- I -
أخيرا لاحت له المدينة، من
بعيد، هادئة، تبدو في المنخفض، تحيط بها الجبال من كل
الجهات.
- هي أنتِ إذن، تركيست؟!
واستمرت الحافلة في الدوران
والالتفاف قاطعة المرحلة ما قبل الأخيرة من رحلتها بين إساكن
وتركيست قبل أن تواصل طريقها نحو الحسيمة.. تدور الحافلة
وتدور، لا تكاد تتخلص من منعرج حتى يواجهها منعرج آخر.
- شخص مثلك تُسَفِّرُهُ ورقة
بلهاء، لن يكون إلا مجنونا، أو... لست أدري...
- لماذا إذن كَلَّفْتُ نفسي
مشاق السفر من الرباط حتى تركيست؟
- اسأل نفسك
- هناك شيء ما، قوة دافعة،
جاذبية،...
- وإذا لم تصل إلى أي
شيء؟... لأي نتيجة؟!
- سأعتبر الرحلة رحلة
سياحية.
- هه؟ سياحية في تركيست؟!
ماذا ستقول لوالدك السي علي،ولأمك حليمة ولأصدقائك إذا علموا
بسفرك هذا؟
- لن يعرفوا.
- لنفرض أنهم عرفوا، ألم يكن
من الأحسن أن تسألهم؟
- أسالهم عن ماذا؟ ماذا أقول
لهم؟
- قل لأبيك: أبي، هل أنت أبي
حقا؟... ولأمك: أمي، هل أنت فعلا أمي؟... ولإخوانك: إخواني:
هل أنتم إخواني حقا؟
- هذا هو الحمق بعينه!
- لماذا إذن أنت هنا؟
استلقى على السرير في غرفة
الفندق، ينظر إلىالسقف، ثم راح يقلب صفحات حياته عساه يعثر
على شيء ما:
- قلب واطو الصفحات، لا زال
لديك متسع من الوقت حتى الصباح.. أمامك الوقت كله.
- تخريف، اعدل عن متابعة
الرحلة، عد إلى من حيث أتيت.
- والاضطراب؟
- إذن اطو الصفحات واقلب...
- استسلم مزيان لذاك النداء
وشرع في تمرير الصفحات: صور منقوشة، أصوات، حركات... طفل
صغير، رأس حليق في أغلب الأحيان وجلباب صوفي تحته «تشامير»
في البيت، في الطريق، إلى السوق، ومن السوق إلى البيت، يجري
في الفناء، يلاعب إخوانه الصغار، غرف المنزل، المكان المخصص
للبهائم، غرفة الضيوف، سلم الطابق العلوي، الفناء، وشجرة
البرتقال، حول الكانون شتاء، تحت شرفة المنزل صيفا، وفي
المسيد...
- الليف ما ينقط، الليف ما
ينقط
- الباء نقطة من تحت، الباء
نقطة من تحت.
- التاء...
نقلة، صوت تلاميذ يرددون
الحروف الهجائية في المسيد. أسماء ووجوه، ألواح، أقلام
القصب، سور قرآنية، عصا الفقيه، و«الفلقة»، ومن المسيد إلى
الدكان، ومن الدكان إلى البيت...
- إذا حفظت القرآن يا ولدي
ستصبح فقيها كأبيك.
- ومتى سأتم حفظ القرآن يا
أمي؟
- سنقيم لك حفل الختام كابن
عمك السي أحمد... في الرابعة عشرة من عمرك تقريبا.
- وكم عمري الآن؟
- ...
- سألتك عن عمري.
- سبع سنوات أو خمس.
- كيف سبع أو خمس؟ فإما خمس
أو سبع!...
- ومن قال لك إني أعرف العد؟
كل شيء مسجل عند أبيك.
من حفظ بضعة أسطر إلى الثمن،
ومن الثمن إلى ربع الحزب... أكتب، أحفظ، ثم أمحو وأكتب،
وأحفظ، تختلط علي السور وتتشابه.
قلب الصفحات بتأن، لديك كل
الوقت.
صوت التلاميذ يطوفون على
منازل القرية منزلاً منزلاً في الحاكوز[1].
للابيطا، بيطا
اعطيني واحد لبيطا
باش نزوق لوحـي
لوحي لوح الطالب
الطالب في الجنة
الجنة محلولة
حالها مولانا
مولانا، مولانا يا سامع
دعانا
القبلة بلا كرا
الماء بلا شراء
الله يلعن تارك الصلاة، كان
رجل أو امراة...
هذا منزل الخمار، وذاك هو
الحاج ادريس، تلك أم عبد اللطيف، هذه حومة آيت الحاج...
حُفظت الوجوه والأسماء...
من «للا بيطا» إلى «غانجة».
تلك من حق الذكور فقط، وهذه يشترك فيها الفتيان والفتيات.
- سينزل المطر يا أبي، لقد
قمنا اليوم بغانجا، سينزل المطر.
نظرة أبيك إليك وسكوته كان
لهما معنى خاصا، كأنه لم يصدق.
- نعـم!... أكيد سينزل
المطر، لقد طفنا ببعض أضرحة القبيلة، ندخل إليها، نقبل
درابيزها، ثم نطوف حولها، ننظفها، ونصب الزيت في قناديلها،
ندعوها لتنزل المطر.
سألك أبوك:
- وأية أضرحة زرتم؟ هل
زرتموها كلها؟
- زرنا جدي أحمد بلحاج، جدي
الحاج موسى، سيدي يخلف... أما سيدي «مخفي»، وسيدي منصور، فلم
نتمكن من زيارتهما نظرا لبعدهما وخوفا من أن يدركنا الليل.
- اسمعني يا ولدي، يا مزيان.
غانجة هذه مشكوك في مشروعيتها، وفي تخليدها.
سألتْ أمي: هل هي حرام؟
- ذلك ما قاله عمي القاضي في
المسجد. قال إنها عادة رومانية لا دخل للإسلام فيها.
سألته:
- وبركة السادات والأولياء؟
- هم أولياء الله، لا خوف
عليهم ولا هم يحزنون. بركتهم مشهود لهم بها.
سألتَ أباك: وأكثرهم بركة؟
أليس هو جدي الحاج موسى؟
لماذا جدي الحاج موسى
بالضبط؟ أثناء وصولنا لضريحه سمعت الأطفال يتحدثون ويذكرون
بعضا من معجزاته الخارقة: كان يملك فرسا تطير به كالبراق،
وعلى ظهر تلك الفرس حجَّ وصار يلقب بالحاج موسى... حوافر
فرسه تلك لا تزال آثارها مرسومة على إحدى الصخور بالقرب من
ضريحه... سمعت الأطفال يحكون ذلك. رأيتها بأم عيني، هي فعلا
آثار حوافر فرس حقيقية.
- أحقا يا أبي أن الحاج موسى
كان له فرس تطير؟
زم أبوك على شفتيه، وأكد لك
الخبر. هو أيضا قيل له ذلك عندما كان صغيرا؛ قيل له إنها
آثار حوافر فرسه.
- وهل رآها الناس تحلق به
طائرة؟
- طبعا، وإلا لما وصلنا
الخبر، قام الشهود بنقله إلينا عبر الأجيال، منذ مئات
السنين. الحاج موسى هو جدنا، منه ننحدر.
- وأنا؟
- طبعا! بما أنه جدي أنا،
فمن الطبيعي أن يكون جدك أنت أيضا.
فلتقطع الورقة المكمشة في
جيبك جذورك.. جذورك يا مزيان عروق طويلة.
- ورغم ذلك، رغم معرفتك
بجذورك، هل تستطيع تبرير وجودك في تركيست؟
قال أبوك: النصارى بدورهم
كانوا يحترمون أضرحتنا.. أول ما كانوا يفعلونه بعد دخولهم
لقبيلة ما هو أنهم كانوا يقدمون القرابين لأضرحتها، يتقربون
إليها.
- كانوا يخافونها إذن؟
- أكيد، أكيد.
وينقل إليك أبوك قصة احتلال
القبيلة... دخل الفرنسيون أولا سنة خمسة وعشرين، جاؤوا من
الجنوب، من مزيات، ثم تراجعوا ليحل محلهم الإسبان. الإسبان
الذين ما أن مضت مدة قصيرة على دخولهم حتى قاموا بإحراق كل
المنازل، واجتثوا الأشجار. كل المنازل أحرقوها انتقاما من
قتل أحد ضباطهم[2]...
ووحدها الأضرحة والمساجد نجت من الإحراق.. «احترموا
قدسيتها».. حتى بعض المنازل والأشجار المحيطة بها نجت
لاعتقادهم أنها أضرحة...
هو ذا أصلك وتاريخ قبيلتك.
ما الفرق بينك وبين إخوتك؟ هل شعرت يوما بأن والديك يفضلان
أحدكم على الآخر؟ إخوتك الذين تحبهم ويحبونك، تذكر خوفك
عليهم يوم سمعت ذاك الخبر. كيف أسرعت إلى البيت تحتضنهم
وتقبلهم. «كتاب الجفرة» ذاك أدخل الرعب إلى نفسك وشغلك. سمع
مزيان في بداية عهده بالمسيد خبرا سرعان ما شاع بين جميع
الناس: «أحد كبار الفقهاء قرأ في كتاب الجفرة نبأ يقول:
ستفنى الدنيا قريبا!».
كيف هو الكتاب؟ ومن هو
مالكه؟... لم تجد أنت وأقرانك من أطفال القرية غير السوق
الذي يجتمع فيه كل رجال القبيلة، تبحثون عن صاحب الكتاب
النادر، تتبعون هذا الفقيه وتتقفون أثره وسط الزحام. لماذا؟
لأن مظهره بلحيته الطويلة البيضاء يوحي بأنه هو صاحب كتاب
الجفرة ومالكه، وإذا وقعت أعينكم على شيخ أكبر منه سنا تركتم
الأول وتقفيتم أثر الثاني... لا أنتم عثرتم على الكتاب
وتعرفتم على مالكه، ولا الدنيا أصابها الفناء. لكن الخبر
أفزعك وجعلك تتخلف عن الذهاب إلى البيت لتتناول غذاءك. بماذا
كانت تجيب أمك عندما كنت تسألك: أين تهت النهار كله؟
- دائما كنت تخلق المبررات..
حتى يوم أتيتها من السوق بخبر يقين، وسألتك:
- أين قضيت اليوم كله؟ لماذا
لم تحضر لتناول وجبة الغذاء؟
- أما علمت بالخبر؟!
- وبأي خبر أتيتني اليوم؟
- صندوق يتكلم! يغني ويزود
الناس بالأخبار!
- ألم تجد غير هذه الكذبة
الصفراء لتبرير غيابك؟
- أقسم لك إنني ما أقول لك
إلا صدقا، صندوق اسمه الراديو.
لم تصدقك أمك حتى حضر والدك
مساءً من الدكان، وأكد الخبر... ولم تمض بضعة أيام حتى اشترى
أبوك الراديو. جاء يحمله بين يديه وعلامات الحزن بادية على
محياه. قرأت نفسيته على قسمات وجهه، فجلست صامتا لا تتحرك،
تراقب وتستمع...
- لقد فعلوها يا حليمة! لقد
امتدت يدهم للعرش.
- ماذا؟!
- خلعوه ونفوه، نفوا الخامس
وأسرته إلى بلاد بعيدة!
- هل أنت متأكد؟!
وعرفت السبب الذي جعل والدك
يشتري جهاز الراديو.
- أتظنين يا حليمة أنني
اشتريت هذا «الصندوق» لسماع الغناء؟ سمعت الخبر من القاهرة،
من «إذاعة صوت العرب».. كل دول العالم تستنكر، وإخواننا
العرب يشجبون... كم كان عمرك آنذاك يا مزيان؟
- طفل صغير، أذكر، رغم أني
لم أكن أعرف الكثير إلا أني كنت أعقل.. حتى المفردات التي
كان يستعملها الضيوف أثناء حديثهم مع أبي لا زلت أتذكرها.
الآن فقط أستطيع فك رموزها...
سمع مزيان مرة أحد الضيوف
الذين كانوا يترددون على بيت والده ليلا ويغادرونه ليلا،
سمعه يطلب من أبيه السي علي:
- إننا في حاجة إلى كذا ألف
من البلوط، ومقدار كذا من الرمان، كما نحتاج إلى بغل أو
بغلين لنقل البضاعة إلى بُو وَرْد وباب الحيط.
تعجبت يومها من طلبات الضيف،
فقلتُ في نفسي:
- عجيب أمر هذا الضيف الذي
يطلب البلوط والرمان من أبي.. فالبلوط في الأشجار، والرمان
انقضى موسمه!
لم أطق صبرا، سألت أبي، فكان
جوابه:
- إياك يا مزيان، يا ولدي ،
أن تخبر أحدا بوجود هؤلاء الضيوف ببيتنا.
أتذكر وجه أبي وهو يوصيني،
وأتذكر عيد الاضحى الذي «احتفل» به بلا لحم ولا قديد. صلى
الناس صلاة العيد، «تصافحوا» و«تبادلوا تهاني العيد»، ثم
تفرقوا. حفلات الزفاف بلا طبول ولا مزامير. الفقيه لم يعد
يجلس معنا في المسيد كثيرا.. ينزوي مع الرجال.. يقرأون
الجرائد، وإذا أحسوا بقدوم شخص غريب دسوها تحت جلابيبهم.
بو زينب، بوورد، باب
الصليب[3]، فرحات حشاد، علال الفاسي، جيش التحرير،
الإعدامات... أسماء شخصيات وأماكن دخلت إلى قاموسي اللغوي
دون أن أعرف عنها شيئـا.
صار غياب أبي عن البيت يتكرر
كثيرا، يغيب عنا مدة، ثم يعود، يرتدي ثيابه الخشنة والثقيلة،
يقبلني ويقبل إخوتي الصغار، ثم يسافر.
- أين كنت غائبا يا أبي؟
- سافرت إلى المنطقة
الفرنسية لجلب بضائع للدكان.
- وأين البضائع؟
- في الحانوت.
وعندما أذهب إلى الحانوت
لرؤية البضائع الجديدة لا أجد شيئا. لم أعرف لماذا كان القلق
يلف أمي أثناء غياب أبي إلا بعد مدة. عاد مرة من «سفره»
وبكتفه الأيسر وأذنه جراح. سألته فأجابني فورا:
- وقعت من على ظهر البغل.
ثم وضع ضمادة على جراحه،
وغطى أذنيه بعمامته.. رغم مرضه كان يصر على الذهاب للدكان
يوم السوق. تحاول أمي منعه، فيجيبها:
- العيون كثيرة في السوق يا
حليمة، والآذان طويلة، يجب أن أذهب كي لا أثير انتباههم...
استمر الضيوف الليليون في
التردد على بيتنا. أحيانا يكونون مسرورين وأحيانا حزانى.
يقول لهم أبي: «هي واحدة!»،
ثم يقرأون الفاتحـة.
أذناه على المذياع وجهه
عابس. تلك كانت حياة أبي فيما تابعت أنا حفظ القرآن.
- رضي الله عنك يا ابني، يا
مزيان.
قال لي في خريف إحدى
السنوات:
- سأقيم لك حفلا لم تشهد
القبيلة له مثيلا. فقد ختمتَ القرآن في الوقت المناسب.
غصت أرجاء البيت بالنساء
اللواتي حضرن لمساعدة أمي في تهييء الكسكس. ألبستُ جلبابا
أبيض وتعممت بالعمامة لأول مرة، وجلست مع الفقهاء للمرة
الأولى في حياتي:
- لحـن! آووه! يا له من لحن!
لازال يتردد في أذني كأني أسمعه الآن. لازلت أسمعه.
ختمت كتاب الله جل جلاله
طلبت من المولى يَزدْنِي من
العلم
فيا رب، نَجِّنا ونَجِّ
والدينا
ونج شيوخنا من الشر والبلاء
بمكة يا رب، وزمزم والمقام
ومن طاف حول البيت أوْف
مرادي
مرادي لا يخفى عليك يا سيدي
وأمرك بين الكاف والنون
عاجلا.
قال أبي:
- أخيرا سيخرج النصارى يا
حليمة... لم نر منهم إلا الشرور.
- ومن أين جاء النصارى يا
أبي؟ ألم يكونوا هنا من قبل؟
- النصارى، يا ابني،هم
الإسبان، والفرنسيون، والبرطقيز، والكريكيون ... أتوا من
بعيد.
- وإذن، فليس لهم جد مدفون
هنا كجدنا سيدي الحاج موسى؟
- لا، ليس لهم أصل، الإسبان
هنا والفرنسيون هناك في الجنوب، هم يأكلون الخنزير، يشربون
الخمر، لا يصلون ولا يحلقون رؤوسهم مثلنا، ولا يختنون
أطفالهم.
- سيخرجون لأنهم مختلفون
عنا؟
- بل رغم أنفهم. بالطريقة
التي دخلوا بها، بالدم والنار.
- وهل هذا مكتوب في كتاب
الجفرة؟
- الجفرة؟! وأين سمعت
بالجفرة؟!
- في المسيد وفي السوق..
يقولون إنه كتاب ضخم فيه أخبار الغيب.
- إن لم يكن خروجهم مكتوب في
الجفرة فقد كتبناه.
- إذن فلا تزال به أوراق
بيضاء لم تكتب بعد؟
- دع عنك هذه الأشياء الآن،
فأنت لا زلت صغيرا، ستفهم كل شيء عندما تكبر.
- أكبر؟!
ها أنت ذا يا مزيان قد كبرت
وبلغت السادسة والعشرين وفهمت.
- فهمت كل شيء تقريبا إلا
هذه الورقة اللعينة، وحدها لم أفهمها.. نزلت علي كالصاعقة
منذ أكثر من شهرين، منذ تلقيتها وهي تحيرني، توسوس لي في
رأسي، قرأت ما فيها، كمشتها ورميتها. ولكني عدت فجمعتها.
أتذكر كل شيء بالتمام والتفصيل إلا ما في هذه الورقة.
- افتح الكتاب، وقلب الصفحات
عساك تجد فيها شيئا جديدا.
انسحب الإسبان وفتحت الحدود
بين المنطقتين. صارت الطريق إلى فاس أقصر. من قبل، كان لزاما
على المسافر إليها أن يقوم بدورة كاملة، من تاغزوت إلى تطوان،
فطنجة، وعرباوة، ومنها إلى فاس. الباسبورطي، أو «ديخي باسار[4]»
كانا ضروريين لكل
من يريد العبور إلى المنطقة الفرنسية.
زالت الحواجز وأصبح التنقل
بين المنطقتين سهلا. بدأ الشباب يهاجر إلى المدن الجنوبية
بكل حرية. قاتل الله المنع، لم يكن بين هذه المنطقة وتلك سوى
شعرة، ولكن المنع كان من القوة بحيث جعلها كالجبال
الشوامخ...
ذهب الاستعمار وجاء
الاستقلال. قطيعة بين عهدين.
- خذ، هذه مائة فرنك.
- وكم تساوي من البسيطات؟
- أش، شـ... - وضع سبابته
على شفتيه - هذه هي نقودنا. لا أريد أن أسمع منك اسم البسيطة
بعد اليوم.
- كنت أقصد كم تشتري من
الحلويات؟
- تشتري الكثير.
وجاء عهد السكويلا[5].
أفرغت «مدرسة الفنون الأهلية لتاغزوت»[6]
من معلميها، ملئت حجراتها وقاعاتها بالطاولات والمقاعد. كنا
نجلس فوق الحصير، فاصبحنا نجلس على الكراسي.. عوضت اللوحة
بالكناش.. أصبح لنا معلم للإسبانية وآخر للعربية.
- إسو إس أون بورُّو.
- إسو إيس أون باخارو.
ذهب الإسباني مرة ولم يعد
بعدها. عوضه معلم للفرنسية.
تمضي بنا السنون وكل عام
نعيد قراءة ما قرأناه في السنوات الماضية.. المعلمان هما
المعلمان، والأقسام هي الأقسام. تفطنت بعض الأسر فحبست
أطفالها.. قليلون هم الذين عادوا إلى المسيد، والغالبية
اتجهت إلى تعلم الصنعة أو هاجرت إلى المدن.
نادى علي أبي مرة وقال:
- أرى أنك قد كبرت الآن يا
بني، وقد فكرت في مستقبلك. أنت الآن لست أميا تماما كما أنك
لست فقيها. قواعد التجارة تعلمتها من كثرة معاشرتك لي في
الدكان.. أنت تعلم أن ما من رجل في القبيلة إلا ويغرف صنعة،
بل وحتى صنعتين.
عرفت أنه سيقول لي شيئا ما
فأصغيت إليه:
- ما رأيك في أن تلازم عمك
«المعلم الوكيلي» كي تتعلم منه صناعة الجلد، فهي صناعة جيدة،
وهو معلم بارع.
- ما تراه يا أبي.. فأنت
أدرى بمصلحتي.
- سأكلم المعلم الوكيلي.. لا
أرى أحدا أفضل منه. ثم إن بيته على بعد خطوات من بيتنا...
لا زمت المعلم الوكيلي في
مشغله الملحق بداره. مكنتني معاشرته من التعرف عليه أكثر.
كنت أعرفه كشخص، كأحد أعمامي، كشخص لا يتعب، ويقضي أياما
طوالا في صنع قطعة جلد، شكارة مطرزة، حزام جلدي، حافظة نقود
أو غيرها فتكون القطعة آية في الجمال. يمسكها بين يديه،
يبعدها قليلا عن نظره، يميل برأسه قليلا إلى الوراء، يتأمل
القطعة المصنوعة، يُقلِّبُها، يحرك راسه يمينا ويسارا، ثم
يقطعها نتفا نتفا... لماذا؟!... تعجبت من تصرفاته، مصنوعاته
من أجمل مصنوعات الجلد في البلد. يتهافت التجار على
اقتنائها، وأخذها للبازارات.
- انصت يا عمي...
دائما يناديني بـ«عمـي»
- انصت، إياك أن تعتقد أن
الصنعة وسيلة لكسب المال. إذا كنت تعتقد ذلك فلنفترق منذ
الآن.. لا يمكنك أن تتعلم أبدا... المال يمنكنك الحصول عليه
بمائة وسيلة، أن تزاول التجارة مع والدك السي علي...
كان يشتغل ويتحدث، توقف وركز
بصره علي، ثم أضاف:
- الصنعة يا عمي تجعل
الإنسان إنسانا، ذواقا للجمال، محبا للتنظيم والتناسق..
والرجل الذي لا يهتم بهذه الأشياء إنسان ناقص مهما علا قدره
ومهما كثرت أمواله وممتلكاته. كن واثقا يا مزيان من أن
الأشياء التي تصنعها ولا ترضى عنها نفسك، لن تعجب غيرك. وفي
هذه الحالة، خير لك ألا تعرضها على أحد كي لا يحط من قيمتك.
- نعــم يا عـــم.
- وإذن فتسلح بالصبر والتروي
ودقة النظر.
- حاضــر يا عــم.
- يجب أن تعلم أني ما كنت
لأقبلك متعلما معي لو لم تكن ابن السي علي، السي علي ابن
عمنا رجل يستحق التقدير والاحترام، ثم إني أتوسم فيك خيرا،
وجهك ونظراتك يدلان على أنك فطن وذكي.
- لن أكون إلا كما تحب يا
عـم.
انتهى الدرس الأول وانتقلنا
إلى ما هو أهـم.
- ستبتدئ أولا بمفتاح
الصنعة، بفن التطريز على الجلد.
قطعة جلدية عليها رسوم
وأشكال هندسية وخيوط جلدية وإشْفَـة.
- انتبه!... قف على يميني
وافتح عينيك جيدا.
أمسك القطعة الجلدية بين
ركبتيه والإشفة الحادة بينما، ورأس الخيط الجلدي باليسرى.
أحدث على وجه القطعة ثقبا لا يكاد يرى بالعين على وجه
القطعة، أدخل رأس الخيط بيسراه من ظهرها، سحبه بعد أن أمسك
رأسه بأظافره اليمنى وأحدث ثقبا آخر... لم أر شيئا! قام
بالحركات في رمشة عين، اسرع من آلـة.
- لا عليك، سأعيد العملية
ببطء...
ناولني القطعة لأتتبعها
بالتطريز. العرق يتصبب واليدان ترتعشان... التطريز مفتاح
الصنعة.
- الألـوان! الألــوان!، قال
وهو يتابع عمله، يجب أن يكون هناك تناسق بين الألوان: الأصفر
لا يكون جنب الأبيض، فهو يقفد لونه، وكذلك الأسود جنب
الأزرق...
كم مرة أخطأت الإشفة القطعة
الجلدية وانغرست في لحمي؟
اكتشفت الملعم الوكيلي،
عرفته مرجعا مهما لتاريخ القبيلة وأحداثها. يحفظ تواريخ
استيطان السكان وأصولهم، الشرفاء وغير الشرفاء، يعرف الأبراج
والفصول، يحفظ قصائد الملحون، فمه لا يفتر وهو يشتغل.. يحكي
عن الاستعمار والمجاعة والجفاف بتفصيل دون أن ينسى أي شيء..
هادئ يتحدث ببطء، لا يغضب ولا ينفعل، فقط إذا لم يعجبه ما
صنع يمزقه كأن شيئا لم يكن. اعتقدت أنه سيعيش مائتي عـام.
- مائتا عام؟! عمك الوكيلي
لم يكن عصبيا، كان هادئا، وأنت يا مزيان تقلق؟! وماذا يقلقك؟
رسالة؟! رسالة لاتعرف حتى من هو كاتبها.. احتفظت بها شهرين
كاملين وألقت بك في مشاق السفر من الرباط إلى تركيست؟
- عمك الوكيلي لم يكن عصبيا.
أبوك السي علي لم يكن كذلك أيضا، وحتى أنت لم تكن تقلق من
قبل. أمك حليمة دائما تشبهك بأبيك: «أنت تشبه أباك يا مزيان،
أنت تتحدث كأبيك، تسير كأبيك، لونك وصوتك كلون أبيك
وكصوته...»
- لا يضر ولن يضر...
تعلمت الصنعة وهاجرت إلى
الرباط ككل شباب القرية لأكسب أكثر.
قال لك رفيقك في السفر لما
توقفتما في تاونات:
- هذه هي تاونات يا مزيان،
من قبل كانت تسمى مزيات...
سألت مرافقك: وتلك الشواهد
على الجانب الأيمن؟
- تلك قبور النصارى[7]،
قتَلُوا في المعارك التي خاضوها ضدنا.
اقتربت تتهجي اسماء أصحابها:
الكابورال شارل، الكابيطان ميشال، اليوطتنان جيرار،
الكومندان باسكال...
- كم مغربيا قتل هؤلاء
الأنذال قبل أن يسقطوا؟ وما تفعل قبورهم هنا؟ جاؤوا ليقتلوا
وها قد قتِلوا ولا تزال قبورهم في أرض المغرب! وفي وسط
المدينة! أين قبور المغاربة؟
كلما مررت بتاونات صفعتني
تلك القبور...
من تاونات لفاس، ثم الرباط.
أين فرحة السفر؟ حل محلها القنط الشديد. المدينة سجن،
المنازل كالصناديق، الجدران تحجز الأبصار، تمنعها من
الانطلاق بحرية، أينما نظرت لا تجد غير الجدران.. أين الجبال
والوديان؟ وأين الأشجار؟ من الآن فصاعدا لن تسمع الطيور، ولن
تشعر بتعاقب الفصول، لا ثلج، ولا ربيع، ولا قمر في الليل،
ولا نجوم... أهذه هي المدينة؟! السكان غرباء عن ذواتهم وعن
بعضهم البعض، لا يتعدى سمك الجدران التي تفصلهم عن بعضهم بضع
سنتيمترات، لكن المسافة الاجتماعية القائمة بينهم لا تقاس.
المنازل في البادية بعيدة ومتفرقة، لكن السكان يتقاربون من
بعضهم، لا يمكن أن يلتقي شخصان دون أن يتبادلا التحية
والحديث. في المدينة لا أحد يحيي أحدا إلا ناذرا. يسيرون
بسرعة، يركبون بسرعة، يأكلون بسرعة، وربما ينامون مع زوجاتهم
بسرعة... علاقات الجوار منعدمة، قد يكون سكان المنزل السفلي
في فرح، وسكان الطابق العلوي في ترح... النواح والبكاء،
والموسيقى والزغاريد، لا أحد يشارك أحدا فرحته. الفردانية
طاغية. العرس في البادية عرس القبيلة برجالها ونسائها،
بأطفالها، بكلابها، وقططها... والحزن حزن الجميع. الكبار
أعمام وأخوال للصغار.
اشتغلت في الرباط. كل ما كنت
أصنعه يباع. كسبت الأموال، لكن سرعان ما استيقظت في داخلي
تلك الرغبة القديمة، الرغبة في الدراسة، لكن سني كان متقدما.
لم يكن أمامي من حل سوى الانتساب إلى إحدى المدارس
الليلية... مرت السنين. الشهادة الابتدائية حصلت عليها فوجدت
أنها أقل من طموحي. البروفي حصلت عليه فتطلعت إلى
الباكالوريا...
- الباكالوريا؟ الامتحان
ينتظرك بعد شهرين وأنت هنا في هذا الفندق مستلق على ظهرك
تنظر إلى السقف بعينين شاردتين وذهن غائب؟...
- لا بأس، يومان أو ثلاثة
وأعود إلى عملي ودراستي.
لم تستطع المدينة أن تنسيني
قبيلتي وأسرتي وأصدقائي. في كل عيد، في كل صيف أقضي مدة في
القرية، ثم أعود إلى الرباط. هذه هي حياتي منذ ثماني سنوات.
لكن هذه السنة حدث ما لم يكن متوقعا، وما لا يمكن لأحد أن
يصدقه.
انقضى عيد الأضحى. وبينما
أنا سائر في سوق القبيلة الذي هو ساحة الاجتماعات. أقف مع
ثلة من أصدقائي تحت شجرة الدردار مكاننا المفضل نتجاذب أطراف
الحديث ونضحك، فإذا بذلك الدراز يدنو من مجمعنا وينادي علي:
- مرزيان! أمزيان!
تركت أصدقائي واقتربت.
تصافحنا، فابقى يدي بين يديه، وقال:
- عندي لك رسالة، أحتفظ بها
منذ أربعة أشهر أو خمسة، فإن أردت الاطلاع عليها فهيا معي
إلى بيتي في تزرين.
- ومن هو باعث الرسالة؟
- لا أعرفه!
- وماذا يقول فيها؟
- كيف لي أن أعرف ذلك وأنا
لم أفتحها؟
- كيف عرف اسمي وحصل على
عنواني؟
- العنوان أنا الذي أعطيته
إياه، أما الإسم فهو يعرفه.
- وأين التقيت به؟
- في الريـف.
رافقت الدراز إلى بيته قرب
مسجد تزرين، سلمني الرسالة، وفقلت راجعا.لبيتنا.
قلبت الرسالة، قرأت اسم
المرسل وعنوانه: «محمد الأزرق الملقب بالجبلي». المرسل إليه:
«مزيان - تاغزوت». لم يكتب إسم أبي ولا إسمي العائلي. انرصفت
أبحث في ذهني عن إسم المرسل، لم يسبق لي في حياتي أن عرفت
شخصا بهذا الإسم، لم يعن لي شيئا.
قرأت الرسالة في الطريق بين
حومة تزرين وبيتنا، لم أفهم منها شيئا. أعدت قراءتها مرات
ومرات.. كمشتها بين يدي ورميتها بين نبات العليقى على جانب
الطريق. عدت إلى بيتنا كأني لم أتوصل بشيء. تناسيتها.
تناولت عشائي تلك الليلة
كالمعتاد، ولما آويت لفراشي، قال النوم: نـم أنت!
في الغد عدت باكرا إلى
المكان الذي رميتها فيه، وجدتها لا تزال مكمشة بين نبات
العليقى كأنها تنتظرني. جمعتها، أعدت قراءتها مرات ومرات إلى
أن حفظتها عن ظهر قلب.
قلت مع نفسي: احرقها وتخلص
منها.
أخرجت ولاعة السجائر،
اشعلتها وقربتها منها، حدث ما لم يتوقع. أخذت يداي ترتعشان.
صوت يهمس في أذني بقوة:
- لا، لا، لا تفعل! لا
تحرقها! لا تحرقها!
وقعت الولاعة من يدي
والرسالة، حاولت للمرة الثانية، حدث الشيء نفسه، أخذ جسمي
كله في الارتعاش. ماذا في الرسالة؟
إلى أخي مزيان.
سلام الغربة والمحبـة
والفراق.
وبعـد،
أنت أخي وأنا أخوك، لا بد من
أن تحضر حالا بعد توصلك بهذه الرسالة. يسلم عليك جميع أفراد
الاسرة: عمي شعيب، عمي أركاز، وعمتي مينوش. إذا وصلتك
الرسالة، فلابد من أن تأتي. نحن في انتظارك.
أخوك محمـد الأزرق.
هل في الرسالة شيء ما؟
سحـر؟!
لا أعرف شخصا بهذا الإسم،
وليس لي أخ أو أعمام بالاسماء المذكورة، إخواني وأعمامي كلهم
هنا في تاغزوت. تفاهـة! رسالة تافهة، ورغم ذلك احتفظت بها في
جيبي، نمت في تلك الليلة، هل هي تميمة أو سحر ساحر؟ لم أعد
أصدق هذه الأشياء.
وجدت رجلي تقوداني إلى
تزرين، إلى بيت الدراز لأسأله:
- أين التقيت بباعث الرسالة
وما شكله؟
- في أحد الأسواق يا مزيان،
يا ابن السي علي، أنت تعرف أني دراز أنسج الجلابيب وأطوف بها
في الأسواق، والمدن، والقرى... التقيت به في أحد الأسواق في
الريف، كنت أعرض بضاعتي للبيع إذا بأحد الزبناء أعجبه جلباب.
سألني عن ثمنه، ومصدر البضاعة، ومكان صنعها: هل هي صنعة
وزانية؟ أزمية؟... أجبته بأنها تاغزوتية. اشترى الجلباب،
وسألني عنك. قال هل تعرف شخصا اسمه مزيان؟ قلت له: من لا
يعرف مزيان وهو الوحيد الذي يحمل هذا الإسم في القبيلة؟ غاب
لحظة، ثم جاءني بالرسالة يطلب حملها إليك.
- ولماذا لم تسأله من أيـن
يعرفني؟
- لو لم يكن يعرفك لما سألني
عنك!
ووجهه؟ ألا تذكر وجهه وشكله
وقامته؟
- لم أعد أذكر.
لا أدري ما الذي أفقدني
أعصابي وجعلني أثور في وجه الدراز...
- لن يطفئ ثورتي سوى أن أنقض
عليك وأقتلع أضراسك بكلاب حديدي صدئ... لا تعرف الشخص ولا
اسم السوق ولا هيأة الرجل، ولا، ولا... ثم تحمل إلي الرسالة!
لماذا حملت إلي الرسالة إذن؟
- يا مزيان، يا ابن السي
علي. اهدأ واسمعني. أنا أعرف والدك السي علي رجلا هادئا، ولو
لم تكن ابنه لما حملت لك الرسالة، ضع نفسك مكاني، لو كنت في
السوق؟ أتعرف ما معنى السوق يا مزيان؟... الحركة، الازدحام،
البيع والشراء، الهرج والمرج، الخبز والسرقة، و، و،
و...القيامة، وأنا وحيد، أأنتبه لبضاعتي أم لوجوه الناس
وأشكالهم؟ قل لي لو كنت مكاني، ماذا كنت ستفعل؟ هل ستلوي على
شيء؟...
- لماذا حملتها إلي إذن؟
- مزقها أو احرقها... افترض
أنها لم تصلك وأني لم أحملها إليك... انس الموضوع.
لم أمزقها ولم أحرقها،
وضعتها في جيبي وحاولت أن أنساها.
انتهت العطلة وعدت إلى
الرباط لمتابعة عملي ودراستي. أشتغل، لكن بيدي فقط؛ أقرأ
الصفحات ولا ألوي على شيء. استحوذت علي الوساوس والقلق،
شغلتني هذه الرسالة اللعينة.
يسألني رفاقي:
- لماذا صار وجهك شاحبا يا
مزيان؟
- لماذا أصابعك ترتعش؟
إلى متى ستظل على هذه الحال
يا مزيان؟ يجب أن تحسم في الأمر. فإما أن تحرق الرسالة أو
تستجيب لطلب الرسالة، وتذهب باحثا عن صاحبها، ثم تنظر ما في
الأمر.
- أية سخافة هذه؟ ماذا سيقول
الناس عني؟
حسمت في الأمر وقررت السفر
للبحث عن صاحب الرسالة. من الرباط إلى فاس، ومنها إلى تركيست،
وغذا إلى قبيلة...
دقت ساعة الفندق الحائطية
إحدى عشرة دقـة:
- طـان، طـان، طــان...
قطعت على مزيان تفكيره في
غرفته، نظر إلى ساعته في معصمه...
- لم يبق إلا ساعة واحدة على
منتصف الليل.
قال ذلك في نفسه، ثم استأنف
الشريط...
نزلت من الحافلة أطوف
المدينة بحثا عن فندق.. كل الناس يتحدثون بالريفية، لم أفهم
ولو كلمة واحدة. عثرت على فندق، دخلت، قطعت بهوا، لا أحد،
وقفت أنتظر وانشغلت بمراقبة رقاص الساعة، هذه الساعة التي
سمعت دقاتها قبل ثوان. لا زلت كذلك إلى أن سمعت صوتا نسـويا:
- أية خدمة؟
سيدة بدينـة! تتفحصني من قمة
الرأس إلى أخمص القدمين، من أين خرجت؟
طلبت منها: أريد غرفة.
مدت يدها إلى أحد السجلات
وعينها لا تفارقني.
- هات البطاقة، ليلة واحدة
أو ليلتان؟...
سلمت لها البطاقة وقلت لها:
ليلة واحدة. أمسكتها وقالت متعجبـة:
- من تاغزوت؟!
سيدة ريفية تقرأ وتكتب![8]
- نعم من تاغزوت، وماذا في
الأمر؟!
وضعت البطاقة والقلم فوق
المكتب وبدت كأنها تلتهمني، قطبت ما بين حاجبيها واستمرت
تنظر إلي نظرات خاصة.
- ماذا في الأمر؟ قولي...
- لا،... كنت أحسبك من قبيلة
أخرى.
- ماذا تقصدين؟
- اشتبهت لي بشخص نزل عندنا
هنا قبل سنة أو أكثر.
- تأكدي سيدتي أني لست ذاك
الشخص. فهذه أول مرة أزور فيها تركيست.
- عجيـب!
- وما الداعي للعجب؟
- شكل وجهك واسنانك البيضاء
المتراصة... ملامحك بصفة عامة شبيهة بملامح سكان إحدى
القبائل هنا، أسنانهم بيضاء قوية كأسنانك تماما، يبلغ الواحد
منهم مائة سنة وتظل أسنانه هي هي...
أطرقت صاحبة الفندق قليلا
تفكر، ثم قالت:
- يخيل إلي أني رايتك من
قبل، بل إني شبه واثقة من ذلك.
- او. م م م...
لم أقل شيئا. أخذت البطاقة،
وأخذت تسجل. وفجأة سالت:
- أنت «مْعَلَّمْ» إذن؟
صانع؟
- نعـم.
- هلا أجد معك حزاما جلديا
مطرزا للنساء؟
- أنا لم آت من تاغزوت، ثم
إني لست تاجرا، لكن إذا عدت إلى هنا مرة أخرى فسوف لن
أنسى...
- مجرد قول! كل الرجال يعدون
ولا يوفون.
لم تصدق هذه البدينة أنني
أذا واعدت فلن أخلف وعدي أبدا. قالت:
- لكن بطاقة تعريفك ألمعلم،
التاغزوتي قد انتهت مدة صلاحيتها. انتهى أجلها...
- ماذا تقصدين؟
- ألمعلم!، قالت، انظر. لم
يبق من حياة بطاقتك هذه سوى ساعات. اسهر الليلة، وأقم لها
حفلة الوداع.
تفحصت بطاقتي، تاريخ إصدارها
كان يوم 04/04/1968، ونحن اليوم في 03/04/1971. تعجبت لكوني
لم أنتبه لذلك، وسألتها خائفا:
ماذا الآن؟ ألا يمكنني
المبيت؟
- لا، نبهتك فقط.. عليك أن
تغيرها.
أعادت إلي بطاقتي، وتذكرت
الحديث الذي دار بين أبي وموظف القيادة يوم ذهبنا للحصول على
بطاقة الهوية.
- إذا كنت ترغب في تناول
عشائك فأنصحك أن تقصد «فوندا ميكيل[9]»
تجاهلت نصيحتها، وسألتها:
- أتسمحين لي بسؤال؟
- تفضل طبعا، إذا كان بوسعي
إجابتك...
- هل تعرفين أين توجد قبيلة
بني عَمَّارْت؟
فتحت عينيها، وقالت:
- هي القبيلة نفسها التي
حدثتك قبل قليل عن أسنان أهلها. قلت لك إن لسكانها أسنانا
عجيبة كأسنانك تماما، قوية، بيضاء ومتراصة.
- أتعرفين أين توجد هذه
القبيلة؟ وهل هناك وسيلة نقل توصل إليها؟
- القبيلة ليست بعيدة..
حوالي عشرين كيلوميترا فقط.
- وكيف الذهاب إليها؟
- يمكنك أن تستقل سيارة أجرة
أو شاحنة.. ستأتدبر لك الأمر، أصحاب الشاحنات ينامون كلهم
هنا في الفندق، احمل أمتعتك إلى الغرفة رقم: 6.
تفقدت الغرفة وخرجت لتناول
عشائي في فوندا ميكيل.أتبعته بقهوة سوداء، ثم عدت إلى
الفندق، واستلقيت على السرير أسترجع...
طـان، طـان، طــا...
ارتفعت دقات الساعة تعلن
الثانية عشرة ليلا.
نام مزيـان قبل أن يتم عد
الدقات...
[1]
رأس السنة الفلاحيـة.
[2]
هو ابن المقيم
العام، قتل في إحدى المعارك.
[3]
بو ورد، وباب الحيط،
وبو زينب، وباب الصليب كلها أسماء لمراكز جيش التحرير
وقواعدهم قرب المنطقة.
[4]
الباسبورطي:
إسبانية تعني جواز السفر، وديخي باسار: إسبانية أيضا، وتعني
رخصة المرور.
[5]
السكويلا: كلمة إسبانية تعني المدرسـة.
[6]
أغلقت الآن:
La escuela de artes indiginas
[7]
أزيلت تلك القبور
حديثا وبني مكانها مسجد ووكالة للبنك الشعبي.
[8]
الريف في المغرب لا
تعني البادية عكس الحاضرة، بل تعني منطقة خاصة في الشمال.
[9]
فوندا ميكيل: مطعم مشهور في تركيست كان يديره أحد الإسبانيين.
|