما أدت الى اتخاذ مواقف متعارضة تماماً مع المذهب الايديولوجي
المعلن من قبل السلطات القائمة.
وكانت أزمة الكويت خير مثال على ذلك. والكويت هي اهم امارة بالخليج. فهي تحتل موقعاً استراتيجياً هاماً قرب شط العرب بين العربية
السعودية والعراق وقريب من إيران.
تأسست هذه الامارة في القرن الثامن عشر فوق موقع استيطان بشري قديم وكانت
لها علاقات غير وثيقة مع الدولة العثمانية قبل ان تصبح بريطانيا سنة 1899. واحتياطي النفط فيها اهم ما
في العالم وتكلفة استخراجه اقلها في العالم، ولقد بدأ استغلاله منذ
الثلاثينيات أي قبل الامارات الاخرى بما يزيد على جيل. وفي بداية الستينيات كان متوسط الدخل للساكن الواحد اعلى بقليل من
مثيله في الولايات المتحدة. ولقد
قررت بريطانيا العظمى منحها الاستقلال في يوليو 1961. وفي عهد الانتداب البريطاني
اعترفت العراق بالامارة وحددت حدودها معها. غير انها بعد حصولها على استقلالها سنة 1933 عادت فأنكرت وجود هذه الجارة
الصغيرة. ولقد طالب عبد الكريم قاسم
بعد نوري السعيد بهذه الارض باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من العراق. باسم حق تاريخي يرتكز على العلاقات القديمة بين الامارة وبين
الدولة العثمانية: فنهاية الحماية
البريطانية ينبغي ان تعيد الامارة الى وضعها قبل 1899 حيث كانت تابعة للواء البصرة
وحيث كان الامير ممثل السلطة المركزية (ولا
تحسب هذه الذريعة القانونية حساباً للمعاهدات التي وضعت نهاية للحرب
العالمية الاولى وكرست نهاية الامبراطورية العثمانية وكذلك حق تقرير
المصير).
وترتكز هذه المطالبة كذلك على المذهب (التقدمي) القاضي باقتسام عائدات النفط لصالح غالبية العرب كما ترتكز على
رفض ظهور دولة عربية جديدة باسم الوحدة العربية المنشودة، وكان العالم
العربي متخوفاً حقا من ان تطلب الامارة الانضمام للكومنولث بدلا من
الجامعة العربية. وفي يوم 25 يونيو سنة 1961 اعلنت الحكومة العراقية عن
نيتها في ضم الامارة وحشدت جيوشاً على الحدود مع التأكيد بانها لن تلجأ
الى استعمال القوة. واستنجد
الكويتيون ببريطانيا التي ارسلت يوم غرة يوليو 1961 وحدات عسكرية للدفاع عن
الامارة على عين المكان. واشتركت
العربية السعودية في هذا العمل.
كانت مواقف العراق نظرياً تتفق مع التأكيدات
الايديولوجية للنظام الناصري. اضف
الى ذلك ان للعراق نظاماً (تقدمياً) في مقابل الممالك (المحافظة) مثل الاردن والعربية السعودية الداعمة لاستقلال الكويت. غير ان العراق اذا ما ضم الكويت فستدعم قوته بشكل كبير، وكذلك
سيزداد تحديها للزعامة المصرية.
فأيد عبد الناصر استقلال الامارة ليعارض التوسع العراقي، كما جعل حكومته
تبين الفرق بين حركة تلقائية نحو الوحدة العربية تكون تعبيراً عن رغبة
الجماهير وبين الضم بالقوة. (ان
العلاقات بين الشعوب العربية لا يمكن ان تنظمها الا المبادئ التي وضعتها
الامة العربية عبر نضالها الطويل المبادئ التي تسير عليها حركة الامة
العربية في مستقبلها نحو هدفها المتمثل في بناء الوطن العربي الحر
والمواطن العربي الحر.
((1) ان الجمهورية العربية المتحدة بإيمانها
الراسخ بأن الوحدة العربية الشاملة أمانة مقدسة اودعها التاريخ العربي
للمستقبل العربي، لهي على يقين بان العلاقات بين الشعوب العربية لا
تسيرها المعاهدات او الاتفاقيات القديمة او الجديدة التي حصلت عليها
أطراف عربية أو أجنبية، لكن العلاقات بين الشعوب العربية يسيرها بل
ويضعها ما هو أعمق من المعاهدات والاتفاقيات.
((2) وتبعاً لذلك فان الجمهورية العربية المتحدة
تأمل دوما في ان تقام حركة الشعوب العربية نحو مثلها الاعلى في الاتحاد
وفق أنماط غير النمط التقليدي الاوروبي الذي حكم أوروبا قبل الحرب
العالمية الثانية والذي أدى بها نتيجة التمسك بمطالبات اقليمية ترتكز على
بنود اتفاقيات قديمة الى اثارة مسائل جانبية وسطحية، وهي قادرة على انتاج
آثار عميقة في العلاقات بين الشعوب.
ومن أجل ذلك فالجمهورية العربية المتحدة لا يمكنها ان تقبل مبدأ (الضم) وفي الوقت ذاته فهي مستعدة لبذل كل الجهود لدعم منطق الوحدة
الشاملة.
((3) ان الجمهورية العربية المتحدة الدولة
المنبثقة من الاتحاد الكامل بين مصر وسوريا لا يسعها بطبيعتها الا ان
تساند كل حركة نحو الاتحاد الكامل او الجزئي غير ان الاتحاد الجزئي او
الكامل يجب الا يكون ولا يمكن ان يكون الا التعبير الاجماعي عن الارادة
الشعبية العربية باعتباره قائماً على الاختيار الحر.
((4) لقد كان دوماً من رأي الجمهورية العربية
المتحدة ان من واجب الشعوب العربية الكبرى ان تكون سنداً نزيهاً للشعوب
العربية الصغرى فتدعم إرادتها في نزاهة مستمدة من أصول التضامن العربي. ولقد كان دوماً من رأي الجمهورية العربية المتحدة ان هذا الدعم
النزيه والقوي كان لتشجيع روح الوطنية العربية في المنطقة الصغرى للعالم
العربي حيث افلحت الامبريالية في التسلل منذ أمد بعيد حيث ظهرت بمظهر
الصديق والحال انها لم يكن لها من هدف غير ضمان مصالحها ومواصلة
الاستغلال.
(وإنه لمن دواعي الاسف ان تقوم هذه الوضعية غير
المتوقعة بين حكومة الكويت والجمهورية العراقية في الوقت الذي أعلن فيه
استقلال الكويت، وتلك خطوة الى الامام كان من الضروري تشجيعها ورعايتها
توطيداً للروح القومية العربية وتأكيداً على ما يمكن ان يهبه التضامن
العربي باعتبار تلك اسباباً للثقة والطمأنينة.
((5) ان الجمهورية العربية المتحدة إيماناً منها
بأن شعب العراق العظيم لديه أسباب في دعوته الى الاخاء بينه وبين شعب
الكويت وهي اسباب اعمق وأدوم من وثائق الامبراطورية العثمانية. ان لهذا الشعب قوميته العربية مثلما لشعب الكويت، وذلك في حد ذاته
رابطة تواصل بينهما كافية لخلق اتحاد سياسي اذا ما توفرت الشروط، واول
هذه الشروط هو ان تتبلور عند كليهما الارادة الشعبية الاجتماعية للمطالبة
بهذه الوحدة وتحقيقها.
((6) إن الجمهورية العربية المتحدة تأمل ان يوضع
حد لهذا الوضع غير المتوقع بطريقة مطابقة للقيم العربية. ولا يمكن للجمهورية العربية المتحدة ان تتصور اندلاع نزاع حول أرض
عربية بين شعب عربي وشعب عربي آخر، والتعليمات الواضحة للتاريخ هي ان كل
الارض العربية لكل الامة العربية، كما لا يمكنها ان تتصور ان يأتي يوم
يقف فيه جندي عربي في مواجهة جندي عربي آخر في وقت تواجه فيه الامة
العربية احرج الفترات من تاريخ نضالها ضد الامبريالية والصهيونية، وفي
فترات يتقرر فيها مصير الامة العربية الموحد بالنسبة للقرون القادمة في
فترات هي على هذه الاسس في حاجة لكل قدراتها وكل وعيها وفي حاجة لكل جندي
من جنودها القادرين على حمل البندقية.
ولئن تضمن الاعلان بعض النفاق ـ اذ لم تتردد مصر في
السنة التالية في توريط جيشها في الحرب الاهلية اليمنية ـ فان عبد الناصر
قد رفض دوماً مع ذلك سياسة الضم.
فلقد كان يعلم ان قوته ترتكز قبل كل شيء على خطابه وعلى الموافقة الشعبية. ولئن كان لا يتردد في التدخل في السياسة الداخلية لدول العربية
الاخرى مثلما حدث ذلك في لبنان والاردن فلقد كان دوماً على استعداد لقبول
التسويات السياسية التي تبقي على تلك الدول تحت نفوذه مع احتفاظها
بكياناتها مثلما حصل ذلك بلبنان سنة 1958 والاردن مرات عديدة. ولقد
كان العراق منذ عام 1964 الى عام 1969 خير دليل على هذا المنهج.
أصبح الوضع صعباً عندما طلبت الكويت قوات انجليزية،
وطالبت الجمهورية العربية المتحدة بتسوية سلمية تتضمن انسحاباً فورياً
للقوات البريطانية، وعرضت القضية على مجلس الامن. ودفع العراق بان الكويت ليس ولم تكن قط دولة مستقلة. وأنها كانت دوماً تعتبر من الناحية التاريخية والقانونية جزءا من
مقاطعة البصرة العراقية، وبالتالي فلا يمكن ان تكون هناك مسألة خلاف دولي
قائم بين العراق والكويت ما دامت الكويت جزءاً لا يتجزأ من جمهورية
العراق.)
استعمل الاتحاد السوفييتي حقه في النقض (الفيتو) ضد قرار قدمته بريطانيا العظمى يكرس استقلال الكويت. وفي يوم 20 يوليو وافق مجلس
الجامعة العربية على قبول الكويت بالجامعة وطلب مها في المقابل تعويض
الوحدات الاجنبية بوحدات عربية.
والتزمت الكويت يوم 12 أغسطس باجراء
هذا التعويض وفي يوم 23 سبتمبر
تمركزت بالامارة قوة عربية للتوسط مكونة من مصريين وسعوديين وأردنيين
وسودانيين. وبعد ان افلح عبد الناصر
في الجزء الاول من مناورته القاضية بالابقاء على الكويت جزءاً من الجامعة
العربية (يتمتع بحرية كاملة بلا
قوات أجنبية) سحب وحدته العسكرية في
شهر اكتوبر حتى لا يظهر بمظهر المشارك مع الممالك المحافظة. وقاطع العراق المؤسسات والبلدان التي أقامت علاقات مع الويت ووجد
نفسه في عزلة متزايدة.
ساند الاتحاد السوفييتي عبد الكريم قاسم في قضية الكويت
وعارض دخول هذا البلد منظمة الامم المتحدة. ولم يرفع اعتراضه الا بعد سقوط قاسم وقبلت الامارة بالامم المتحدة
في 14 مايو 1963، وفي يوم 4 اكتوبر 1963 اعترف العراق (باستقلال الامارة وسيادتها الكاملة). وفي يوم 15 اكتوبر حددت
اتفاقية الحدود بين الدولتين ـ وكانت التوترات تعود للظهور دورياً وتمر
بأزمات مثلما حدث في مارس ـ ابريل سنة
1973. وفي يوليو سنة 1977
اعيد فتح الحدود وفي يوم 3 نوفمبر
عام 1977 وقع اتفاق تعاون بين
البلدين. ولقد شهدت الثمانينيات
تحسناً في العلاقات، رغم ان العراق ظل يطالب دورياً بتسهيلات فوق التراب
الكويتي حتى يكون له منفذ أفضل على الخليج وتلك مسألة أصبحت حيوية مع
الحرب العراقية الايرانية. وفي سنة 1990 عاود صدام حسين سياسة أول رئيس
للجمهورية العراقية بوسائل أكبر وتصميم اكثر حزماً.
اخفاق الجمهورية العربية المتحدة
يعود اخفاق الجمهورية العربية المتحدة الى مجموعتين من
العوامل بعضها اقتصادية والاخرى سياسية.
فالبرجوازية السورية لم تتمكن من الوصول الى السوق
المصرية، وكان النظام الناصري قد طور بيروقراطية آخذة في التوسع ولقد أخذ
القطاع العام اهمية متزايدة بسبب اجراءات التأميم، وهو القطاع الذي انشئ
ابتداء من أزمة السويس نتيجة اجراءات تمصير الاقتصاد.
ولقد أفرزت الناصرية نظام تسيير بيروقراطي للاقتصاد
ميالاً بطبيعته الى التوسع. ولقد
سيطرت على الاقتصاد هيكلية تقنية حقيقية واتخذت قاعدة للنظام السياسي. ثم ان هذا النمط المصري قد فرض في الاقليم الشمالي بدءاً من عام 1960 حتى عام 1961. وحيث ان سوريا لم يكن لها
الملاك المعتاد على هذا النمط من التسيير فقد كانت مناصب المسئولية بالاقليم الشمالي في الغالب من نصيب المصريين والحال ان السوريين كانوا
قليلي العدد في الادارة المصرية (الاقليم
الجنوبي). ورأت البرجوازية السورية
انها قد سلبت دورها في بلادها فحرك ذلك شعوراً سورياً خالصاً في الرأي
العام. وكان الاقتصاد السوري
منافساً للاقتصاد المصري وليس مكملاً له. وكما هو الحال في كامل العالم العربي كانت تيارات التبادل متجهة
في الغالب نحو البلدان المصنعة من الشرق او من الغرب. وحركة الوحدة العربية لا ترتكز على معطيات اقتصادية ملزمة بل ان
التيارات الاقتصادية تتعارض مع الحركات الوحدوية، والخطاب الوحدوي هو
مذهبي لا غير. ولبنان باقتصاده
الخدمي هو وحده الذي استطاع خلق تبادل عربي عربي.
كانت مصر تبدو انها تستغل الاقتصاد السوري لصالحها فقط. وزادت من تفاقم الاحوال الاقتصادية سلسلة من السنوات العجاف في
وقت تسارع فيه هروب رؤوس الاموال تجاه لبنان خاصة اثر اجراءات التأميم
الاقتصادي.
وضاعفت ظاهرة الشائعات شعور الكراهية، فاشيع بان في نية
مصر توطين ملايين الفلاحين القادمين من وادي النيل بسوريا لمواجهة نمو
السكان. كما كانت الاستقطاعات
والتوسعات المصرية يتم تهويلها في تصورات الجميع. وبدأ الرأي العام السوري يعتبر ان الاتحاد قد تم على حساب مصالح
البلاد الحيوية.
منذ البداية لم يطمئن جمال عبد الناصر للبعث التنظيم
السياسي الوحيد الذي كانت له رغبة حقيقية في الاندماج الكامل مع مصر وكان
حزب البعث يأمل في الدخول لمصر عن طريق الحزب الواحد. غير ان الوزراء البعثيين ادركوا انهم لم يترك لهم غير هامش بسيط
من التصرف بالادارة. فلم تكن لهم
مسئوليات فعلية ولا سلطة بالنظام الجديد. ومنذ نهاية 1950 فضل حوراني
والبيطار الاستقالة من وظيفتهما الوزاريتين. وأعاد الحزب السوري ـ الذي حل رسمياً ـ تشكله سراً. ولم يبق غير المعتدلين في تعاونهم مع المصريين. ثم ان اجراءات التأميم الاقتصادية والاصلاح الزراعي قد القي بهم
في المعارضة في حين كان نجاح الدعاية الشيوعية المهاجمة لمصر يومياً يثير
قلقهم. ولم يكن بوسعهم ترك الحزب
الشيوعي يستغل وحده هذا الموضوع الذي اصبح شعبياً. واعتمد عبد الناصر على عبد الحميد السراج رئيس المكتب الثاني
سابقاً (الاستخبارات). ولمواجهة هذا التذمر المتزايد نظم السراج دكتاتورية بوليسية
حقيقية متمثلة في الاعتقالات التعسفية والتعذيب وما شابه ذلك من الاعمال
التي افقدت الناس ثقتهم بالنظام الناصري. وتولى المشير عبد الكريم عامر قائد جيش الجمهورية العربية المتحدة
حكم الاقليم الشمالي ولم يتمكن من مراقبة العسكريين السوريين.
كان أكثر الضباط نشاطاً سياسياً قد أرسلوا الى الاقليم
الجنوبي. ولقد تشكلت في هذا المنفى
منظمة عسكرية سرية ذات ميول بعثية هي (اللجنة
العسكرية) وكانت ذات تطرف يساري. وكانت تستقطب صغار الضباط خاصة، الذين تكونوا بعد الاستقلال
وتدربوا في الاتحاد السوفييتي.
وكانوا في الاغلب قد انخرطوا في البعث حتى قبل دخولهم الجيش وكانوا في
غالبهم من العلويين والدروز وكان من رؤسائهم صلاح جديد وحافظ الاسد. ومن هذه اللجنة العسكرية نشأ البعث الجديد سنة 1966. وفي تلك الفترة لم يقوموا بأي
دور في انهاء الجمهورية العربية المتحدة لوجودهم بمصر. وفي أغسطس 1961 اصبحت
الحكومة محصورة تماماً بمصر. ولم
يكن من بين نواب الرئيس السبعة غير سوريين اثنين. ورأى السوريون ان قد طفح الكيل واسترضاء لهم اتخذ السراج كبش فداء
فأقيل من منصبه يوم 26 سبتمبر. لكن فات الاوان. وفي يوم 28 سبتمبر 1961 نظم الجيش انقلاباً جديداً. وبعد تردد في الدخول في صراع مسلح رفض عبد الناصر الحرب الاهلية
واعاد كل المصريين الموجودين بسوريا الى بلادهم. واستعادت البلاد استقلالها.
ان اخفاق الجمهورية العربية المتحدة يؤدي الى التساؤل
حول المعنى العميق لتصرفات جمال عبد الناصر. فهدفه الاول ـ كما يبدو محتملاً ـ كان الهيمنة المصرية لا اندماج
الدول العربية. ولكن البعث هو الذي
فرض عليه الاندماج، ومنذئذ صارت هذه الفكرة الجديدة ضمن دعايته العربية
ولقد جعل الصراع على السلطة بين عبد الناصر والبعث كل محاولة لتحقيق
الوحدة العربية لا طائل من ورائها.
ان فشل الجمهورية العربية المتحدة ـ وقد احتفظت مصر بهذا الاسم حتى عام 1971 ـ قد سدد ضربة مميتة لفكرة
الوحدة العربية التي لم تعد قط للظهور بشكل ملموس مثلما حدث. ولقد بدا عندئذ ان القضية لم تكن غير حلقة من سلسلة الصراع على
سوريا. فمصر كانت قد افلحت في هزيمة
العراق الهاشمي، ولكنها هزمت بدورها بسبب أخطائها في الوقت الذي ظهر فيه
عراق ثوري منافس لمصر.
وفي نهاية عام 1961 ظلت الناصرية رغم كل شيء القوة المسيطرة بالمشرق العربي، كما ظلت
سوريا ذات النظام الهش موضوع النزاع الرئيسي من اجل السيطرة. واستمرت اللغة السياسية في التعميق والمواجهة في اتخاذ طابع
ايديولوجي متميز الى حد أنه يمكننا أن نطلق عليها تسمية (الحرب الباردة) العربية.
الحرب الباردة العربية
إن هذه الفترة الممتدة من نهاية الجمهورية العربية
المتحدة الى حرب يوليو عام 1967م
والتي عرفت نهايتها في قمة الخرطوم (29 أغسطس ـ غرة سبتمبر عام 1967م) تتميز بانقسام المشرق العربي الى قوى متعادية وباخفاق آخر
المحاولات الجدية للوحدة العربية وعبر هذه الانقسامات والمواجهات تعمق
الشعور في تدعيم الاجهزة الحكومية، وان تجسيد الوعي الفلسطيني الذي أدى
الى مواجهة جديدة من اسرائيل والبلدان العربية يرمز الى التخلي عن
المطالبة بالوحدة التي كانت حتى يومئذ تحظى بالأولوية.
بداية تحرر البلدان النفطية:
منذ بداية الخمسينيات عرفت السوق النفطية تحولات غيرت
بنيتها تغييراً هاماً.
(1) نصيب الشرق الاوسط المتزايد من الانتاج
العالمي 17% حوالي عام 1950 و37% سنة 1973. واصبحت المنطقة
حيوية بالنسبة لاقتصاديات اوروبا واليابان وحتى الولايات المتحدة الى حد
ما. حدث هذا التطور في اطار ارتفاع
حاد للانتاج العالمي: 541 مليون طن
سنة 1950 و1080 مليون طن سنة 1960، و2.337 مليون طن سنة 1970 و2847 مليون طن سنة 1973، أي ان
الانتاج تضاعف خمس مرات في غضون ما يزيد بقليل على العشرين عاماً.
(2) ظهور شركات مستقلة بالشرق الاوسط. وهي اما شركات خاصة امريكية واما شركات حكومية لبلدان تسعى
للافلات من سيطرة الشركات الكبرى، مثل فرنسا وايطاليا، وهذه الشركات
مستعدة، من اجل الحصول على حصتها من السوق، لتقديم شروط افضل للدخول
المنتجة باخذ هامش أقل ومستفيدة في الوقت ذاته من الاسعار التي حددتها
الشركات الكبرى.
(3) تغير وضع البلدان المنتجة التي انطلقت في
سياسات تحديث الاقتصاد والمجتمع ذات المنحى الوطني. فقد أصبحت لها نخبة جديدة قادرة على قيادة المواجهة مع الشركات
على الصعيد التجاري أولاً ثم على الصعيد التقني ذاته، فالزمن الغابر الذي
كانت فيه المفاوضات تتم بين شيوخ البدو وممثلي الشركات قد حلت محله
مفاوضات عسيرة بين محاورين تخرجوا من الجامعات والمعاهد التجارية نفسها
وذوي معرفة بدقائق القانون التجاري.
ومنذ عام 1948
استغلت الشركة المستقلة الامريكية اويل نقطة الضعف الناشئة عن وجود
المنطقة المحايدة المشتركة بين العربية السعودية والكويت والتي كانت لذلك
خارج مناطق الامتياز الممنوحة من قبل البلدين، لتطلب منهما منطقة امتياز
مقابل اتاوة تعادل 50% من الفوائد
على الاسعار المعلنة. وسرعان ما
تعمم هذا النظام المعروف (بالففتي
ففتي) في البلدان الاخرى وحل محل
طريقة الاحتساب القديمة المتمثلة في سعر محدد منخفض عن كل طن مصدر. وفي ايران اعترضت على نمط التعاقد الجديد هذا شركة الزيت
الانجليزية الايرانية التي حلت محل شركة الزيت الانجليزية الفارسية. فقامت الحكومة الايرانية بقيادة الوطني الدكتور مصدق بتأميم
الشركة. ودافعت الشركات الكبرى
الاخرى عن زميلتها ورفضت شراء النفط الايراني وزادت في انتاجها لتعويض
الانتاج الايراني. وانهار الانتاج
الايراني فهبط من 33 مليون طن سنة 1950 الى 1.3 مليون طن سنة 1952. وفي الختام نظمت وكالة
الاستخبارات المركزية الامريكية انقلاباً بايران وحصل اتفاق جديد سنة 1954. فتركت ملكية ادوات الانتاج
للشركة الايرانية اما الاستكشاف والانتاج والتكرير فانتقلت الى مجمع
شركات بقيادة شركة البترول البريطانية (BP) وريثة شركة الزيت الانجليزية الايرانية، فكان لشركة النفط
البريطانية 40% من حصص مجمع الشركات
بينما تتقاسم الشركات الكبرى الاخرى (ومن
بينها شركة النفط الفرنسية) الباقي. ورغم توسيع نشاطات الشركات الكبرى جغرافياً فقد اضطرت هذه الى
التنازل في حلقة من حلقات الشبكة الممتدة من الانتاج الى الاستهلاك، وفي
سنة 1957 أبرمت شركة الدولة
الايطالية عقداً مع ايران يعطي لايران اتاوة قدرها 75% من أرباح البيع على اساس
الاسعار المعلنة. وتعمم نمط التعاقد
هذا من جديد على حساب الشركات الكبرى، وكان من تصرف الشركات المستقلة
زيادة مطردة في الانتاج وزاد العرض على الطلب في وقت حدّت فيه الحكومة
الامريكية من استيراد النفط حماية للشركات المحلية الامريكية الصغرى. وتبعاً لذلك ـ ومن اجل السيطرة مجدداً على الوضع والحد من هامش
تصرف الشركات المستقلة ـ قررت الشركات الكبرى في فبراير 1959 تخفيض الاسعار بواقع 9% مما ترتب عليه تخفيض مماثل
للعائدات النفطية للبلدان المنتجة.
ورداً على ذلك عقدت الجامعة العربية في ابريل 1959 بالقاهرة أول مؤتمر عربي للنفط
بحضور مراقبين من ايران وفنزويلا.
وفي هذا المؤتمر طرحت فكرة انشاء جهاز تنسيق السياسات في البلدان المصدرة. وكانت المملكة العربية السعودية والكويت والعراق تمثل وحدها 40% من صادرات العالم ومتى اضفنا
اليها ايران وفنزويلا بلغنا 90%.
وفي سنة 1969 خفضت الشركات الكبرى
من جديد الاسعار المعلنة بالشرق الاوسط بواقع 10%. وازاء هذه السياسة اجتمعت
الدول الخمس الرئيسية المصدرة للنفط في بغداد وشكلت يوم 15 سبتمبر عام 1960 منظمة البلدان المصدرة للنفط.
ولقد عدل عمل منظمة البلدان المصدرة للنفط شيئاً فشيئاً
بنية السوق النفطية. وفي سنة 1961م التحقت بها قطر فليبيا
واندونيسيا سنة 1962م ثم أبو ظبي
سنة 1967 ثم الجزائر سنة 1969 (وكانت دولة بصفة مراقب من 1963). وفي سنة 1971 التحقت نيجيريا وفي عام 1973 التحقت الايكوادور ودبي وفي
سنة 1974 الشارقة وفي 1975 الغابون. وهكذا بلغ عدد الاعضاء
13.
وفي السنوات الاولى من الستينيات تميز الوضع بفائض عرض
على الطلب. ولقد ناضلت المنظمة على
الصعيد القضائي وحصلت على نجاحات، ففي عام
1964 لم تعد الاتاوة تطرح منها الضريبية على الارباح، ومن ثم حصلت
زيادة طفيفة في عائدات الدول المنتجة، كما أنه ألغي تدريجياً التخفيض
الممنوح للشركات النفطية، ولقد أضطرت الشركات التي كانت قد حاولت تجاهل
المنظمة ان تحسب لها حساباً.
تطور مصر:
كان رد عبد الناصر على فك الاتحاد مع سوريا بتجذير
لخطابه: ان مصر والعالم العربي
فريسة لصراع بين (التقدميين) و(الرجعيين) وان اخفاق الجمهورية العربية المتحدة سببه الرجعيون. والرجعية (هي نقطة ارتكاز
الامبريالية الرئيسية وهي بدورها لا تتردد في الارتكاز عليها لسلب ثمرات
النضال العربي في المجال الاجتماعي). (خطاب 18 اكتوبر 1961). لقد بالغت ثورة 1952 في الكرم تجاه اعدائها الذين
استطاعوا شل فعاليتها الثورية وكبح الثورة القومية او تسخيرها). وحتى نحمي الشعب من الرجعية والامبريالية ينبغي اقامة ديمقراطية
سليمة مغايرة للديمقراطية الليبرالية الغربية التي ليست سوى واجهة
دكتاتورية رأس المال ودكتاتورية الطبقة العاملة. وهذه الديمقراطية السليمة تجمع من ليسوا مستغلين كالفلاحين
والعمال وصغار التجار والمثقفين والاساتذة والطلاب وممثلي المهن الحرة
والملاك الذين لم يقم ملكهم على الاستغلال والضباط والجنود الذين كانوا
في الطليعة يوم التغيير الاكبر.
علينا اقامة عهد العدالة الاجتماعية المقامة على تكافؤ الفرص. وهذه العدالة الاجتماعية هي في الواقع العدالة الالهية لان
القانون الالهي يدعو الى العدل والانصاف والمساواة في الفرص).
(خطاب 26 نوفمبر عام 1961) وأصبحت مصر ملاذ النفاء
المذهبي.
وحاول عبد الناصر تجربة الاشتراكية العربية في بلاد
واحدة. فعجل بعملية تأميم الاقتصاد. وبعد المصالح الاقتصادية الغربية جاء دور البرجوازية السورية
اللبنانية المقيمة بمصر منذ امد بعيد والتي اتهمت بأنها شجعت انفصال
سوريا. كما ان الجالية الاجنبية مثل
اليونانيين سلبت أموالهم واضطروا للهجرة. وانتهى الوجه المتعدد الجنسيات الموروث عن القرن التاسع عشر. وانغلقت مصر امام الاجانب بعد ما كانت طيلة قرون بلاداً ذات
اقتصاد دولي. كما عرف رأس المال
الوطني نفس المصير إذ لم يستطع الحلول محل الاجانب المطرودين. ولقد كان للقضاء على طبقة المقاولين النشطين والمستقلين وقع شديد
على مصير البلاد. ولقد كانت الحاجة
اليها كبيرة عندما أراد السادات العودة الى الاقتصاد الحر. فاقامة رأس مال نشط لحرية الانشاء اعسر من هدمه. في البداية استقبل تطور نظام عبد الناصر هذا استقبالاً حسناً من
قبل الجماهير المصرية. فهو يسجل
استكمال حركة قديمة من اعادة المصريين فتح مصر وذلك هو احد المدلولات
العميقة للعمل الناصري ولعله اهم بكثير من تأكيد ايديولوجية الانتماء
العربي.
وفي 1961 ـ 1962 قرر إصلاح زراعي ثان إذ خفض
سقف الملكية الى 100 فدان أي 42 هكتاراً. وتم توسيع مجال صلاحيات التعاونيات الزراعية الالزامية وتنظيم
المزروعات الحكومي. وهدف هذا
الاصلاح مثل سابقه هو اضعاف دور المجموعات القيادية السابقة. وكان النظام ينزع الى الاعتماد في الريف على الطبقة الاجتماعية
لمتوسطي الملاك التي استفادت من الاصلاحيين الزراعيين اكثر من افقر
الفلاحين. وفي سنة 1966 وفي الوقت الذي كان على عبد
الناصر مواجهة مصاعب متزايدة، جذرت السلطة سياستها الزراعية بتكوين لجنة
للقضاء على الاقطاع مهمتها فحص كل حالات مخالفة الاصلاح الزراعي. وضمت هذه اللجنة برئاسة المشير عبد الحكيم عامر العديد من شخصيات
النظام مثل علي صبري وشمس بدران.
ولئن كان عامر الذي كان من ملاك العقارات معتدلاً
نسبياً فان اللجنة قد عمدت الى وضع العديد من املاك (الاقطاعيين) تحت الحراسة (حوالي 60.000 فدان) وتصرفت بكثير من العسف. ومنذ
مارس عام 1967 الغيت بعض الحجوزات
وحلت اللجنة بعد حرب يونيو سنة 1967… وأهم الاراضي المحجوزة ردت قبل موت عبد الناصر في سبتمبر وردت
بقية باقية (اكثر بقليل من 3000 فدان) في عهد السادات.
وجملة هذا التوجه الجديد للنظام معلنة في (ميثاق العمل الوطني) لشهر مايو سنة 1962 وهو النص
الاساسي الثاني للفكر الناصري بعد (فلسفة
الثورة). ولقد اصبحت الاشتراكية
العربية (علمية) إذ هي ترتكز على مجموع المعارف البشرية وتجاربها، والطابع العلمي
للاشتراكية العربية ينبغي ان يفهم في معنى الوسائل او التقنيات لتحقيق
هدف وليس بمعنى العلم بالمعنى الصحيح مثلما هو الشأن للماركسية.
والثورة الاشتراكية العربية تسير في اتجاه التاريخ،
ولئن كانت المفردات المستعملة يتزايد اقترابها من اللغة الماركسية، فان
صراع الطبقات والمادية التاريخية ظلا مرفوضين، والاحالات الى الدين
موجودة، ولقد أفلح عبد الناصر في استخدام الدين، على عكس البعث وانحصرت
المعارضة الدينية في اتباع الاخوان المسلمين لا غير.
وحل محل الاتحاد الوطني لسنة 1958 حزب واحد جديد هو الاتحاد
الاشتراكي. وهو يرى انه اكثر من حزب
وانما هو تجمع لكل الشرائح الاجتماعية غير المتعارضة وغير المستغلة للشعب. وكان هدفه (ضمان تمثيل ادنى
للعمال والفلاحين في كل التشكيلات الشعبية والسياسية على شتى المستويات
بشكل يجعل نسبة هذا التمثيل لا تقل عن 50% نظراً لان العمال والفلاحين يكونون أغلبية الشعب الذي طالما حرم
من حقوقه الاساسية). كان الاتحاد
الاشتراكي العربي المؤلف من عدة ملايين من الاعضاء يشمل المجتمع المصري. وظلت هذه المنظمة خاصة ادارة بيروقراطية دون سلطات حقيقية. وخير دليل على ضعفها هو السهولة التي تمكن بها السادات في بداية
السبعينيات من الغاء ثقلها السياسي هو ان ما يميز مصر في سنوات الستينيات. تنامي البيروقراطية المطرود، فكانت بيروقراطية اقتصادية
بالتأميمات وسياسية بالاتحاد الاشتراكي العربي. وقد استكملت فئة اجتماعية منبثقة عن البرجوازية صعودها نحو
السلطة، وهو صعود شرعت فيه مع ثورة 1952. ولقد باتت طبقة من المكتبيين والتقنيين المدنيين والعسكريين تسيطر
على كامل الانشطة بمصر. ولقد هاجم
جمال عبد الناصر مرات عديدة في خطبه هذه الطبقة الجديدة غير انه كان لا
يستطيع فعل أي شيء لانها كانت سند النظام الحقيقي. كانت هذه الطبقة الجديدة عندئذ تدافع عن الاشتراكية العربية. ولم يكن انتماؤها انتماء كاملاً بل كانت متأهبة دوماً للعودة الى
الليبرالية الاقتصادية التي تسخر لصالحها اذا ما سمحت الفرصة بذلك. ولقد عرف السادات في السبعينيات كيف يستخدم هذا التوجه لارساء
سلطته.
كانت النخبة المسيرة تتجمع حول عدد من المؤسسات كالجيش
والاستخبارات والاتحاد الاشتراكي العربي، اصبحت (مراكز قوة) مستقلة وكان الجيش بقيادة المشير عبد الحليم عامر لا يخضع لسلطة
عبد الناصر. ولم يكن بوسع هذا
الاخير غير الحفاظ على التوازن بين مختلف المراكز، فهو يعتمد على الاتحاد
الاشتراكي العربي. بقيادة علي صبري
في مواجهة الجيش. ولكن قوته
الاساسية كانت باستمرار تكمن في صلته الفريدة بالشعب. فتلك السلطة الساحرة التي كان يتمتع بها دون سواه تمكنه من
السيطرة على النظام لصالحه هو.
فالمعارضة الشيوعية لم يعد لها وجود تقريباً، وفي سنة 1964 زار خروتشيف مصر. بمناسبة الانتهاء من المرحلة الثانية لاعمال السد العالي باسوان
الذي موّله الاتحاد السوفييتي جزئياً. واعترف خروتشيف بالطابع (الاشتراكي) للنظام المصري: فمصر لم تعد
في طريق نمو غير رأسمالي، ليس هذا فحسب بل هي حقاً في نفس التطور
التاريخي والاجتماعي هي والديمقراطيات الشعبية بشرق أوروبا والاتحاد
السوفييتي. غير ان الفارق جوهري في
اطار الماركسية اللينينية. ولقد كان
هذا القرار الذي اتخذه خروتشيف دون استشارة المسئولين السوفييت الآخرين
فيما بعد احد أسباب سقوطه. ولقد
أنعم على عبد الناصر وعبد الحليم عامر بلقب بطل الاتحاد السوفييتي.
ومنذئذ لم يعد للحزب الشيوعي المصري مبرر لوجوده. وذلك حدث فذ تاريخ الشيوعية العالمية. فحل نفسه. وانخرط مناضلوه في
الاتحاد الاشتراكي العربي ودخلوا في الادارة، ولم يعودوا يمارسون أي نفوذ
تقريباً الا في المجال الثقافي بعد ان غرقوا في المكتبية المصرية.
كانت المعارضة الجادة هي معارضة الاخوان المسلمين. وكانت الحركة بعد قمع عام 1954 الاكبر قد دخلت في السرية او في المنفى خاصة في العربية السعودية،
ثم اطلق سراح مناضليها تدريجياً بعد قضاء سنوات طويلة في سجون النظام حيث
التقوا بالشيوعيين. وقد اتخذ عبد
الناصر هذا المنحى ليوازن اطلاقه سراح الشيوعيين.
ولقد عرفت الحركة الاسلامية آنذاك تطوراً ملموساً مع
عمل سيد قطب الفكري. وكان هذا منظر
الاخوان لمسلمين الاول وقد أطلق سراحه في نهاية 1964 بعد عشر سنوات من الاسر وسوء
المعاملة. فجذر الاطروحات الاسلامية. والمجتمع الاسلامي في رأيه لم يعد في حاجة الى اصلاح بالمعنى
الاسلامي فحسب بل وفي حاجة الى تغيير. فهو لم يعد مجتمعاً مسلماً بل مجتمعاً جاهلياً. فينبغي اذن محاربته لاقامة حكم الله وحده على الارض وذلك عبر
الشريعة الاسلامية. والمجتمع
الاسلامي ينبغي ان تحكمه الشريعة ولن يعرف أي حياة سياسية. وكان كتاب قطب (معالم في
الطريق) الذي طبع مرات عديدة سنتي 1964 ـ 1965 ادانة صريحة للنظام الناصري
كما كان خاصة اساساً لتنظير الثورة الاسلامية. وكان خطر ذلك كبيراً على عبد الناصر خاصة وان الاقتصاد المصري اخذ
يصاب بالانهاك بسبب آثار حرب اليمن مما تسبب في انخفاض شعبية النظام.
فضل عبد الناصر اللجوء الى الوقاية. ومن موسكو حيث كان يقوم بزيارة رسمية يوم 30 اغسطس عام 1965 أتهم الاخوان المسلمين باحياء
تنظيمهم السري الذي حل سنة 1954.
ويبدو ان الاخوان المسلمين في تلك الفترة لم يعيدوا اقامة بنيتهم وان هدف
عبد الناصر كان سيد قطب. فتم اعتقال
سيد قطب وعد كبير من المناضلين الآخرين. فأعدم شنقاً بعد محاكمة سريعة يوم
29 اغسطس سنة 1966 رغم ضغوط
بلدان اسلامية عديدة (فلقد كان مؤلف
تفسير للقرآن واسع الانتشار في كامل العالم الاسلامي). أبعد تنفيذ حكم الاعدام في سيد قطب ـ الى حين ـ خطر اعادة تكوين
المنظمات الاسلامية لكنه عمق العداء بين الاسلاميين والقوميين في العالم
العربي.
ولئن اتخذت الناصرية اتجاهاً اشتراكياً في مصر فقد أدى
بها الامر على الصعيد العربي الى معارضة البعث بشدة بالاضافة الى عدائها
للقوى المحافظة.
حرب اليمن والمقاومة العربية السعودية:
إن خلافة عبد العزيز بن سعود هي تاريخ مواجهة الابنين
الاكبرين لمؤسس المملكة وهما سعود الذي اصبح ملكاً وفيصل الذي كان ولي
العهد. وكانا متنافرين في كل شيء. فسعود كان بدوياً حقيقياً لم يعش كثيراً في الخارج وكان متعدد
الازواج محباً للترف والانفاق. وكان
ضعيف الشخصية وكانت قدرته على الحكم محدودة. وكان فيصل المسلم الزميت ذو الزوجة الواحدة رجل دولة حقيقياً. ولقد مارس دور وزير الخارجية لابيه على مدى عشرات السنين وكان
يعرف اهم البلدان الغربية معرفة تامة وقد زارها مرات عديدة زيارات رسمية.
ولقد ساند الملك سعود في بدايات حكمه عبد الناصر ضد
الهاشميين، وفي سنة 1957 ادرك سعود
خطر الناصرية على حكمه فانضم لمذهب ايزنهاور. ولقد افقدت فضيحة محاولة اغتيال عبد الناصر سنة 1958 الملك سعود سمعته مؤقتاً ودعت
الاسرة فيصل لاعادة الامور الى نصابها. ولما اصبح فيصل رئيساً للوزراء اعاد تنظيم الدولة ووقف في وجه
الملك الذي كان يريد استعادة سلطته.
وطرد سعود أخاه لكنه بدا عاجزاً عن ادارة الدولة. وقد وضع تبذيره وانفاقه الطائش الدولة السعودية على شفا الافلاس
المالي.
كانت المملكة اذن في وضع صعب عندما اندلعت حرب اليمن. كان الجيش يمثل العنصر الاكثر حداثة في المملكة اليمنية
الثيوقراطية التي كان يحكها امام.
في يوم 26 سبتمبر 1962 حاولت مجموعة من الضباط
المتأثرين بالمثال الناصري قلب النظام. وأعلن المتآمرون بقيادة اللواء عبد الله السلال قيام الجمهورية
غير ان الامام بدر تمكن من الافلات ومن تجميع القبائل المناهضة لسلطة
المدينة حوله. وساندت مصر الجمهورية
الجديدة في الحال. وكانت هذه
الجمهورية تشك في ان تنهار امام التمرد واتخذ عبد الناصر القرار المشئوم
بارسال حملة عسكرية مصرية الى اليمن ودامت الحرب طويلاً، وسرعان ما بلغت
الوحدات العسكرية المصرية 40 الى 50 ألف رجل.
كان مصير شب الجزيرة العربية واحتياطيها من النفط في
خطر، ورأت العائلة المالكة بالسعودية صاحبة الشرعية الحقيقية ان سعود غير
قادر على مواجهة هذا الخطر في الوقت الذي اعترف بالجمهورية اليمنية حماة
العربية السعودية التقليديون أي الامريكان. بل ومنحوا هذه الجمهورية مساعدة اقتصادية. وفي 17 اكتوبر عام 1962 اصبح فيصل من جديد رئيس مجلس
الوزراء، وقطع علاقاته الدبلوماسية مع مصر التي اتهمت ـ على حق ـ بأنها
قامت بغارات جوية ضد السعودية.
وتقدم فيصل منافساً لعبد الناصر فدعا الى اجتمع كل مسلمي العالم.
وفي نوفمبر 1963
حاول سعود مرة اخرى استعادة السلطة ولكنه فشل. وفي النهاية خلع فيصل اخاه واصبح هو ملكاً بمساعدة الاسرة جميعاً (2 نوفمبر 1964) ولجأ الملك المخلوع الى مصر
حيث استقبله عبد الناصر.
وساعد فيصل الملكيين اليمنيين بكل حزم. وكانوا يقودون حرب عصابات فعالة ضد الجيش الجمهوري وضد الجيش
المصري واصبح اليمن حسب عبارة عبد الناصر ذاتها.
(فياتنامه). ورغم الدعم
السوفييتي كان عبء التدخل المصري تتزايد وطأته على الاقتصاد المصري ويهدد
الجهد المبذول من اجل النمو الاقتصادي.
حاولت الامم المتحدة مرات التوسط غير ان كل محاولاته
باءت بالفشل، وادرك عبد الناصر ان عليه ان يمر باتفاق مع فيصل لكي يتخلص
من المأزق ونظم لقاء قمة بالاسكندرية في سبتمبر عام 1964. وتم الاتفاق على مبدأ تحييد
اليمن غير ان هذا القرار لم يحترمه ميدانيا احد. وابرم اتفاق ثان بين الرجلين يوم 25 اغسطس 1965 بجدة (بالعربية السعودية)،
ونص الاتفاق على اقامة نظام مؤقت باليمن على ان يقرر مستقبل تلك البلاد
في استفتاء. غير ان الطرفين
اليمنيين الرئيسيين رفضا الانصياع بينما زاد اهمية الرهان اليمني قرار
بريطانيا العظمى الانسحاب من عدن في سنة
1968. وحاول البريطانيون باليمن الجنوبي اقامة اتحاد يجمع رؤساء
القبائل بالداخل وبرجوازية ميناء عدن المكونة من التجار. غير انهم واجهوا حرب عصابات نظمتها حركتان متنافستان: احداهما ذات اتجاه ناصري والأخرى اكثر جذرية ذات نزعة ماركسية[7]
.
اضعفت حرب اليمن قوة مصر. ولم يفلح عبد الناصر وفيصل في الاتفاق الا في القمة العربية
الرابعة بالخرطوم (آخر اغسطس 1967) بعد حرب يونيو عام 1967. وبعد انسحاب القوات المصرية
اطيح بالسلال (في 5 نوفمبر 1967) من قبل عسكريين جمهوريين أكثر
منه اعتدالاً سياسيا. وحاصر
الملكيون العاصمة صنعاء يوم غرة ديسمبر 167 الى 6 فبراير 1968 وفشلوا في الاستيلاء عليها. وأبرم سنة 1970 اتفاق
المصالحة الوطنية. واتفق على بقاء
الجمهورية على ان يكون لها اتجاه سياسي مقبول لدى العربية السعودية. اما في اليمن الجنوبي فلئن أدى الوضع الجديد الى هزيمة الناصريين
فقد تم ذلك لصالح النزعة الماركسية.
وفي يوم 30 نوفمبر 1967 اصبح اليمن الجنوبي الجمهورية
الشعبية لليمن الجنوبي. وبعد ثلاث
سنين تماماً وإثر تجذير جديد اتخذت البلاد اسم الجمهورية اليمنية
الديمقراطية الشعبية وكانت تلك الحالة الوحيدة لقيام نظام ماركسي في
العالم العربي. ودامت هذه التجربة
حتى نهاية الثمانينيات. وبفضل
المساعدة السوفييتية نجح النظام الجديد في تحقيق بعض التقدم الاقتصادي
والاجتماعي. ولم يفلح الانضباط
الماركسي في محو التفرقة القبلية وقد افضى صراع مرير على السلطة الى حرب
أهلية دامية اضعفت النظام، واصبحت العلاقات بين اليمنين علاقات تصادمية
إذ كان كلاهما يسعى الى تحقيق الوحدة لصالحه. وفي النهاية أبرمت الوحدة سنة 1990 في ظرف سياسي جديد. ولصالح
اليمن الشمالي.
لقد اقام الملك فيصل الدليل على إمكانية مقاومة الزعامة
الناصرية والنجاح في ذلك.
وقد تعاظمت اهمية السعودية السياسية آلياً بزيادة
عائدات النفط. وقد عرف فيصل كيفية
استخدام امكانياته المالية المتزايدة باطراد لتوطيد مكانته. واصبح الاسلام أداة نضاله.
وقد ساعد في كل البلاد العربية على الاعتراف بمنظمات اسلامية بدت في تلك
الحقبة خير حليف للغرب في وجه الاشتراكية العربية (ولقد شجعت الولايات المتحدة الملك
فيصل في هذا الاتجاه) وفي سنتي 1965 ـ 1966 طرح العاهل السعودي صيغة ميثاق
اسلامي وقمة اسلامية. وكان هدفه
حرمان عبد الناصر من دوره بصفته زعيماًن وذلك بطرحه حلاً بديلاً للزعامة
المصرية في العالم العربي. ونجح عبد
الناصر في الوقوف ضده بفعالية باتهامه بمحاولة اعادة حلف بغداد السالف
تحت اسم الحلف الاسلامي غير ان عبد الناصر وجد نفسه في موقف الدفاع وفي
ذلك دليل على تغير الظروف.
الوحدة العربية بين البعث والناصرية:
كانت سياسة عبد الناصر العربية مرتبطة اصلاً بتأثير
الزعيم الذي كان يفلح، بفضل خطابه المنقول من اذاعة القاهرة في اسر
الجماهير العربية وأظهرت تجربة الجمهورية العربية المتحدة ضعف هذا الوضع
فوجد عبد الناصر في الستينيات منظمة سياسية مستعدة لدعم عمله هي حركة
القوميين العرب التي أسسها في بداية الخمسينيات حول الجامعة العربية
ببيروت فلسطيني من الروم الارثوذكس هو الدكتور جورج حبش الذي ولد سنة 1926 وهو من لاجئي 1948 اتم دراسته ببيرو، ولقد رفض أي
تصالح مع اسرائيل وناضل نضالاً نشطاً في التنظيمات الطلابية قبل تأسيس
حركة القوميين العرب. واصبح لهذه
القوة الجديدة حظوة كبيرة لدى اللاجئين الفلسطينيين ومن ثم جاء انتشار
نشاطات الحركة بحسب انتشار الشتات الفلسطيني المتزايد.
وهكذا لعب جورج حبش دوراً كبيراً بالاردن ابان النضال
القومي العربي ضد حلف بغداد. ومنعت
منظمته بعد اعادة سلطة الملك حسين سنة
1957.ولم تكن حركة القوميين العرب تنظيماً فلسطينياً بالمعنى
الصحيح فالنضال من اجل تحرير فلسطين في رأي مؤسسي هذه الحركة ينبغي ان
يمر بتحقيق الوحدة العربية، فالمنظمة قومية عربية مثل حزب البعث. فامتدت الى سوريا والعراق والى بعض بلدان الخليج واليمنيين
واكتسبت اهمية في الستينيات.
اما سوريا فان القطيعة مع مصر لم تؤد الى استقرار الوضع. وكانت اذاعة القاهرة تهاجم بكل عنف العودة الى النظام البرلماني
والى الليبرالية الاقتصادية. وكان
حوراني والبيطار داخل البعث قد وافقا في البداية على الانفصال الذي أدانه
عفلق، وعاد البيطار الى موقف عفلق بينما غادر حوراني حزب البعث مع اتباعه
والتحق باكثر القوى محافظة. وظل
الجيش ذا ميول يسارية ولم ينفذ الانفصال ويقبل به الا لانه لم يعد يحتمل
سلطة العسكريين المصريين. وكان شديد
الانقسام بين مختلف نزعات اللعبة السياسية السورية، وخاصة بين انصار عبد
الناصر القريبين من حركة القوميين العرب وبين البعثيين. ولقد قامت اللجنة العسكرية التي تأسست بالقاهرة ابان الجمهورية
العربية المتحدة، بتوسيع نفوذها سراً. ومنذ مارس عام 1962 حاول
الجيش الاستيلاء على السلطة من جديد ثم تسليمها للمدنيين دون تأخير بسبب
خلافاته الداخلية. ولم يكن ذلك سوى
تأجيل لا غير[8]
.
في نهاية 1962 بدا
العالم العربي منقسماً تماماً، فمصر انسحبت من الجامعة العربية متهمة
اياها بانها ضيعة الامبريالية.
ويناوئ العراق كل الآخرين بسبب قضية الكويت، وكانت السعودية ومصر
تتحاربان باليمن. غير ان بداية عام 1963 قد احدثت تشويشا كاملاً في
الوضع السياسي، ففي يوم 8 فبراير
اطاح انقلاب نظمه اللواء البكر احد القريبين من البعث، في العراق بعبد
الكريم قاسم وتسبب في موته وفي وصول عبد السلام عارف المسئول الآخر لثورة 1958 الى السلطة واصبح هذا الأخير
رئيساً للجمهورية بينما أختير البكر رئيبساً للوزراء. واندفع البعثيون والقوميون العرب في اعمال انتقامية رهيبة ضد
الشيوعيين فثأروا لقمع محاولة التمرد بالموصل سنة 1959. واقتربت العراق من مصر. وفي يوم 8 مارس 1963 قام الجيش مرة أخرى بانقلاب في
سوريا ودعا الى السلطة ائتلافاً مكوناً من بعثيين وناصريين وأصبح صلاح
البيطار رئيساً للوزراء واعلن ان سوريا مستعدة لمحاولة وحدة جديدة اما
مصر فقد عاودت الاتصالات المقطوعة منذ الانفصال واستعاد القوميون العرب
بالأردن الامل وتعرضت سلطة حسين من جديد للتحدي.
لم يكن بوسع وجود فريقين ذوي اتجاه بعثي بالسلطة في
سوريا والعراق الا ان يجر الى مواجهة جديدة بين البعث والناصرية. بدأت مفاوضات الوحدة بين سوريا والعراق ومصر في القاهرة في مارس
سنة 1963، واستخدم عبد الناصر نفوذه
بمهارة واستفاد من ضعف شركائه ليطلب القبول مسبقاً بمبادئ ميثاق 1962 وبالتفوق المصري. وطالب هؤلاء بالمساواة بين الشركاء وفي ذلك تكريس لقوة البعث. ورد عبد الناصر. بمقابلة
الخمسة ملايين من اعضاء الاتحاد الاشتراكي العربي بالعشرة آلاف مناضل
بعثي. وكانت خطته تتمثل في تحييد
البعث في حالة نجاح الوحدة في تحميله المسئولية في حالة فشلها. وكان البعثيون يسعون الى كسب الوقت. وكانت سلطتهم بسوريا و العراق هشة. وكانوا في صراع على السلطة ضد الناصريين الممثلين خاصة في حركة
القوميين العرب. وكان عليهم دعم
مواقعهم في الداخل والخارج على حد سواء. وكانت المناقشات عسيرة.
واغتنم عبد الناصر الفرصة لاتهام البعث بالمسئولية عن كل الخيبات السابقة
في محاولات الوحدة، وكان البعث يشكو من استبدادية عبد الناصر. وفي النهاية قبل الجميع بمبدأ الوحدة الاتحادية مع التأكيد على
تحميل الآخرين مسئولية أي اخفاق محتمل.
وفي سوريا بسط البعث سلطته بفضل سيطرته على الجيش. اما الرجل القوي في النظام الجديد فقد كان اللواء الحافظ. وأبعد صلاح البيطار تدريجيا عن السلطة الحقيقية. وحاولت حركة القوميين العرب يوم 18 يوليو سنة 1963 القيام
بانقلاب. وجددت على صعيد الطريقة
تنفيذ ذلك نهارا لا فجراً كما هي العادة في مثل هذه العمليات. وعلم البعث بذلك واستعد افراد ميليشياه لذلك. واسفرت المعارك عن عدة مئات من القتلى منهم كثير من المدنيين وتم
اقصاء القوميين العرب والناصريين تماماً وانتهى دورهم بصفتهم قوة نشطة في
اللعبة السياسية السورية. واصبحت
القطيعة مع مصر محتومة. واتهم عبد
الناصر البعث بانه منظمة فاشية.
لكنه وجد نفسه في عزلة بينما اتجهت سوريا والعراق ذواتا القيادة البعثية
نحو اتحاد من صنف الهلال الخصيب.
ووقعت اتفاقات بين البلدين. وكان كل
شيء مرهوناً بتطور العراق. وكان
الوضع فيه مشوشاً. وكان البعثيون
يواصلون اضطهاد الشيوعيين وانصار نظام عبد الكريم قاسم ـ لكن حزب البعث
كان منقسماً الى نزعات مختلفة تتعارض فيما بينها بالسلاح. وكان الجيش قلقاً من هذه الفوضى المستمرة.
واغتنم عبد السلام عارف هذا الوضع لاقصاء البعث عن
السلطة يوم 18 نوفمبر 1963 فعاد هذا الحزب الى الخفاء،
واعتمد عارف على حركة القوميين العرب وتقرب من مصر التي نسخ عنها
مؤسساتها من مسخها من مثل (الميثاق) و(الاتحاد الاشتراكي) و(التأميمات). وكان النظام اكثر اعتدالاً على الصعيد الاجتماعي من النظام
الناصري بينما ظل في مواجهة مع التمرد الكردي الذي يتلقى المساعدة من
اسرائيل وايران والولايات المتحدة.
وفي ابريل سنة 1966 توفي عبد السلام
عارف في حادث طائرة مروحية وحل محله اخوه عبد الرحمن عارف الذي واصل
السياسة نفسها. ولم يسع عبد السلام
الى تحقيق اتحاد مع العراق بل اكتفى بانتهاج العراق نفس توجهاته السياسية
الاساسية.
كان الغموض على اشده في نهاية 1963، وكانت حرب اليمن تضع
المحافظين والتقدميين في مواجهة بعضهم البعض في الوقت الذي كان فيه
التقدميون منقسمين بين بعثيين وناصريين. وبدا تحقيق الوحدة العربية بعيداً، غير ان عاملاً جديداً مفاجئاً
الى حد ما قد غير الوضع تغييراً كبيراً ذلك هو المسألة الفلسطينية التي
عادت موضوع اهتمام.
عودة المسألة الفلسطينية الى الظهور وتأكيد الهويات
الاقليمية تطور السياسة الفلسطينية من
1948
كانت الجامعة العربية منذ تأسيسها قد نصت على ان تمثل
فلسطين فيها وجاء في قرار بتاريخ 23
مارس 1945، ملحق بميثاق التأسيس
لتبرير هذا الحق: (منذ نهاية الحرب
الاخيرة تم تحرير فلسطين من السيطرة العثمانية مثل الدول العربية الاخرى
التي انفصلت عن الامبراطورية العثمانية، واعلنت معاهدة لوزان بان مصيرها
سيسويه المعنيون. ولئن لم تتمكن
فلسطين من التصرف في مصيرها فان ميثاق عصبة الامم لسنة 1919 قد سوى وضعها على اساس
الاعتراف باستقلالها. فوجودها
واستقلالها لا يمكن اذن بحثهما مجدداً مثلما لا يمكن النقاش في استقلال
الدول العربية الاخرى.
(فإن لم يكن بالامكان تجسد هذا الوجود لاسباب
خارجة عن ارادتها فان هذا الظرف لا يشكل عقبة امام مشاركتها في اعمال
مجلس الجامعة. وترى الدول موقعة هذا
الميثاق في هذه الظروف ـ وبسبب الوضع الخاص بفلسطين ـ ان من حق مجلس
الجامعة ـ في انتظار ان تتمكن هذه البلاد من ممارسة كل صلاحيات استقلالها
الفعلية ـ تعيين ممثل عربي لفلسطين يشارك في اعمالها.
وشهدت حرب فلسطين انهيار القيادة الفلسطينية التقليدية
بزعامة الحاج أمين الحسيني ضمن اطار اللجنة العربية العليا. وفي يوم 23 سبتمبر 1948 اعلنت اللجنة العربية العليا
بغزة حكومة عربية لكامل فلسطين تحت قيادة المفتي، غير ان عبد الله ملك
الاردن قد حصل في غرة ديسمبر 1968
من مؤتمر للاعيان عقد باريحا على دمج شرقي الاردن والضفة الغربية في دولة
واحدة. وفي يونيو 1950 وفي غياب الممثل الاردني قرر
مجلس الجامعة العربية ان جزء فلسطين الملحق بالاردن سيعتبر أمانة ينبغي
ردها متى تحررت فلسطين تماماً. وتم
تناسي الحكومة العربية لسائر فلسطين وانسحبت اللجنة العربية العليا الى
القاهرة.
وفي 20 نوفمبر 1957 طلب امين الحسيني انضمام
فلسطين الى الجمهورية العربية المتحدة التي كانت في طور التكوين. اذ ستكون فلسطين جسراً جغرافياً بين مصر وسوريا. ورفض جمال عبد الناصر عروض المفتي الذي كان يأمل بذلك العودة الى
الساحة السياسية. وكان عبد الناصر
لا يريد ان يجعل من الجمهورية العربية المتحدة المسئول الوحيد عن حل
المسألة الفلسطينية ولم يعترف بحق منظمة المفتي في تمثيل فلسطين وطالب
باستشارة حقيقية لكامل الفلسطينيين في مستقبل غير محدد.
وفي 25 فبراير 1958 حصل قطاع غزة لى ميثاق خاص
يؤسس أجهزة مختلفة فلسطينية مصرية لادارة القطاع. وفي مارس 1959 اقترح عبد
الناصر على مجلس الجامعة العربية قراراً يرمي الى (تنظيم الكيان الفلسطيني وتمكين
الشعب الفلسطيني من ان يسمع صوته على الصعيدين القومي والدولي على لسان
ممثليه المنتخبين). وكان هدفه هو
سلب اللجنة العربية العليا من كل شرعية. وفي صيف 1959 ترك المفتي
وأتباعه مصر واستقروا ببيروت.
وانعكست هذه الفتنة السياسية على كامل سكان فلسطين الذين كانوا هدفاً
لدعاية المفتي وعبد الناصر المتعارضتين. ولم يكن لعبد الناصر النية في استحداث حكومة فلسطينية في المهجر
وانما كان يريد ان تكون له منظمة فلسطينية تدعم سياسته وربما استطاعت في
المستقبل الاقتراع على انضمام فلسطين للجمهورية العربية المتحدة.
تحالف عبد الكريم قاسم في صراعه ضد عبد الناصر، مع
المفتي واقترح في نوفمبر وديسمبر عام 1959 ومراراً في عام 1960 اعلان
جمهورية فلسطينية تطالب بكامل فلسطين التي كانت تحت الانتداب ويعني ذلك
الغاء الادارة المصرية من قطاع غزة والغاء ضم الضفة الغربية للأردن. وكان الاتهام موجهاً الى هذين البلدين بانهما متواطئان مع اسرائيل
في اقتسام فلسطين. وكان التهديد
قاتلا بالنسبة للاردن وللجمهورية العربية المتحدة على حد سواء. اذ ان قيام فلسطين مستقلة سيظهر للسوريين عدم جدوى انضمامهم لمصر. وأسس قاسم بالعراق جيشاً لتحرير فلسطين على غرار جيش التحرير
الوطني الجزائري. وردت الجمهورية
العربية المتحدة بتأسيس اتحاد وطني فلسطيني بسوريا هدفه الغاء جدوى
الجمهورية المقترحة من قاسم وبدأ عبد الناصر مناهضاً لتأسيس جيش فلسطيني،
اما الاردن فقد منحت الجنسية الاردنية لكل فلسطيني يطلبها.
كانت المسألة الفلسطينية آنذاك تحوم حول مصير الضفة
الغربية. وقطاع غزة. وكانت مصر والاردن تحاولان بطرق مختلفة معارضة المناورات المعادية
لادارتهما او لسياستهما القومية والتي يحركها عبد الكريم قاسم بالتحالف
مع المفتي. وشلت الجامعة العربية
بسبب معارضة العراق المبادرات الاردنية والمصرية. وبدلاً من تحقيق الاجماع العربي لم تزد المسألة الفلسطينية
الخلافات بين مختلف الدول الاّ تعميقاً. الا انها صارت موضع اهتمام المناقشات العربية بدءاً من عام 1957م.
وفي صائفة 1963
توفي احمد حلمي باشا الذي كان يمثل فلسطين بمجلس الجامعة العربية. وكانت المسألة هي: ان كان
ينبغي الاستعاضة عنه بشخصية فلسطينية اخرى لها دور رمزي او كانت الفرصة
تسمح بوضع صيغة نهائية تحدد مسألة تمثيل فلسطين. وكان دور سوريا البعثية الاعتراض على ارادة مصر الابقاء على الوضع
الراهن. وبعد أخذ ورد عينت الجامعة
العربية في سبتمبر 1963 احمد
الشقيري الدبلوماسي الفلسطيني الذي كان مندوب المملكة العربية السعودية
بمنظمة الامم المتحدة، عين لتمثيل فلسطين في مجلس الجامعة (سبتمبر
1963).
قمة القاهرة وتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية:
في هذا الظرف طرحت مجدداً مسألة تحويل اسرائيل مياه نهر
الاردن. ووجدت الدول العربية نفسها
عاجزة عن منع الدولة العبرية من تنفيذ آخر الاعمال التي بدأتها والتي
أعلنتها مراراً بانها سبب من اسباب الحرب ـ وكان عبد الناصر يخشى من ان
تقوم سوريا البعثية بشن حرب ضد اسرائيل هي حرب خاسرة مسبقاً وتضطر مصر
للتدخل. وكان يدرك بانه ليس لديه
الامكانيات لمحاربة اسرائيل وكان مذهبه المعلن باستمرار هو ان تحرير
فلسطين يمر بتحقيق الوحدة العربية وتلك وسيلة لتأجيلها الى مستقبل بعيد. وسمح هذا الموقف للراديكاليين العرب بمهاجمة عبد الناصر لاعتداله
ولتواطئه الفعلي مع اسرائيل.
ولطالما قبلت الجماهير الفلسطينية بهذه النظرية
السياسية وتخلت تقريباً عن فكرة فلسطين مستقلة لصالح وحدة عربية تضم
فلسطين المستردة. الا أن الجيل
الجديد الناشئ من المخيمات كان ميالاً الى عدم الانتظار والى معاودة
النضال ضد اسرائيل دون اخذ ضرورات السياسة العربية في الحسبان. وكان لهذا الجيل اطارات سياسية جديدة مكونة من الاوساط الطلابية
القديمة لسنوات الخمسين الذين بعد ان ناضل وبكل نشاط في مختلف المنظمات
السياسية القومية العربة قد بلغوا سن الرشد ومسيرة ياسر عرفات خير مثال
لهذه التطور. فقد ولد بالقدس سنة 1929 وله قرابة بأمين الحسيني من
جانب أمه وعاش بغزة بعد 1948 ودرس
بمصر وكان فترة من حياته قريباً من الاخوان المسلمين. وقد قاد منظمة الطلاب الفلسطينيين. وبعد ان تطوع للقتال في الجيش المصري في ازمة السويس هاجر الى
الكويت. وهناك اسس في نهاية
الخمسينيات حركة تحرير فلسطين ومن حروف هذا الاسم الاولى مقلوبة جاء اسم
فتح أي خلاف غلق ثم بمعنى الغزو من مثل الفتوحات الاسلامية وهو الاسم
الذي اطلق على الغزوات العربية في صدر الاسلام. وقد ضمت هذه الحركة السرية جيلاً كاملاً من الشباب الفلسطيني
الذين أتموا دراستهم بمصر وبدأوا حياتهم المهنية بالخليج. والامر الهام هو ان قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية فيما سيأتي
قد انبثقت من الشتات الفلسطيني بالخليج وبالكويت خاصة حيث وجدت حرية
كافية مكنتها من تنظيم نفسها. وقد
بدا هذا الفريق مقرباً من عبد الكريم قاسم عندما دافع هذا الاخير ضد عبد
الناصر عن فكرة فلسطين مستقلة. وكان
شعاره الاول (الوحدة العربية تمر
بتحرير فلسطين) ويدل الجدل حول
فلسطين الذي بدأ في عهد الجمهورية العربية المتحدة على ان انبعاث هذه
الفكرة الفلسطينية ليس مصطنعاً وانه يطابق اتجاهاً اساسياً. وكان على عبد الناصر في آن معاً ان يحيد الروح الحربية السورية
ومزايداتها الدائمة وان يسيطر ويوجه التأكيد الصاعد للهوية الفلسطينية
وان يستعيد قيادته العالم العربي.
وفي يوم 23 ديسمبر 1963 اقترح عقد قمة بالقاهرة لكل
الملوك ورؤساء الدول العربية.
تشكل القمة العربية الاولى صيغة جديدة يقصد بها تلافي
قصور الجامعة العربية. وهي وسيلة
لممارسة عمل فعال ولإظهار حقيقة التضامن العربي وهي كذلك اعتراف ضمني بان
مشاريع الوحدة العربية اللاغية لكل تمييز بين الدول لم تعد مطروحة على
بساط البحث. وهكذا تأكد استمرار
الدول الاقليمية وحقيقة وجودها الدائم.
كان قرارات القمة الهامة تخص النزاع العربي الاسرائيلي. ولقد وضعت الدول العربية خطة لتحويل مياه روافد نهر الاردن
منخفضين بذلك كمية الماء التي تتصرف فيها الدولة العبرية وذلك لعدم قدرة
هذه الدول على محاربتها وتكون سوريا والاردن بطبيعة الحال منفذي ذلك
المشروع. واعلمت اسرائيل ان تنفيذ
هذا المشروع يشكل سبب حرب. وبدلاً
من تسوية المشكل تم تأجيل وتقوية عوامل التوتر.
واهم قرار كان تأسيس جهاز ممثل للفلسطينيين هو منظمة
التحرير الفلسطينية التي أوكلت ادارتها لاحمد الشقيري. وتخلى عبد الناصر عن مشاريعه المتضمنة دمج فلسطين في وحدة عربية. ولقد كان في تأكيد هوية فلسطينية مستقلة تأكيد أعم للهويات
الاقليمية العربية رغم ان عبد الناصر كان يأمل عبر العمل العربي المشترك
ضد اسرائيل استعادة قيادة فعلية للعالم العربي.
نظم أحمد الشقيري أول مؤتمر وطني فلسطيني بالقدس من 28 مايو الى 2 يونيو 1964. وحضره 348 ممثلاً جاء 242 منهم من الاردن و146 من سوريا وغزة وقطر والكويت والعراق. والقي الملك حسين خطاب الافتتاح وأسس المؤتمر منظمة التحرير
الفلسطينية بشكل نهائي وقرر تأسيس جيش تحرير فلسطيني يتكون من وحدات
عسكرية فلسطينية مندمجة في مختلف الجيوش النظامية العربية. ولقد أقيم هذا الثنائي (منظمة
التحرير وجيش التحرير على غرار ثنائي الجزائر المنتصر (جبهة التحرير وجيش التحرير) وتم انتخاب سلطة تنفيذية هي اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير
الفلسطينية وكان رئيسها أحمد الشقيري. ويجتمع المؤتمر الوطني الفلسطيني بانتظام لتحديد توجهات المنظمة
الكبرى ولانتخاب أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية.
وأقر مؤتمر القدس الميثاق الفلسطيني الاول. ومراعاة لمصر والاردن لم تطالب منظمة التحرير الفلسطينية
بالمسئولية على شريط غزة وعلى الضفة الغربية. ومنظمة التحرير الفلسطينية منظمة سياسية مكلفة بتنسيق مجموع
الانشطة الفلسطينية. والعمل العسكري
خاص بجيش التحرير الفلسطيني التابع لمنظمة التحرير وأهم مسئولية اعضاء في
المؤتمر الوطني الفلسطيني. كانت
الحركة الفلسطينية مضطردة، بصدد الانتظام بطريقة شبيهة بالحركة الصهيونية
قبل قيام دولة اسرائيل من انشاء مؤسسات سياسية واقتصادية ونقابية وثقافية
وعسكرية. وكان الامر يتمثل في انشاء
نواة دولة ذات مؤسسات ضرورية لممارسة عمل داخلي وخارجي والميثاق
الفلسطيني معادل لبرنامج بازل للمؤتمر الاول لمنظمة الصهيونية العالمية:
((1) فلسطين ارض عربية تربطها بالبلدان العربية
الاخرى روابط قومية وثيقة. وهي
مجتمعة تشكل الامة العربية الكبرى.
((2) إن فلسطين في حدودها لفترة الانتداب
البريطاني تكون وحدة اقليمية لا تتجزأ ـ
(…)
((4) سيقرر الشعب الفلسطيني مصيره عندما يستكمل
تحرير وطنه طبقاً لرغبته وارادته الحرة وخياره المستقل.
((5) ان الهوية الفلسطينية هي مميزة دائمة
واصيلة لا تضمحل. فهي تنتقل من
الآباء الى الأبناء.
((6) الفلسطينيون هم المواطنون العرب الذين
عاشوا عيشة عادية بفلسطين حتى 1947،
سواء بقوا بها او طردوا منها. وكل
طفل ولد من أبويه فلسطينيين بعد هذا التاريخ بفلسطين ذاتها او بالخارج
فهو فلسطيني.
((7) ان اليهود الفلسطينيي الاصل يعتبرون
فلسطينيين شريطة ان يريدوا العيش بسلام واخلاص في فلسطين (…)
((12) ان الوحدة العربية وتحرير فلسطين هدفان
يكمل أحدهما الآخر. وكلاهما يساعد
في تحقيق الآخر، فالوحدة العربية تؤدي الى تحرير فلسطين وتحرير فلسطين
يؤدي الى الوحدة العربية ( ... )
((17) ان تقسيم فلسطين لسنة 1947 وتأسيس اسرائيل قراران غير
شرعيين واصطناعيان أيا كان مرور الزمان عليها لانهما ضد ارادة الشعب
الفلسطيني وحقه الطبيعي في وطنه.
وقد اتخذا انتهاكاً للمبادئ الاساسية التي حواها ميثاق الامم المتحدة
والتي منها في المقام الاول حق تقرير المصير.
((18) ان اعلان بلفور والانتداب وكل ما نتج
عنهما احتيال. والمطالبات الخاصة
بالصلات التاريخية والروحية بين اليهود وبين فلسطين ليست مطابقة للوقائع
التاريخية او الأسس الحقيقية للدولة. وكون اليهودية ديناً سماوياً فذلك لا يولد أمة لها وجود مستقل ثم
ان اليهود لا يشكلون شعباً ذا هوية مستقلة لانهم مواطنو البلدان التابعون
لها.
(24) ان هذه المنظمة لا تمارس أية سيادة محلية
على الضفة الغربية من المملكة الاردنية الهاشمية او على قطاع غزة أو على
منطقة الحمّة. وسيتم تنظيم نشاطاتها
على المستوى الوطني الشعبي في مجالات التحرير والتنظيم والسياسة والمالية.
((25) ان هذه المنظمة مسئولة عن عمل شعب فلسطيني
في النضال من اجل تحرير الوطن بخصوص كل المسائل الخاصة بالتحرير والتنظيم
والسياسة والمالية وكل مقتضيات المسألة الفلسطينية الاخرى على الصعيدين
العربي والدولي.)
كانت منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة الشقيري تبدو
قريبة من عبد الناصر. وكان
الراديكاليون من فتح يخشون تبعية مفرطة للسياسة المصرية يكون هدفها توجيه
وكبح الثورة الفلسطينية لكي لا تهدد مصالح مصر الحيوية. وفي سنة 1964 ذهب ياسر عرفات
الى الجزائر مع خليل ابراهيم الوزير احد مؤسسي فتح وهو مشهور باسم الحرب (ابو جهاد). وحصلا على مساعدة بن بيلا.
وذلك بان يتلقى مناضلو فتح في الجزائر اعداداً خاصاً بحرب العصابات. وانطلاقاً من الجزائر ربط ابو جهاد علاقات مثمرة مع الصين
والاتحاد السوفييتي وكوريا الشمالية وفيتنام الشمالية. وهكذا قام ياسر عرفات وابو جهاد بزيارة بكين سنة 1964. ورغم ان فتح كان لها محتوى
قومياً فقد دخلت في اطار كبريات الحركات الثورية للستينيات.
كما ان حركة القوميين العرب قد تجذرت من جانبها. ورغم علاقاتها بالناصرية فان هذه المنظمة ذات النواة الفلسطينية (والتي قادتها الهجرة الى سوريا
ولبنان والاردن وليس الى مصر وفي الخليج) قد أدانت (عجز منظمة التحرير
الفلسطينية وقلة واقعيتها وطابعها اللا ثوري) أما المفتي فان تأسيس منظمة التحرير واعتراف الدول العربية بها قد
عجلا بنهايته السياسية.
كانت منظمة التحرير الفلسطينية الاولى مضطرة الى مراعاة
مصر والاردن والى مواجهة موقف متزايد الجذرية من جانب الجيل الفلسطيني
الفتي. ولم يجد الشقيري من حل لهذه
المعضلة الا باندفاعه في تطرف كلامي ضد اسرائيل، داعياً الى القضاء على
اسرائيل وطرد كل السكان اليهود.
ولقد كلف هذا التطرف الحركة الفلسطينية غالياً استغلته الدعاية
الاسرائيلية بمهارة للحط من قيمة المطالب الفلسطينية في أعين الرأي العام
الغربي.
تجذير المواقف السياسية
لم يكتف الجذريون الفلسطينيون بالكلام عن قضيتهم وقرروا
الانتقال الى العمل. وفي 31 ديسمبر 1964 قامت مفرزة بتخريب منشأة
اسرائيلية لضخ مياه نهر الاردن. وفي
ذا الوقت حاولت مفارز اخرى القيام بشتى الهجمات على الاراضي الاسرائيلية،
وأعلنت منظمة العاصفة (الجناح
العسكري لفتح) من بيروت مسئولياتها
عن هذه العمليات، وهكذا ولدت المقاومة الفلسطينية المنفصلة عن منظمة
التحرير الفلسطينية. وكانت الدول
العربية وخاصة الاردن منزعجة من نتائج هذه العمليات فضاعفت الحكومة
الاردنية مراقبة السكان الفلسطينيين بالضفة الغربية بينما سعى المسئولون
العرب الى عدم اعطاء عمليات العاصفة دعاية كبيرة. وقد ادعت هذه المنظمة مسئوليتها عما يقرب من 300 عملية حتى يونيو 1967. وكان تضم من 200 الى مقاتل أغلبهم دون الخامسة
والعشرين من العمر. وهم من الجيل
الذي لم يعرف غير مخيمات اللاجئين.
واتجهت حركة القوميين العرب نحو تبني الماركسية
اللينينية وكانت النزعة السياسية التي تولت السلطة في جنوب اليمن نشأت من
اعتناق حركة القوميين العرب الماركسية واصبح فلسطينيو الحركة مستقلين. وشرع بعضهم في القيام بعمليات فدائية ضد اسرائيل خارج الحركة. وفي النهاية اعد جورج حبش منظمته للكفاح المسلم، وحددت بداية
العمليات للأيام الاولى ليونيو 1967… وبعد حرب يونيو 1967 اختفت
حركة القوميين العرب وتركت مكانها للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بقيادة
جورج حبش. ورغم ان حركة القوميين
العرب فشلت في الاستيلاء على السلطة الا في جنوب اليمن الا انها كانت لها
اهمية تاريخية كبرى بنشرها أطروحات ماركسية لينينية عبر العالم العربي،
وهي أطروحات ذات نزعة (ثورية) أكثر منها شيوعية تقليدية.
لقد أثبتت فلسطين وجودها خارج الدول العربية. فلقد كان تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية قد بدا إرادة من
المسئولين العرب في توجيه الحركة ومراقبتها حتى لا يوجد خطر حرب مع
اسرائيل لكن هذه الدول كانت مضطرة الى تجذير كلامها وتصرفاتها. وعندما اقترح الرئيس بورقيبة في مارس 1965 حلاً سلمياً على مراحل للمشكل
الفلسطيني، على اساس خطة تقسيم سنة 1947 وعودة اللاجئين وفق قرارات الامم المتحدة لقاء اعتراف العرب
باسرائيل اتهم عبد الناصر بورقيبة بالخيانة بينما رفضت اسرائيل عودة
اللاجئين كما رفضت تطبيق خطة التقسيم. مع ان هذه المقترحات كانت مقترحات عبد الناصر قبل 1956 ورفضه اياها بعد عشر سنوات
مرده اثبات فلسطين وجودها والمزايدة الكلامية التي جرتها.
كما أ،ه عندما علم السياسيون العرب أن المانيا
الاتحادية قد زودت اسرائيل سراً بكميات هامة من السلاح في اطار التعويض
المقدم لضحايا النازية، دفع عبد الناصر رؤساء الدول العربية الى قطع
علاقاتها الدبلوماسية مع المانيا الغربية وربط اتصالات بالمانيا الشرقية. واتبعت أغلبية الدول العربية التوجيه الذي أعطاه عبد الناصر. ومع ذلك لم تجدد المانيا الغربية تزويد اسرائيل بالسلاح مما أسخط
الامريكان الذين رأوا ان اسرائيل لا تخضع الا لفرنسا في تسلحها. فاضطر جونسون الى القبول بمضاعفة عمليات تزويدها بالاسلحة
الامريكية والتي بدأت سراً في عهد كيندي وكان جونسون منحازاً الى جانب
اسرائيل اكثر م كل اسلافه باستثناء ترومان. وكان اول رئيس امريكي يستقبل رئيساً لوزراء اسرائيل وكان ليفي
اشكول، رغم الاحتجاجات العربية.
ولقد أكد في تلك المناسبة في مايو 1964 التزام امريكا بالدفاع عن سلامة كل بلدان الشرق الاوسط الترابية
وذلك ما فسر بانه يخص اسرائيل في المقام الاول. وفي نوفمبر 1964 اوقف
المساعدة الغذائية لمصر فكلفه ذلك رد عبد الناصر المهين في خطاب له
ببورسعيد يوم 23 نوفمبر اذ قال (اننا لن نقبل الضغوط لن نقبل
النذالة من راعي بقر) وفي اسرائيل
دفع رئيس اركان الحرب اسحق رابين الحكومة الاسرائيلية الى زيادة الاتجاه
الى الولايات المتحدة والى الحد من الطلب من فرنسا.
لقد أدى تورط الولايات المتحدة المتزايد في النزاع
العربي الاسرائيلي الى تدهور في العلاقات المصرية الامريكية التي كانت قد
شهدت تحسناً ملحوظاً في عهد كينيدي.
واصبح عبد الناصر ـ مكرها ـ اكثر تبعية للاتحاد السوفييتي. واشترط من جاؤوا بعد خروتشوف على عبد الناصر اعطاءهم تسهيلات
بحرية للاسطول السوفييتي لقاء مواصلة تزويده بالسلاح. ورفض عبد الناصر، لكن الاستخبارات المصرية اعلمته بوجود خطة
لعملية محتملة لاجتياح مصر تكون من قبل الاسطولين الامريكي والبريطاني
مشتركة. وبما ان جونسون قد صرح
علانية في مارس 1965 بأن الولايات
المتحدة مستعدة لتسليح اسرائيل تسليحاً كثيفاً في حالة سباق للتسلح وان
ليفي أشكول أكد أمام البرلمان الاسرائيلي ان الاسطول السادس الامريكي
يكون الاحتياط الاستراتيجي لاسرائيل، اضطر عبد الناصر لاول مرة الى قبول
زيارة وحدات بحرية سوفييتية لميناء الاسكندرية (يوليو 1965). وفي فبراير 1966 وقعت مصر اتفاقاً ينظم الوجود
السوفييتي في الموانئ المصرية ويحد منه الى حد كبير. فالزيارات قصرت على مينائي السلوم وبورسعيد على ألا يتجاوز عددها
ثلاث زيارات في السنة الواحدة، وينبغي ان تدوم اكثر من خمسة ايام الا
يزيد عدد السفن على خمس في كل مرة.
وفي كل مرة تبين للمصريين حالة تعب البحارة وندرة المياه والمواد الطازجة
لديهم وذلك بسبب بعد القواعد البحرية السوفييتية. وفي سنة 1966 منح عبد الناصر
ثلاث زيارات اضافية في السنة لميناء الاسكندرية لكنه رفض بالحاح أي حضور
دائم بل لقد منح كذلك زيارات للاساطيل التركية والامريكية والفرنسية
ليظهر انه ليس سجين المساعدة السوفييتية ولقد وجد عبد الناصر في فرنسا
الشريك الجديد بعد ان حرم مما كانت تمثله امريكا لموازنة السوفييت، ولقد
حيت الصحافة المصرية بكل حرارة زيارة المشير عبد الحكيم عامر لفرنسا في
اكتوبر 1965. وكانت السياسة العربية
الجديدة لفرنسا والتي اختطها الجنرال ديغول قد اتخذت شكلها، لكنها أبعد
من ان تسد حاجات العرب، ففي اطار الحرب الباردة العربية كانت عائدات
النفط في غالبيتها في جانب الدول المحافظة التي لم تكن لها الامكانيات أو
الارادة في الحلول محل المساعدة السوفييتية للدول التقدمية (التي لن تبقى تقدمية لو حصلت على
مساعدة الدول المحافظة) فساعة
الدعوة الى التقنية والى السلاح الفرنسي لم تحن بعد [9]
.
ولقد وجد مناخ التوتر مجدداً في تصلب منظمة التحرير
الفلسطينية التي حاولت التمركز في الضفة الغربية مما أثار سخط الاردن
التي قطعت علاقاتها بالمنظمة سنة 1966،
وانتقدت مصر والاردن بكل عنف وردت الاردن بمهاجمة مصر لقبولها ببقاء قوات
الامم المتحدة في سيناء وقطاع غزة وكذلك لسماحها بالملاحة الاسرائيلية في
خليج العقبة. ولا ينبغي ان يخفي كل
ذلك ان المصريين والاردنيين كانوا قلقين من تجذير السياسة السورية ومن
أخطار الحرب التي تتضمنها.
السياسة السورية وأسباب حرب 1967
كان قادة حزب البعث بسوريا منذ 1963 مع عفلق والبيطار يتعاونون مع
اللواء الحافظ بينما كان البعثيون العسكريون ينتقدون اعتدالهم السياسي
والاجتماعي، واخذت اللجنة العسكرية المكونة خاصة من علويين ودروز تستولي
تدريجياً على المواقع الحساسة بالحزب والدولة. وحاول ميشال عفلق التصدي لذلك باستعمال نفوذه على القيادة القومية
للحزب. وحل القيادة القطرية السورية
التي كانت بين يدي اللجنة العسكرية.
وبعد توتر حاد رد الضباط بتنظيم انقلاب جديد يوم 23 فبراير 1966 واستولى الجذريون على السلطة
واقاموا حكومة ثلاثية مكونة من صلاح جديد ونور الدين الاتاسي وحافظ الاسد. فاعادوا تشكيل القيادة القطرية السورية واعلنوا بدورهم حل القيادة
القومية فاضطر عفلق والبيطار للهجرة، ثم اقصي الضباط الدروز من السلطة
التي كانت في أغلبها لدى مجموعة صغيرة من العلويين. وبالرغم من ان الايديولوجيا الرسمية والنصوص القانونية ترفض أي
تمييز طائفي فان السياسة السورية قد اصبحت الى حد كبير صراعاً طائفياً
بسيطرة طائفة لا تمثل الا 10% من
مجموع السكان على الدولة بأسرها.
ومع ذلك فان من يسمون بالبعثيين الجدد يسعون الى اشراك قوى اليسار الأخرى
في السلطة مع مراقبتها مراقبة دقيقة. وهكذا سمح لخالد بقداش بالعودة الى سوريا.
كان لانقسام عام 1966 عواقب وخيمة على المستقبل:
فالمجموعة البعثية التي استولت على السلطة بالعراق عام 1968 ادعت اتباع خط عفلق السياسي
ورفضت الاعتراف بالشرعية البعثية للحزب السوري. ولم تكن المصالحات بين حزبي البعث الا مؤقتة ومن المفارقات ان حزب
البعث قد اصبح في ذاته عامل فرقة اضافي في العالم العربي. وبالنسبة لعبد الناصر جاء هذا الانقسام نعمة من السماء. ولئن ادعى البعثيون السوريون اعادة بناء المنظمة القومية فقد
ظهروا متعلقين بالمصالح السورية الضيقة بشكل لا يمكنهم من منافسة
الناصرية منافسة فعالة. وتقرب البعث
الجديد من مصر في صراعه ضد الانظمة، المحافظة وأعيدت العلاقات
الدبلوماسية لاول مرة منذ قطيعة 1961،
واندفعت البلدان في حرب دعائية عنيفة ضد الاردن خاصة البعثيين الجدد
الذين كانوا يساندون منظمة التحرير الفلسطينية والمنظمات الفلسطينية
المقاتلة وتعددت الحوادث مع اسرائيل في الجولان. ودفع الاتحاد السوفييتي الى التقارب السوري المصري وكان الباعث
لتوقيع ميثاق الدفاع السوري المصري في نوفمبر 1966. وقد استغل واذكى التوتر
بالشرق الاوسط لجعل مصر اكثر تبعية للمساعدة العسكرية ومن ثم الحصول على
المزيد من التسهيلات البحرية.
وفي بداية 1967
كان العالم العربي منقسماً على نفسه اكثر من أي وقت مضى. وكانت الجامعة العربية عاجزة تماماً ومصر منهكة من اثر حرب اليمن
التي احدثت تذمراً داخلياً هاماً تجلى بمناسبة جنازة الزعيم الوفدي
السابق النحاس باشا. ولم يتحمل
الاقتصاد المصري الاعباء التي أثقلته. وفي بداية 1967 اضطر عبد
الناصر الى اجراء تخفيضات شديدة للنفقات العسكرية التي اصابت خاصة
امكانيات تدريب الجيش المصري. وكان
خصم عبد الناصر الرئيسي هو المملكة السعودية التي تزايدت امكانيات عملها
عاماً بعد عام بسبب اعادة تنظيم البلاد التي فرضها فيصل وتنامي العائدات
النفطية السريع، وكان هدف الحملة التي يقودها عبد الناصر ضد الاردن هو
حملها على التخلي عن تحالفها مع المملكة الوهابية والوقوف الى جانب مصر.
كانت اسرائيل ترد على عمليات الفدائيين الفلسطينيين
بعمليات انتقامية عنيفة، وكان الفدائيون لا يميز بينهم وبين سوريا. وفي يوم 13 نوفمبر 1966 هوجمت قرية سامو الاردنية،
وتسبب الهجوم في ضحايا عديدين. وكان
الهدف هو زعزعة استقرار المملكة الهاشمية الواقعة بين الاعمال الانتقامية
الاسرائيلية وبين مزايدات منظمة التحرير الفلسطينية وسوريا. ولا يمكن لحسين ان يتخلص من ذلك الا بتبنيه موقفاً قومياً عربياً
صلباً. ولقد تمت دعوة مفتي القدس
السابق الى الاردن بشكل مذهل ليعارض منظمة التحرير الفلسطينية وظهرت من
جديد مسألة المنطقة منزوعة السلاح.
وقصف السوريون المستعمرات الاسرائيلية وفي يوم 7 أبريل 1967 هوجمت المواقع السورية
المتأخمة لبحيرة طبرية. ولحقت
بالطيران السوري خسائر فادحة. وفكر
المسئولون الاسرائيليون في اعطاء (درس
جيد) لسوريا وأعلموها بذلك. وفي ذلك الظرف فان انقلاب العقداء باليونان بتاريخ 12 ابريل قد فسره التقدميون العرب
على انه بداية عملية واسعة تعدها الولايات المتحدة للقضاء على الانظمة
اليسارية شرقي البحر المتوسط. وفي
الايام الولى من مايو عام 1967 أكثر
المسئولون الاسرائيليون من التصريحات حول عمليات انتقامية ممكنة قد تذهب
الى حد مهاجمة دمشق. وفي 15 مايو نظمت الحكومة الاسرائيلية
استعراضاً عسكرياً ضخماً بالقدس لدى الاحتفال بذكرى اعلان الاستقلال. واعلن رئيس الوزراء ليفي اشكول انه سيتم الرد بكل حزم على حملة
الارهاب التي يقودها الفلسطينيون المدربون بسوريا.
ومنذ يوم 13 مايو
قام الاتحاد السوفييتي باعلام الدول العربية بوجود حشود عسكرية اسرائيلية
على الحدود السورية ويبدو ان اسرائيل لم ترد ان تسير ابعد من مجرد اجراء
تهديدي خاصة وان الاتحاد السوفييتي كان يغذي هنا خطة اذكاء التوتر. وكان عبد الناصر رغم وعيه بمخاطر الحرب مضطراً الى ان يهب الى
نجدة سوريا. فاصدر الامر يوم 15 مايو للجيش المصري باتخاذ مواقع
في سيناء وفي يوم 16 مايو طلب من
الامم المتحدة سحب قواتها من الحدود الدولية مع اسرائيل ولم يطلب ذلك
بالنسبة لغزة ولا شرم الشيخ في طرف خليج العقبة.
ولم يكن بوسع منظمة الامم المتحدة الا قبول طلب عبد
الناصر اذ ان الامر يتعلق بأراض مصرية غير ان الامين العام للامم المتحدة
سحب جيش الامم المتحدة من كامل الاراضي المصرية يوم 17 مايو 1967 وذلك لكي يضع المصريين امام
مسئولياتهم.
بدأت اسرائيل التعبئة يوم
18 مايو، ولم يكن بوسع الاقتصاد الاسرائيلي تحمل تكلفة مثل هذا
الموقف مدة طويلة. لذا كان اسرائيل
في حاجة الى قرار سريع. ووجد عبد
الناصر نفسه في موقف مفاجئ طرحت فيه مسألة مضيق تيران من جديد. وكانت الدعاية الاردنية قد تعودت التهكم على كلام مصر المناضل
وعلى حذرها بخصوص هذه المسألة الخطيرة. وبعد تردد قرر عبد الناصر يوم 22 مايو منع مضيق تيران على الملاحة الاسرائيلية. وصرح عبد الناصر يوم 29 مايو:
(علينا ان نعود الى وضع سنة 1948 ما دمنا قد عدنا الان الى وضع
1956.) ويمكن ان نرى من ذلك رغبة عبد الناصر فتح مفاوضات شاملة من
موقع القوة على اساس خطة التقسيم، وبطبيعة الحال كان ذلك الامر لا تقبل
به اسرائيل. وفي الواقع لم يكن لمصر
امكانيات شن حرب. فقد كان جزء هام
من جيشها مقيداً باليمن. ولئن حمل
عبد الكريم عامر عبد الناصر على الاعتقاد بان قدرات البلاد العسكرية هي
اهم بكثير مما كانت عليه في الواقع فانه لم يكن بوسعه ان يخفي عنه انه
ليست له أي خطة لمهاجمة اسرائيل.
وهكذا لم يتوقع احد ان قطاع غزة سيصبح هشاً بسبب انسحاب قوات الامم
المتحدة. وفي هذه الحال قبل عبد
الناصر عروض الوساطة الامريكية والتزم بانتظار وصول المبعوثين الامريكيين
واعتقد بان اسرائيل لن تهاجمه وان التفاوض يمكن ان يتم عن طريق
الامريكيين.
لقد تمكن عبد الناصر بفضل موقفه الصلب من استعادة
زعامته العالم العربي التي نوزع فيها في السنوات السابقة، وفي غرة يوليو
قبلت الاردن ميثاقاً للدفاع المشترك مع مصر وهكذا تحقق الهدف الثانوي
المتمثل في قطع الحلف الاردني السعودي. وكان الملك حسين على يقين بان الحرب لا مفر منها وانها ستفضي الى
غير صالح العرب. ومنذ الهجوم
الاسرائيلي على سامو كان يعرف ان السكان الفلسطينيين من مملكته لن يقبلوا
بحياده في النزاع ـ ففضل حرباً ضد اسرائيل على حرب اهلية. وبوضعه جيشه تحت امرة ضباط سامين مصريين وجد كفالة قومية سمحت له
بالابقاء على سلطته. وفي يوم 4 يونيو التحق العراق بالميثاق
المصري وكان ما يحسب له حساب هو التنافس بين الدول العربية اكثر من
المواجهة مع اسرائيل وبالرغم من تصريحات لقاءات القمة العربية لم يكن
لجيوش كل دولة اية خبرة في التعاون وأية خطة هجوم وكان الارتياب بين
الدول العربية اكبر مما كان عليه الامر في سنة
1948.
وفي اسرائيل أثارت كل هذه الاحداث قلقاً شديداً. وكان السكان يعتقدون بقرب هجوم عربي عام. وكانت تصريحات الشقيري الداعية للحرب تزيد في عدم الشعور بالامن. وكان المسئولون العسكريون والسياسيون يعلمون ان الجيش الاسرائيلي
ما زال الاقوى بالمنطقة وان الخطر لا يكمن هنا. ولكن التسامح باستمرار غلق مضيق تيران قد يكون القبول لاول مرة
بان يطرح للنقاش امر واقع اسرائيلي.
ومعنى ذلك ان حالات أخرى من الامر الواقع من مثل التمركز في المناطق
منزوعة السلاح سيتم الاعتراض عليها وهكذا دواليك حتى وصول حدود التقسيم. وكانت الحاجة تدعو الى العمل سريعا وخاصة وانه لا يمكن الابقاء
على السكان في حالة تعبئة وان الرأي العام الغربي يدعم اسرائيل التي كانت
تظهر بمظهر ضحية المطامح الحزبية ليجرانها. ومع ذلك رافقت فترة القرار هذه ازمة سياسية: فحزب العمال شهد منذ بداية الستينيات انقساماً خطيراً. فترك بن جوريون وبيريز وموشي ديان الحزب بينما اعتمد الجيل القديم
بقيادة ليفي اشكول وغولدا مائير على العسكري السابق آلون وعلى رئيس اركان
الحرب رابين. وكان رئيس الوزراء
الذي كان وزير الدفاع كذلك يأمل تسوية مسألة العقبة بالطرق الدبلوماسية
بينما كان العسكريون يدفعونه الى الخيار العسكري. إذ ان كل شيء يوشك ان يدعم المواقع العربية ويضاعف الخسائر
الاسرائيلية. وضعف موقف اشكول وباتت
سلطته متضعضعة يوماً بعد يوم، واستغل ذلك بن جوريون واصدقاؤه والهبوا
مخاوف السكان. ودفعوا الى تشكيل
حكومة وحدة قومية لمواجهة الحرب وحصلوا على ما يريدون يوم غرة يوليو 1967 بتعيين موشي ديان في وزارة
الدفاع ودخول بيغن للحكومة.
حاولت فرنسا التي كانت ما تزال السند الاول لاسرائيل في
الخارج ان تثنيها عن الهجوم. واعلن
ديجول ان فرنسا لن تساند البادئ باستعمال القوة وقرر يوم 3 يونيو 1967 رض حظر على الاسلحة الموجهة
الى الشرق الاوسط حيث كانت اسرائيل زبون فرنسا الوحيد. وكان هذا القرار رمزياً إذ كان المسئولون الفرنسيون يعرفون تماماً
تفوق الجيش الاسرائيلي الحقيقي وان قطع الغيار الرئيسية تواصل تسليمها
سراً. وكان هذا القرار عظيم الاهمية
على المدى البعيد اذ اصبحت اسرائيل تابعة كاملة للولايات المتحدة في
تسلحها مورطة بذلك هذه الدولة العظمى في النزاع العربي الاسرائيلي. وتمكنت فرنسا والمجموعة الاوروبية بعد ذلك من سلوك سياسة شرق
اوسطية مستقلة عن سياسة الولايات المتحدة. وبينما كان الامريكان في الاربعينيات والخمسينيات ينتقدون
الاستعمار الفرنسي والانجليزي مناصرين للعرب دون ان يكلفهم ذلك أي عناء
فقد عرفوا بدورهم ثقل مسئوليات الشئون الشرق اوسطية وعبء تأييدهم اسرائيل
وتوبيخ شركائهم في الحلف الاطلسي.
وفي يوم 5 يونيو 1967 شنت اسرائيل هجومها المفاجئ ضد
جيرانها العرب. وبالحرب المسماة
بحرب الايام الستة تغيرت سياسة الشرق أوسطية كلية، فاصبح النزاع العربي
الاسرائيلي مركزياً لعدد من السنين وتورطت فيه الدول العظمى. وعرفت القومية العربية خبوا تدريجياً خاصة في شكلها الناصري.
كان سبب هذه الحرب تأكيد الوطنية الفلسطينية منذ بداية
الستينيات. وقد ادت ردود فعل
اسرائيل والدول العربية على هذه الظاهرة الى مواجهة 1967، ويبدو ـ حسب معلوماتنا
الحالية ـ ان ارادة التوسع الترابي الذي كان واضحاً جداً لدى اسرائيل في
الخمسينيات كانت عاملاً ثانوياً، رغم ان عودة البنجوريونيين القوي في
نهاية مايو 1967 قد غير معطيات
سياسة اشكول. ولقد بدا ان الحفاظ
على مكتسبات الامر الواقع كان الحافز الرئيسي لدى المسئولين الاسرائيليين
الذين برعوا في تقديم الامر كما لو كان يتعلق ببقاء اسرائيل التي لم تكن
في واقع الامر مهددة. ولقد كانت
المبالغات الحربية للخطباء العرب وخاصة منهم الشقيري سنداً قوياً للدعاية
الاسرائيلية.
والسبب الثاني للحرب متأت من ارادة الاتحاد السوفييتي
في مواجهة تنامي القوة النووية للاسطول السادس الامريكي بوضع اسطوله
الخامس في مواجهته، غير ان الاسطول السوفييتي بالبحر المتوسط ليس له
ميناء رسو، وكانت سياسة موسكو تصطدم برفض مصري وسوريا منحه هذا الميناء،
كما ان موقف الرئيس جونسون الذي تخلى عن الطرح الايجابي للمشاكل العربية
وهو الطرح الذي كان لايزنهاور وكينيدي، ومن اجل دعم صريح لاسرائيل قد حرم
القوميين العرب من فوائد الحياد الايجابي فقد دفع بهم في حوار مقتصر على
الاتحاد السوفييتي رغم المبادرات الفرنسية الاولى، فكانت موسكو اذن تؤجج
التوتر بالشرق الاوسط لزيادة تبعية مصر وسوريا لها والحصول منهما على
موانئ. وكان المسئولون السوفييت
الذين أكدوا للمصريين في نهاية مايو 1967 مساندتهم التامة، لا يسيطرون سيطرة سليمة على تصعيد الازمة،
ومثلهم في ذلك مثل عبد الناصر، فدت الى حرب ما كان احد يريدها.
وفي الوقت الذي اصبح فيه النزاع العربي الاسرائيلي
المكان الاعظم للمواجهة بين القوتين العظميين، وفي الحركة نفسها وجد هذا
النزاع معناه الاصلي ألا وهو معارضة الوطنية الفلسطينية للحركة
الصهيونية، ولقد أخفت السنوات التالية لعام
1949 هذه الحقيقة إذ ان اختفاء أي قيادة سياسية فلسطينية فعلية قد
حول مسئولية المسألة الى الدول العربية، وان فشل مفاوضات 1949 قد أفضى الى التعبير عن رفض
عربي ملائم للطرفين. فقد كانت
اسرائيل تستخدمه لتبرير رفضها أي تنازل وقيامها بعمليات ضم اضافية محتملة. كما ان الدول العربية كانت تجد فيه، ابتداء من التحذيرات الثورية،
شرعية تغطي غموض سياستها السابقة.
وبيونيو عام 1967 تم الانتقال من
اسرائيل والرفض العربي الى فلسطين والرفض الاسرائيلي.
[1]
مارسال كولومب Orient arabe et non - alignement
باريس، 1973 جزء 2 ص 74.
[2]
محادثات مع باتريك سيل في Struggle for Syria مطابع جامعة
اكسفورد 1965 ص ص 310 ـ 311.
[3]
ميشال سوار "La population, I Etat et la sociere في La Syrie daujpurd"hui
تحت اشراف اندريه ديمون باريس، 1980،
ص120.
[4] مارسال كولومب، Orient arabe et non alignement
باريس 1973، جزء 2 ص217.
[5] Orient، 1959، العدد 9 ص ص
152 ـ 153.
[6]
مارسال كولومب المصدر نفسه. الجزء 2 ص171.
[7]
تصريح يوم
27 يونيو 1961. Orient العدد 19،
1961 ص ص 198 ـ 199.
[8]
مارسال كولومب Le prabieme de L "entite palestinienne
dans les relalions inrerarabes بـOrient العدد 29 (1964) ص58 والاستشهادات الاخرى حول هذا الموضوع مأخوذة من هذا البحث القيم.
[9]
Revue
des études palestiniennes العدد 14
(1984) ص ص 167 ـ
169.
|