نجيمـة بلانطــاد

السّاحِـرة: التّدخـلات والطقـُوس

ترجمة: محمد أسليم

I. التدخُّـــلات

تنظم للا فاضمة ممارستها «المهنية» بحسب دورة أسبوعية تتألف من ثلاثة أنواع من الأنشطة: تخصص أيام الأحد والإثنين والأربعاء للعرافة[1]، والثلاثاء والسبت للسحر العِلاجي، ويسمى ألاَوِي، وأخيرا تخصِّصُ يومي الخميس والجمعة للراحة و«التكوين». في القسم الأول تزاول مهمة الساحرة، وفي الثاني تؤدي دور المطببة، وفي الثالث تنتقل من جانب المطبب إلى جانب المعالَج. وراحة نهاية الأسبوع[2] ضرورية عندها لسببين: لتتمكن من إفراغ مشاعر قلقها الأسبوعية في الجذبة من جهة، وتتزود بطاقة تمكنها من الانطلاق من جديد، من جهة ثانية.

تصيبها مشاكل الزائرات في عمقها. هكذا، فكلما عالجت حالة برودة جنسية أو عجزا جنسيا خلال النهار أحست بنفور جنسي طوال 24 ساعة، وكأن فعاليتها العلاجية تتعذر خارج إجراء تحويل (بمعناه في التحليل النفسي)؛ فهي لا تخلص زبونتها من البرودة الجنسية إلا إذا استضمرت ما ألمَّ بهذه الزبونة. وليس من الضروري التدقيق في مسألة غياب أية علاقة بين هذا التحويل وذلك الذي يحصل في العلاج التحليلي؛ فبينما هذا الأخير «تكرار لنماذج طفولية مُعاشَة بشعور راهنية محدَّد» (لابلانش وبونتاليس، 1978: مادة transfert). لا يعدو الأول مجرد تحويل للمرض من شخص إلى آخر. وفي هذا التحويل يفسح المريض السلبي للمطببة مجال «الاشتغال»، فتقوم بتصريف انفعال لفائدته. في العلاج التحليلي المريـضُ هـو الذي «يعمل»، أما المحلـِّلُ فلا يعدو مجـرد ذريعـة «للعمل». هكذا فليفـي ستراوس، يعرف الزوج الساحر - المريض قائلا:

«بفضل الاضطرابات التكاملية التي تطبع الزوج ساحر - مريض، فهو يجسد لدى الجماعة، بطريقة واضحة وحية، تضادا خاصا بكل تفكير. ولكن تجربته العادية تبقى غامضة وملتبسة: فالمريض انفعالية، استلاب الذات نفسها مثلما مرض الفكر هو ما يقع خارج اللغة. أما الساحر فهو فاعلية، فيضٌ للذات مثلما الانفعالية مستودعُُ من الرموز. والعلاجُ يقيم علاقة بين هذين القطبين المتعارضين، يضمن الانتقال من أحدهما إلى الآخر، ويُظهر في تجربةٍ كليةٍ تماسكَ العالم النفسي الذي هو نفسه إسقاطٌ للعالم الاجتماعي» (ليفي ستراوس، 1974: 201).

وقد حضرتُ جلسة مضنية موضوعها علاج عجز جنسي كان يشكو منه رجل يناهز عمره 50 عاما، قصد للا فاضمة مرفوقا بزوجته. رغم أن الزوجين جاءا من مكان بعيد، فقد وصلا في الصباح الباكر. تقرفصت للا فاضمة الأرض قبالة الزوج وهي مرتدية برنسها الأبيض، ثم أمسكت أهدابه الجانبية بيديها معا وغطَّت الزبون؛ أحاطته بذراعيها بحيث اختفى الإثنان معا داخل البرنس. ما عاد يُسمَع، حينئذ، سوى ما كانت الساحرة تلفظه من كلمات مُجَمجَمَة وغير مفهومة. بعد بضع دقائق، تغيرت رنة الصوت ليبح تدريجيا. استحوذ عليها جشاءُُ متواصلُُ وتثاؤبات مستمرة. كان الجشاء من القوة بحيث انتابني إحساس بأنها ستشرع في القيء. وباختصار، لقد كانت في حالة جذبة. وقد فهمت زوجة الزبون هذا الاضطراب الجسدي جيدا وأخذت تشهق وتنتحب أمامي جاعلة مني شاهدة، وهي تردد أن زوجها مسحورٌ. فقد تأكدت، أوّلا، من صواب شكوكها في ما يخص سبب عجز زوجها الجنسي. وبسبب من قلقي العائد أساسا لاضطراب للا فاضمة النفسي ولانتحابات زوجة المريض، فقد صرتُ عاجزة كليا عن تقدير المدة الزمنية الحقيقية التي استغرقتها الزيارة.

ظهرت الساحرة وزبونها من جديد بعدما تخلصا من أهداب البرنس الجانبية التي كانت تغطي رأسيهما. بدا الزبون هادئا، على عكس للا فاضمة التي كان وجهها غارقا في العرق وجسمها يرتعش. جففت عرقها واسترجعت أنفاسها. استعادت تدريجيا التحكمَ في صوتها، فخاطبت زوجة المريض قائلة إن عناصر السحر التي استعملتها عدوتها كانت تتألف من شعر زوجها وتراب أخِذَ من تحت قدميه.

لم تكن الجلسة التي حضرتها جلسة لإبطال السحر، بالمعنى الدقيق، وإنما كانت عرافة أولية ضرورية لتشخيص الحل الواجب تقديمه. ولا تترك حالة للا فاضمة خلال العرافة وبعدها مجالا للشك في طبيعة السحر باعتباره حالة نزاع. وتصف جان فافري - سعادة في دراستها للسحر في منطقة بوكاج المايين بفرنسا حربا دارت بين مُبطل للسحر وبين ساحر، على النحو التالي:

«بمجرد ما تم شـك قلـب العجـل بدأت الحرب القاتلة بين مبطل السحـر والساحر الذي تصدَّى له السيد غريبون (Grippon) بأبهةٍ قائلا: "الجسم بالجسم. هو الذي ينفذ منه أو أنا". نهاية هذا القتال ليست واضحة على الإطلاق. ذلك أن غريبون اضطر، وهو ينضح بقطرات كبيرة من العرق ويرتج بالتشنجات، إلى مدح خصمه فوق الطبيعي، فقال مرات عديدة: "حقا إنه قوي ولا أعرف كيف - وقد لا أستطيع - السيطرة عليه. ثم عاد إلى منزله تاركا لمريضه مسؤولية تفسير الثنائي السحري يساعده في ذلك المتلفِّظُ[3]... وفي الصباح الموالي هرول الساحر إلى مستشفى المايين حيثُ أجريتْ له عملية جراحية وقطِعَ له 25 سم من المعي. بقي مريضا مدة طويلة ثم عاد إلى منطقة البورغ، أما ضحيته (المسحورة) فقد شُفِيَت» (جان فافري، 1977: 92).

غير أنه من اللائق التمييز بين الثنائي السحري القبائلي والثنائي السحري الماييني. ذلك أن الصراع السحري في القبائل لا يتم بين ساحر ومبطل للسحر، كما هو الشأن في البوكاج، وإنما يجري في مستوى أكثر «تجريدا»، بمعنى أن مزيلة السحر لا تقارن نفسها بالساحر وإنما بعناصر السحر. لا يتعلق الأمر بـمواجهة «جسدا لجسد» يتألم الساحر في نهايتها تألما جسديا، وإنما بصراع يقابل بين سحرين أي بين لغة رمزية ضد أخرى. ولذلك ينبغي التشديد على الأهمية التي تكتسيها العناصر المكونة «للوصفات» السحرية في المتخيل القبائلي الذي يعتبر هذه العناصر كأنها محملة بقوى أو قدرات مختلفة ومتفاوتة الفعالية. والدليل على ذلك أنه في العديد من الحالات لا يتم استدعاء مبطلة السحر، وبالمقابل يُكتفى باللجوء إلى ترياق تبعا لنصيحة إحدى الصديقات اللواتي سبق لهن أن جرَّبنه.

عندما كانت للا فاضمة بصدد تسخير قدراتها في الحرب التي وصفناها قبل قليل، فإن الساحرة لم تشعر بأي شيء لا في ذلك الوقت ولا فيما بعد. ومبطلة السحر القبائلية لا تسعى إلى إصابة الساحرة في وحدتها الجسدية أو المعنوية، وإنما إلى القضاء على فعالية الوصفة السحرية، ولذلك كان «تشخيص» الإصابة بالسحر، انطلاقا من شعر المريض وتراب قدميه، تمهيدا ضروريا للعلاج. وانطلاقا من هذه العناصر ستتمكن مبطلة السحر من إيجاد الترياق المناسب. إن شفاء المسحور هو مواجهة الشر السحري الذي أصابه ومواجهة صاحب هذا الشـر المفترض. غير أن مواجهة هذا الأخير [الساحر] تتم بشكل عرضي فقط.

لا يتوقف عمل للا فاضمة عند نهاية هذا العمل التمهيدي، إذ تتلوه طقوس أخرى يدوية: تقيس، أوَّلا، طول المريض بخيط من الصوف[4] ثلاث مرات، ثم تضفره وتعقده سبع عقدات بينها مسافات متساوية. وبعد ذلك تضع الخيط حول رأس المريض، وتأخذ شفرة حلاقة، وتنفث في كل عقدة قبل قطعها بحذر شديد. وبعد انتهاء عملية القطع تجمع العقد السبع والشفرة، ثم تضع الجميع وسط عقاقير، وتضيف إليه (جاويا وحرملا عربيا ومسكا)، ثم تسلم صُرَّة العقاقير للزوجة ناصحة إياها بإطلاق هذه العقاقير بخورا بين ساقي زوجها. وأخيرا، تنتهي الزيارة بتقديم وصفة أخيرة شفهية يتم تحضيرها بعسل ومجموعة أعشاب يتعين على المريض أن يتناولها في الصباح والمساء مدة 11 يوما. والنباتات التي يجب سحقها وخلطها مع العسل تتألف من زعتر، وفليو، وكمون، وإمليل، وفجلة، وأورمي، وإفرن لْكْسُوسْ، وتيمجَّا، ورَند، وحبة سوداء [=سانوج]. وفي الأخير ضربت للا فاضمة للزوجين موعدا ‎أجله شهر.

بعد أن انصرف الزوجان، وجدت نفسي مختلية بللا فاضمة، فأوضحت لي أنها، عندما يكون موضوع الزيارة مداواة العجز الجنسي، تشعر بتنمُّلٍ، وارتعاشات، وضعف عام، وشعر في قعر فمها. وباختصار، فإنها تشعر بمجموعة من العناصر غير الطبيعية.

طوال تلك الجلسة سجَّلتُ نقطا هامَّة تؤكد تماما الطرح الذي أقدمه في العمل الحالي، وهو أن النساء في مجال السحر هنَّ اللواتي يأخذن المبادرة لأنهن أول المعنيات. لقد كان المريض سلبيا بشكل ملفت للنظر: فللا فاضمة لم تكلمه في أية لحظة، وبالمقابل كانت تمد زوجته بالتفسيرات والوصفات كما لو كانت هذه الأخيرة هي المعنية في المقام الأول. أما المسحور، فلم يكن معنيا على الإطلاق. وذلك مثال ساطع لمنطق السّحر المتعلق بالعلاقات بين الجنسين التي لا يتعلق الأمر فيها بالإيروسية والحب بقدر ما يتعلق بصراعٍ بين امرأتين، بين الساحرة وزوجة المسحور. ولا يمكن لهذه الثنائية السحرية النسوية أن تنشأ إلا بواسطة رجل، أي ضحية لابد منها لإلحاق ضرر بزوجته.

تستجيب للا فاضمة يوميا لعدد غفير من الزبائن. ومنزلها يمتلئ دائما عن آخره تقريبا ويشكل مكان خروج ودخول لا ينقطعان. أما الزيارات فتتم في غرفة البيت الرئيسية، وتُنظَّم عموميا، أي أن جميع الزبونات يحضرن زيارات الأشخاص السابقين ريثما يحين دورهن. وبذلك يقضين عدة ساعات في هذا المنزل الذي يشكل مكان لقاء ومحادثات لا تنتهي. وهذا الاختلاط يلائم تماما الأغلبية المطلقة من النساء حيث ينتهي بهن الأمر جميعا إلى التعارف فيما بينهن. لقد أصبح منزل للا فاضمة مكانا مفضلا لديهن للقاء والثرثرة داخل فضاء أنثوي مغلق يتيح التعرف على آخر الأخبار. وعلى العكس، يبدو أن هذا الوضع لا يروق بعض النساء حديثات السن اللواتي سبق لهن أن تمدرسن. فقد أبدين في عدة مناسباتٍ رغبتهن في جعل الزيارات تتم بشكل فردي، وذلك بإنشاء نظام شبيه بنظام عيادة الطب العصري. وطلبن من للا فاضمة أن تستغل غرفة أخرى من منزلها، تقع قرب الباب، لتجعل منها غرفة انتظار، مما سيمكن الزبونات من العبور واحدة تلو الأخرى إلى غرفة الزيارة، وذلك لأن «الجمهور»، بحسب قولهن، يجعلهن يشعرن بالانزعاج؛ فليس من شأن النساء الأخريات أن يعرفن الأسباب التي قادتهن إلى هذا المكان شبه السري. وهذه العقلية التي بدأت تتبلور بالترابط مع التمدرس والعلاقات الاجتماعية الجديدة تغير علاقة النساء بالسحر الذي لازال بالتأكيد مجالا للإيمان، لكنه أصبح قضية شخصية تستوجب تسوية فردية.

من الصعب وصف طبيعة العلاقات التي تقيمها للا فاضمة مع الأرواح بسبب التراكم الموجود بين عناصر إسلامية وعناصر أقدم تنتمي إلى التقليد المحلي [الوثني]. أما علاقاتها مع رؤساء الزوايا الدينية، فلها هدف آخر غير هدف التواصل الروحي مع الله، هذا التواصل الذي تصبو إليه مبدئيا الرقصات الشطحية. والجذبة الأسبوعية التي تقوم بها للا فاضمة في تلك الأمكنة لا تختلف عن تلك التي تقيمها النساء العاديات، ويعبّر عنها بفعل جَذَبَ الذي يعني «حرك الرأس من الأمام إلى الخلف وقام بالتواءات». وجذبة النساء القبائليات ليست شيئا آخر غير تمظهر لأزمة الملك أو المسّ (possession). وبعد أن حدَّد ج. روجيه مختلف استعمالات مصطلحي «جذبة» و«شطح» ميَّز بينهما بكون الأول «لا يحصل إلا وسط الضَّجيج والإثارة ومجتمع الآخرين»، أما الثاني، فلا يحدث إلا «بالصَّمت والسكون والوحدة» (ج. روجيه، 1980: 31). وهذا التمييز هو الذي اعتمدناه هنا. بالإضافة إلى ذلك، لا تنتمي للافاضمة إلى أية زاوية محدَّدة، ولا يمكن الحديث عنها باعتبارها مريدة لنظام مرتبط بمذهب محدَّد. فهي لا تستمد سلطتها من تواصل مباشر مع الله، وإنما من علاقاتها مع أكبر عدد ممكن من الوسطاء، وإذن من الأولياء. بهذا المعنى فهي في منأى كامل عن كل تصرف أصيل خاص بتاريخ الجمعيات الدينية في إفريقيا الشمالية. وعلى العكس من ذلك، فهي تدخل تمامـا في إطار الديانة المحلية التي تعطـي الأولوية التامة لعبادة الأولياء، والتي حلَّت محلّ عبادة الأجداد القديمة»[5].

وتظهر دراسة س. أندزيان (1983) حول إحدى الزوايا الدينية بضاحية تلمسان أن المعلم الروحي - خلافا لما يُقال عن هذه الزاوية - لا يعمل مطلقا (على الأقل عند النساء) باعتباره معلما روحيا طبقا «للسلسلة الكلاسيكية» التي يضعه فيها هذا المؤلف، وإنما يعمل باعتباره مرابطا عاديا يزاول مهنة مطبِّب دون أن يكون مرتبطا بأية زاوية. غير أن للا فاضمة، بارتدائها البرنس خلال زياراتها، ذلك البرنس المحمَّل بالبركة، ترتبط بطريقة واضحة وجليّة بتلك «السلسلة الصوفية الكلاسيكية». وفي الواقع، يمكن وضع البرنس بموازاة «الخرقة الصوفية» التي أخذها ابن عربي (ق. XIIم) مباشرة من أستاذه الخضر (هـ. كوربان، 1958)[6]. وفي نشيد للافاضمة المتعلق بسيرة حياتها، تذكرُ البرنسَ وكأن الأمر يتعلق بعلامة تنصيبها المُسَارِّي. والدلالة نفسها نجدها في البذلة الشامانية التي يتمكن الشامان بعد ارتدائها من «استرجاع الحالة الصوفية الموحاة والمحددة من خلال التجارب الطويلة والاحتفالات المسارية... فالبذلة توحِّدُ بين الشامان والأرواح داخل جوهر محولة إياه في أعين الجميع إلى كائن فوق إنساني» (م. إلياد، 1983: 137 و144).

إن الطـريقـة التي تصف بهـا للا فاضمة الروح الذي يملكها تجعل مـن هذا الأخير أقرب إلى الأرواح التي تخدم الشامانيين الكلاسيكيين منه إلى مذهب المتصوفة المسلمين الديني. وبالفعل، عندما تعجبتُ يوما من استهلاكها المدهش للحم، فسَّرت لي ذلك بكون الأرواح التي تسكنها هي التي تطالب بكمية كبيرة منه وليس جسمها هي. ها هو إذن الولي، أمرابض، قد تحوَّل إلى كائنات غير محدَّدة، تحول من المفرد إلى الجمع. في الواقع، يملك الروح الذي يسكن أدرويش، أي المجنونة، مجموعة أخرى من الأرواح غير المعروفة بشكل جيد تُدعَى تارباعات، وهي تحت إمرته. وبذلك فهذه الجماعة هي التي تتصف بالشره لأكل اللحم[7]. ونرى إلى أي حد يصعب أن نحدد بدقةٍ الوضع الاعتباري الديني الذي تتمتع به للا فاضمة؛ فتفسيره بالعـودة إلى الإسـلام وحده من شأنه أن ينفي جزءا كبيرا من الإطار الثقافي الذي تستمد منه إبداعاتها وممارستها، ومن شأنه في نهاية المطاف أن يبتر اصطناعيا كلية معقدة.

هناك مستويان من الانفصامات، بحسب ما يقوله أ. ر. ضودس. والانفصام الذي تخضع له للا فاضمة يقبل الدرجة التي يستمر فيها الوعي السوي إلى جانب الشخصية المتدخلة (...) ويمكن للذات أن تذكر فقط ما يقوله الصوت الذي حلَّ فيها» (أ. ر. ضودس، 1979: 70). ولذلك تستعمل للا فاضمة ضمير المفرد الغائب لنطق عزائمها بعد اتصالها بولي، فتقول: «يقول لك». أما الدرجة الثانية فهي جذبة أكثر عمقا، تتلاشى فيها الأنا العادية كليا «بحيث لا تعود تذكر ما قيل، وما فُعِلَ (...) يتكلم الصوت بالمفرد المتكلم عبر شفتي الذات». في هذه الحالة، يمكن للذات أن تقول مثلا: «أنا الله»،وهو ما يتطابق أكثر مع حالة الشطح الصوفي.

وعن إفريقيا الشمالية في العصور القديمة، يقول أ. ضودس: إنَّ «ترتوليان[8] كان يعرف امرأة تتحاور مع الملائكة وأحيانا حتى مع الله، شاهدَت روحا بشرية بهيئة جسمية (مبرهنة بذلك، وبارتياح كبير، على أن الأرواح مجسَّمَة). وربما كان شيء من المزاج الإفريقي الشمالي أو من التقليد الثقافي، يهيئ بخاصة لحالات انفصامية» (نفسه: 82). يتعلق الأمر في حالات الجذبة، بالتأكيد، بحالات انفصامية، وما تعاني منه للا فاضمة أو غيرها من النساء هو الجذبة لا الشطح. وهنا أيضا يجب التفكير في التمييز الذي يقيمه ج. روجيه بين الحالتين[9]. بالمقارنة مع الساحرات الأخريات، تبدو حالة للا فاضمة جد متفردة. فشهرتها مُغَلَّفة «بنزعة إسلامية» أكثر من زميلاتها اللواتي لا يملكن إرادتها المتحمسة لممارسة زيارات متكررة للأضرحة، ولا يقمن بزيارات منتظمة لرؤساء الزوايا. وبالاستماع إلى خطاب مُريداتها ينتابني شعور بأن الأمر يتعلق بساحرة «أكثر شرعية» من الساحرات الأخريات، إذ فيما يقال عنهن إنهن سيدخلن النار، يقال عنها، هي، إنها ستدخل الجنة.

II. الطقـــوس

بعدما حاولنا الإحاطة ما أمكن بالساحرة ووضعَها الاعتباري في السياق الاجتماعي، سنهتم الآن بسحرها أساسا.

إن التمييز الذي أجريه بين «سحر جيد» (أو سحر إيجابي) و«سحر سيء» (أو سحر سلبي) لا يستجيب فقط لأسباب تتعلق بتيسير التحليل بقدر ما يترجم بأمانة الخطابَ الذي يصوغه القبائليون أنفسهم بشأن سحرهم. فهم يجرون تفريقا ثنائيا واضحا جدا بين السحرين. ورغم أن الخطاب «العصري» يشجب هذه الممارسات في مجموعها، فإنه يحدث دائما أن يتم الدفاع عن السحر الجيد عندما يستجيب لحالة خاصة يعرفها المتكلم، فأحرى عندما يَقترح هذا السحر نفسه للجمع بين زوجين فرق بينهما السحر السيء، أي لإصلاح الشر بالخير أو من أجله.

لا تتوفر اللغة القبائلية على مفردتين لتسمية هذين النوعين من السحر، وبذلك فهي تؤكد ما قلناه سابقا، ألا وهو إن الساحرة قادرة على القيام بكل شيء. لا نجد، كما هو الشأن في سحر البانطو[10] مثلا، الزوج حكيم - ساحر (magicien - sorcier)[11] حيث يتم تعريف كلاهما لغويا بوحدتين دلاليتين منفصلتين، متعارضتين ومتكاملتين: الحكيم يمارس السحر الجيد ويتصدَّى للساحر. والساحر الذي يُلقي رُقى مؤذية (ل. دوهوش، 1971:(171-187). فالقبائلي لا يقابل بين اسمين، وإنما يقابل بين فعلين، إذ يتحدث عن الساحرة التي «تعمل السحر» (تخدّمْ إحكُّولْنْ)، وعن الساحرة التي «تزيل السحر» (تعكّس إحكولن). وبذلك فما يوصف هو عمل الساحرة وليس هذه الأخيرة. فالساحرة التي «تعمل السحر» قادرة أيضا على «إزالته» ، والتي «تزيله» تملك أيضا القدرة على «فعله». كذلك لا تتم المقابلة بين الساحـر (Witch) والساحـر المـؤذي (Srcerer) كما هـو الأمر عند الأزاندي[12] فقـد كتب إيفانس برتشارد:

«يعتقد الأزانديون أن بعض الأشخاص سحرة، وأنهم يستطيعون إيذاءهم بما ينفردون به من خاصيات. والسَّاحر (Sorcier) لا يقيم طقوسا، ولا يتلفظ بعزائم، ولا يملك أعشابا. العمل السحري عمل نفسي. كما يعتقدون أن السحرة قادرون على إيذائهم بإجراء طقوس سحرية يستخدمون فيها أعشاب ضارة. إن الأزانديين يميزون بدقة بين السحرة والسحرة المؤذين. ولمواجهة هؤلاء واولئك، فهم يلجأون إلى عرافين وكهَّان، وأعشاب» (إيفانس برتشارد، 1972: 53).

لقد جمَّعنا في الجدول التركيبي التالي جميع الطقوس التي عرضناها في القسم الأول [من هذا البحث]، والتي تتضمن عناصرها استخدام نباتات وأحجار، الخ.

 

السحــــر الإيجابـــي

السحـــر السلبـــي

نباتـــــــات

عرق السُّوس

قرنفـل

صمـغ جاوَة

جَوزة الطيـب

حبات قطيفة (سالف العروس)

حنَّـاء

لوف مصـري طبيعـي

أغصان شجـر الرمان

سكـر

باذََوَرْد

حلتيت

قطـران

دفلـى

قِنَّـــة

 

فطريات (لازَهْريات)

قصـب

مُرَّان (دردار)

 

حيـــوانـــات

حربـاء

سرطـان

سلحفاة

جلد الثعبـان

مخالب الهـر

أشواك القنفـذ

ضفـدع

جلد الكلـب

جلـد الفـأر

بدغـة (حية الزجاج)

هـر

جلد القنفـذ

حافـر الخنزيـر البري

معدنيــــات

ركاز كوبَلْـت

ملـح

 

معــــــــادن

حديد

فضـة

صلـب

 

أدوات منزلية

صابونة صغيرة

إناء خزفي

سـراج

مرآة

سكيـــن المحراث

دست ماء

صابون غسل الميت

شقفة خزف

جفنات قديمة

خيط أملـس

قصـب

إبرة سبق استعمالها في خياطة كفن

ماء غسل الميت

قِـدر

جسد بشري

زغب عانة الزوج

منـي الزوج

سـنّ الزوجة

زغب عانة الزوج

عظم الساق الأكبر

شعر المرأة

ضلع ميـت

دم رجل مات مقتولا

دم الحيض

خـراء

أوقـات

سابع يوم بعد العرس

الليل

النهـار

ليلة حلول رمضـان

نزول الليل

الليلة رديئة الطقـس

لحظة مرور الموكب العرسي

فضـــاءات

قبـر

شجـرة

الطريق المؤدي إلى السوق

الطريق المؤدي إلى المقبرة

مكان ذبح الحيوانات

مكان الدرس

سقف المنزل

داخل المنزل

مكان مقدس

مكان مرور الزوج

تحت سرير الزوجين

قبـر

شجـرة

مكان مهجـور

موكب زفافي

عتبة المنزل

باب غرفة نوم الزوجين

داخل المنزل

تحت السقف

مكان مرور الرجـل

مختلفـات

علامات مكتوبة

بيـض

البدر ليلة اكتماله

علامات مكتوبة

خرقة الجماع

أحشاء الجيفة

سِنَـاج

أذهان تجميلية

وسائــــل

حمام

حجـاب

إدخال في المعـدة

بخـور

صرة عقاقيـر

حجـاب

إدخـال في المعـدة

 

لأول وهلة، من السهل ملاحظة أن العناصر السحرية الطبيعية الأكثر تواترا هي النباتات والحيوانات. أما المعدنيات والمُهَلِيَات (ذهب، فضة، بلاتين)، فتنعدم كليا في السحر السلبي، وهو ما يدعو إلى الاعتقاد بأن هذه العناصر يتم تصورها بمثابة وحدات خيِّرَة للغاية على عكس بعض الحيوانات مزدوجة [الخاصية] كالهر والغيلم أو الثعبان. والجدول الآتي الشامل نسبيا يُتيحُ، وإن بشكل تضخيمي، تحديد بعض العناصر الدالة، وكذا التقلبات التي تحكم المنطق السحري:

 

 

السحـر الإيجابـــــي

السحـر السلبــــي

العائلــــــة

زحَّافـــــــــات

ثدييـــات

الوســـــط

بـــرّ - مائــــي

أرضـــــي

اللغـــــــة

خرســـــــــــاء

صائتــــــة

أعضاء التوالـد

غيــــر مرئيـــة

مرئيـــــــة

التوالـــد

لغــــــــــــزي

بالمزاوجــة

الحيـوانـــــــات

الحيوانات التي تيسِّرُ التقارب الجنسي البشري هي الحيوانات الأشد بعدا عن الإنسان من وجهة نظر النوع. وعلى العكس، فالحيوانات التي تحدث التباعد الجنسي الإنساني هي الحيوانات الأكثر اقترابا من الإنسان.

الجنـس البشـري ¹ الجنـس الحيوانــي

 

اتصال جنسي إنسانـــــي

على العكـس،

النوع الإنساني = النوع الحيوانــي

 

انفصـال جنسـي

ونفهم هذا الوضع المفارق إذا استحضرنا فكرة كون الحيوانات البعيدة عن المجال الإنساني، أي تلك التي تنتمي إلى العالم المتوحش، تخفي قوى عالمها. وهي قوى أشد قدرة من قوى العالم الإنساني. هكذا، مثلا، فاعتبار الطفل خنزيرا بريا لحفظه من العين ومن السحر المؤذي عموما، يطابق الفكرة التي تعبر عنها الأم بما يلي: «ابني خنزير بري، حيوان متوحش. والمتوحش يزيل الخوف» (لوحش إتْكّسْ لوْحْشْ)، أي يطابق ذلك الاستدلال الذي يرى: «بما أن المتوحش يثير الفزع، فليس هناك ما يفزعه». إن معنى كلمة الوحش يرتبط بالشيء المخيف وبالخوف نفسه في آن واحد. وحقله الدلالي واسعٌ لأنه يغطي كل ما له صلة بالتوحش، والعزلة والخوف.

بالنسبة للنساء، يشكل الزوج ضفدع / سرطان تقابلا استبداليا يقوم على اختلاف البيئتين اللتين يعيش فيهما هذان الحيوانان. فعلى الرغم من أنهما يسكنان معا في وسط بري مائي فإنهما يتعارضان: فالمجال المائي للسرطان هو النهر، الماء الجاري، ومن ثمة فهو يوحي بالنقاء والطهر. أما مجال الضفدع، فهو المستنقع ومصبّ النفايات؛ أي الماء الراكد، ومن ثمة فهو المجال الذي تفضله أشرار الجن وكائنات فوق طبيعية أخرى خطيرة. بالإضافة إلى ذلك، فمجال السرطان يقع خارج الوسط المباشر، إنه يقع في الطبيعة. أما مجال الضفدع، فهو لا يبعد أبدا عن العالم البشري، بل يقطن في الجزء الأكثر إثارة للتقزز في هذا العالم.

والعناصر الملائمة التي يتم الاحتفاظ بها في السحر الحيواني إنما هي أساسـا العائلـة التي تنتمي إليها هذه العناصر والوسط الذي تعيش فيه. أمـا في السحر النباتي، فالعنصر الملائم يتشكل حول الروائح العطرة.

 

السحـر الإيجابـــــي

السحـر السلبــــي

السَّنَـن النباتي

نُضــــــــــــج

(خصوبـة)

تعفــــــــــن

(عقـــم)

السَّنَن الذَّوقـي

بـــرّ - مائــــي

مــــــــــرارة

السَّنَـن الشَّمِّي

حـــــــلاوة

نتانــــــــــة

النباتــــــات

في السحر النباتي، ما هو زكي ومُعطَّر ييسِّر الاتصال الجنسي، أما ما هو مُر أو كريه الرائحة فيباعد بين الجنسين. وهذا يطابق الدور المهم الذي تلعبه الروائح وضروب الطيب في الثقافة القبائلية. هكذا فالعروسة تعطَّر ليلة الزفاف من قمة رأسها إلى أخمص قدميها لغاية الزيادة في «سرها»[13]. وتعطير الجسم[14] والنفَس[15] أمرٌ إلزامي للمرأة التي ترغب في أن يجامعها زوجها. وهذا السحر الأنثوي اليومي هو ما نجده منقولا إلى الخطاب الطقوسي. فالنفس اللطيف لدى الشريكين ضروري لتحقيق اتحاد جنسي جيِّد كما تشير إليه هذه الحكاية بمنتهى الوضوح:

«زعموا أن امرأة حملت جرتها وذهبت إلى عين لتسقي ماء، فلقيها سبعٌ وطلب منها أن تتزوجه. فلما امتنعت هدَّدها بالافتراس، فلم تملك إلا أن توافق على الزواج به. ولما عثر أهل القرية على الجرة اعتقدوا أن المرأة قد افترسها وحش. غير أنها ما لبثت أن عادت إلى القرية بعد أشهر ومعها "زوجها" السَّبع. فلما رآه أهل القرية ذعروا، فحمل بعضهم منجلا وحمل بعضهم حجرا وهموا بقتله. غير أن المرأة خاطبتهم قائلة:

"ما لحمكم سوى لقمة في فمه

وما دمكم سوى جرعة [في فمه]".

فابتعد الناس وفسَحُوا الطريق للمرأة والسبع، فدخلت المرأة إلى بيت أبيها ومعها السبع، وتركته في غرفة كما لو كان واحدا من أهل المنزل، ثم التحقت بنساء الدار اللواتي كنَّ متلهفات على سماع حكايتها. فجلسن في غرفة لا يفصل بينها وبين غرفة السبع ووالد المرأة سوى حائط قصير، فأرهف السبع سمعه وأنصت لمحادثة النساء دون أن تفلت منه أي كلمة. سألت النساء الزوجة عن مسائل عديدة حول عيشتها مع السبع، وبالخصوص حول كيف يتجامعان. فقالت لهن إنه يحميها ويأتيها بكل ما تطلبه، وأنها لا تكره فيه إلا شيئا واحدا، هو خبث نتاتة رائحة فمه التي تقززها منه كلما دنا منها.

ولما حان المساء عاد السبع والمرأة إلى الغابة، فذهب إلى الصيد كما يفعل كل يوم، ثم أحضر حمارا وقدمه للزوجة كي تأكله. فلما رفضت أكله قال لها: "بما أن رائحة فمي كريهة فيجب أن تكون رائحة فمك هي الأخرى كريهة، فإما تأكلي الحمار أو آكلك"، فلم تجد المرأة بدا من أكل الحمار. ونكاية فيها، نشب السبع مخلبه في جبينها فأحدث به علامة، ثم أرسلها إلى أهلها لتبقى بلا زواج إلى الأبد؛ فعلامة جبينها وخبث نَفَسها جعلا الرجال يرغبون عنها»[16].

وفي الطقوس التي تقتضي علاجا يدويا يجب الإشارة إلى الدور الهام الذي تلعبه الوسائل والأشكال السحرية (من حجب وابتلاعاتٍ وبخور) وندرك في هذا المستوى أيضا الارتباطات التي تنشأ بين الشم والفمية والجنسانية. فابتلاع مواد مختلفة والحجب مزدوجة الطبيعة يختلفان عن البخور التي لا يمكن أن تكون إلا نافعـة ومطهـرة. على عكس البخور، يستدعيان دائما الابتـلاعات والحجب، تشغيل سحر ترميمي يعيد الأشياء إلى نصابها.

ترافق الطقوس اليدوية دائما طقوسٌ شفهية، أي صلواتٌ ونُذُرٌ وتمنيات ووصفات بسيطة (تعزيمة، استعطافية، واقية، الخ.). وفيما تنعدم الطقوس اليدوية الخالصة توجد الطقوس الشفهية الخالصة، وهي تأخذ شكل عزيمة - نبوءة سبق أن سُقتُ ثلاثة أمثلة منها في الفصل الأول[17]. تشكل كل عزيمة بمفردها الطقسَ نفسَه بكامله. وبينما يمكن للطقس الشفهي أن يكتسي فعالية خاصة يستمدها من طبيعته، لا يكون الطقس اليدوي فعالا إلا إذا أرفِق بأَوالِه، أي بكلمته.

ويمكن أن تصل قوة الكلمة في الحضارة البربرية - وهي حضارة كلمة[18] - إلى حد الاستبداد، إذ يمكن للمرء أن يجرؤ على ارتكاب القتل بسبب كلماتٍ، وبذلك فمصير الفرد يرتبط بما يقالُ فيه. فالكلمة التقريضية أو التأنيبية تحددان مجرى حياته وترسخانه في أحد قطبي الإيجابية والسلبية. إن القيمة المقدسة لكل من الأيمان والكلمة المتلفَّظ بها تُبَنين الكلام في «أمر قاطع».

يربط بين الثلاثي «معرفة - حكمة - شعر» رابط قوي. فالعلم والحكمة يكادان يختلطان، ذلك أنَّ كلمة حكيم (أمسناو) مشتقة من الجذر (س ن) الذي ينحدر منه فعل إسّن (علم): وعلم الأمْسْنَاوْ وحكمته لا يجدان تعبيرا أفضل من الكلمة المنظومة، أي الشكل الأكثر نقاء والذي يتطلب تعليما صعبا لا يكتمل أبدا[19].

ولا يتعلق الأمر هنا بتاتا باعتبار للا فاضمة أمْسْنَاوَ رغم أن عزائمها أكبر من مجرد وصفات مقولبة. فالإكثار من التكرار عندها لا يعدو مجرد خاصية من خاصيات الارتجال الشفهي، وقراءتها لوصفات، بل وحتى لأبيات شعرية جاهزة هو مجرد إجراء لتقوية الذاكرة. ومع ذلك، يمكن القول إن العزائم بشكلها (المنظوم لا المنثور) وبالأثر الذي تحدثه تقترب من كلمة أمسناو الحقة رغم كون هذه العزائم لا تستخدم إلا في المجال السحري. إنها كلمة عِرافية، كِهانية، كشافة عن المقدس في عالم الإنسان.

إن القدرة على العرافة، أي القدرة على رؤية ما لا يراه عامة الناس، تُكسب كلمة العرافة - الشاعرة فعالية، لأنه «إذا كان الشاعر يتلقى إلهاما حقا، وإذا كان كلامه يقوم على هبة من العرافة، فإن كلمته تنحو إلى إن تكون هي "الحقيقة" عينها» (م. ديتيان، 1981: 27). وقوة الكلمة الشعرية العرافية تتأسس على الاعتقاد الراسخ في قدرتها على «التحقق» بمجرد ما يتم النطق بها[20]. والسحر الذي تمارسه هذه الكلمة لا ينبع من كونها إبداعا إنسانيا، وإنما من جوهرها الرباني. فالساحرة لا تستطيع أن تتلفظ بها إلا بعد الاتصال بولي أو عدة أولياء أو أرواح تثني عليهم في مستهل قصيدتها أو في نهايتها أحيانا. ويتعلق الأمر بظاهرة مماثلة لظاهرة إلهام ربات الفن للشاعر الإغريقي:

«إليكم الكلمات الأولى التي خاطبتني بها الآلهة ربات الأولمب، بناتُ زوس الذي بيده الملك: "أيها الرعاة القاطنون في الحقول، يا تعساء الأرض الأذلاء، [أنتم] الذين ما أنتم بشيء آخر غير بُطون! إننا نعرف كيف نحكي أكاذيب مماثلة تماما للحقائق". هكذا تكلمت بنات زوسٍ الحقيقيات. وأهدينَ لي، بمثابة قضيبٍ، غصنا بهيا انتزعنه هنَّ أنفسهن من شجر رند مزهر، ثم ألهمنني كلمات إلهية لأمجِّدَ بها ما كان وما سيكون. وفي تلك الأثناء أمرْنَني بأن أمجِّدهن في مستهل كل نشيد من أناشيدي ونهايته، وأمجِّد أيضا عِرقَ السعداء الأحياء دوما» هِزيود، 1982: الأبيات 24-29).

ولا يفوتني أن أسجل هذا التشبيه للكلمة بغصن شجرة الرَّند. فالقبائليون يرون أن الكلمة تخرج من الأرض وتنمو كأنها عشبٌ. إنها تشكل جزءا من العالم الفيزيقي. فهي تحيا وتنمو وتتراجع. ويُعدّ إلهام الكائنات الفوطبيعية العنصر الأساسي الذي يمنح الفعالية لهذه الكلمة المشرقة والمتعالية، تلك الفعالية التي يحققها الوسطاء المقدَّسون بفهم الإلهام. وما تمنحه الساحرة هو انصهار الكلمة بين الفعل، والزبونة القلقة تجد تخفيف ألمها داخل هذه الكلمة «المتحقِّقة». والزبونة نفسها، في الواقع، هي التي «تترجِم» هذه الكلمة الملغِزَة الإعجازية وتمنحها تفسيرها الشخصي. وبما أن الاشتراك اللفظي هو الخاصية المميزة للنبوءة، فما من فرد إلا ويمكنه العثور فيها على ما يبتغيه، وبذلك يمكن لتأويل العزيمة أن يتعدَّد بتعدد المستمعين إليها لأن صياغتها المجازية تتيح للمتلقية أن تمسَّ للحظةٍ حبكة قدرها الملغزة. «النبوءة لا تُحَدِّثُ ولا تَكتم، وإنما تلمِّح» (هراقليطس، D. K: 93). ومع أن الكلمة - النبوءة ذات طبيعة ملغزة، ومع أنها علامة معتمة يصعب فك رموزها، فإنها بطبيعتها تلك ليست في نهاية المطاف سوى صياغة لواقع ما، هو واقع عجز المرأة العادية عن فهم وقائع حياتها في المستقبل.

يحتل البعد الزمني مكانة أساسية في نبوءات العرافة، ولذلك فإن «الكلمة النبوءة تُدخِل ثانية في زمن الأحياء هذه الكثافة الأساسية، أي هذه الطبيعة الصُّدفَوية للتنبؤات والمشاريع التي للعرافة نظريا مهمة تهدئتها إن لم تكن إلغاؤها» (جان بول فرنان، 1974: 3). وإذا فحصنا العزائم التي أوردتُها في الفصل الأول، وجدنا أيضا أنه تمَّ الفصل بين العناصر المثيرة للقلق (الحالية) والعناصر الباعثة على الاطمئنان (المستقبلة). وهذه الأخيرة تختم القصيدة وتتيح لزائرة العرافة أن تضع حدَّا لتأرجحها المقلق بالاحتفاظ [من كلمة العرافة] بكلمة مُوافقة، والعودة إلى بيتها بتخفيف مُحقَّقٍ حتى وإن كانت تجربتها قد أبانت لها عن طبيعته المؤقتة.

تحقِّقُ العزيمة السحرية فعلَها السحري بالتدخُّل في الحتمية الطبيعية لتعديل مجراها. والكلمة السحرية الدينية تجمِّع في طياتها العلمَ والحكمة، والقدرة والفعالية، وسائر هذه الخاصيات التي تأخذ شكلا كاملا، هو البيت الشعري.


الهـوامـش والمـراجــع

Andezian, S.

1983, «Pratiques féminines de l’Islam en France», Archives des sciences sociales des religions, janvier - mars, 55/1, pp. 53-66.

Apulee,

1975, L’âne d’or ou les métamorphoses, trad. P.Grimal, Gallimard, Paris.

Camps, G.

1961, Aux origines de la Bérbérie: monuments et rites funéraires protohistoriques, Arts et métiers graphiques, Paris.

Corbin, H.

1958, L’imagination créatrice dans le soufisme d’Ibn Arabi, Flammarion, Paris.

Dallet, J. M.

1972, Esquisse d'une théorie de la pratique, Genève, Drose.

De Husch, L.

1971, «Pour une approche structurale de la pensée ‘’magico-religieuse bantoue’’, in Pourquoi l’épouser?, Gallimard, Paris.

Detienne, M.

1981 ]1967[, Les maîtres de vérité, Maspéro, Paris.

1972, Les jardins d’Adonis, Gallimard, Paris.

Detienne, M. et

Vernant, J-P.

1974, Les ruses de l’intelligence, la métis des Grecs, Flammarion, Paris.

Devereux, G..

1977 ]1956[ «Normal et anormal», in Essais d’ethnopsychiatrie générale, Gallimard, Paris.

Devulder, M.

1951, «Peintures murales et pratiques magiques dans la tribu des Ouadhias», in La Revue Africaine, tome XCV, pp. 63-102.

Dodds, E. R..

1979 ]1965[, Païens chrétiens dans un âge d’angoisse, D. Saffrey, La pensée sauvage, Claix.

Echard, N.

1981, «Indifféreces, hésitation: le cas des Haussa de l’Ader (Niger)», in La première fois ou le roman de la verginité perdue à travers les siècles et les continents, Ramsay, Paris, pp. 343-355.

Eliade, M.

1983 ]1968[, Le chamanisme et les techniques archaïques de l’extase, Payot, Paris.

Evans-Pritchard, E. E.

1972 ]1937[, Sorcellerie, oracles et magie chez les Azandé, trad. L. EVrard, Gallimard, Paris.

Favret-Saada, J.

1977, Les mots, la mort, les sorts, Gallimard, Paris.

Hesiode.

1982, Théogomie, trad. P. Jaccotel, Maspéro, Paris.

Kilborne, B.

1978, Interprétation des rêves au Maroc, La pensée sauvage, Claix.

Laplanche, J. et

Pontalis, J. B.

1978, Vocabulaire de la psychanalyse, P.U.F., Paris.

Levi-Strauss, C.

1974 ]1949[, «Le sorcier et sa magie», in Anthropologie structurale, I, Plon, Paris, pp. 183-203.

Mammeri, M.

1980, Contes berbères de la Kabylie, Bordas, Paris.

1980, Poèmes Kabyles anciens, Maspéro, Paris.

Mammeri, M. et

Bourdieux, P.

1978, «Dialogue sur le poésie orale en Kabylie», in Actes de la recherche en sciences sociales, n° 23, septembre, pp. 51-66.

Rouget, G.

1980, La magie et la transe, Gallimard, Paris.

Vernant, J. P.

1974, «Parole et signes muets», in Divination et rationalité, Seuil, Paris.

 

[1] لقد ذكرتُ أعلاه تعدد معاني كلمة الساحرة. وعندما أتحدث عن العرافة بشأن للا فاضمة، فإنني أدخل كلا من التخمين، والعرافة بمعناها الدقيق، والكهانة، ومناجاة الأرواح، وإبطال السحر، الخ..

[2] وهي الخميس والجمعة في الجزائر.

[3] تقصد جان فافري بالمتلفِّظ (annonciateur) «الشخص الذي يكون قد تخلص من سحره، ثم يقصد أحد الأشقياء، يفتَرَض أنه لم يفكر في يوم من الأيام في السحر أو لم يسمع به أبدا - ويخبره أنه بدوره قد تعرض للسحر (...) ولكي يتحقق الشقي من ذلك، يجب عليه أن يتأكد من أن المعرفة الوضعية قد فشلت فشلا تاما في معرفة أصل ما يعانيه من أضرار» (جان فافري، 1977: 61) (م).

[4] حينما لاتتوفر للا فاضمة على خيط أملس، فإنها تلجأ إلى استعمال خيط كُبَّة غزل تشتريها من الدكاكين.

[5] من المفيد تسجيل أن للقسم بالجد واهِبِ اسمه (éponyme)، مؤسس قبيلته، عند القبائلي وزنا يكاد يفوق وزن القسم بالله.

[6] ويعرف ابن عربي ارتداء الخ.رقة الصوفية قائلا: «الخرقة عندنا هي عبارة عن الصحبة والأدب والتخلق. ولهذا لا يوجد لباسها متصلا برسول الله (ص)، ولكن توجد صحبة وأدبا وهو المعبر عنه بلباس التقوى، فجرت عادة أصحاب الأحوال إذا رأوا أحدا من أصحابهم عنده نقص في أمر ما وارادوا أن يكمِّلوا له حاله يتحد بهذا الشيخ. فإذا اتحد به أخذ ذلك الثوب الذي عليه في حال ذلك الحال ونزعه وأفرغه عن الرجل الذي يريد تكملة حاله فيسري فيه ذلك الحال، فيكمل له ذلك فذلك هو اللباس عندنا والمنقول عن المحققين من شيوخنا».

[7] بخصوص زاوية عيساوة في المغرب، لاحظ بعض الباحثين أن قسما من ممارستها يرتكز على الإيمان بالتعرض لمس أرواح تتقمص الأسد، وابن آوى، والخنزير البري، الخ. فهذه الزاوية «تمارس طقسا لاستهلاك اللحم النيء «الفريسة» كثيرا ما تمت مقارنته بأوموفاجيا [=أكل المثيل] كاهنات باخوس». راجع ج. روجيه (1980: 379-380)،وهو ما ينقل هنا ما كتبه ر. برونيل.

[8] ترتوليان Tertullien: أحد آباء الكنيسة، انقلب إلى بدعة تُدعى المونطانية (montaniame) نسبة إلى مؤسسها مونطانوس Montanus (ق 2م)، كانت تريد استبدال التراتبية الكَنَسية بأنبياء يوحى إليهم. (م).

[9] «لقد أفاض كبار المتصوفة المسيحيون في شرح شطحهم. كما فعل ذلك أيضا آباء الكنيسة وزُهَّاد الهند. أما الجذبة، فهي على العكس، سواء أكانت جذبة مملوك أم شامان، فخاصيتها أنها تتعرض للنسيان التام. ومن ثمة، فعلاقة الأنا بجذبتها، في هذا الصدد، هي تماما عكس علاقة الأنا بشطحها». (ج. روجيه، 1980: 33).

[10] البانطو (Bantou): اسم يطلق على إحدى كبريات العائلات اللغوية بإفريقيا، وتتكلمها مجموعة سكانية من إفريقيا السوداء تقدر بحوالي 60 مليونا، تقطن في حزام يمتد من دُوالابك كاميرون إلى مومباسا بكينيا. عن: معجم الإثنولوجيـا (بالفرنسية)، م. س. (م)

[11] حول الفرق بين الكلمتين، فاللغة العربية هي الأخرى لا تتوفر على مصطلحين للدلالة على السحر بكيفية تسهل إيجاد معادل لكلمة «Sorcellerie» الفرنسية ومعادل آخر لكلمة «Magie» في اللغة العربية، وإن كان ممارسو السحر يميزون، بشكل ضمني في الغالب، بين نوعين من السحر. هكذا ففي حالة المغرب، مثلا، يمكن القول بصفة عامة إن السحر بمعنى «Magie» ينتمي إلى حقل المقدس الديني ويمارسه «الفقهاء» وله - حسب مزاوليه - وضع محلل ومشروع. إنه يصدر أيضا من الأولياء والزوايا الدينية على شكل بركة. أما السحر بمعنى «Sorcellerie»، فهو ممارسة دنيوية، مناهضة للدين، ترتكز أحيانا على سلطات غريزية ينفرد بها الساحر، هذا الأخير الذي يعتقد أنه يتحكم في العفاريت ويسحر ضحاياه عبر وجبات تحوي مواد سامة. والسحـر بهذا المعنى يمارسه أفراد كالشوافات )العرافات( اللواتي يظل وضعهن محرما وغير شرعي. وبالجملة، فإن سياق تلفظ كلمة «سحر» من قبل الثلاثي الساحر - الزبون )أو الضحية( - المجموعة الاجتماعية، هو الذي يحدد المعنى الدقيق المراد بها. (م).

[12] الأزاندي (les Azandé): أحد شعوب إفريقيا يتكلم اللغة السودانية ويقطن في منطقة اقتسام المياه بين النيل والكونغو داخل تراب متقاسم بين جمهوريتي الزايير وإفريقيا الوسطى ثم السودان. وقد أقام إيفانس برتشارد بين الأهالي الأزانديين مدة عشرين شهرا متقطعة فيما بين 1926 و1930، فألف انطلاقا من المعطيات التي جمعها خلال هذه الحقبة سفره الضخم (بالإنجليزية) الذي ترجم إلى الفرنسية في 624 صفحة تحت عنوان: Sorcellerie, oracles et magie chez les Azandé, Paris, Gallimard, 1972. عن:معجم الإثنولوجيا، مرجـع سابق. (م).

[13] السر هو «بريق العينين، وجمال الجسم المشرق، وتألق المحبوب. كما أنه هبة المرأة للرجل في الزواج» (م. ديتيان، 1972: 167-168).

[14] يتجلى حب المرأة للعطور بشكله العصري في الكمية المدهشة من قارورات العطر مختلفة الأحجام التي تحفظها النساء في لوازمهن الشخصية، وكذا في جمعهن للصابونات المعطرة.

[15] تعمد النساء، لتطييب أنفسهن، إلى علك حبات من القرنفل.

[16] لقد قمت شخصيا بجمع هذه الخرافة التي حكتها لي امرأة من قرية آت ويليس (من القبائل الصغرى).

[17] تقصد الفصل الأول من الكتاب الذي نترجم منه الفصلين الحاليين. (م).

[18] يقول مثل قبائلي: «بوييلس مدّن أكّوينس» (فصيح اللسان يملك العالم بلسانه).

[19] في ما يخص الأمسناو، راجع: م. ماميري، وب. بورديو، 1978، وم. ماميري، 1980.

[20] تستعمل النساء فعل إسّنْ (عرف، علم) لتسمية الساحرة، فيقلن مثلا: «فلانة تَعْرف». ومن ثمة، فالساحرة تكون بالضرورة عالمة وبصيرة.

 

 

صفحة الترجمـات

جماعي

السحر من منظور إثنولوجي (ترجمة: محمد أسليم)

المحتــوى

تنويـــه

تقديـــم

جان بران: الرمـز والسحـر

تزفتان تودوروف: بعض التأملات العامة في السحر

أ. م. هوكارت: المسارة، الرجولة والعلاج

ألفـرد ميترو: الشامانية عند هنود الشاكو الأكبر

نجيمة بلانطـاد: الساحرة، طرق الانتقـاء

نجيمة بلانطـاد: الساحرة: التدخـلات والطقـوس

خوليو كارو باروخا: عن بعض تأويلات السحر العصرية

خوليو كارو باروخا: السحر في الفن والأدب

 
 
 

 

جماليـــات إضـــاءات حــوارات مقـــــــالات ترجمــــات دراســـات نصــوص سرديــة بطاقـة تعريـف   
للاتصـــــــال خدمــــــات خــــــاص

مواقع مفضلـة

مواقع صديقة مكتبات الموقـع كشك الموقـع موارد نصيـة

موقـع محمد أسليـــم - تاريخ الإنشاء: 27 ينايـر 2002.