يُخيِّبني
الفأرةُ اللّعينة قرضت قصائدي
فيما أُلامس رأسها المتقافز عبثاً
كهرٍّ هرِمٍ أعيتهُ الحيلةُ
وبرْدُ المفاصل.
تبّاً للكمبيوتر
ولقُرصه الصلب المزدحم
كحمام النساء في حيّي القديمْ.
تبّاً لي
وأنا أزجُّ بالشعر
في مضارب التّشفيرْ.
يارب، مالي والتكنولوجيا؟
كنتُ فيما مضى
أخطُّ أشجاني
على صفحةٍ بيضاء مثل هذي
ولم يطل قطُّ يدي العطب.
واليوم،
ها زيتونة عمري تثكل أوراقها
في الطريق إلى غابة الثلج.
الإوزّات التي كانت في البحيرة المجاورة
نفقتْ
وجثة الصيف الملقاة
وراء سور الكنيسة
لم تجد حارساً آخر غير ديسمبر
وغير البرد الذي تنفثه قاطرة الكهرباءْ.
وأنا مثل هاتفٍ مزكومٍ
ضيّع حرارته في مكالمات صمّاء
أواجه الشاشة بأحلام متيبّسة
وأصابع تصطكّ
لكأنِّي أُراود القصيدة عن سرّها
بضوءٍ كذِبٍ
ومفاتيح خرساءْ.
لكأنّي أحفر وئيداً في جليدٍ حيٍّ:
أكتبُ القصيدة تكنولوجيّاً
لتسقط القبّعاتُ في حبّها
ومظلاتُ العجائز
فيكتب عنها ناقمٌ أدبيٌّ
خبيرٌ في شؤون الشعر والعولمهْ.
أعني الناقد ذا النظارتين السديدتين
مُذْ قرأتُ له كلاماً طليعةً في الحداثة
وأنا أرسم الحلم مكعّباتٍ
ومثلثاتٍ وأنصافَ دوائر
وأكتب عن الشعر في الزمن الإفتراضيّ
عن الحب في عصر الذّكاء الإصطناعيّ
وعن مواعيدي الغريرة
في حدائق الأنترنت.
ضيّعتني الأنترنت،
بدّدت دفئي الباقي
ولم أجن منها سوى الوحدة
والقلقْ...
فأصدقائي تائهون
في سوق المضاربات الغرامية
منهمكون في كتابة الرسائل العابرة للقلوب
والقارّات
يعرِضون حرارتهم الفصيحة
ولواعجهم المترجمة
على مانكانات النوافذ الإلكترونية القارسة
يبدون متحذلقين وودودين
كنبلاء فرنسيين
متيّمين وولهانين
كعشّاق الواحات
لكنهم لا يفكّرون إلاّ في أوراق الإقامة
والأغطية التي لاتكفي
في أسرّةٍ مؤقتةٍ على الدّوامْ.
ثمّ ها هم ينفرطون من حولي
واحداً واحداً
لتستقبلهم شقراواتٌ بمعاطفَ
يُرصِّعها البَرَدُ
في المنافي الأشدّ ضراوةً.
تبّاً للحب الإلكتروني
ضيّعهم تماماً
كما ضيّعتْ عيناي دمعاتها السّخينة.
حتى البكاء لم يعُد مُجدياً
ليُسعِف روحي البردانة
أنا القادم من جهة الشمس
محنتي هذي البلادُ المطيرة
أنا القادم من جهة النخل
هائمٌ على وجهي
في صحراء لا تشبه الصحراءْ
أُحصي خساراتي
فلا تكفيني الأصابع.
تائهٌ، أُجرجر أثقال روحي
من المحيط الأطلسي
إلى بحر الشمالْ
تائهٌ، والحيرة عكازي
طائرٌ رغم أنفي
أسأل الغيمة في عرض السماء:
متى نبتت لي الأجنحهْ؟
تائهٌ، لستُ أدري
كيف أرْدَتني الطريق
صديقاً لنواياها الغامضهْ.
غامضٌ أفقي، وعمري
ضائعٌ مثل خطايْ.
آهٍ كم كانت حروفي مزهرهْ!
مثل أصحابي هناك
كان لي بابٌ ومفتاحٌ قديمٌ، وسماءْ
كان لي دفترُ أشعارٍ
سريرٌ ورفاقْ.
لكن أغوتني قصائد سركون بولص
أغواني أدب المهجر
منذ الرّابطة القلميّة
حتى آخر قصيدةٍ مجمَّدةٍ لشاعرٍ عراقيٍّ
ينتظر الإعتراف به كلاجىءٍ
في الدّانمارك.
صديقي هشام فهمي
دعك من الحلم عبثاً بالهجرة إلى سويسرا
واحفظ لقصائدك شراستها الأليفة.
يالقصائدي الأولى
كانت حناجر الرّفاق
تُشعل النار في الأروقة والرّدهات،
بأكُفّهم الجائعة
كانوا يضمّون قصائدي
إلى أحلامهم:
"وحين اندفعنا
إلى باحة القلب
فريقٌ تجمهر
ذات اليمين
ونحن انتبذنا
ذات الغضبْ
شربنا عيون المسار المُدمّى
وبُحنا بما في الدِّما
من لهبْ..."
كان اللهب يتطاير من أرواحنا
وكان الرفاق يحلمون.
ويفرحون
ويحزنون. ويموتون باسمين.
أتذكّر حزننا
يوم حلّقت روح شباضة*
في الأعالي
تاركةً الجسد الفتيَّ الصّامت
يُحدِّق بشماتةٍ في ذعر الجلادين
أصبح السّجنُ سجنَهم
وكانت روحه تسامرنا خارج الجدران
كان الرّفاق جميلين و شعراء
حتى في حزنهم
وكتبتُ أُنادم روح رفيقي:
"القبر ثانيةً...
وإنك متعبٌ يا صاحبي
والبحر يقتل غيلةً
والأرض تفتحُ جرحها للعابرينْ
ويُشاع إنك عابرٌ
لكنك ابن الأرض
فارسها الحزينْ..."
آهٍ كم ضيّعتنا المنافي التي من سرابْ
لا نار في أحشائنا
لا ماء. لا ورد في
الشبّاك
ولا خطوط على راحة الكف
فما الذي تبقّى؟
هنا مجرّد متياسرين محترفين
يُقايضون آلام شعوبهم ثمناً قليلاً
ولا يتورّعون عن لعن أسلافهم
أمام أول شقراءْ.
وحين تضيق بهم أسباب البغضاء
ينهشون بعضهم
كذئابٍ ثوريّة.
تبّاً لهم
لحديثي النّضال منهم
تستقطبهم الجعّة
في المظاهرات الرّاقصة
وتأسرهم يساريات الشمال الملتهبات
فيصمدون بجانبهن
إلى آخر العواء
في مظاهرات الدفاع عن حقوق الدِّببهْ.
أما التماسيح
الطّاعنون في المقاهي والخساراتْ
فيبدون في مجالسهم الهادرة بالضّواحي
كأنبياء متقاعدين
ضيّعوا مواعيدهم مع المعجزاتْ.
تبّاً،
هذا الضّياع البارد يُكبّل أنفاسي
بهواءٍ كالزجاجْ
والشعر الذي سيستلُّ روحي
إلى حيث الدّفء و الشقاوات القديمة
لم يعُد دلوه يدرك الأعماقْ.
لكم تغيّرتُ،
ملامحي القديمة
تسيل من وجهي
لتسقط على البلاط الأخرس
ولا شاهد على ما يحدث.
لم أعد أسمع نباح الكلاب في الليل
ولا صياح الدِّيَكة في أوّل الصبح
لم أعد أسمع شيئاً غير الصمت
ولم أعد أعرف وجهي في مرآة المغسلهْ
لم يعد فيَّ
ما قد يدلُّ عليَّ
ولم أعد أملك غير هذه
الأعضاء الباردة
الأعضاء التي تحسُّ بالبرد وتنامْ
تتغطّى بملاءات القطن
ولا تدفأْ.
لم يعد فيَّ ما يدلُّ على أحلامي التي
كانت
حتى القصائد خانت حاجتي إلى أطيافها
الشفيفة المجنّحة
حتى الشعراء، هل غادروا؟
يُحيِّرني أمرُ هؤلاء الشعراءْ
فالعشاق يؤلِّف بين قلوبهم الحبّ
والمؤمنون تجمعهم طاعة الله
الصالحون يتحلّقون حول شمعة الفضيلة
واللصوص يضمّهم السجن إلى أسرارهم
السكارى فنارهم الكأس في بحر الظمإ
والمخبرون تجمعهم الأخبار السوداءْ
وحدهم الشعراء تُفرِّقهم القصيدة.
لكنني لستُ شاعراً
فقط أحسُّ الألم قارساً، وأقول
هذه ناري.
أمدُّ يدي لألمسها،
فتُحرقني ألسنةُ الجليدْ.
بروكسل-
أواخر 1999
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
عبد الحق شباضة
مناضل طلاّبي قضى على إثر إضراب عن الطعام خاضه ضمن مجموعة "سجن لعلو"
بالرباط.
|